وعن خالد الجهني، قال: توفي رجل يوم حنين، وإنهم ذكروه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "صلّوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن صاحبكم قد غلَّ في سبيل الله"، قال: ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز يهود، ما تساوي درهمين(2).
ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهي عن الصلاة على المنافقين، فالذي يغل- وإن قتل بعد ذلك في سبيل الله- يصبح في زمرة المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
قال النووي: إن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل(3).
كما جاء عن عمرو بن شعيب، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صدر من حُنين وهو يريد الجعرانة، سأله الناس حتى دنت ناقته من شجرة فتشبكت بردائه حتى نزعته عن ظهره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ردّوا علي ردائي، أتخافون أن لا أُقسم بينكم ما أفاء الله عليكم والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم سمر تهامة نَعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جباناً ولا كذاباً". فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قام في الناس فقال
____________
1- صحيح البخاري 8: 179 كتاب الايمان والنذور، باب هل يدخل في الايمان والنذور الأرض والغنم والزروع والامتعة، الموطأ 2: 459 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الغلول، صحيح مسلم 1: 148 كتاب الايمان، باب غلظ تحريم الغلول.
2- الموطأ 2: 458، سنن ابي داود: كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول، سنن النسائي: كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل، سن ابن ماجة: كتاب الجهاد باب الغلول ح 2848.
3- شرح صحيح مسلم 2: 489.
فهذه هي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في الفيء، وهذه هي تحذيراته الشديدة من الغلول مهما كان بسيطاً، ورغم ذلك فإن معاوية يضرب بهذه السيرة وهذه النواهي عرض الحائط، ويريد أن يغل ذهب المغنم وفضته كله!
3 - اسقاط الحد
روى ابن كثير عن القاضي الماوردي في (الأحكام السلطانية) قال: وحكي أن معاوية اُتي بلصوص فقطعهم، حتى بقي واحد من بينهم فقال:
يميني أمير المؤمنين أعيذها | بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها |
يدي كانت الحسناء لو تم سترها | ولا تقدم الحسناء عيباً يشينها |
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة | إذا ما شمالي فارقتها يمينها |
فقال معاوية: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك، فقالت اُم السارق: يا أمير المؤمنين، اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها فخلى سبيله، فكان أول حدّ تُرك في الاسلام(2).
لا شك أن التهاون في إقامة حدود الله يعدّ بادرة خطيرة تؤدي الى تفشّي الفساد في أوصال المجتمع، لأنه يجرّيء الأشقياء على ارتكاب الجرائم دون خوف من عقاب، فينشأ من ذلك اختلال الأمن في المجتمع، ولهذا شدّد النبي (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمر، فعن عائشة(رض) أن قريشاً أهمّتهم المرأة
____________
1- الموطأ 2: 457 باب ما جاء في الغلول، سنن النسائي: كتاب قسم الفيء.
2- البداية والنهاية 8: 136، الأحكام السلطانية، للماوردي 2: 228.
ولكن معاوية أعطى لنفسه هذا الحق، وبعد قول الله تعالى (ومن يتعدّ حدود الله فاُولئك هم الظالمون)(2).
4 - إستلحاق زياد
أورد الطبري خبر استلحاق معاوية زياداً ضمن أحداث سنة أربع وأربعين، قال: حدثني عمر بن شبة قال: زعموا أن رجلا من عبدالقيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه قال: نعم، فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه وابن سمية يقبّح آثاري ويعرّض بعمالي لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره. فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد، فشكا إليه ذلك فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم. فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: إجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطالا، خرج
____________
1- صحيح البخاري 8: 199 باب كراهية الشفاعة في الحد.
2- البقرة: 229.
لنا سياقٌ ولكم سياق | قد علمت ذلكم الرفاق |
ثم قعد فقال: يابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزّها في الجاهلية، وأن الإسلام لم يزدني الاّ عزاً، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزّز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه، فقال: يا أمير المؤمنين، نرجع الى ما يحب زياد، قال: إذاً نرجع الى ما تحب، فخرج ابن عامر الى زياد فترضّاه.
كما ونقل الطبري عن أحمد بن زهير بسنده قال: إن زياداً لما قدم الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلاّ اليكم. قالوا: ادعنا الى ما شئت. قال: تُلحقون نسبي بمعاوية قالوا: أما بشهادة الزور، فلا. فأتى البصرة فشهد له رجل(1).
