الصفحة 705
فلم تضره بذاك شيئاً، إنّا وجدنا أبا بكر لها أهلا!(1).

إن هذه الرواية لا تتفق مع مواقف علي في رفض البيعة لأبي بكر طيلة ستة أشهر، مما ينفي قناعة علي بأهلية أبي بكر.

وروى ابن أبي الحديد عن الجوهري في كتابه (السقيفة) عن عمر بن شبة بسنده قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد بعث أبا سفيان ساعياً، فرجع من سعايته وقد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلقيه قوم فسألهم فقالوا: مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: من ولي بعده؟ قيل: أبو بكر. قال: أبو فصيل! قالوا: نعم. قال: فما فعل المستضعفان: علي والعباس! أما والذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما.

قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: وذكر الراوي -وهو جعفر بن سليمان- أن أبا سفيان قال شيئاً آخر لم تحفظه الرواة، فلما قدم المدينة قال: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم! قال: فكلّم عمر أبا بكر فقال: إن أبا سفيان قد قدم، وإنّا لا نأمن شرّه، فدع له ما في يده، فتركه فرضي!(2).

أما ادعاء معاوية بأن علياً قال لأبي سفيان ما معناه إنه لو وجد أربعين رجلا ذوي عزم لناهض القوم، فيؤيده ما أخرجه اليعقوبي، قال: واجتمع جماعة الى علي بن أبي طالب يدعونه الى البيعة، فقال لهم: اغدوا عليّ محلّقين الرؤوس، فلم يغد عليه إلاّ ثلاثة نفر(3).

وروى المعتزلي عن الجوهري بسنده: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا مات وأبو ذر غائب، وقدم وقد ولّي أبو بكر، فقال: أصبتم قناعه وتركتم قرابه، لو جعلتم هذا

____________

1- تاريخ الطبري 3: 209 حوادث 11 هـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 45.

2- شرح نهج البلاغة 2: 44 العقد الفريد لابن عبد ربه 3: 62، تاريخ اليعقوبي 2: 105.

3- تاريخ اليعقوبي 2: 105.


الصفحة 706
الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان(1).

ويبدو أن موقف أبي ذر قد استمر حتى بعد مبايعة عثمان بن عفان، إذ روى اليعقوبي أنه قال: وعلي بن أبي طالب وصيّ محمد ووارث علمه، أيتها الاُمة المتحيّرة بعد نبيها، أما لو قدّمتم من قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال وليّ الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه، فأما إذا فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون(2).

وروى أبو بكر أحمد بن عبدالعزيز، عن حباب بن يزيد، عن جرير بن المغيرة، أن سلمان والزبير والأنصار كان هواهم أن يبايعوا علياً (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما بويع أبو بكر، قال سلمان: أصبتم الخبرة وأخطأتم المعدن.

قال أبو بكر (الجوهري): وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدّثنا علي ابن أبي هاشم، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: قال سلمان يومئذ: أصبتم ذا السن منكم، واخطأتم أهل بيت نبيكم، لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان، ولأكلتموها رغداً(3).

وروى أيضاً بسنده، قال: كان خالد بن سعيد بن العاص من عمال رسول الله (صلى الله عليه وآله) على اليمن، فلما قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، جاء المدينة وقد بايع الناس أبا بكر، فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياماً وقد بايع الناس، وأتى

____________

1- شرح نهج البلاغة 6: 13.

2- تاريخ اليعقوبي 2: 120.

3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 49.


الصفحة 707
بني هاشم فقال: أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار، والعصا دون اللحا، فاذا رضيتم رضينا، وإذا سخطتم سخطنا، حدثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: على برد ورضا من جماعتكم؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أرضى واُبايع إذا بايعتم. أما والله إنكم الطوّال الشجر، الطّيّبو الثمر.

ثم إنه بايع أبا بكر، وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها، واضطغنها عليه عمر، فلما ولاّه أبو بكر الجند الذي استنفر الى الشام، قال له عمر: أتولّي خالداً وقد حبس عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال! وقد جاء بورق من اليمن وعبيد وحُبشان ودروع ورماح! ما أرى أن توليه، ولا آمن خلافه. فانصرف عنه أبوبكر، وولى أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة(1).

وفي تاريخ اليعقوبي أنه "أتى علياً فقال: هلم أُبايعك فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك"(2)

معارضة الأنصار

تعرفنا من رواية عمر بن الخطاب على مجريات الاُمور في السقيفة بشكل مقتضب، وقد أورد المؤرخون الرواية بشكل أكثر تفصيلا وفيها يمكن التعرف على موقف الأنصار بصورة أفضل، وقد نقلها المؤرخون عن الطبري ومنهم ابن أبي الحديد -واللفظ له- بشيء من الاختصار، قال:

روى أبو جعفر في التاريخ، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخرجوا سعد بن عبادة ليولّوه الخلافة، وكان مريضاً،

____________

1- المصدر السابق 2: 58.

