فبناء على هذا الحديث المزعوم، يكون علي بن أبي طالب قد حدّث النبي فلم يصدقه، ووعده فلم يف بوعده! ولا أدري هل كان علي قد وعد النبي بأن لا يتزوج على ابنته امرأة اُخرى أم لا، وهل كان ذلك من شروط العقد! وعندما نناقش هذا الحديث يتبين لنا ثلمه، فلماذا ينهى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يتزوج عليّ ابنة عدو الله أبي جهل -وهي قد أسلمت والإسلام يجب ما قبله، فضلا عن أنها ليست مسؤولة عن عمل أبيها- بينما نجد النبي نفسه يتزوج اُم حبيبة بنت أبي سفيان الذي كان وقتها ألدّ أعداء الله ورسوله، وحامل راية المشركين في كل معركة، فان كان الزواج بابنة عدو الله محرّماً، فقد كان حرياً بالنبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون اُسوة في ذلك، وأن يرشد اُمته لهذا الأمر، أما إذا كانت دعوى المصححين للحديث بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال ذلك غيرة منه على ابنته وإكراماً لمشاعرها، فمنع علياً أن يأتيها بضرّة، فان هذا الاحتجاج أيضاً ليس في محله، لأننا نجد في كتب الحديث والسيرة، أن علياً -عندما بعثه النبي الى اليمن- قد استصفى لنفسه جارية مما أثار حفيظة بعض الصحابة وشكوه الى النبي (صلى الله عليه وآله)، ولكن النبي أقرّ علياً على عمله، وغضب من الذين شكوه لذلك(2).
وفضلاً عن هذا وذاك فان هذه مسألة شخصية، ولو صحّ ذلك فقد كان يكفي أن يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) الى علي بن أبي طالب في بيته ويعاتبه على نيّته على
____________
1- صحيح البخاري 5: 28 باب ذكر أصهار النبي(ص)، منهم أبو العاص بن الربيع، صحيح مسلم 4: 1903.
2- سيأتي تمام الخبر في وقته.
ويبدو أن هذا الحديث قد زيد فيه، لأسباب سوف تنكشف فيما بعد، إذ أن الروايات الاُخرى جاءت، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال: "إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها"(1)، وعن المسور بن مخرمة(رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها اغضبني"(2). فقصة زواج علي من ابنة أبي جهل هي من الزيادات المقصودة في الحديث، بهدف إظهار أن غضب فاطمة والنبي (صلى الله عليه وآله) كان على علي بن أبي طالب وليس منصباً على أحد غيره، ولقد بلغ الحصار الاعلامي على رواية فضائل علي بن أبي طالب حدّاً جعل الكثير من المسلمين - حتى الذين على قدر من العلم- يكادون يجهلون الكثير عنها، إن لم يكن كلها، فعن مالك بن دينار قال: سألت سعيد بن جبير فقلت: يا أبا عبدالله، من كان حامل راية رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فنظر إليَّ وقال: كأنك رخيّ البال. فغضبت وشكوته الى إخوانه من القرّاء، فقلت: ألا تعجبون من سعيد، إني سألته من كان حامل راية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنظر إليَّ وقال إنك لرخيَّ البال! قالوا: إنك سألته وهو خائف من الحجاج، وقد لاذ بالبيت فسله الآن، فسألته فقال: كان حاملها علي(رضي الله عنه)، هكذا سمعته من عبدالله بن عباس!(3).
وعن أبي إسحاق، سأل رجل البرّاء -وأنا أسمع- قال: أشهد عليٌّ بدراً؟!
قال: بارزَ وظاهرَ!(4).
____________
1- صحيح مسلم 4: 1903.
2- صحيح البخاري 5: 36 باب مناقب فاطمة (عليها السلام).
3- المستدرك 3: 137.
4- صحيح البخاري 5: 96 باب غزوة بدر.
هذا بعض ما أردنا توضيحه عن الحرب الاعلامية التي شنّها معاوية على علي بن أبي طالب بعد استلامه السلطة مباشرة، وهي الحلقة الاُولى من المخطط الاُموي. هذا وسيأتي المزيد من الشواهد على استمرار ذلك المخطط الى ما بعد عصر الامويين أيضاً.
فأما الحلقة الثانية من المخطط فكانت بوضع فضائل لعثمان بن عفان لا حقيقة لها، وقد نجح معاوية ومن أعانه على ذلك في نشر تلك الفضائل الموهومة حتى انخدع بها المحدّثون وجمهور المسلمين كافة، ولنذكر بعض الشواهد على ذلك.