هذه هي قصة الاستلحاق برواية شيخ المؤرخين الطبري، ولا يخفى على القارئ اللبيب أن الطبري قد بتر القصة كلها، ولم يذكر منها إلاّ ذيلها، مما هو مشهور بين المؤرخين والمحدثين والعلماء والفقهاء قاطبة، والذين أخرجوا قصة الاستلحاق بتمامها في كتبهم، وقد أنكر ابن الأثير على الطبري إكتفاءه بهذا القدر من القصة، فقال -بعد أن أوردها-:
هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد، ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك وكيفيته، فإنه من الاُمور المشهورة الكبيرة في الإسلام لا ينبغي اهمالها. وكان ابتداء حاله أن سمية اُم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر، فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي، فعالجه فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة، واسمه نفيع، فلم يُقرّ به، ثم ولدت
____________
1- تاريخ الطبري 5: 214.
وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية الى الطائف، فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السّلولي - وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي (صلى الله عليه وآله) - فقال أبو سفيان لأبي مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيّاً. فقال له: هل لك في سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها، فأتاه بها، فوقع عليها فعلقت بزياد، ثم وضعته في السنة الاولى من الهجرة، فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً، فقام فيه مقاماً مرضياً، فلما عاد إليه حضر، وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان -وهو حاضر-: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم اُمه فقال علي: يا أبا سفيان، اسكت، فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً.
فلما ولي علي الخلافة استعمل زياداً على فارس، فضبطها، وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، وكتب الى زياد يتهدده ويعرّض له بولادة أبي سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المهاجرين والأنصار أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أضمر مخشيّاً ضرّاباً بالسيف.
وبلغ ذلك علياً فكتب إليه: إني وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كانت من أبي
فلما قُتل علي، وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه، واضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية إن زياداً قد أكل فارس براً وبحراً وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلاّ حقاً، فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان.
ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً، واستصفى مودته بالتحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر: أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلت له: ليس عندي إلاّ سمية، فقال: ايتني بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها، فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن اسكيتها لتقطران منياً. فقال له زياد: مهلا أبا مريم، إنما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماً فاستلحقه معاوية، وكان استلحاقه أول ما رُدّت أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.
وكتب زياد الى عائشة: من زياد بن أبي سفيان، وهو يريد أن يكتب له: الى زياد بن أبي سفيان، فيحتج بذلك، فكتبت: من عائشة اُم المؤمنين الى ابنها زياد وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني اُمية خاصة، وجرى بذلك
____________
1- (وفي رواية ابن عبد البر عن ابن عباس قال: فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو الحسن وربّ الكعبة) الاستيعاب 2: 99.
ثم قال ابن الاثير: ومن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت انواعاً لا حاجة الى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الاسلام حرّم هذا النكاح، إلاّ أنه أقرّ كل ولد كان ينسب الى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية والاسلام، وهذا مردود لاتفاق المسلمين على انكاره، ولأنه لم يستحلق أحد في الاسلام مثله ليكون به حجة(1).
وقال ابن عبد البر: فلما بلغ أبا بكرة أن معاوية استلحقه وأنه رضي بذلك، آلى يميناً لا يكلمه أبداً، وقال: هذا زنّى اُمه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط، ويله ما يصنع باُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة يهتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمة عظيمة!
وحج زياد في زمن معاوية ودخل المدينة، فأراد الدخول على اُم حبيبة، ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك.
وقيل: إن اُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل: انه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة وقال: جزى الله أبا بكرة خيراً، فما يدع النصيحة على حال(2).
____________
1- الكامل في التاريخ 3: 441.
2- الاستيعاب 2: 99، وانظر اسد الغابة 2: 336، تاريخ ابن عساكر 5: 406، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 187، تاريخ اليعقوبي 2: 19، مروج الذهب 3: 15 وغيرها من المصادر.
قال ابن جرير، وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه فألحقه بأبي سفيان، وذلك أن رجلا شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية اُم زياد في الجاهلية وأنها حملت بزياد هذا منه، فلما استلحقه معاوية قيل له: زياد بن أبي سفيان، وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ويقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(1).