2- تاريخ اليعقوبي 2: 105.


الصفحة 708
فخطبهم ودعاهم الى إعطائه الرياسة والخلافة فأجابوه، ثم ترادوا الكلام فقالوا: فان أبى المهاجرون وقالوا: نحن أولياؤه وعترته؟ فقال قوم من الأنصار: نقول: منا أمير ومنكم أمير. فقال سعد: فهذا أول الوهن!

وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيه أبو بكر، فأرسل إليه أن اخرج إليَّ، فأرسل: إني مشغول، فأرسل إليه عمر أن اخرج فقد حدث أمر لابد أن تحضره، فخرج فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة، فتكلم أبو بكر، فذكر قرب المهاجرين من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنهم أولياؤه وعترته، ثم قال: نحن الاُمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات عليكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الاُمور.

فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم فان الناس في ظلّكم، ولن يجترئ مجتري على خلافكم، ولا يصدر أحد إلاّ عن رأيكم، أنتم أهل العزّة والمنعة وأُولو العدد والكثرة، وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا فتفسد عليكم اُموركم، فإن أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير. فقال عمر: هيهات، لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيّها من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته!

فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار، املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فان أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد، فأنتم أحق بهذا الأمر منهم، فانه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين، أنا جُذيلها المحكّك، وعُذيقها المرجّب، أنا أبو شبل في عريسة الأسد،

الصفحة 709
والله إن شئتم لنعيدنا جذعة!

فقال عمر: إذاً يقتلك الله. قال: بل إياك يقتل.

فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدّل وغيّر!

فقام بشير بن سعد -والد النعمان بن بشير- فقال: يا معشر الأنصار، ألا إن محمداً من قريش، وقومه أولى به، وأيم الله لا يراني الله اُنازعهم هذا الأمر.

فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة، بايعوا أيهما شئتم. فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه في الصلاة -وهي أفضل الدين- أبسط يدك، فلما بسط يده ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير، عققتَ عقاقِ! أنفست على ابن عمك الإمارة! فقال اُسيد بن حُضير رئيس الأوس لأصحابه: والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبداً. فقاموا فبايعوا أبا بكر.

فانكسر على سعد بن عبادة والخزرج ما اجتمعوا عليه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب، ثم حُمل سعد بن عبادة الى داره، فبقي أياماً، وأرسل إليه أبو بكر ليبايع، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي، واُخضّب سنان رمحي، وأضرب بسيفي ما أطاعني، واُقاتلكم بأهل بيتي من تبعني، ولو اجتمع معكم الجن والانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي.

فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال بشير بن سعد: إنه قد لجّ، وليس بمبايعكم حتى يُقتل، وليس بمقتول حتى يُقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، ولا يضركم تركه، إنما هو رجل واحد، فتركوه.


الصفحة 710
وجاءت أسلم فبايعت، فقوي بهم جانب أبي بكر، وبايعه الناس(1).

وفي تاريخ الطبري: فكان عمر يقول: ما هو إلاّ أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر!

وفيه أيضاً: فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحج ولا يفيض معهم بافاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله(2).

يتبين مما سبق أن الأنصار قد عارضوا أن تكون الخلافة في قريش مطلقاً، ولكنهم اجتمعوا في السقيفة جميعاً وقلوبهم شتّى، فقد كانوا في البداية فريقين متنافسين في الباطن، وهما الأوس والخزرج، ثم انقسم الخزرج على أنفسهم أيضاً، حينما انشق بشير بن سعد على قومه فبادر الى مبايعة أبي بكر، فازداد ضعف موقف الأنصار الذي كان بالأصل ضعيفاً، ووصفه سعد بن عبادة بأنه أوّل الوهن حينما افترضوا منذ البداية معارضة قريش لهم ورضوا بالشركة. وأما المهاجرون، فانهم على قلة عددهم كانوا متحدين، وقد أفلجت حججهم على الأنصار، فراح أبو بكر يستشهد بالآيات القرآنية محتجاً عليهم، وعمر يحتج عليهم بالقرابة من النبي وزعامة قريش وانقياد الناس لها، بينما نجد خطيب الأنصار يدعو بدعوة الجاهلية ويتهدد باعادتها جذعة، فكانت حجة المهاجرين أقوى وأبلغ، وراح خطيب الأنصار يتشبث بقومه إذ أحس منهم الميل الى مقالة المهاجرين ولكن دون جدوى، فتمت البيعة لأبي بكر على وجه السرعة، وتراجع الأنصار عن موقفهم، ولم يثبت منهم على موقفه غير زعيمهم سعد بن عبادة الذي أبى أن يبايع لأبي بكر ومن بعده لعمر،

____________

1- شرح نهج البلاغة 2: 37.