مناقب عثمان
إن الذي ينظر في المناقب التي افتعلت للخلفاء الثلاثة بأمر معاوية بن أبي سفيان، ليأخذه العجب من شدّة التناقضات التي يجدها فيها، فان هذه المناقب تكاد تطيح بنظرية الجمهور في التفضيل بين الخلفاء على حسب الترتيب المعلوم، فعثمان بن عفان ينفرد أحياناً بمناقب لا يبلغ شأوها أحد حتى الخليفتان اللذان سبقاه، ونجد أحياناً مناقب لعمر بن الخطاب لا يحلم أبو بكر أن يطالها، ومردّ كل ذلك أن خطة معاوية كانت تقتضي في البداية خلق فضائل لعثمان من أجل طمس فضائل علي، فتبارى الوضاعون في خلق تلك الفضائل
وعن إبن سيرين، قال: قالت امرأة عثمان حين قُتل عثمان: لقد قتلتموه وإنه ليحيي الليل كلّه بالقرآن في ركعة!(1)
لكن السنّة النبوية هي خلاف عمل عثمان، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يقرأ القرآن كله في كل ليلة ولا في كل يوم وليلة، وقد أخرج ابن سعد عن عائشة، قالت: كان لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث(2).
ولقد استعظم الصحابة أن يقرأ أحدهم ثلث القرآن في الليلة الواحدة
____________
1- الطبقات الكبرى 3: 55 ترجمة عثمان بن عفان.
2- الطبقات 1: 284 باب صفة قراءته (ص) في صلاته وغيرها وحسن صوته (ص).
بل إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نهى عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث ليال، وربما أكثر من ذلك، فعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إقرأ القرآن في شهر"، قلت: إني أجد قوة; حتى قال: "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك"(2).
وفي رواية: "إقرأ القرآن في كل شهر، إقرأه في كل خمس وعشرين، إقرأه في عشرين، إقرأه في خمس عشرة، إقرأه في سبع، لا يفقهه من يقرأه في أقل من ثلاث"(3).
وهكذا يقع الوضاعون بجهلهم في الخطأ القاتل، في حين يريدون أن يختلقوا فضيلة لعثمان تكون مدحاً له، فانهم يختلقون ما يستحق عليه الذم وهم لا يشعرون.
ومن الاُمور التي ذاعت حتى صارت من المسلّمات، هي قضية تجهيز عثمان جيش العسرة، فعن أبي عمرو القرشي(رضي الله عنه)، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "من يحفر بئر رومة فله الجنة"، فحفرها عثمان، وقال: "من جهّز جيش العسرة فله الجنة"، فجهّزه عثمان(4).
من المعلوم أن عثمان بن عفان -حاله كحال المهاجرين- قد خرج من مكة دون متاع، لأن قريشاً ما كانت لتسمح لأحد بالهجرة بأمواله، وكان أقصى
____________
1- صحيح البخاري 6: 233 فضل قل هو الله أحد.
2- المصدر السابق 6: 423 باب: في كم يقرأ القرآن وقال البخاري: قال بعضهم: في ثلاث، وفي خمس، وأكثرهم على سبع.
3- مسند أحمد 2: 165 و 189، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة لناصر الدين الألباني المجلد الرابع ص 18 ح 1513 (حكم من يختم القرآن في أقل مما ثلاث).
4- صحيح البخاري 5: 16 باب مناقب عثمان بن عفان.
أما الحديث عن تجهيز جيش العسرة، فهو أعجب وأغرب، ولقد تبارى الوضّاعون فيه حتى تضاربت أقوالهم أيما تضارب، فالواحدي يذكر أن عثمان بن عفان قد جهّز بألف بعير بأقتابها وأحلاسها(1).
بينما يذكر ابن هشام أن من يثق به قد حدّثه بأن عثمان بن عفان قد أنفق في جيش العسرة ألف دينار(2).
وأخرج أبو نعيم بأن عثمان جاء بألف دينار(3).
وعند الإمام أحمد: ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها(4).
وعند ابن الأثير: قيل كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار(5).
وعند الحلبي: جهّز عشرة آلاف دينار، غير الإبل والخيل وهي تسعمائة بعير ومائة فرس والزاد وما يتعلق بذلك حتى ما تربط به الأسقية!(6).
أما الطبري فقال: وأنفق عثمان ابن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته!(7).
