الصفحة 365

فالخلاف بينهما ليس على الإمامة، وإنما كان حول قتلة عثمان، يقول الغزالي في هذا الصدد: وما جرى بين علي ومعاوية كان مبنياً على الاجتهاد، لا منازعة من معاوية في الإمامة!(1).

ويقول ابن كثير - بعد أن ينقل حديث النبي (صلى الله عليه وآله) في الخوارج-:

فهذا الحديث من دلائل النبوة، إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين. أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين الى الحق، وهذا هو مذهب أهل السنّة والجماعة، أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً، وهو مأجور إن شاء الله، ولكن علي هو الإمام فله أجران، كما ثبت في صحيح البخاري ومن حديث عمرو بن العاص، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"(2).

هكذا جرت العادة بالتلاعب بألفاظ الحديث -كما قدمنا- لاثبات أحلام الفئة الباغية، بل والادعاء إنها على الحق أيضاً! وليس هذا في الحقيقة هو محل الاشكال، لأن من المعلوم أن كل من نطق بالشهادتين فهو مسلم، ولكن هل هذا يعفيه من مسؤولياته؟ وماذا لو بقي على الشهادتين ولكنه عمل بأعمال أهل النار؟ وكيف يمكن تبرير أعمال معاوية وأهل الشام على ضوء قول النبي (صلى الله عليه وآله):

عن عبدالله، قال النبي (صلى الله عليه وآله): "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".

وعن ابن عمر، أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب

____________

1- محاضرات في التاريخ الإسلامي: 71.

2- البداية والنهاية 7: 279.


الصفحة 366
بعضكم رقاب بعض!".

وعن جرير، عن جده جرير، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع: "استنصت الناس"، ثم قال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"(1).

بل إن النبي (صلى الله عليه وآله) اعتبر مجرد التهديد بالسلاح أو رفعه في وجه المسلم خروجاً عن الملّة، فعن عبدالله بن عمر(رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا".

وعن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا".

وعن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار"(2).

فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) ينهى بشدة عن مجرد الاشارة بالسلاح على المسلم ولو مزاحاً، ويحذّر بأن ذلك مدعاة للوقوع في النار، فما بالك بمن جيّش الجيوش، وقصد بها الخروج على جماعة المسلمين المنضوين تحت لواء خليفتهم الشرعي -وأدى ذلك الخروج الى قتل اُلوف المسلمين، وفيهم خيار الصحابة وصلحاء التابعين- وهو يعلم جيداً أنه ما خرج إلاّ في طلب الباطل، ثم يخدع من انضوى تحت إمرته، ويزيّف لهم الوقائع، ويوحي إليهم زخرف القول، بأنه إنما خرج يطلب حقاً! فيؤدي عمله الى تفاني الناس من الجهتين، كل ذلك في طلب الدنيا ورغبة في الملك، ثم يأتي قوم يردّون كل تلك الأحاديث التي تقدمت، والتي تبيّن للاُمة حقيقة الأمر، وتحذّر من التمادي في الغي، لكنهم يصمّون آذانهم عن نداء الحقيقة، فيتبارون في خلق المبررات لمعاوية

____________

1- هذه الأحاديث في: صحيح البخاري 9: 63، 5: 224، ومسند أحمد 2: 104، 1: 439، وسنن ابن ماجة 1: 52.

2- صحيح البخاري 9: 62 كتاب الفتن، باب قول النبي (صلى الله عليه وآله): من حمل علينا السلاح فليس منا!


