وتبقى هناك مسألة اُخرى، فاذا كانت واقعة سدّ الأبواب غير باب علي متقدمة على واقعة أبي بكر -لأنها كانت قبل وفاة النبي مباشرة- فهذا يعني أن جميع الأبواب -ومن ضمنها باب أبي بكر- كان مسدوداً من قبل، بينما يدل قول النبي -على زعمهم- أن الأبواب كانت مفتوحة فأمر بسدها واستثنى منها باب أبي بكر! فتبيّن من ذلك كله أن حديث سد الأبواب غير باب أبي بكر، قد وضع في مقابل الحديث في حق علي(1)، وهذه مسألة بالغة الخطورة، إذ تبيّن أن التزييف لم يقتصر على تاريخ المسلمين فقط، بل تعداه الى تراثهم كله -ومن ضمنه الحديث النبوي الشريف- ولهذا نبهنا في بداية هذا الكتاب الى ضرورة أن يفهم المسلمون تاريخهم بشكل صحيح، ونوّهنا الى أهمية ربط التاريخ الاسلامي والحديث النبوي الشريف بعضه ببعض، إذ لا يمكن فهم حقائق الاسلام إلاّ بذلك.
وقد يستغرب القارئ هذه الجرأة في رد الأحاديث التي اشتملت عليها
____________
1- أورد ابن حجر عن عمر بن شبة في أخبار المدينة: أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها الى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج الى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها فاشترتها منه حفصة اُم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها الى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان. فتح الباري 7: 11.
إلاّ أن ابن حجر لم يذكر لنا -ولا عمر بن شبة- متى باع أبو بكر داره هذه، فان كان قد باعها في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، فلا يبقى عند ذلك معنى لطلب النبي (صلى الله عليه وآله) بسدّ الأبواب غير باب أبي بكر، أما إن كان باعها في خلافته -كما يبدو من ظاهر كلامهما- فلماذا بقي يسير من السنح الى المسجد طيلة ستة أشهر كما في رواية عائشة!
المرأة المجهولة
أما الحديث عن تلك المرأة التي جاءت الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فأمرها بأن تأتي أبا بكر بعد وفاته، فسأترك الكلام أولا لابن حجر، ليدلي برأيه فيه، حيث قال:
حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: (قوله أتت إمرأة)، لم أقف على اسمها..
وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال: قلنا يا رسول الله، الى من ندفع صدقات أموالنا بعدك؟ قال: "الى أبي بكر الصديق". وهذا لو ثبت، كان أصرح في حديث الباب من الإشارة الى أنه الخليفة بعده، لكن إسناده ضعيف.
وروى الاسماعيلي في معجمه من حديث سهل بن أبي خيثمة قال: بايع النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابياً فسأله إن أتى عليه أجله من يقضيه؟ فقال: "أبو بكر"، ثم سأله من يقضيه بعده؟ قال: "عمر" الحديث. وأخرجه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مختصراً، وفي الحديث أن مواعيد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها، وفيه ردّ على الشيعة في زعمهم أنه نصّ على استخلاف علي والعباس...(1)
لكننا عندما نتصفح كتب الحديث يفاجئنا أن هذه الأحاديث التي فسّرها
____________
1- فتح الباري 7: 15.
فعن ذؤيب، أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما حُضر قالت صفية: يا رسول الله، لكل إمرأة من نسائك أهل تلجأ إليهم، وإنك أجليت أهلي، فان حدث حدث فالى من؟
قال: "الى علي بن أبي طالب"(1).
فهذا الحديث الصحيح واضح الدلالة والمعنى، والمرأة التي سألت النبي (صلى الله عليه وآله) هي زوجه صفية بنت حيي التي اُجلي أهلها من خيبر، ولم يبق لها أهل، فمن حقها أن تطمئن على مصيرها وتعرف الذي سيتولى أمرها بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله).