وهكذا تجد الوضّاعين يتسابقون لرفع عدد الدنانير، والتي ستزيد من عدد الدنانير التي تجود بها عليهم كف معاوية المعطاء دون شك.
____________
1- أسباب نزول القرآن: 55.
2- سيرة ابن هشام 4: 161.
3- حلية الأولياء 1: 59.
4- مسند أحمد 5: 38.
5- الكامل في التاريخ 1: 635.
6- السيرة الحلبية 3: 130.
7- تاريخ الطبري 3: 102 حوادث سنة تسع وبذلك يكون عثمان أمنَّ على النبي في نفقته من أبي بكر!
قد نزلت في حق عثمان بن عفان الذي كان يتصدّق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع! يوشك أن لا يُبقى لك شيئاً، فقال عثمان: إن لي ذنوباً وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه، فقال له عبدالله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمّل عنك ذنوبك كلها! فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة، فأنزل الله تعالى: (أَفَرأيتَ الذي تَولّى... الآية)، فعاد عثمان الى أحسن ذلك وأجمله(2).
وإذا كان عثمان بن عفان سريعاً الى الانفاق حبّاً لله ورسوله، فما باله لم ينفق درهماً من أجل أن يناجي النبي (صلى الله عليه وآله) وهو صهره، وقد زوّجه النبي (صلى الله عليه وآله) اثنين من بناته! وذلك عند نزول قوله تعالى: (يا أَيُّها الذينَ آمَنُوا إذا ناجَيتُمُ الرَّسولَ فَقدِّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجواكُم صَدَقَةً ذلكَ خَيرٌ لَكُمْ وأَطهرُ فإنْ لَمْ تَجدُوا فإنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ * ءأَشفقتُم أَنْ تُقَدِّموا بَينَ يَدَيْ نَجواكُم صَدَقات فَإلَمْ تَفعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيكُمْ فَأَقيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وَأطيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبيرٌ بِما تَعمَلُونَ)(3).
قال مقاتل بن حيّان: نزلت الآية في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله) فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره
____________
1- سورة النجم: 33، 34، 35.
2- أسباب النزول للواحدي: 298، الكشاف 3: 146، تفسير القرطبي 17: 111.
3- سورة المجادلة: 12، 13.
وقال علي بن أبي طالب(رضي الله عنه): إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: (يا أَيُّها الذينَ آمَنُوا إذا ناجَيتُم الرَّسولَ)، كان لي دينار فبعته بدراهم، وكنت إذا ناجيتُ الرسول تصدّقت بدرهم حتى نفدَ، فنسخت بالآية الاُخرى: (أَأَشفقتم أَن تُقَدّموا...) الآية(1).
مناقب الصحابة
كانت الحلقة الثالثة من المخطط الاُموي الذي رسمه معاوية لتزييف الحديث النبوي الشريف، تتلخص في وضع فضائل لباقي الصحابة وبخاصة الشيخين أبي بكر وعمر -في مقابل فضائل علي بن أبي طالب، لأنها أقرّ لعينه وأدحض لحجة علي وشيعته- كما عبّر بذلك معاوية في كتابه لولاته- والذي كان من نتائجه أن شمّر الوضّاعون عن ساعد الجدّ في اختلاق الأحاديث المقابلة لفضائل علي -وقد مرّ بعضها فيما سبق- وذكرنا كيف أن تلك الفضائل المختلقة قد أوقعت شرّاح الأحاديث في مشكلة الجمع بين هذه الأحاديث المتعارضة، حتى نبّه على ذلك ابن حجر الهيتمي المكي فقال وهو يورد جملة من فضائل علي بن أبي طالب:
ثمّ اعلم أنه سيأتي في فضائل أهل البيت أحاديث مستكثرة من فضائله، فلتكن منك على ذكر، فانه مرَّ في كثير من الأحاديث السابقة في فضائل أبي
____________
1- أسباب النزول للواحدي: 432، تفسير الطبري 28: 14، الدر المنثور 6: 185، الرياض النضرة 2: 265، الكشاف 6: 76.
ومن يراجع أبواب الفضائل في كتب الحديث يسهل عليه إيجاد هذه المقارنة.