الصفحة 367
وحزبه، ويخترعون له نظرية المجتهد المخطئ، من أجل إقرار بغيه، هذا مع العلم أن لفظ الحديث لا يؤدي المعنى المنحرف الذي يذهب إليه هؤلاء، فقوله (صلى الله عليه وآله): "إذا اجتهد الحاكم"، إن كان المقصود به هو القاضي الذي يفصل بين قضايا الناس، فهو لا ينطبق على معاوية وأمثاله، وأما إذا كان المقصود به من يتولى الحكم، فهو أيضاً لا ينطبق على معاوية، فإن الحاكم إما أن يكون المقصود منه الخليفة، ولم يكن معاوية خليفة، أو الوالي، فمعاوية لم يكن والياً شرعياً بعد أن عزله الخليفة الشرعي، وكان الواجب يحتم عليه أن يتخلى عن منصبه امتثالا لأمر الإمام، فكان تشبثه بولاية الشام -رغم أمر الخليفة- اُولى علامات البغي، وهي وحدها كانت كافية لاعطاء الحق للخليفة بمحاربته، لا كما يدعي محب الدين الخطيب وأمثاله.

ويروي ابن كثير عن الشعبي أنه قال في الطائفتين:

"هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضاً فلم يفر أحد من أحد".

يقول ابن كثير هذا، وهو يروي عن المحدثين، في قصة بناء المسجد، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعمار: "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار"(1).

فإذا كانت الفئة الباغية من أهل الجنة، فكيف يدعون عماراً الى النار، وهل يدعو أهل الجنة الى النار؟!

ويصطدم أصحاب الاتجاه المحافظ بعقبة تلو اُخرى، ويحاولون التملص منها بأي ثمن، لمجرد اثبات أن أهل الشام ليسوا هم القاسطين الذين ذكرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد قال ابن كثير:

فأما الحديث الذي قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا اسماعيل بن موسى، ثنا

____________

1- صحيح البخاري 1: 122 باب بناء المسجد، صحيح مسلم 4: 2236، مسند أحمد 3: 91، المستدرك على الصحيحين 3: 387، سنن البيهقي 8: 189.


الصفحة 368
الربيع بن سهل، عن سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة، قال: سمعت علياً على منبركم هذا يقول: عهد إليّ النبي (صلى الله عليه وآله) أن اُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

وقد رواه أبو بكر بن المقرئ، عن الجد بن عبادة البصري، عن يعقوب ابن عباد، عن الربيع بن سهل الفزاري به. فإنه حديث غريب ومنكر، على أنه قد روي من طرق عن علي وعن غيره، ولا تخلو واحدة منها عن ضعف، والمراد بالناكثين يعني أهل الجمل، وبالقاسطين أهل الشام، وأما المارقون فالخوارج لأنهم مرقوا من الدين...(1)

ثم يورد ابن كثير مجموعة من الأحاديث التي أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) فيها بأن علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين عن عدد من الحفاظ مثل ابن عدي والخطيب البغدادي وابن عساكر والحاكم النيسابوري...الخ(2)، لكنه لا يشير الى أن الأحاديث الضعيفة تتقوى بتعدد طرقها، ولكنه عندما يروي فضيلة لأحد الصحابة بطرق قليلة وضعيفة جداً، يقول: فهذه طرق تقوي بعضها بعضاً(3)، ولكنه أمام هذه المشكلة التي تكشف أن أهل الشام هم القاسطون، وينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: (وَأمّا القاسِطونَ فكانُوا لجهنَّمَ حَطباً)(4)، فهو يحاول تضعيف الحديث رغم تعدد طرقه، مضافاً الى كل ذلك، فإن ابن كثير أغفل طريقاً آخر للحديث لا يتطرق إليه الضعف، فقد أخرج الحافظ نورالدين الهيثمي، عن علي قال: عهد إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وفي رواية: أمرت بقتال الناكثين، فذكره(5).

____________

1- البداية والنهاية 7: 304.

2- الكامل في ضعفاء الرجال 2: 636، تاريخ بغداد 8: 340، تاريخ ابن عساكر 42: 470، المستدرك 3: 139.

3- في قصة سارية الجبل.

4- الجن: 15.

5- مجمع الزوائد 7: 238 وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، غير الربيع بن سعيد ووثقه ابن حبان!


