قال مخلد: قال هشام: كان محمد إذا سئل عن الشهيد، يغسّل؟ حدثهم حديث حجر! قال محمد: فلقيت عائشة اُم المؤمنين معاوية - قال مخلد أظنه بمكة- فقالت: يا معاوية، أين كان حلمك عن حجر! فقال لها: يا اُم المؤمنين لم يحضرني رشيد! قال ابن سيرين: فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت ويقول: يومي منك يا حجر يوم طويل...(1).
ويورد الطبري عن أبي مخنف روايات طويلة حول مطاردة زياد لحجر وعدد من أصحابه واستشهاده شهداء زور على حجر وأصحابه، أعرضت عنها لطولها، وأجد أن ما نقلناه عن شيخ المؤرخين حول القضية يكفي لتوضيح الاُمور وبيان أن ادعاء ابن العربي ومن يجري مجراه - بأن معاوية لم يكن ظالماً بقتله حجراً، وأن حجراً كان يريد أن يقيم الخلق للفتنة- لا يقوم على أساس صحيح، فالذي أخرج رأس الفتنة هو معاوية وعمّاله، إذ أنهم بلعنهم علي بن أبي طالب -وهي السنّة السيئة التي ابتدعها معاوية بلعن علي على المنابر حتى أبطلها عمر بن عبدالعزيز- كانت هي السبب في استفزاز مشاعر الأخيار من أمثال حجر وغيره، لأنهم يعلمون أن معاوية وعمّاله يأتون باباً عظيماً من المنكر الذي ينبغي تغييره، فهؤلاء الصحابة قد سمعوا -كما قد سمع
____________
1- الطبري 5: 253، الكامل 3: 472 حوادث سنة 51.
فعن أبي عبدالله الجدلي، قال: دخلت على اُم سلمة فقالت: أيسبُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم؟! قلت: معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها. قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "من سبّ عليّاً فقد سبّني!!"(1).
وفي لفظ الحاكم: "من سبَّ علياً فقد سبّني، ومن سبني فقد سبَّ الله تعالى"(2).
وعن أبي مليكة قال: جاء رجل من أهل الشام فسبّ علياً عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس وقال: يا عدّو الله، آذيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إنَّ الذينَ يُؤذونَ اللهَ وَرَسولَهُ لَعَنَهُم اللهُ في الدُّنيا وَالآخرة وأعدَّ لَهُم عَذاباً مُهيناً)، لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياً لآذيته!(3).
وليس ثمة شك بأن معاوية لم يكن جاهلا بما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) فيمن يسب علياً، إلاّ أنه كان يتغافل عن ذلك ويتجاهل، استخفافاً منه بالشريعة وصاحبها الكريم، بل واستخفافاً بالله تعالى، "فعلى الرغم من أن اُم المؤمنين اُم سلمة كانت قد أرسلت الى معاوية تنهاه عن تلك البدعة البشعة وتقول له: إنكم تلعنون الله ورسوله إذ تلعنون علياً ابن أبي طالب ومن يحبه، وأشهد أن الله ورسوله يحبانه.
على الرغم من تلك النصيحة، فقد ظل الإمام علي يلعن على المنابر، وتلعن معه زوجه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) "(4).
____________
1- مجمع الزوائد 9: 130 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عبدالله الجدلي وهو ثقة.
2- المستدرك على الصحيحين 3: 123.
3- المصدر السابق.
4- عبد الرحمان الشرقاوي. أئمة الفقه التسعة: 39.
فعن زيد بن أرقم، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة وعلي وحسن وحسين: "أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم".
وعن أبي هريرة قال: نظر النبي (صلى الله عليه وآله) الى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال: "أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم"(1).
أما اعتراض حجر على زياد بسبب تأخيره الصلاة، فهو محق في ذلك أيضاً، لأن الصلاة لا ينبغي تأخيرها عن وقتها بدون عذر مشروع، والتهاون فيه قد يؤدي بالنهاية الى الاستخفاف بهذه الفريضة التي هي عمود الاسلام.
وقد أثبتت الوقائع ان حجراً كان محقاً في انكاره على زياد تأخير الصلاة، لأن ذلك صار ديدن بني اُمية، وعمالهم -كما مرّ في مباحث سابقة- حتى بكى أنس بن مالك عندما رأى بني اُمية قد ضيّعوا الصلاة.