وقد نجحت وسائل إعلام معاوية في طمس بعض فضائل علي بن أبي طالب وتحويلها الى غيره، كلقب الصدّيق الذي أصبح لا يُذكر إلاّ ويقفز اسم أبي بكر الى الذهن باعتباره لقباً له، درجت الأجيال على حفظ ذلك، وأرسلها الكُتّاب والمؤلفون -قديماً وحديثاً- إرسال المسلّمات التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلا، مع أن لقب الصدّيق هو لعلي بن أبي طالب، سمّاه به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال المحبّ الطبري: ولم يزل اسمه في الجاهلية علياً، وكان يُكنى أبا الحسن، وسمّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) صِدّيقاً. عن أبي ليلى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "الصّدّيقون ثلاثة، حبيب بن مري النجّار ومؤمن آل ياسين... وحزقيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب الثالث، وهو أفضلهم". خرّجه أحمد في المناقب، وكنّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبي الريحانتين(2).
ولأن لفظ الصدّيق أصبح مقروناً باسم أبي بكر، لكثرة ما تردد على الألسن، لذا فإن إطلاق لقب الصدّيق على علي صار يثير حساسية عند المؤلّفين من الجمهور.
قال ابن كثير: قال سويد بن سعيد، ثنا نوح بن قيس بن سليمان بن عبدالله، عن معاذة العدوية قالت: سمعت علي بن أبي طالب على منبر البصرة يقول: أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمتُ قبل أن يُسلم. وهذا لا
____________
1- الصواعق المحرقة: 186.
2- الرياض النضرة 3: 104، الجامع الصغير للسيوطي 2: 115، كنز العمال 11: 601، فيض القدير للمناوي 4: 313.
وعن عباد بن عبدالله الأسدي، عن علي(رضي الله عنه) قال: إني عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلاّ كاذب، صلّيت قبل الناس بسبع سنين، قبل أن يعبده أحد من هذه الاُمّة.
قال الذهبي: حديث باطل... وعباد، قال إبن المديني: ضعيف(2).
أما إبن تيمية، فمعلوم شدة حساسيته تجاه أية فضيلة لعلي بن أبي طالب خصوصاً إذا كانت تتضارب مع إحدى فضائل الشيخين التي يرسلها إبن تيمية إرسال المسلّمات، لذا فانه يبادر لا إلى تضعيف الحديث لوجود أحد الضعفاء فيه كما هي العادة، بل الى نسف الحديث من أساسه، فقال: وعبّاد يروي عن علي ما يُعلم أنه كذب عليه قطعاً، مثل الحديث الذي هو كذب ظاهر، معلوم بالضرورة أنه كذب...
فابن تيمية ينسف الحديث بدعوى انه كذب بالضرورة، أي أن متنه يناقض ماهو معلوم من إطلاق لقب الصدّيق على أبي بكر، فيصبح إطلاق هذا اللقب على غيره كذباً بالضرورة!
ومثل ذلك في لقب الفاروق الذي صار سمة لعمر بن الخطاب حتى كاد يغلب على إسمه، وحتى صار لا يخطر ببال أحد أن يعتقد بأن ذلك لقب لعلي أيضاً، فعن علي بن إسحاق، عن إسماعيل بن موسى السدّي، عن عمر بن سعيد، عن فضيل بن مرزوق، عن أبي سخيلة، عن أبي ذر وسلمان، قالا: أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيد علي فقال: (إن هذا أوّل من آمن بي، وهذا أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الاُمة، يفرّق بين الحق والباطل، وهذا
____________
1- البداية والنهاية 7: 333.
2- تلخيص الذهبي على المستدرك 3: 112.
قال نور الدين الهيتمي: وفيه عمرو بن سعيد المصري وهو ضعيف(2).
لكن عمرو بن سعيد المصري وثّقه البعض، "قال الدوري عن ابن معين: مشهور، وقال ابن الجنيد عن ابن معين: شيخ بصري، وقال ابن سعد والنسائي: ثقة، وذكره ابن حيان في الثقات"(3).
ومهما يكن من أمر، فان ألقاب علي بن أبي طالب مأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أما ألقاب الآخرين فمشكوك في نسبتها إليه، قال ابن كثير -وهو يورد نسب عمر بن الخطاب- الملقب بالفاروق، قيل لقبه بذلك أهل الكتاب!(4).
وقال الطبري: قال ابن شهاب: بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أوّل من قال لعمر: الفاروق، وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم، ولم يبلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر من ذلك شيئاً!(5).
وأما تلقيب أبي بكر بالصدّيق، فيروون في سبب ذلك أن كل من عرض عليه النبي (صلى الله عليه وآله) الإسلام تردّد فيه إلاّ أبا بكر، ماعتم أن آمن به وصدّقه، ولكنهم يروون في مقابل ذلك أن النبي نفسه قد تحيّر عندما نزل عليه الوحي وضاق صدره ولم يصدّق نفسه، حتى أنه أراد أن يلقي بنفسه من أعلى الجبل!