الصفحة 369

البدريون والرضوانيون

من أساليب التزييف الاُخرى التي يتّبعها أصحاب الاتجاه المحافظ المعروف، محاولة التقليل من شأن علي بن أبي طالب، بتقليل عدد الصحابة الأوائل -وبخاصة البدريين والرضوانيين- الذين شاركوه حروبه في صفين وغيرها، معتقدين أنهم يسحبون بذلك الشرعية من حروب علي، وأنه لم يكن من بين أنصاره عدد يُعتدّ به من الصحابة، لقناعتهم بأنه لم يكن مصيباً في حروبه، وبعضهم صرّح بذلك علناً، فقد قال ابن كثير:

وهاجت الفتنة وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشرات الاُلوف، فلم يحضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. وقال الإمام أحمد: حدثنا اُمية بن خلد، قال لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبدالرحمان بن أبي ليلى، قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب أبو شيبة، والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك. فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت! وقد قيل إنه شهدها من أهل بدر سهل بن حنيف، وكذا أبو أيوب الأنصاري، قاله شيخنا العلاّمة ابن تيمية في كتاب الرد على الرافضة، وروى ابن بطة باسناده عن بكير بن الأشج أنه قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلاّ الى قبورهم!(1)

أما أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا عشرات الاُلوف، ولم يشهد الفتنة منهم إلاّ عدد قليل، فان هذا لا يعني أنهم لم يشتركوا في الفتنة أو يسهموا فيها، فإن سكوتهم على ما كان يحدث تحت سمعهم وبصرهم، وخذلانهم

____________

1- البداية والنهاية 7: 252.


الصفحة 370
عثمان بن عفان ليدل على موقفهم السلبي من عثمان، وقد أثبت ذلك عدد كبير من الصحابة ممن شهدوا الوقائع، منهم على سبيل المثال أحد شهود العيان، معترفاً بذلك أمام معاوية بن أبي سفيان نفسه، فقد ورد أبو الطفيل عامر بن واثلة -وهو آخر الصحابة موتاً- على معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم. قال معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن ممن شهده فلم ينصره. قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار! فقال معاوية: أما والله إن نصرته كانت عليهم وعليك حقاً واجباً وفرضاً لازماً، فإذا ضيعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله، وأصاركم الى ما رأيتم. فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين إذ تربّصت به ريب المنون أن تنصره ومعك أهل الشام! قال معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟! فضحك أبو الطفيل وقال: بلى، ولكنك وإياه كما قال عبيد بن الأبرص:


لأعرفنك بعد الموت تندبنيوفي حياتي ما زودتني زادي(1)

فأبو الطفيل يعبّر عن موقفه وموقف المهاجرين والأنصار -وهم عشرات الاُلوف- قِبل عثمان وعدم تحرّجهم في خذلانه والامتناع عن نصرته.

أما الادعاء بأنه لم يكن مع علي بن أبي طالب غير نفر قليل من البدريين والرضوانيين، فإن هناك روايات عديدة تثبت عكس ذلك. فعن عبدالرحمان ابن أبزى، قال: شهدنا مع علي ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قال: قُتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر(2).

____________

1- مروج الذهب 3: 26، تاريخ دمشق 26: 116، مختصر تاريخ دمشق 11: 293، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 186.

2- تاريخ خليفة بن خياط: 145، 148، وقال الذهبي: سنده صحيح، ورجاله بين الثقة والصدوق، تاريخ الاسلام 3: 545.


الصفحة 371
وعن سعيد بن جبير قال: كان مع علي يوم الجمل ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن بايع بيعة الرضوان.

وعن الأعمش: والله تعجبت لعلي وأصحابه، إنه كان مع علي أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان مع معاوية أعاريب اليمن ولخم وجذام(1).

وقال السُدّي: شهد مع علي يوم الجمل (130) بدرياً، وسبعمائة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وقُتل بينهما ثلاثون ألفاً، لم تكن مقتلة أعظم منها. وكان الشعبي يبالغ ويقول: لم يشهدها إلاّ علي وعمار وطلحة والزبير من الصحابة!(2).