فهذه هي الأسباب التي قتل معاوية حجراً وأصحابه من أجلها، بعد قول النبي (صلى الله عليه وآله):
____________
1- مسند أحمد 2: 442، المستدرك على الصحيحين 3: 149، المعجم الكبير للطبراني 3: 30، سنن الترمذي 5: 699، مجمع الزوائد 9: 169، تاريخ بغداد 7: 137، الكنى للدولابي 2: 160.
2 - " من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله تعالى مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله "(2).
3 - " من عادى ولياً فقد بارزني بالحرب "(3).
فهذه هي الأدلة التي طلبها القاضي ابن العربي لاثبات أن معاوية كان ظالماً لحجر، نتركها بين يدي القارئ ليحكم على ضوئها.
العباسيون ومعاوية
لا شك وأن الكثير من القرّاء يعتقدون أن العباسيين قد ظلوا أعداء للاُمويين يحملون لهم الضغينة منذ بداية عهدهم وحتى انقراض ملكهم على أيدي التتار!
إلاّ أن من له إلمام بالتاريخ السياسي والظروف والملابسات التي اكتنفت قيام الدولة العباسية على أنقاض دولة بني اُمية، وما واجهته الدولة العباسية من مشاكل فيما بعد، وقيام الثورات المستمرة على العباسيين، يعلم أن موقف العباسيين من معاوية وبني اُمية لم يكن موقفاً ثابتاً، بل إنه تعرض للتغيّر حسب الظروف السياسية التي سادت في عهود الخلفاء العباسيين.
لقد شاد العباسيون ملكهم على أكتاف أبناء عمومتهم العلويين، وحيث إن الناس لم يكونوا يعرفون لبني العباس حقاً في الخلافة، وإنما كان معظمهم يعتقد بأحقية العلويين في الخلافة، لاعتقادهم أن الاُمويين قد غصبوهم إياها،
____________
1- السنن الكبرى للبيهقي 8: 12.
2- سنن ابن ماجة 2: 874 ح 2620.
3- السنن الكبرى للبيهقي 2: 346 وقريب منه في مجمع الزوائد: 2: 248، فتح الباري 11: 393.
لما صعد أبو العباس منبر الكوفة، حُصر فلم يتكلم، فقام داود بن علي- وكان تحت منبره حتى قام بين يديه تحته بمرقاة- فاستقبل الناس وقال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال، وحسبكم كتاب الله تمثلا فيكم، وابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خليفة عليكم، اُقسم بالله قسماً برّاً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا! فليهمس هامسكم، ولينطق ناطقكم...(2).
كما وأن أعظم القوّاد الذي كان له اليد الطولى في تشييد ملك العباسيين، أبو مسلم الخراساني يعترف في كتاب بعثه الى أبي جعفر المنصور، بعدم أحقية العباسيين في الحكم على العلويين، قال فيه: أما بعد، فقد كنت اتخذت أخاك إماماً وجعلته على الدين دليلا لقرابته، والوصية التي زعم أنها صارت إليه، فأوطأ بي عشوة الضلالة، وأرهقني في ربقة الفتنة، وأمرني أن آخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكتُ بأمره حرمات حتم الله صونها، وسفكتُ دماءً فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته
____________
1- الكامل 5: 380.
2- شرح نهج البلاغة 7: 155.
وقد استفتح العباسيون عهدهم بالانتقام من بني اُمية، أحيائهم وأمواتهم على السواء! وكانت دعواهم في ذلك، أنهم ينتقمون من الاُمويين لما فعلوه بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) من أبناء علي بن أبي طالب، وروى المؤرخون أن أبا العباس لما اُتي برأس مروان بن محمد -آخر الخلفاء الاُمويين- سجد فأطال، ثم رفع رأسه وقال: الحمد لله الذي لم يُبق ثأرنا قبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرنا بك وأظهرنا عليك، ما اُبالي متى طرقني الموت وقد قتلتُ بالحسين (عليه السلام) ألفاً من بني اُمية، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي... ثم قال: أما مروان، فقتلناه بأخي ابراهيم، وقتلنا سائر بني اُمية بحسين ومن قُتل معه وبعده من بني عمنا أبي طالب(2).