أما حديث البخاري فهو شديد الغموض، فمن هي تلك المرأة ومن هو أبوها، ألم يكن لها اسم أو قبيلة تنتسب إليها؟، وماذا طلبت من النبي (صلى الله عليه وآله) ولماذا توقعت المعاودة وسألت عن الشخص الذي يليه إذا توفي؟ وكذلك حديث الأعرابي الذي أخرجه الطبراني - وواضح أن الراوي الذي اختلق هذه الكذبة تعمد أن يجعله أعرابياً مجهولا- ومثله حديث الاسماعيلي، فالذي أتى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابي مجهول، والأغرب من ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكتف بالنص على أبي بكر، بل نص على عمر أيضاً!
أموال أبي بكر
لقد أصبحت صورة النبي (صلى الله عليه وآله)، والتي حفظتها ذاكرة المسلمين جيلا بعد جيل، هي صورة الرجل الفقير الجائع الذي تمرّ عليه الأيام والليالي يبيت
____________
1- مجمع الزوائد 9: 113 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وعنها أيضاً، قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً، إنما هو التمر والماء، إلاّ أن نؤتى باللُّحيم(2).
وعنها أيضاً أنها قالت لعروة ابن اختها: إن كنا لننظر الى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله (صلى الله عليه وآله) نار. فقلت: ما كان عيشكم؟ قالت: الاسودان، التمر والماء، إلاّ أنه قد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أبياتهم فيسقيناه(3).
هذه هي صورة النبي التي حفظتها الأجيال، وعلى العكس منها صورة أبي بكر التاجر الموسر، إلاّ أننا عندما ننظر الى الأمر بعين التحقيق التي لا تحابي ولا تجامل أحداً، نجد عكس الصورة التي تعودنا عليها دون تحقيق.
إن الله سبحانه وتعالى قد تكفّل بتوفير العيش الكريم لنبيه منذ البداية،
____________
1- صحيح البخاري 8: 121 باب كيف كان عيش النبي وأصحابه.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
وعن ابن إسحاق: فلما قرّب أبو بكر(رضي الله عنه) الراحلتين الى رسول الله(ص)، قدّم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي واُمي، فقال رسول الله(ص): إني لا أركب بعيراً ليس لي. قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت واُمي، قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا. قال: قد أخذتها به...(3)
فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يرض بركوب جمل أبي بكر إلاّ بدفع ثمنه، ولو كان فقيراً محتاجاً إلى أبي بكر لما اشترط ذلك، فضلا عما في طبع النبي (صلى الله عليه وآله) من أنفة وعزّة نفس وترفّع عما في أيدي الآخرين مهما كانت منزلتهم.
وبعد الهجرة النبوية وبدء الغزوات والتعرض لأموال المشركين، فرض الله سبحانه وتعالى نصيباً معلوماً من الغنائم بقوله عزّ من قائل: (يَسأَلونكَ عَن الأَنفالِ قُل للهِ والرَّسولِ فاتَّقوا اللهَ وَأَصلِحوا ذاتَ بَينكم وَأَطيعُوا اللهَ وَرَسولهُ إنْ كُنتم
____________
1- الضحى: 8.
2- صحيح البخاري 5: 75 باب هجرة النبي (ص) وأصحابه الى المدينة.
3- السيرة النبوية لابن هشام 3: 131.
ثم زاد الله سبحانه وتعالى من أنعامه على نبيه الكريم فأفاء عليه أموال بني النضير في قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللهُ على رَسولهِ مِنْهُم فَما أَوجَفتُم عَليهِ من خَيل وَلا رِكاب وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شيء قَديرٌ)(3).
يقول ابن كثير في تفسير الآية:
كانت أموال بني النضير مما أفاء الله الى رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته.. وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله عزّوجل(4).
فهذا يثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يدخر لأهله ما يقوتهم سنة كاملة، والفائض من المال كان يشتري به الخيل والسلاح للجهاد، أما أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعاني من ضيق في العيش أحياناً، فمرده الى كرم النبي (صلى الله عليه وآله) وجوده، إذ ما جاءه سائل إلاّ أعطاه، فعن أبي سعيد الخدري(رضي الله عنه): إن اُناساً من الأنصار سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال: "ما يكون عندي خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يصبّره الله، وما اُعطيَ أحدٌ عطاءً خيراً أو أوسع من الصبر"(5).
____________
1- سورة الأنفال: 1.
2- سورة الأنفال: 41.
3- سورة الحشر: 6.
4- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4: 359.