وقال الزرقاني في نهج المسالك: أتى علي(رضي الله عنه) في أهل العراق في سبعين ألفاً، فيهم تسعون بدرياً وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار، وخرج معاوية في أهل الشام في خمسة وثمانين ألفاً، ليس فيهم من الأنصار إلاّ النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد!

وقد أخرج ابن كثير عن ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد باسناده، أن قرّاء اهل العراق وقرّاء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريباً من ثلاثين ألفاً، وأن جماعة من قرّاء العراق منهم: عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر ابن عبد قيس، وعبدالله بن عقبة بن مسعود وغيرهم، جاءوا الى معاوية فقالوا له: ما تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان! قالوا: فمن تطلب به؟ قال: علياً! قالوا: أهو قتله؟ قال: نعم! وآوى قتلته(3).

____________

1- التاريخ الصغير: 125 بسند صحيح.

2- سير اعلام النبلاء 3: 484.

3- قال محب الدين الخطيب في الهامش (282) من كتاب العواصم من القواصم "ليس في أهل السنّة رجل واحد يتهم علياً بقتل عثمان، لا في زماننا، ولا في زمانه"!


الصفحة 372
فانصرفوا إلى علي، فذكروا له ما قال، فقال: كذب! لم أقتله، وأنتم تعلمون أني لم أقتله. فرجعوا الى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده، فقد أمر رجالا! فرجعوا إلى علي فقال: والله ما قتلت ولا أمرت ولا ماليت. فرجعوا، فقال معاوية: فإن كان صادقاً فليقدنا من قتلة عثمان فإنهم في عسكره وجنده. فرجعوا، فقال علي: تأوّل القوم عليه القرآن في فتنة، ووقعت الفرقة لأجلها، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل، فرجعوا الى معاوية فأخبروه، فقال: إن كان الأمر على ما يقول، فماله أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممّن هاهنا؟! فرجعوا الى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، رضوا بي وبايعوني، ولستُ استحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الاُمة ويشق عصاها. فرجعوا الى معاوية فقال: ما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلاّ وهو معي! وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم(1).

فها هنا أيضاً نلاحظ أن معاوية يحاول التشبث بأي عذر للتوصل الى غرضه، ومن العجيب أنه يستنكر إنفاذ أمر البيعة دون علمه ومشورته، وهو ليس من المهاجرين ولا الأنصار، ولا سابقة له، بل هو طليق من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ولا حتى إبداء الرأي فيها!(2).

أما احتجابه بمن معه من المهاجرين والأنصار فهو مدعاة للسخرية، فضلا عن أنه لم يكن معه ولا بدري واحد، إذ أكد علي بن أبي طالب على أن جميع البدريين معه! وقد وصف علي بن أبي طالب الفئة الباغية بقوله لأصحابه:

____________

1- البداية والنهاية 7: 257.

2- الاستيعاب 2: 85، اُسد الغابة 4: 387، الطبقات الكبرى 3 / 1 / 248.


الصفحة 373
قاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفئ نور الله، فقاتلوا الخاطئين الضالّين القاسطين الذين ليسوا بقرّاء قرآن ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل من سابقة الاسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل!(1).

والعجيب بعد كل هذه الأدلة التي تكشف عن نوايا معاوية وأغراضه، أن تجد بعض المؤلفين المعاصرين يلوّحون بما يعتمل في أنفسهم، وتنضح أقلامهم بما يحاولون التستر عليه من مكنونهم دون جدوى، فالدكتور امحزون يحاول كسلفه محب الدين الخطيب وغيره من القدماء كابن كثير وغيره أن يبرئ معاوية، ويلقي التبعة على علي بن أبي طالب، إذ يقول:

وقد كان في إمكان علي(رضي الله عنه) اتخاذ وسائل اُخرى غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق، إذ لا يلزم من كونه إماماً شرعياً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين صواباً وحقاً باطلاق!!(2).