والكلام عن فضائل الشيخين قد أصبح كالأساطير لشدة تناقلها بين الناس، "فالقدماء قد أكبروا هذين الشيخين الجليلين إكباراً يوشك أن يكون
____________
1- المعجم الكبير للطبراني 6: 269.
2- مجمع الزوائد 9: 102.
3- تهذيب التهذيب 8: 35.
4- البداية والنهاية 7: 133.
5- تاريخ الطبري 4: 195 حوادث سنة 23، والطبقات الكبرى 3: 270، تاريخ عمر:30.
إلاّ أن الأمر الذي لم يذكره الدكتور طه حسين، هو أن ذلك التقديس للشيخين إنما تولّد بأمر معاوية الذي أمر بافتعال فضائل مختلقة لهما في مقابل فضائل علي بن أبي طالب، لم تكن معروفة حتى بداية عهد معاوية الذي اعترف بذلك في كلامه مع المغيرة بن شعبة من أن أخا تيم هلك وهلك ذكره إلاّ أن يقال أبو بكر، وأن أخا عدي هلك وهلك ذكره...الخ.
____________
1- طه حسين، الخلفاء الراشدون، المجلد الرابع: 8.
الفصل الثاني عشر
حبيب النبي (صلى الله عليه وآله)
حبيب النبيّ (صلى الله عليه وآله)
إن كلامنا حول مناقب الصحابة -ومنهم الشيخان أبو بكر وعمر- ليس من باب الافتراء، ولا هو تحامل عليهم كما قد يتبادر الى الذهن، بل هو من أجل الكشف عن الزيف في تراثنا وما تعرض له الحديث النبوي من تلاعب، وقد يسأل البعض: ما فائدة الكشف عن نواحي التزييف في أحاديث الفضائل، وهل هي على هذه الدرجة من الأهمية! مع العلم أن دأب المحدّثين كان التساهل في روايات الفضائل باعتبار عدم ترتُّب الأحكام عليها؟ لكن الحقيقة فإن لأحاديث الفضائل أهمية كبيرة، وقد ترتبت بعض الأحكام ـ عليها، كما لاحظنا في مسألة صلاة أبي بكر -وغيرها كثير، فضلا عن أننا نناقش مسألة مهمة ألا وهي مسألة النص على الخلافة، وهذه القضية على درجة عظيمة من الأهمية لأنها كانت ولا تزال مصدر تفريق بين المسلمين، فلابد إذاً من الاستمرار في معالجة هذا الموضوع حتى تتبين الحقيقة كاملة.
فمن الاُمور المتسالم عليها بين الجمهور أيضاً هي أن عائشة اُم المؤمنين وأباها هما أحب الناس الى النبي (صلى الله عليه وآله)، ولقد ركزت وسائل الإعلام الاُموية على هذه النقطة وانساق المحدّثون وراءها، فقد أخرج البخاري عن عمرو بن العاص "أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلتُ: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال:
ولست أدري ما الذي يجعل أمير أحد الجيوش على أن يسأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن أحب الناس إليه، وما المناسبة لذلك! مع العلم أنه يتهيأ للحرب، والمفترض في هذه الحال أن يسأله عما يفعله والتدابير التي يجيب اتخاذها لتحقيق النصر العسكري! مع أن الرواية عن عمرو بن العاص، وكفى به أمانة.
إنَّ من المعلوم أن كل إنسان سوي معتدل المزاج، لابد وأن يكون أولاده أحبّ الناس إليه، ولا يعقل أن يحب رجل إمرأة أكثر من أولاده، فكيف بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو كما وصفه الله تعالى في محكم كتابه بأنه على خلق عظيم، فهل يعقل أن يحب النبي إمرأته أكثر من إبنته الوحيدة التي بقيت له من مجموع أولاده الذين اختارهم الله إلى جواره؟ أوليست هذه الرواية المفتعلة تعطي لأعداء الإسلام -وبخاصة المستشرقين- مبرّراً لترديد مقالاتهم عن شهوانية النبي وحبّه للنساء -حاشاه- وأن مسألة تزوجه من عدد من النساء إنما كان بدافع الشهوة الجنسية ليس إلاّ! ورغم ذلك فاننا لا نجد كبير عناء في معرفة الحقيقة، وهي أن هذه الرواية قد وضعت -بأمر معاوية وبتنفيذ عمرو بن العاص- في مقابل الرواية التي تطمئن إليها النفس وتكشف عن حقيقة مشاعر النبي (صلى الله عليه وآله)، والتي تتضمن إعتراف عائشة نفسها بالحقيقة، فعن النعمان بن بشير قال: إستأذن أبو بكر على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد عرفتُ أن علياً وفاطمة أحب إليك مني ومن أبي - مرتين أو ثلاثاً-...(2)
فيتضح أن رواية البخاري عن عمرو بن العاص قد وضعت دون شك في
____________
1- صحيح البخاري 5: 6 باب مناقب المهاجرين وفضلهم، و 5: 209 باب غزوة ذات السلاسل.