5- صحيح البخاري 2: 151 باب الاستعفاف عن المسألة.
أرسل أبو بكر قائمة شاة ليلاً، فقطعتُ وأمسك عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمسكتُ عليه.
فقيل لها: على غير مصباح؟ قالت عائشة(رضي الله عنه): لو كان عندنا مصباح لإئتدمنا به...(1)
وقد تبيّن ابن تيمية هذا الخلل الفاحش، فحاول تبرير الرواية بقوله:
إن إنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبي في طعامه وكسوته، فان الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين، بل كان معونة له على إقامة الدين، فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله، لا نفقة على نفس الرسول(2).
لكن هذا لا ينقذ الموقف، لأن فحوى الحديث المزعوم لا تدل على هذا الاستنتاج، ومن جهة اُخرى فان الروايات التي جاءت عن إنفاق بعض الصحابة الآخرين، تفوق كثيراً ما ورد في إنفاق أبي بكر، كالروايات التي تذكر أن عثمان بن عفان قد جهّز جيش العسرة بعشرة آلاف دينار أو بكذا أوقية ذهب... الخ، وفيها من الفضائل لعثمان بن عفان ما ليس لأبي بكر عُشرها، فكان ينبغي للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يعتبر عثمان بن عفان أمنّ الناس عليه بدلا من أبي بكر.
وإذا جمعنا الرواية المزعومة تلك، الى الرواية الاُخرى التي احتج بها ابن العربي وهي قول النبي (صلى الله عليه وآله) -فيما تدعي الرواية- "إني بعثت إليكم فقلتم كذبت
____________
1- الطبقات الكبرى 1: 400.
2- منهاج السنّة النبوية 4: 289.
وفوق هذا وذاك، فان تلك الروايات التي تدعي ثراء أبي بكر لا تتفق مع الحقيقة، "فهو -أي الخليفة الأول- لم يشارك سابقاً في التحالف التجاري المعروف بـ (حلف المطيبين)، وهذا أول ما يعني أنه لم يكن من فريق الثروة العظمى في مكة الذي قاده الامويون مع بني نوفل...(2)
وبعد غزوة بني النضير، قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأموال على المهاجرين لأنهم كانوا فقراء، قال ابن سعد: "وكانت بنو النظير صفياً لرسول الله(ص)، خالصة له حبساً لنوائبه، ولم يخمسها ولم يسهم منها لأحد، وقد اعطى ناساً من أصحابه ووسّع في الناس منها، فكان ممّن ممّن اُعطي سمّي لنا من المهاجرين: أبو بكر الصدّيق (بئر حجر)، وعمر بن الخطاب (بئر جرم)...(3)
كما أن الشواهد الاُخرى لا تثبت لأبي بكر كرماً ولا إنفاقاً، فقد أخرج البخاري، أن أبا هريرة كان يقول: الله الذي لا إله إلاّ هو، إن كنتُ لأعتمد
____________
1- مجمع الزوائد 9: 224 وقال: رواه أحمد وإسناده حسن، مسند أحمد 6: 117، الاستيعاب ترجمة خديجة، البداية والنهاية 3: 128.
2- من دولة عمر...: 22.
3- الطبقات الكبرى 2: 58، مغازي الواقدي 1: 379، السيرة الحلبية 2: 268، تاريخ الخميس 1: 463، فتوح البلدان: 31، معجم البلدان 5: 290.
فأبو بكر قد بخل على أبي هريرة بلقمة تسدّ رمقه، فأين كانت أمواله وأين كان إنفاقه على النبي والمسلمين حتى يعترف النبي (صلى الله عليه وآله) له بالمنة والفضل! ولا أدري أي منّة هذه لأبي بكر وهو يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزوجه عائشة ابنة أبي بكر يتضوران جوعاً، فلا يرسل لهم طعاماً يشبعون منه إلاّ مرّة واحدة فقط.