إن المشكلة تتلخص في أن بعض الباحثين وهم يتمسكون بجزء من القضية ويتشبثون بروايات معينة دون غيرها، ويحاولون أن يجعلوها هي الأساس لمتبنياتهم، لكنهم وللاشكالات المعقدة التي تطرحها هذه الروايات، سرعان ما يجدون أنفسهم مضطرين لمخالفتها دون وعي منهم، فهل نسي الدكتور امحزون أنه حتى روايات سيف بن عمر نفسها حول معركة الجمل -والتي يعتمدها الدكتور امحزون- تقول بأن علياً بذل الصلح لأهل الجمل، ولم يبدأهم بقتال، ولكن السبائية هم الذين انشبوا الحرب كما تدعي الرواية!

____________

1- الكامل لابن الاثير 3: 339.

2- تحقيق مواقف الصحابة 2: 170.


الصفحة 374
أما إذا كان الدكتور امحزون يعلم - في قرارة نفسه- أن تلك الروايات مكذوبة، فإن الروايات التي جاءت عن الثقات، والتي سبق وأن أوردناها حول معركة الجمل، تؤكد أن علياً قد بذل لهم الصلح أيضاً، ووقف ثلاثة أيام يفاوضهم ويعظهم وينصحهم، وأنه دعا طلحة والزبير ووعظهما، وأنه لم يبدأ الحرب حتى دعاهم الى كتاب الله، ولكنهم هم الذين بدأوه القتال! وهلاّ كان الدكتور امحزون يوجّه هذه الملاحظة الى موقف معاوية وينصحه بالتنازل عن بعض حقه - إن كان معه شيء من الحق أصلا- ومع ذلك فإن الدكتور امحزون يعود فيناقض نفسه حيث يقول:

وذكر يحيى بن سليمان الجعفي في (كتاب صفين) بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة; أو أنت مثله! قال: لا، وإني أعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأْتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان.

فأتوه فكلّموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، فامتنع معاوية(1).

فلماذا لم يتنازل معاوية عن شرطه بدفع قتلة عثمان إليه ليقتلهم كما هي عادة الجاهلية التي نهى عنها الإسلام، ولماذا ظل يرفض طلب الخليفة المنسجم مع مبادئ الإسلام، فيدخل في الطاعة أولا، ثم يحتكم الى الخليفة في قتلة عثمان؟ إن السبب واضح تماماً، إذ أن معاوية كان يعلم أنه يراهن على جواد خاسر، ولكن لم تكن لديه ذريعة اُخرى يحقق بها مطامعه.

وأخيراً فإن هؤلاء المؤلفين لو كانوا يبتغون الحقيقة كما هي من دون ميل

____________

1- تحقيق مواقف الصحابة 2: 47 عن ابن حجر في الفتح 13: 86.


الصفحة 375
مع الهوى لوجدوها، ولكنهم غضوا أنظارهم عنها، وحاولوا أن يجعلوا معاوية محقاً في دعواه بأي ثمن، ولو بافتعال ذريعة التأول الخاطئوقد عبّر علي بن أبي طالب عن موقف هؤلاء بقوله: وحزبنا حزب الله، والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن ساوى بيننا وبين عدونا فليس منا(1).

قضية التحكيم

انتهت معركة صفين بعدما كاد جيش علي أن يسحق جيش معاوية، لولا الحيلة التي اهتدى إليها عمرو بن العاص برفع المصاحف، والادعاء بتحكيم القرآن، والتي انطلت على قسم من جيش علي، فأجبروه على الموافقة على التحكيم وإيقاف الحرب، وإرسال حكمين على أن يتحاكما الى كتاب الله.