ولم يكتف العباسيون بالانتقام من الأحياء من بني اُمية، بل تعدّوهم الى الأموات أيضاً يشفون منهم غليلهم، حيث "أمر عبدالله بن علي بنبش قبور بني اُمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلاّ خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبدالملك فوجدوا جمجمته، وكان لا يوجد في القبر إلاّ العضو بعد العضو، غير هشام بن عبدالملك فإنه وجد صحيحاً لم يَبلَ منه إلاّ أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرّقه وذرّاه في الريح...(3).
هكذا كان موقف العباسيين من معاوية وبني اُمية في بداية عهد دولتهم، ولكن سرعان ما جدّت اُمور أدت الى أن يفكر العباسيون بتغيير موقفهم من معاوية خاصة بعد ذلك.
____________
1- تاريخ بغداد 10: 280.
2- الكامل 5: 427، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 131.
3- الكامل لابن الأثير 5: 430 حوادث سنة 132 هـ.
تغيّر موقف العباسيين من معاوية
كان الناس في معظم البلاد الإسلامية ينتظرون زوال ملك بني اُمية الذي فتّ في عضده كثرة الثورات التي قامت عليه من مختلف الفئات، وكان للعلويين نصيب كبير في تلك الثورات، ولما بدأت علامات الزوال تلوح على دولة الاُمويين بعد هزيمتهم في معركة الزاب أمام جيوش العباسيين، استبشر الناس خيراً، حتى إن مروان بن محمد، "لما هزمه عبدالله بن علي بالزاب، أتى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي، فقطعا الجسر! فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان! فقالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر. وسبّه أهل الموصل وقالوا: يا جعدي، يا معطّل، الحمد لله الذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم، الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبيّنا...(1)
إلاّ أن الناس سرعان مامنوا بخيبة أمل كبيرة، حينما تبيّن لهم بأن العباسيين لم يكونوا أقلّ شراً من الاُمويين، إن لم يكونوا أكثر، خصوصاً بعد المذبحة الفظيعة التي ارتكبها العباسيون في مدينة الموصل وغيرها، ففي نفس السنة التي ابتدأ العباسيون بها عهدهم الجديد، استعمل السفاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل بدلا من محمد بن صول، فارتكب فيها مذبحة رهيبة، "وكان سبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة محمد بن صول وقالوا: يلي علينا مولى الخثعم! وأخرجوه عنهم، فكتب الى السفاح بذلك واستعمل عليهم أخاه يحيى بن محمد، وسيّره إليها في اثني عشر ألف رجل، فنزل قصر الامارة بجانب مسجد الجامع، ولم يُظهر لأهل الموصل شيئاً ينكرونه ولم
____________
1- الكامل 5: 424.
أمام هذه التصرفات الشنيعة للعباسيين، بدأ الناس يتململون، وتحركت عوامل النقمة، ثم الثورة على العباسيين، ففي سنة (133 هـ) "خرج شريك بن شيخ المهري ببخارا على أبي مسلم ونقم عليه وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد، أن تسفك الدماء، وأن يعمل بغير الحق!
وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفاً، فوجّه إليهم أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله...(2).
العباسيون والعلويين
كانت الأخطار التي تتهدد الدولة العباسية تتمثل في ثورات الخوارج والعلويين بالدرجة الاُولى، وبما أن الخوارج -رغم تعدد فرقهم وكثرة ثوراتهم وشدة بأسهم- لم يستطيعوا أن يكوّنوا قاعدة شعبية عريضة تدين لهم بالولاء والانتماء، وذلك بسبب غرابة آرائهم وتطرفهم، وتكفيرهم جميع
____________
1- الكامل في التاريخ 5: 443.
2- الطبري 7: 459، الكامل 5: 448، البداية والنهاية 10: 56.
لكن العباسيين خدعوا العلويين، وخدعوا الناس أيضاً، فكان دعاتهم يهيئون الأمر لبني العباس باسم العلويين، وبخاصة أبو مسلم الخراساني الذي "من المؤكد أنه كان يدعو الناس الى الرضا من أهل البيت، ولا يصرّح باسمه ولا نسبه، مما يدل على أن الاُمة كان توجهها الى علي وأهل بيته أكثر من توجهها الى بني العباس، فلما تم له الأمر، أعلن اسم عبدالله السفاح بن محمد ابن علي بن عبدالله بن عباس.