فأبو بكر لم يرسل للنبي (صلى الله عليه وآله) غير قائمة شاة واحدة ولمرّة واحدة، وأين عمله هذا من عمل بعض الصحابة الآخرين، إذ ذكر مخرمة بن سليمان قال: وكانت جفنة سعد تدور على رسول الله(ص) منذ يوم نزل المدينة في الهجرة إلى يوم توفي! وغير سعد بن عبادة من الأنصار يفعلون ذلك...!(2)
حديث الخلّة
مرّ بنا فيما سبق أن ابن أبي الحديد اعتبر حديث (لو كنت متخذاً خليلا) قد وضعته البكرية في مقابل حديث الاخاء، فما هو حديث الاخاء، وكيف يمكن استنتاج الصحيح من السقيم!
قال ابن تيمية:
____________
1- صحيح البخاري 8: 119 - 120 باب كيف كان عيش النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.
2- الطبقات 1: 400، الاصابة 2: 30، اُسد الغابة 2: 204
فالكلام إذاً حول أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قد آخى بين نفسه وبين علي بن أبي طالب، وقد بيّنا رأي ابن تيمية في ذلك وادعاؤه أن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة.
أما ابن حجر العسقلاني فيقول:
قال ابن عبدالبر كانت المؤاخاة مرّتين، مرّة بين المهاجرين خاصّة، وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار... وأنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر الرافضي في المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي، قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا ردّ للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفقن الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا نظر مؤاخاته (صلى الله عليه وآله) لعلي، لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة، واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة، لأن زيداً مولاهم، فقد ثبت أُخوتهما وهما من المهاجرين.. وأخرج الحاكم وابن عبدالبر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس: آخى النبي (صلى الله عليه وآله) بين الزبير وابن مسعود من
____________
1- منهاج السنّة النبوية 3: 96.
وليس ذلك هو الحديث الوحيد الصحيح في الاخاء، فقد أخرج المحدّثون والحفّاظ عن ابن عباس; أن علياً كان يقول في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عزّوجل يقول: (أَفإنْ ماتَ أَو قُتلَ انقَلبتُمْ على أَعقابِكمْ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى، ولئن مات أو قُتل، لاُقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليّه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني(2).
هذه هي إذاً قصة المؤاخاة التي يدّعي ابن تيمية أن الأحاديث فيها موضوعة، وهي التي يقول ابن أبي الحديد أن أحاديث خلّة أبي بكر قد وضعت في مقابلها.
وقال ابن حجر:
حديث ابن عباس أخرجه من طرق ثلاثة: الاُولى (قوله: لو كنت متخذاً خليلا). زاد في حديث أبي سعيد "غير ربي" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم "وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا"، وقد تواردت هذه الأحاديث على نفي
____________
1- فتح الباري 7: 216.
2- مجمع الزوائد 9: 134 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، مستدرك الحاكم 3: 126 وصححه وسكت عنه الذهبي.
وأما ما روي عن اُبي بن كعب قال: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلاّ وقد اتخذ من اُمّته خليلا، وإن خليلي أبو بكر، ألا وإن الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا". أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده، وهذا يعارضه ما في رواية جندب عند مسلم... أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول قبل أن يموت بخمس: "اني أبرأ الى الله أن يكون لي منكم خليل"! فإن ثبت حديث اُبي، أمكن الجمع بينهما بأنه لما برئ من ذلك تواضعاً لربه وإعظاماً له، أذن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم لما رأى تشوّفه إليه، وإكراماً لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران...(1)
لا ندري كيف عرف ابن حجر أن الله تعالى قد أذن لنبيه باتخاذ أبي بكر خليلا لما رأى من تشوّف النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك، وما الذي يستدعي أن يتخذ النبي خليلا في الساعات الأخيرة من حياته، أفما كان ذلك قبل الحين أجدر؟!
إن محاولة ابن حجر في التوفيق بين هذه الأحاديث المتناقضة هي من أكثر المحاولات تهافتاً دون شك، وإنّ نَفَس الوضاعين واضح فيه، ولقد كان بعض الصحابة يتباهون بخلّتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) غير أبي بكر، فحديث الخلّة في الصحاح ينفي هذه المنقبة لأبي بكر، ولم تصل إلينا مقولة لأبي بكر يدّعي خلّته للنبي (صلى الله عليه وآله)، في حين أثبتها غيره من الصحابة لنفسه، كقول أبي ذرّ الغفاري: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله) بست: حب المساكين... الخ، الحديث(2).