هذا ملخص ما جرى قبل التحكيم، ولا اُريد الدخول في تفاصيل السياق التاريخي لها، إلاّ أنني أود أن أتعرض أولا الى رأي القاضي ابن العربي حولها، لأنه جاء برأي غريب فيها، حيث قال في إحدى قواصمه:

وقد تحكم الناس في التحكيم، فقالوا فيه مالا يرضي الله، وإذا لاحظتموه بعين المروءة - دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل بيّن.

والذي يصح في ذلك، ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني: أنه لما خرج الطائفة العراقية في مائة ألف، والشامية في سبعين أو تسعين ألفاً، نزلوا على الفرات بصفّين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء على الماء، فغلب أهل العراق عليه، ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين،

____________

1- كنز العمال 6: 89.


الصفحة 376
حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا الى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها الى رجل، أبو موسى، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص.

وكان أبو موسى رجلا تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً(1).

وقالوا إنهما لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين، فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر، ولينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض-، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده، فأنكره أبو موسى، فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف.

ثم قال ابن عربي في (عاصمة):

هذا كله كذب صراح! ما جرى منه حرف قط! وإنما هو شيء اخترعته المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثته أهل المجانة والجهارة بالمعاصي والبدع، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الاثبات: أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر في عصبة كريمة من الناس، منهم ابن عمر ونحوه، عزل عمرو معاوية!

ذكر الدارقطني بسنده الى حصين بن المنذر: لما عزل عمرو معاوية، جاء حصين بن المنذر فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ ثناه معاوية،

____________

1- وماذا عن عمرو بن العاص؟!


الصفحة 377
فأرسل إليّ فقال: إنه بلغني عن هذا (أي عن عمرو) كذا وكذا، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟

قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. قال: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه.

فأتيته فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه، فأرسل الى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيله، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدوّ الله، أين هذا الفاسق؟ قال أبو يوسف: أظنه قال: إنّما يريد حوباء نفسه، فخرج عمرو الى فرس تحت فسطاطه فجال في ظهره عرياناً فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول: إن الضجور قد تحتلب العلبة، إن الضجور قد تحتلب العلبة، فقال معاوية: أحسبه ويريد الحالب فتدق أنفه وتكفأ إناؤه!(1).

إن القصة التي يوردها ابن العربي مدعياً أنها هي الصحيحة، وأنها قد جاءت عن الائمة الثقات، لتثير من التساؤلات أكثر بكثير مما تشير الرواية التي اتفق المؤرخون عليها، والتي أنكرها ابن العربي! إذ ما هو الأمر الذي قال الناس فيه ما قالوا -كما يقول عمرو بن العاص- وهل هناك مقالة تفشو بهذه السرعة بين الناس دون أن يكون لها أي أصل! وإذا كان عمرو بن العاص وأبو موسى قد اتفقا على خلع معاوية -كما يدعي عمرو- فعن أي شيء خلعاه؟ عن

____________

1- العواصم من القواصم: 175.


الصفحة 378
الخلافة وهو ليس بخليفة، أم عن إمارة الشام؟ فإن كانا قد خلعاه عن إمارة الشام، فلماذا لم يرضخ معاوية لحكمهما - وهو الذي طلب التحكيم- فيعزل نفسه نزولا عند حكم الحكمين!

وإن كان أبو موسى قد قال لعمرو: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما، فهو لم يخذل إمامه علي بن أبي طالب ويخلعه، فلماذا هرب إذاً الى مكة استحياء من علي، طالما أنه لم يقبل أو يفعل ما يستوجب غضب الخليفة عليه، ولماذا كان علي بن أبي طالب يلعنه في قنوته! وأين النتيجة في تلك القصة التي يرويها ابن العربي عن الدارقطني، والتي تبدو وكأنها هذيان محموم؟

إن محاولة تبرئة أبي موسى الأشعري من مسؤوليته في قضية التحكيم لا تجدي نفعاً، فإن لهذا الرجل سوابق غير محمودة، فهو بالأمس يخذّل الناس عن علي من على منبر الكوفة الذي جلس عليه بأمر علي نفسه حين عيّنه والياً على الكوفة، ويدَّعي انها فتنة، وأن أصحاب رسول الله أعلم بالأمر، وكأنه هو الصحابي الوحيد الذي بقي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مع أنه لم يدخل الإسلام إلاّ بعد فتح خيبر، وهل نسي أن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيرهما من الصحابة الذين مع علي، هم أقدم منه إسلاماً وأعرف باُمور الدين، وأفهم لسنّة النبي (صلى الله عليه وآله)؟!