عاد الاصطدام حينئذ بين البيتين العلوي والعباسي، فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم أشد وأقسى مما لاقوه في عهد خصومهم من بني اُمية، فقتلوا وشردوا كل مشرّد، وخصوصاً في زمن المنصور والرشيد والمتوكل من بني العباس، وكان إتهام شخص في هذه الدولة بالميل الى واحد من بني علي كافياً لإتلاف نفسه ومصادرة أمواله. وقد حصل ذلك فعلا لبعض الوزراء وغيرهم"(1).
أدرك العباسيون أن بني اُمية لم يعودوا يشكلون خطراً عليهم وعلى دولتهم، فقد اُبيدوا تقريباً في المجازر التي أقامها لهم العباسيون، ودالت دولتهم وزالت شوكتهم، فلم يعد العباسيون يهتمون بذكرهم أو الاساءة لتاريخهم، بسبب انصرافهم الى مقارعة خصومهم العلويين الذين كانوا
____________
1- محمد الخضري. الدولة الاُموية: 150.
تلاقت إذاً أهداف أعداء الأمس الذين صار يجمعهم شيء واحد، التخلص من خصومهم العلويين، والعباسيون وإن لم يبلغوا الحد الذي يلعنون فيه علي بن أبي طالب وأهل بيته على المنابر جهاراً، إلاّ أنهم وجدوا في تمجيد الاُمويين - وبخاصة معاوية- ما يحقق بعض أغراضهم وغاياتهم، فتركوا المجال فسيحاً لمن يروي مناقب الاُمويين أو مثالب العلويين، ويشهد أحد المؤلفين والعلماء الثقات من العصر العباسي على هذه الظاهرة، إذ يقول ابن قتيبة:
وقد رأيت هؤلاء قد قابلوا الغلو في حب علي، بالغلو في تأخيره وبخسه حقه، ولحنوا في القول -وإن لم يصرّحوا- الى ظلمه، واعتدوا عليه بسفك الدماء بغير حق، ونسبوه الى الممالأة على قتل عثمان، وأخرجوه بجهلهم من أئمة الهدى الى جملة أئمة الفتن، ولم يوجبوا له إسم الخلافة لاختلاف الناس عليه، واوجبوها ليزيد بن معاوية لإجماع الناس عليه واتهموا من ذكره بخير! وتحامى كثير من المحدثين أن يحدّثوا بفضائله أو يظهروا ما يجب له. وكل تلك الأحاديث لها مخارج صحاح، وجعلوا ابنه الحسين خارجياً شاقاً لعصا المسلمين، حلال الدم! وأهملوا من ذكره أو روى حديثاً من فضائله، حتى تحامى كثير من المحدثين أن يتحدثوا بها، وعنوا بجمع فضائل عمرو بن
"وأخرج ابن الجوزي أيضاً من طريق عبدالله بن أحمد بن حنبل، سألت أبي: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: إعلم أن علياً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا، فعمدوا الى رجل قد حاربه، فأطروه كياداً منهم لعلي، فأشار بهذا الى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له"(2).
هذه الأمثلة وغيرها كثير، لتدلل على عدم صحة ادعاء القائلين بأن العباسيين هم الذين شوّهوا صورة الاُمويين لدى الرأي العام، فالثابت أن العكس هو الصحيح، وأن الفضائل التي نسجت لمعاوية وبني اُمية، إنما نسجت في أيام بني العباس أكثر مما وضع لهم من مناقب في عصرهم وابان دولتهم، وما ذلك إلاّ لأن العباسيين كانوا "على بغضهم وعداوتهم لبني اُمية يضيقون ذرعاً بكل فضيلة واتباع وانتماء الى علي وأهل بيته... ولئن كان بنو العباس أعداء لبني اُمية، فإنهم كذلك أعداء ألداء للعلويين، كارهين ذكر كل ما فيه منقبة وفضل لبني علي (عليه السلام) حتى أن أحد ملوكهم(3)، هدم قبر الحسين (عليه السلام) وزرع الأرض فوقه، وحكم بعضهم على العلويين أن لا يركبوا خيلا ولا يتخذوا خادماً، وإن من كان بينه وبين أحد من العلويين خصومة من سائر الناس، قُبل قول خصمه فيه ولم يُطالب ببينة! ومات كثير من أكابرهم في سجون بني العباس...(4).
____________
1- الاختلاف في اللفظ: 47.
2- فتح الباري 7: 104.
3- هو المتوكل.
4- النصائح الكافية: 284 عن الخطط للمقريزي.