____________
1- فتح الباري 7: 10.
2- حلية الأولياء 1: 159.
وعن أبي هريرة: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله) أن لا أنام إلاّ على وتر(2).
وعنه أيضاً: أوصاني خليلي بثلاث: الوتر قبل النوم...الحديث(3)
وعن أبي الأشعث الصنعاني، قال: بعثنا يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير، فلما قدمت المدينة دخلت على فلان... فقال: إن الناس قد صنعوا ما صنعوا فما ترى؟ فقال: أوصاني خليلي أبو القاسم (صلى الله عليه وآله)...الخ(4)
وعن أبي هريرة: "إن لكل نبي خليلا من اُمته، وإن خليلي عثمان بن عفان"!(5).
وعنه "لكل نبي خليل في اُمته، وإن خليلي عثمان بن عفان"(6).
و "لكل نبي خليلا، وخليلي سعد بن معاذ"!(7).
ففي الوقت الذي ينفي النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون قد اتخذ خليلا -لأنه خليل الله، لذا لم يتخذ أبا بكر خليلا -نجده يتخذ عثمان بن عفان خليلا، فهل يناقض النبي نفسه، فينفي شيئاً ثم يثبته - حاشاه ـ أم أن في الأمر سرّاً؟
أما الداودي فيعلق على تلك الروايات التي تثبت الخلة لبعض الصحابة - فيما ينقل عنه إبن حجر- قائلا:
لا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما: أخبرني خليلي (صلى الله عليه وآله)، لأن ذلك جائز لهم ولا يجوز للواحد منهم أن يقول: أنا خليل النبي (صلى الله عليه وآله)، ولهذا يقال:
____________
1- مسند أحمد 5: 173.
2- مسند أحمد 2: 347.
3- حلية الأولياء 6: 200.
4- مسند أحمد 4: 226.
5- تاريخ دمشق لابن عساكر 39: 125، تاريخ بغداد 6: 321.
6- المصدر السابق.
7- كنز العمال 6: 83.
قال ابن حجر: ولا يخفى ما فيه!
وينقل ابن حجر عن إبن التين أنه نقل عن بعضهم أن معنى قوله: ولو كنت متخذاً خليلا، لو كنت أخص أحداً بشيء من أمر الدين لخصصت أبا بكر، قال: وفيه دلالة على كذب الشيعة في دعواهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان خص علياً بأشياء من القرآن واُمور الدين لم يخص بها غيره.
قال ابن حجر: والاستدلال بذلك متوقف على صحة التأويل المذكور وما أبعدها...!(1)
فنلاحظ أن شراح الأحاديث يتخبطون خبط عشواء ويناقض بعضهم بعضاً وهم يحاولون الخروج من المأزق الذي وضعهم فيه بعض الكذابين بمحاولة التوفيق والجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة، ولكن دون جدوى.
محاولات الدفع
أود في البداية أن أُذكّر القارئ الكريم بأن كلامنا ليس من باب التحامل على أحد، ولا هو نتيجة لنظرة سابقة، بل هو محاولة للتحقيق في تراثنا من أجل استخلاص الحقائق منه، فبذلك فقط يمكن أن تتحقق الصحوة التي ننشدها للمسلمين، ولا شك أن القارئ قد تبين أن تحليلاتنا واستنتاجاتنا لم تأتِ من فراغ، بل هي زبدة المخاض من آراء وتعليقات جلّة من علماء الجمهور الذين أورثونا هذا التراث الضخم المليء بالغثّ والسمين، والذي لا
____________
1- فتح الباري 7: 10، 14.