وإذا كانت نية الرجل سليمة حقاً، فما باله لم يخذّل الناس عن أصحاب الجمل! فلا بعث كتاباً الى عائشة يرجوها أن تقرّ في بيتها كما أمرها الله ورسوله، -وكما فعل غيره من الصحابة من ذوي البصائر- ولا حذّر طلحة والزبير من عواقب هذه الفتنة! مع العلم أن الواجب كان يحتّم عليه أن ينصر

الصفحة 379
خليفته الذي اختاره المهاجرون والأنصار ممن هم أسبق منه إسلاماً وأكثر بلاءً فيه، وأن يخرج بأهل الكوفة لنصرته. كل هذه الهنات من أبي موسى تجعله موضع شك في نياته تجاه علي بن أبي طالب، وموقفه قبل أن يبدأ التحكيم ينم عن فساد نياته، فقد روى نصر بن مزاحم قال:

وكان آخر من ودّع أبا موسى، الأحنف بن قيس، أخذه بيده ثم قال له: يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر، واعلم أن له ما بعده، وأنك إن أضعت العراق فلا عراق. اتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك، وإذا لقيت غداً عمراً فلا تبدأه بالسلام، فإنها وإن كانت سنّة، إلاّ أنه ليس من أهلها، ولا تعطه يدك فإنها أمانة، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة، ولا تلقه إلاّ وحده، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه الرجال والشهود. ثم أراد أن يُثوّر ما في نفسه لعلي، فقال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا، وليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا! فقال أبو موسى: قد سمعت ما قلت، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي!

فرجع الأحنف إلى علي (عليه السلام) فقال له: أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل محضة! لا أرانا إلاّ قد بعثنا رجلا لا ينكر خلعك! فقال علي: الله غالب على أمره(1).

فأبو موسى قد كشف عن مكنون نفسه قبل أن يرحل الى المكان المتفق عليه، وبدا أنه لا ينكر خلع علي بن أبي طالب، فقد كان مائلا عنه منذ البداية، لأن هواه مع غيره، فقد روى نصر أيضاً قال:

____________

1- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.


الصفحة 380
وقد كان الأجناد أبطأت على معاوية، فبعث الى رجال من قريش كانوا كرهوا أن يعينوه في حربه: إن الحرب قد وضعت أوزارها، والتقى هذان الرجلان في دومة الجندل، فأقدموا عليَّ.

فأتاه عبد الله بن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وعبدالرحمان بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، وعبدالله ابن صفوان الجمحي، وأتاه المغيرة بن شعبة -وكان مقيماً بالطائف لم يشهد الحرب- فقال له: يا مغيرة، ما ترى؟ قال: يا معاوية، لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليَّ أن آتيك بأمر الرجلين. فرحل حتى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كالزائر له! فقال: يا أبا موسى، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك خير الناس، خفّت ظهورهم من دمائهم، وخمصت بطونهم من أموالهم، ثم أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك شرار الناس! لم يعرفوا حقاً ولم ينكروا باطلا.

فرجع المغيرة الى معاوية فقال له: قد ذقتُ الرجلين، أما عبدالله بن قيس، فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر، وهواه في عبدالله بن عمر، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي تعرف، وقد ظنّ الناس أنه يرومها لنفسه، وأنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه!(1).