كتاب المعتضد في معاوية
إن موقف العباسيين المتقلب من معاوية كان منبعثاً من الظروف السياسية المحيطة بالدولة من جهة، وبوجهة نظر خلفاء بني العباس من جهة اُخرى، فقد لاحظنا أن الموقف في بداية قيام الدولة العباسية، وفي زمن خليفتهم الأول السفاح بالتحديد كان يتميز بالنكاية في الاُمويين والانتقام منهم بهدف استئصالهم، وكذلك بذمّهم وإسقاطهم أمام الرأي العام تقرباً من الناس الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالاُمويين. إلاّ أن الموقف بدأ يتغير منذ عهد خليفتهم الثاني أبو جعفر المنصور، خاصة بعدما بدأت ثورات العلويين ضد دولة بني العباس; فاتجه اهتمام هؤلاء الى بني عمهم من العلويين الثوار ومحاولة النيل منهم بشتى الطرق، واستمر هذا الاتجاه المعادي للعلويين -والمهادن للاُمويين في الوقت نفسه- حتى أيام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد الذي بدأ يقرّب العلويين ويمتدحهم، ويذم الاُمويين، حتى إنه أمر بانشاء كتاب بلعن معاوية بن أبي سفيان! ولكن يبدو أن الكتاب لم يُقرأ على الناس في المساجد كما كان قد تقرّر، لأسباب لعل أهمها هو تحذير بعض خواص المأمون له من إمكان ثورة العامة وانتشار القلاقل، ذلك لأن الاعلام الاُموي كان قد نجح في تعبئة رأي عام مؤيد له، أو على الأقل يكنّ الاحترام والحب لمعاوية بن أبي سفيان -كونه صحابياً- وقيام البعض بنشر فضائله المختلقة حتى ترشح في أذهان الكثير من العوام صحتها وصدقها، وربما كانت هناك أسباب اُخرى ثبطت من عزم المأمون، حتى جاء الخليفة المعتضد، فأمر باخراج الكتاب -كما يذكر الطبري في حوادث سنة أربع وثمانين ومائتين-
بسم الله الرحمن الرحيم... (إلى أن قال):
وقد انتهى الى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم ونطقت بها ألسنتهم على غير معرفة ولا روية، وقلّدوا فيها قادة الضلالة بلا بيّنة ولا بصيرة، وخالفوا السنن المتبعة الى الأهواء المبتدعة... تعظيماً لمن صغّر الله حقّه، وأوهن أمره، وأضعف ركنه من بني اُمية الشجرة الملعونة... فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك، ورأى في ترك إنكاره حرجاً عليه في الدين، وفساداً لمن قلّده الله أمر المسلمين، وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، وإقامة الحجة على الشاكّين، وبسط اليد على العاندين.
وأمير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس، بأن الله عزّوجل لما ابتعث محمداً بدينه، وأمره أن يصدع بأمره، بدأ بأهله وعشيرته.. فكان من استجاب له وصدّق قوله واتبع أمره، نفر يسير من بني أبيه... وكان ممن عانده ونابذه وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم، يتلقونه بالتكذيب من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه، وأشدهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة، وأولهم في كل حرب ومناصبة، لا يرفع على الإسلام راية إلاّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها من كل مواطن الحرب منذ بدر واُحد والخندق والفتح... أبو سفيان بن حرب وأشياعه من بني اُمية الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدة مواضع، لما مضى علم الله
ومنه قول الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد رآه مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به: "لعن الله القائد والراكب والسائق"، ومنه ما يرويه الرواة من قوله: يا بني عبد مناف تلقّفوها تلقّف الكرة، فما هناك جنة ولا نار! وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت(الذينَ كَفروا مِنْ بَني إسرائيلَ عَلى لسانِ داودَ وَعيسى بنِ مَريمَ ذلكَ بِما عَصَوا وَكانُوا يَعتَدونَ)(2)، ومنه ما يروون من وقوفه على ثنيّة اُحد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: هاهنا ذببنا محمداً وأصحابه! ومنه الرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وآله) فوجم لها، فما رُئي ضاحكاً بعدها، فأنزل الله: (وَما جَعلنا الرؤيا التي أَريناكَ إلاّ فتنةً لِلناسِ)(3)، فذكروا أنه رأى نفراً من بني اُمية ينزون على منبره! ومنه طرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم بن أبي العاص لحكايته إياه، وألحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يختلج، فقال له: "كن كما أنت"، فبقي على ذلك سائر عمره، إلى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنة في الإسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها أو اُريق بعدها، ومنه ما أنزل
____________
1- الاسراء: 60.