هذه هي قصة الاستلحاق كما ذكرها الأئمة الأعلام، ومن المؤسف أن تجد من يعتذر لمعاوية عن هذا العمل الشنيع الذي استنكره ابن الأثير وكفانا مؤونة الرد على المعتذرين لمعاوية، ولكن أسفاً على الاسلام أن يتصدى بعض الفقهاء والعلماء لتبرير مثل هذه الجرائم التي تقصم ظهر الاسلام والمسلمين، إلاّ أن ذلك ليس غريباً على من يبيع آخرته بدنيا غيره، فإن سياسة الترغيب والترهيب التي اتّبعها معاوية قد أوجدت طبقات من المتكسّبين الذين يبيعون دينهم بالدرهم.
قال عبدالرحمن الشرقاوي: "وكان بعض المنتسبين الى الفقه والثقافة وعلوم الدين قد صانعوا حكام بني اُمية وزيّنوا لهم الاستبداد، وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يُسألون عما يفعلون.. وفي الحق أن الحكام الاُمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين فيجزلون لهم العطاء، ويولّون بعضهم"(2).
لكن الذي يبعث على الاستغراب أكثر من ذلك، أن يتصدى بعض العلماء لتبرير أعمال معاوية وبني اُمية بعد انقضاء دولتهم بقرون متطاولة -كما يفعل
____________
1- البداية والنهاية 8:
2- أئمة الفقه التسعة: 43.
وعن ابن حرملة قال: ما سمعت سعيد بن المسيب سبَّ أحداً من الائمة قط، إلاّ أني سمعته يقول: قاتل الله فلاناً (يعني معاوية) كان أول من غيّر قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(2).
5 - أكل الربا
من الاُمور التي لا يخالج أحداً من المسلمين الشك فيها مطلقاً، حرمة الربا تحريماً قطعياً، والنهي الشديد عنه، والوعيد لآكله في الكتاب العزيز والسنّة النبوية الشريفة، وفقهاء المسلمين مجمعون بكافة طوائفهم على حرمة الربا
____________
1- الطبري 5: 279، الكامل في التاريخ 3: 487، تاريخ ابن عساكر 2: 381، البداية والنهاية 8: 139، النجوم الزاهرة 1: 141 وغيرها.
2- حلية الاولياء 2: 167، والحديث في صحيح البخاري 8: 191 كتاب الفرائض، باب الولد للفراش، حرة كانت أو أمة، صحيح مسلم كتاب الرضاع، سنن الترمذي 3: 463 ح 1157، سنن النسائي: 3: 378 ح 5676، سنن أبي داود 2: 282 ح 2273.
وقد نعت القرآن الكريم أكلة الربا بأقبح النعوت والأوصاف، وتوّعدهم بشدّة، فقال عزّ من قائل: (الذينَ يأكلونَ الرِّبا لا يقومونَ إلاّ كما يَقومُ الذي يَتخبَّطهُ الشيطانُ مِنَ المسّ ذلكَ بأنّهم قالوا إنَّما البيعُ مِثلُ الرِّبا وأَحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الربا فَمنْ جاءَهُ مَوعِظةٌ مِنْ رَبّهِ فانتهى فَلهُ ما سَلفَ وأَمرهُ الى اللهِ ومَنْ عادَ فأولئكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدونَ)(1)، فالذي يصر على أكل الربا هو من الخالدين في النار، مثله في ذلك كمثل الكفار والمشركين كما وتهدّد القرآن الكريم المصرّين على أكل الربا بحرب من الله ورسوله، فقال تعالى ذكره: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقيَ مِنَ الرّبا إنْ كُنتُمْ مُؤمِنينَ * فإنْ لَمْ تَفعلُوا فَأْذَنُوا بحرب مِنَ اللهِ وَرَسولِه)(2).
أما السنّة النبوية الشريفة، فالأحاديث فيها في التشديد على حرمة الربا أكثر من أن تحصى، ولا يخلو منها كتاب من كتب الحديث، والفقه، وسوف أكتفي بالاستشهاد بأمثلة قليلة جداً منها:
عن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى حجاماً، فسألته عن ذلك، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأَمَة، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا ومؤكله، ولعن الصور(3).
وعن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي يوم الزحف
____________
1- البقرة: 275.
2- البقرة: 278 - 279.
3- صحيح البخاري 3: 78 كتاب البيوع باب مؤكل الربا، و 3: 111 باب ثمن الكلب.
وعن إبن مسعود مرفوعاً: "الربا ثلاث وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل اُمّه"(2).