فقد كان أبو موسى قد وطّن نفسه منذ البداية على خلع علي من الخلافة، وصرفها الى عبدالله بن عمر بن الخطاب - الذي كان هواه معه- فقد روى نصر

____________

1- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.


الصفحة 381
أن أبا موسى قال غير مرة:

والله إن استطعت لأحيينّ اسم عمر بن الخطاب. قال: فقال عمرو بن العاص: إن كنت إنّما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه، فما يمنعك من ابني عبدالله وأنت تعرف فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك لرجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة(1).

فلما عجم عمرو بن العاص عود أبي موسى، وأدرك تهاونه في حق خليفته، دبّر له المكيدة التي أردته، وسأله آخر الأمر: أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟ قال: أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون من شاءوا. فقال عمرو: الرأي والله ما رأيت، فأقبلا الى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله عزّوجل به أمر هذه الاُمة. فقال عمرو: صدق وبرّ; يا أبا موسى، تقدّم فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت بعده، فإن عمراً رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك -وكان أبو موسى مغفلا- فقال له: إنّا قد اتفقنا.

فتقدم أبو موسى فحمد الله عزّوجل وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد اجتمع

____________

1- المصدران السابقان، تاريخ الطبري 5: 68.


الصفحة 382
رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الاُمة هذا الأمر فيولّوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحّى. وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه وليّ عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه! فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنّعه بالسوط، وحمل على شريح إبن لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. وكان شريح بعد ذلك يقول: ما ندمتُ على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألاّ أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ما أتى.

والتمس أهل الشام أبا موسى، فركب راحلته ولحق بمكة.

قال ابن عباس: قبّح الله رأي أبا موسى! حذّرته وأمرته بالرأي فما عقل. فكان أبو موسى يقول: حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئاً على نصيحة الاُمة(1).

ولما جاءت الأخبار الى علي بن أبي طالب، قام فخطب الناس، فكان مما قال:

ألا أن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب، وأحييا ما أمات، واتبع كل واحد منهما هواه، وحكم بغير حجة ولا بيّنة ولا سنة

____________

1- تاريخ الطبري 5: 70، شرح نهج البلاغة 2: 255.


الصفحة 383
ماضية، واختلفا فيما حكما، فكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين..

قال نصر: فكان علي (عليه السلام) بعد الحكومة إذا صلى الغداة والمغرب، وفرغ من الصلاة وسلّم، قال: اللهم العن معاوية، وعمراً، وأبا موسى، وحبيب بن مسلمة، وعبدالرحمان بن خالد، والضحاك بن قيس، والوليد بن عقبة.

فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا صلى لعن علياً وحسناً وحسيناً وابن عباس وقيس بن سعد والأشتر.

وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية، أبا الأعور السلمي(1).

هذه هي قصة التحكيم كما وردت عند الطبري وتناقلها عنه المؤرخون، ولنا هنا وقفة مع القاضي ابن العربي، فلماذا أنكر هذه الرواية وقال إنها من وضع التاريخية للملوك؟ ومن هم اولئك التاريخية الذين يتهمهم؟ أليس الطبري هو المصدر الرئيسي الذي أورد الرواية، والذي اعتمده ابن العربي دون غيره في معظم الأخبار التي دوّنها في كتابه الذي بين أيدينا! أوليس هو الذي دعانا الى اعتماد الطبري دون سواه من المؤرخين! فما باله قد تنكّر له هذه المرة، بعد أن نقل عنه كل ما يوافق منحاه واتجاهه، ولكنه في هذه القضية انقلب على الطبري واتهمه! وتلك هي الحال مع معظم المؤلفين من القدامى والمعاصرين، فتراهم يمجّدون الطبري في نقل الأخبار التي توافق اتجاهاتهم، ولكنهم ينقلبون عليه إذا روى ما خالف هذه الاتجاهات، حتى أن بعضهم اتهم الطبري بالرفض!

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 259، تاريخ الطبري 5: 71 ولكنه لم يذكر أبا موسى من بينهم.