2- المائدة: 78.
3- الأسراء: 17.
ومنه انبراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكاناً، وأقدمهم إليه سبقاً، وأحسنهم فيه أثراً وذكراً: علي بن أبي طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد أنصاره بضلاّله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه من إطفاء نور الله وجحود دينه، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره المشركون. يستهوي أهل الغباوة، ويموّه على أهل الجهالة بمكره وبغيه اللذين قدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخبر عنهما.
فقال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم الى الجنة" ويدعونك الى النار، مؤثراً للعاجلة، كافراً بالآجلة، خارجاً من ربقة الاسلام، مستحلا للدم الحرام، حتى سفك في فتنته وعلى سبيل ضلالته، ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهداً لله، مجتهداً في أن يُعصى الله فلا يطاع، وتبطل أحكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يُدان، وأن تعلو كلمة الضلالة، وترتفع دعوة الباطل... حتى احتمل أوزار تلك الحروب
____________
1- القدر: 3.
ثم مما أوجب له به اللعنة: قتله من قتل صبراً من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة، مثل عمرو بن الحمق، وحجر بن عدي، فيمن قتل من أمثالهم، في أن تكون له العزّة والملك والغلبة، ولله العزة والملك والقدرة، والله عزّوجل يقول: (وَمَنْ يَقُتلْ مُؤمناً مُتعمداً فَجزاؤُهُ جَهنَّمُ خِالداً فيها وَغضِبَ اللهُ عَليهِ وأعَدّ لَهُ عَذاباً عَظيماً)(1).
ومما استحق به اللعنة من الله ورسوله: ادعاؤه زياد بن سمية، جرأة على الله، والله يقول: (اُدعوهُم لآبائِهمْ هُوَ أَقسُط عِندَ اللهِ)(2)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول "ملعون من ادعى الى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه"، ويقول: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، فخالف حكم الله عزّوجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) جهاراً، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فأدخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في اُم حبيبة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي غيرها من سفور وجوه، ما قد حرّمه الله، وأثبت بها قربى قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله مما لم يدخل على الإسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه!
ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله الى ابنه يزيد المتكبر الخمّير صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والاخافة والتهدد والرهبة وهو يعلم سفهه ويطّلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره، فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأ
____________
1- النساء: 93.
2- الأحزاب: 5.
ليت أشياخي ببدر شهدوا | جزع الخزرج من وقع الأسل |
قد قتلنا القوم من ساداتكم | وعدلنا ميل بدر فاعتدل |
فأهلوا واستهلوا فرحاً | ثم قالوا: يا يزيد لا تُسل |
لستُ من خندف إن لم انتقم | من بني أحمد ما كان فعل |
ولعتْ هاشم بالملك فلا | خبرٌ جاء ولا وحي نزل! |
هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع الى الله ولا الى دينه ولا الى كتابه ولا الى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.
ومن أغلظ ما انتهك واعظم ما اخترم: سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع موقعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) له ولأخيه بسيادة شباب الجنة، اجتراءً على الله وكفراًبدينه وعداوة لرسوله ومجاهدة لعترته واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفار أهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمة ولا يرقب منه سطوة، فبتر الله عمره، واجتث أصله وفرعه، وسلبه ما تحت يده، وأعدّ له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.
هذا الى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكامه واتخاذ مال الله دولا بينهم، وهدم بيته واستحلال حرامه ونصبهم المجانيق عليه ورميهم إياه بالنيران. لا يألونه احراقاً واضراباً، ولما حرّم الله منه استباحة
اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاوية ابنه، ويزيد بن معاوية، ومروان ابن الحكم وولده، اللهم العن أئمة الكفر وقادة الضلالة وأعداء الدين ومجاهدي الرسول ومغيّري الأحكام ومبدّلي الكتاب وسفاكي الدم الحرام...الخ.
قال الطبري: وذكر أن عبيدالله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي وأمره أن يُعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد، فمضى يوسف ابن يعقوب فكلم المعتضد في ذلك وقال له: يا أمير المؤمنين، إني أخاف أن تضطرب العامة ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة! فقال: إن تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها. فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبيين الذين هم في كل ناحية يخرجون، ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم، وفي هذا الكتاب اطراؤهم، أو كما قال: وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنةً وأثبت حجة منهم اليوم!