هذا هو حكم آكل الربا ومؤكله في القرآن والسنّة، وهذا هو عقابه الأليم، فهو خالد في النار كالكفار، وهو محارب لله ورسوله...الخ.
ومع كل هذا فإن معاوية بن أبي سفيان الصحابي الذي يفترض أنه ممن يأخذ المسلمون دينهم عنهم لا يتورع عن أكل الربا، وليس هذا من تخرصات أحد مخالفيه أو من أكاذيب أهل البدع -كما يسميهم البعض- ولا هو من تقوّلات التاريخية الذين يكتبون للملوك المناوئين لبني اُمية، بل هو بشهادة الصحابة من أولي الفضل والتُقى، أخرجها عنهم أئمة الحديث من علماء الجمهور، فعن عطاء بن يسار: أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهى عن مثل هذا إلاّ مثلا بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بثمل هذا بأساً! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويخبرني عن رأيه لا أُساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فكتب عمر بن الخطاب الى معاوية: أن لا تبيع ذلك إلاّ مثلا بمثل، وزناً بوزن(3).
وعن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو
____________
1- صحيح مسلم 1: 64، صحيح البخاري 3: 195، سنن أبي داود ح 3333، سنن البيهقي 5: 275، سنن الترمذي 3: 12 ح 1206، سنن ابن ماجة 2: 764 ح 2277.
2- المستدرك على الصحيحين 2: 43 ح 2259، شعب الايمان للبيهقي 4: 394 ح 55199.
3- الموطأ 2: 634 باب بيع الذهب بالفضة تبراً وعيناً. السنن الكبرى للبيهقي 5: 280 كتاب البيوع، باب تحريم التفاضل في الجنس الواحد. السنن الكبرى للنسائي 4: 30 كتاب البيوع: بيع الذهب بالذهب ح 6164.
وفي رواية لابن عساكر عن الحسن، وفيها: فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره فقال له: بلى وإن رغم أنف معاوية، ثم قام فقال له معاوية: ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) من الصفح عنهم(2).
إن الملاحظ أن معاوية يريد أن يقرن نفسه بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) الذين سارعوا الى الإيمان به منذ البداية، ورافقوه وشهدوا معه المشاهد، فيستنكر عليهم أن يرووا عنه أحاديث لم يسمع معاوية بها ولا أدري ما الغريب في
____________
1- صحيح مسلم 3: 398 كتاب المساقاة: باب صرف وبيع الذهب بالورق نقداً، وسنن ابن ماجة 1: 22 ح 18 باب اتباع سنة رسول الله(ص)، والسنن الكبرى للنسائي 4: 27 كتاب البيوع: بيع الشعير بالشعير ح 6154، 6155، والسنن الكبرى للبيهقي 5: 277 كتاب البيوع وتاريخ ابن عساكر 26: 176.
2- تاريخ دمشق 8: 866.
بينما معاوية لم يُسلم إلاّ بعد فتح مكة، ولم يصحب النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ فترة وجيزة، فأنّى له الاحاطة بحديث النبي وسنته، حتى ينكر على عبادة وأمثاله من السبّاقين ولو أن معاوية اعترف بجهله بذلك، وارتدع عما يفعل، لكان له بعض العذر، لكننا نراه يصرّ على التمسك برأيه وينعى على الآخرين تبصيره بالحقيقة - إن كان يجهلها- مع العلم أن معاوية لابد وأن يكون قد سمع النبي (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، في السنة العاشرة من الهجرة وهو يخطب قائلا: "أيها الناس. اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وكل رباً موضوع، لكم رؤوس أموالكم، وإن ربا العباس بن عبدالمطلب موضوع كله..."(2).
ولا يكتفي معاوية بكل ذلك، بل يمنّ على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك بالصفح عنهم وكأنهم هم المذنبون بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو المصيب باصراره على المنكر والمحرّم!.
6 - بيع الأصنام
قال السرخسي: وذُكر عن مسروق(رحمه الله) قال: بعث معاوية(رض) بتماثيل من صفر تُباع بأرض الهند، فمرّ بها على مسروق رحمه الله، قال: والله
____________
1- روى ابن سعد عن خالد بن معدان قال: لم يبق من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشام أحد أوثق ولا أفقه ولا أرضى من عباد بن الصامت وشداد بن أومى، الطبقات: 374.