نعود الى موضوعنا فنقول: إن المشكلة في تناقض هذه النصوص -التي أوردنا بعضها- هي أن الجمهور قد وجد نفسه أمام نصوص قوية يحتج بها الشيعة عليهم في إثبات النص على علي بن أبي طالب، مما ألجأ متعصّبي الجمهور -بعد اشتداد الصراع الكلامي بين الفرق- الى إيجاد نصوص مقابلة لدفعها، فخطبة الغدير تقابلها خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) على المنبر قبل وفاته بخمسة أيام فقط، والكتاب الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتبه في مرضه(2)، والذي يبدو أنه من حجج الشيعة أيضاً -كما يقول ابن كثير- يقابله الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر، وحديث الخلة في مقابل حديث الإخاء، وحديث سدّ الأبواب غير باب علي، يقابله حديث سدّ الأبواب غير باب أبي بكر، وحديث المرأة المزعومة التي جاءت الى النبي (صلى الله عليه وآله) فأوصاها -في حالة وفاته- بمراجعة أبي بكر، في مقابل حديث صفية وطلب النبي (صلى الله عليه وآله) منها مراجعة علي بن أبي طالب...الخ، وسوف تكشف الفصول القادمة عن أشياء اُخرى كثيرة من هذا القبيل، وهذه إحدى محاولات الدفع التي لجأ إليها المتعصبون المذهبيون من أبناء الجمهور، وهناك محاولات اُخرى عديدة لجأوا إليها لدفع هذه النصوص، منها:
____________
1- النجم: 23.
2- سوف نتطرق إليه فيما بعد.
وبالجملة، فما زعموه مردود من وجوه.. أحدها أن فرق الشيعة اتفقوا على اعتبار المتواتر فيما يُستدل به على الإمامة، وقد عُلم نفيه لما مرّ من الخلاف في صحة الحديث(1)، بل الطاعنون في صحته جماعة من أئمة الحديث وعدوله المرجوع إليهم فيه كأبي داود السجستاني، وأبي حاتم الرازي وغيرهم، فهذا الحديث مع كونه آحاداً، مختلف في صحته، فكيف ساغ لهم أن يخالفوا ما اتفقوا عليه من اشتراط التواتر في أحاديث الإمامة ويحتجون بذلك؟ ما هذا إلاّ تناقض قبيح وتحكّم لا يعتضد بشيء من أسباب الترجيح(2).
فابن حجر المكي يرد صحة الحديث -اعتماداً على أقوال بعض العلماء- مع أنه يقول قبل ذلك بقليل، وفي الصفحة ذاتها:
وجواب هذه الشبهة التي هي أقوى شبههم يحتاج الى مقدمة وبيان الحديث ومخرجيه، وبيان أنه حديث صحيح لا مرية فيه! وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد، وطرقه كثيرة جداً! ومن ثم رواه ستة عشر صحابياً! وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابياً، وشهدوا به لعلي لمّا نوزع أيام خلافته...! وكثير من أسانيدها صحاح وحسان، ولا التفات
____________
1- يعني حديث الغدير.
2- الصواعق المحرقة: 64.
فأي تناقض هذا الذي نجده في كلام ابن حجر! يعترف أولا بصحة الحديث، بل بتواتره -لأن رواية ثلاثين صحابياً له يكفي للقول بتواتره -ثم يعود فيتنكر للحديث، ويناقض نفسه.
إن من الانصاف القول إن خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في الغدير ينبغي أن تكون متواترة(2)، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) ألقاها في العام الحادي عشر من الهجرة بعد رجوعه من حجة الوداع بأيام قليلة، وقبل وفاته بأقل من ثلاثة أشهر، وذلك بعد أن بلغ الإسلام ذروته في ذلك الوقت، ودانت الجزيرة العربية بكافة قبائلها -تقريباً- للإسلام، ولأن ذلك الموسم قد شهده ما بين 45 - 120 الف مسلم -حسب اختلاف الروايات-، وقبل تفرق الناس بعد أداء مناسك الحج، إذ يروي ابن كثير عن الطبري: أنه (عليه السلام) وقف حتى لحقه من بعده، وأمر بردّ من كان تقدّم، فخطبهم... الحديث(3).
أما الملاّ علي القاري، فيأتي بعجب آخر، إذ أنه في معرض تعداده لبعض المسائل التي اشتهرت والصواب خلافها يقول:
ومنها أن يدّعى على النبي (صلى الله عليه وآله) أنه فعل أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة
____________
1- الصواعق المحرقة: 64.
2- قال الذهبي: وصدر الحديث متواتر، أتيقن أن رسول الله(ص) قاله، وأما "اللهم وال من والاه" فزيادة قوية الاسناد، البداية والنهاية 5: 214.
3- البداية والنهاية 5: 213.