فأمسك المعتضد فلم يردّ عليه جواباً، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء!
وذكر الطبري أيضاً أن المعتضد قد أمر فنودي في الجامعين بأن الذمة برية ممن اجتمع من الناس على مناظرة أو جدل، وأن من فعل ذلك أحلّ بنفسه الضرب، وتقدّم الى الشُّرّاب والذين يسقون الماء في الجامعين ألاّ يترحموا على معاوية ولا يذكروه بخير(1).
أما ابن الأثير - الذي نعى على الطبري عدم إخراجه قصة استلحاق زياد
____________
1- تاريخ الطبري 10: 54.
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بانشاء كتاب يُقرأ على الناس، وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته، إلاّ أنه قد استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا تصح! وذكر في الكتاب يزيد وغيره من بني اُمية، وعُملت به نسخ قرئت بجانبي بغداد...
ثم يذكر ابن الأثير بعض أعمال المعتضد وحيلة عبيدالله في اقناع المعتضد عن طريق القاضي يوسف بن يعقوب لصرفه عن قراءة الكتاب، وقال: وكان عبيدالله من المنحرفة عن علي (عليه السلام)!(1).
وتابعه على ذلك ابن كثير الدمشقي فقال:
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر فحذّره ذلك وزيره عبدالله بن وهب وقال: إن العامة تنكر قلوبهم ذلك، وهم يترحمون عليه ويترضّون عنه في أسواقهم وجوامعهم، فلم يلتفت إليه، بل أمر بذلك وأمضاه وكتب به نسخاً الى الخطباء بلعن معاوية، وذكر فيها ذمه وذم ابنه يزيد بن معاوية وجماعة من بني اُمية، وأورد فيها أحاديث باطلة في ذم معاوية وقرئت في الجانبين من بغداد، ونهيت العامة عن الترحم على معاوية والترضي عنه، فلم يزل به الوزير حتى قال له فيما قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الصنيع لم يسبقك أحد من الخلفاء إليه، وهو مما يرغب العامة في الطالبيين وقبول الدعوة إليهم! فوجم المعتضد عند ذلك تخوفاً على الملك، وقدّر الله تعالى أن هذا الوزير كان ناصبياً يكفّر علياً، فكان هذا
____________
1- الكامل في التاريخ 7: 485.
ويجدر بنا أن نشير الى بعض الاُمور المهمة فيما يتعلق بأمر هذا الكتاب وموقف المؤرخين منه.
منها: أن الترحم على معاوية والترضي عنه كان شائعاً في زمن العباسيين للأسباب التي أوردناها سابقاً، والخلفاء العباسيون وإن كانوا في دواخلهم يكنون البغضاء والحقد لمعاوية وبني اُمية أجمعين، إلا أنهم كانوا لا يجهرون بذلك، ولا يمنعون الرواية في فضائلهم والترضي عنهم، أو بالأحرى اختلاق الفضائل لهم توهيناً لشوكة العلويين، وقد بدا ذلك واضحاً في إعراض المعتضد عن الكتاب - رغم قناعته به واستعداده لوضع السيف في العامة إذا ما اعترضوا عليه- عندما حذّره وزيره وقاضيه من مغبة التفاف العامة حول العلويين وميلهم إليهم، فعند ذاك نظر المعتضد الى مصلحة دولته وملك بني العباس، فأهمل الكتاب!
لقد أوردت كتاب المعتضد - مختصراً بعض الشيء لطوله- بهدف توضيح موقف العباسيين من معاوية، والكشف عن الملابسات التي تكتنف مواقفهم منه، ولكي لا يتوهم القاريء بأن مجرد وضع اسمه على أبواب المساجد في عاصمة العباسيين يدل على تعظيمهم إياه، فلطالما خالفت السياسة المبادئ.
والأمر الآخر، هو الكشف عن مواقف بعض المؤرخين من الكتاب وعدم ايراده في كتبهم، والحكم على الأحاديث النبوية التي وردت فيه بذم معاوية وأبيه وأخيه بعدم الصحة، رغم أن هؤلاء الحفاظ قد خرّجوا الكثير منها - مع
____________
1- البداية والنهاية 11: 97.