2- مجمع الزوائد 9: 201 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
حديث الطير
وهو من الأحاديث التي أقامت الدنيا وأقعدتها، لسبب بسيط هو مخالفته لعقيدة الجمهور في ترتيب الأفضلية بين الصحابة. وقد جمع الحافظ إبن كثير الروايات التي وردت في هذا الحديث، وسوف أقتطف قسماً من مقالته، فتحت عنوان (حديث الطير) كتب يقول:
وهذا الحديث قد صنّف الناس فيه، وله طرق متعددة، وفي كل منها نظر! ونحن نشير الى شيء من ذلك. قال الترمذي: عن أنس، قال: كان عند النبي (صلى الله عليه وآله) طير، فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير"، فجاء علي فأكل معه. ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث السُّدّي إلاّ من هذا الوجه، قال: وقد روي من غير وجه عن أنس، وقد رواه أبو يعلى عن الحسين بن حماد عن شهر بن عبدالملك، عن عيسى بن عمر به.
ورواه الحاكم في مستدركه... قال الحاكم: وقد رواه عن أنس أكثر من ثلاثين نفساً! قال شيخنا الحافظ الكبير أبو عبدالله الذهبي: فصلهم بثقة يصح الإسناد إليه. ثم قال الحاكم: وصحت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة. قال شيخنا أبو عبدالله: لا والله ما صح شيء من ذلك...!
أما إبن تيمية فقال: إن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل(2).
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني -في تعليقه على قول الترمذي (هذا حديث غريب)- قال: أي ضعيف، وهو كما قال.
أما الحافظ إبن حجر العسقلاني، فقال عنه: هو خبر منكر(3).
إن المتبادر الى الذهن لأول وهلة -بعد كل ما قيل- هو طرح الحديث جانباً لعدم صلاحيته للاحتجاج به، إلاّ أن اُولئك الحفّاظ سرعان ما يتراجعون عن مواقفهم المتصلّبة تلك، ويبدو التردد عليهم في ردّ الحديث، فنجد الذهبي يعود الى القول:
____________
1- البداية والنهاية 7: 350.
2- منهاج السنّة النبوية 7: 371 مؤسسة قرطبة ط الاُولى 406 هـ.
3- لسان الميزان 3: 336.
أما إبن حجر -الذي أنكر الحديث فيما سبق- فيقول في الأجوبة عن أحاديث وقعت في مصابيح السنّة- عن السُّدي وهو أحد رواة هذا الحديث الذي اُنكر بسببه-: السّدي، إسماعيل بن عبدالرحمان، أخرج له مسلم، ووثقه جماعة، منهم: شعبة، وسفيان، ويحيى القطان!(2).
فالأمر يدور على السدي إذاً، فماذا قال عنه العلماء، ومن الذي طعن عليه؟
قال علي بن القطان: لا بأس به، ما سمعت أحداً يذكره إلاّ بخير، وما تركه أحد.
وقال أبو طالب عن أحمد: ثقة.
وقال إبن عدي: له أحاديث يرويها عن عدة شيوخ، وهو عندي مستقيم الحديث، صدوق لا بأس به.
أما الجوزجاني فقال: هو كذّاب شتّام.
وقال العقيلي: ضعيف، وكان يتناول الشيخين!
وقال حسين بن واقد: سمعت من السدي فأقمت حتى سمعته يتناول أبا بكر وعمر، فلم أعد إليه...(3)
فيتبين لنا من ترجمة السدي، أن الغالبية متفقون على تعديله، وتركه البعض، وضعفه آخرون لأنه كان يتناول الشيخين، ولم يتهمه بالكذب غير
____________
1- سير أعلام النبلاء 13: 233.
2- مشكاة المصابيح 2: 553.
3- تهذيب التهذيب 1: 274.