2- تاريخ الطبري 3: 148، الكامل لابن الاثير 2: 302 ذكر حجة الوداع، تاريخ الإسلام 1: 704، مغازي الواقدي 3: 1088، السيرة النبوية لابن هشام 4: 230، الطبقات الكبرى 2: 172، تاريخ خليفة بن خياط: 94، نهاية الإرب 17: 371، عيون الأثر 2: 272.
وقيل: هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة، فأمر معاوية(رض) ببيعها بأرض الهند بها الاسلحة والكراع للغزاة، فيكون دليلا لأبي حنيفة في جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده، كما هو طريقة القياس، وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله، كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك.
ومسروق من علماء التابعين، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى، وقد رجع ابن عباس الى قوله في مسألة النذر بذبح الولد، ولكن مع هذا، قول معاوية (رض) مقدّم على قوله وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض، كما قال علي(رضي الله عنه): من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد، يعني بقول زيد(رض). وإنما قلنا هذا لأنه لا يُظن بمسروق رحمه الله أنه قال في معاوية(رض) ما قال عن اعتقاد، وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين، وقد أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالملك بعده فقال له (عليه السلام) يوماً: "إذا ملكت أمر اُمتي فأحسن إليهم"، فكان هو مخطئاً في مزاحمة علي(رضي الله عنه)، تاركاً لما هو واجب عليه من الانقياد له، لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا(1).
لقد أوردت كلام السرخسي كله في هذه القضية للتذكير بأن بعض فقهاء العصر الاُموي قد قبلوا أن يبيعوا دينهم بدراهم معاوية، إلاّ أننا نجد في الفقهاء
____________
1- المبسوط: 24: 46 كتاب الاكراه.
7 ـ شرب الخمر
لا يخامر أحداً من المسلمين شك في حرمة الخمر، وتحذير النبي (صلى الله عليه وآله) منها، فهي اُم الخبائث، وهي التي تفتح الباب للكثير من الشرور والمفاسد، وقد تسببت في تهديم الكيان الاُسري، ومفاسدها أكثر من أن تحصى، لذا حاربها الإسلام، ونظراً لآثارها العميقة على المدمن عليها، وصعوبة تخلصه منها
____________
1- صحيح البخاري 3: 110 باب بيع الميتة والأصنام.
ثم جاء دور السنّة النبوية الشريفة في التشديد على النهي عنها واجتنابها، والوعيد لمن أصرّ على شربها، أو حتى بيعها أو حملها...الخ.
فعن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله): "لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر"(2).
وعن أبي بكر بن عبدالرحمان بن الحرث عن أبيه قال: سمعت عثمان(رضي الله عنه)يقول: اجتنبوا الخمر فإنها اُم الخبائث، أنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبّد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى الى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمرة كأساً، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقيني من هذا الخمر كأساً، فسقته كأساً. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلاّ ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه(3).
____________
1- المائدة: 90.
2- سنن ابن ماجة 2: 311 كتاب الأشربة: باب الخمر مفتاح كل شر.
3- سنن النسائي 8: 315.
وعن أبي الدرداء، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر"(2).
وعن أبي علقمة مولاهم، وعبدالرحمان بن عبدالله الغافقي، أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه"(3).
وعن عبدالله بن عمر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال". قيل: يا أبا عبدالرحمان، وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار(4).
وعن مسروق، قال: القاضي إذا أكل الهدية فقد أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر، وقال مسروق: من شرب الخمر فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة(5).
فبعد هذه الروايات التي أخرجها الأئمة المحدّثون -وهي غيض من فيض- في موقف الشريعة الإسلامية من الخمر وشاربها، نعود لنسائل اولئك الأئمة عما أخرجوا عن موقف معاوية بن أبي سفيان من الخمر:
أخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن بريدة، قال: دخلت أنا وأبي على
____________
1- سنن ابن ماجة: كتاب الأشربة.
2- المصدر السابق.
3- سنن أبي داود 3: 324 كتاب الأشربة.
4- جامع الترمذي 3: 44 وقال: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبدالله بن عمرو وابن عباس عن النبي(ص)، وانظر مسند أبي داود الطيالسي ح 1901، ومصنف عبد الرزاق ح 10758، ومسند أبي يعلى ح 5686، ومعجم الطبراني الكبير ح 13441، ومصابيح السنة للبغوي ح 3016، وتحفة الاشراف ح 7318، ومسند احمد 2: 35، وشعب الإيمان للبيهقي ح 5580.
5- سنن النسائي 8: 314.