2- تاريخ الطبري 3: 218 - 223 شرح نهج البلاغة 6: 10.


الصفحة 711
وخرج الى الشام. "فقتل هناك سنة 15 هـ"(1).

وقال ابن سعد: إنه جلس يبول في نفق فاقتُتل فمات من ساعته ووجدوه قد اخضر جلده(2).

وقال ابن عبد البر وابن الأثير: لم يبايع سعد أبا بكر ولا عمر، وسار الى الشام فأقام بحوارين الى أن مات سنة 15 هـ، ولم يختلفوا في أنه وجد ميتاً على مغتسله وقد اخضر جلده، ولم يشعروا بموته حتى سمعواً قائلا يقول من بئر ولا يرون أحداً...(3)

وقال ابن عبد البر: رُمي سعد بن عبادة بسهم، فوجد دفيناً في جسده فمات. فبكته الجنّ فقالت:


وقتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادةورضياه بسهمين فلم نُخطي فؤاده!!(4)

ولا أدري ما سرّ العداء بينه وبين الجن حتى تقتله بسهم غادر، والأغرب من ذلك أن الجنّ ترثيه بعد قتله!

لكن القصة الحقيقية التي أعرض بعض المؤرخين -كالطبري- عن ذكرها، هي ما ذكره البلاذري من أن عمر بعث رجلا وقال له: ادعه الى البيعة واحتل له، فان أبى فاستعن الله عليه! فقدم الرجل الشام فوجد سعداً في حائط بحوارين فدعاه الى البيعة، فقال: لا اُبايع قرشياً أبداً! قال: فاني اُقاتلك.

قال: وإن قاتلتني. قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الاُمة؟ قال: أما من

____________

1- مروج الذهب للمسعودي 1: 414.

2- الطبقات الكبرى 3: 2 / 145.

3- اُسد الغابة 2: 285، الاستيعاب 2: 37.

4- العقد الفريد 3: 64.


الصفحة 712
البيعة فاني خارج.

فرماه بسهم فقتله(1).

لقد ذهب سعد بن عبادة ضحية لسياسة الوقت، وقُيّدت الجريمة ضد جنّيٍّ مجهول لا سبيل للوصول إليه والتحقيق معه، فاُغلق المحضر! ولسنا نقول ذلك جزافاً، فاننا عندما نتصفح صحيح البخاري نجده يصف سعد بن عبادة على لسان عائشة بقولها: وكان قبل ذلك رجلا صالحاً!(2).

وفي حديث الإفك، قالت عائشة: فقام رجل من الخزرج، وكانت اُم حسّان بنت عمه من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحاً، ولكن احتملته الحمية...(3)

فيا للعجب من هذا الصحابي العظيم الذي أصبح فيما بعد رجلا غير صالح! ولا أدري كيف يتفق ذلك مع القول بفضل جميع الصحابة وصلاحهم وعدالتهم، وبأنهم جميعاً من أهل الجنة، ولكن سعد بن عبادة ينقلب برأي عائشة الى رجل غير صالح! ولماذا؟ لأن السياسة اقتضت ذلك، فلم يكف اغتياله سراً بسهم مسموم، بل تعدى الأمر الى تشويه صورته أيضاً!

كشف بيت فاطمة

ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال أن أبا بكر قال قبيل وفاته: إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله:

____________

1- أنساب الاشراف 1: 141، العقد الفريد 3: 64.

2- صحيح البخاري 5: 45 باب مناقب الأنصار. منقبة سعد بن عبادة.

3- المصدر السابق 6: 151 باب حديث الافك.


الصفحة 713
وددت أني لم أكن كذا وكذا لخلة ذكرها لا أُريد ذكرها!(1).

ولكن المؤرخين ذكروا ذلك الشيء الذي فعله أبو بكر ثم ندم على فعله، حيث قال الطبري: قال أبو بكر(رضي الله عنه): أجل، إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله (صلى الله عليه وآله). فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن، فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب...الخ(2)

وذكره أيضاً مجموعة من المؤرخين والحفّاظ(3).

وخلاصة الحادثة كما يرويها المؤرخون والمحدّثون، أن عمر بن الخطاب أتى منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لاُحرقن عليكم أو لتخرجن الى البيعة! فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه(4).

وأخرج ابن أبي الحديد أيضاً عن الجوهري بسنده، قال: قال أبو بكر: يا عمر، أين خالد بن الوليد؟ قال: هو هذا، فقال: انطلقا إليهما -يعني علياً والزبير- فأْتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ قال: أعددته لاُبايع علياً. قال: وكان في البيت ناس كثير، منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين، فاخترط عمر السيف

____________

1- كتاب الأموال: 131.

2- تاريخ الطبري 3: 430 ذكر استخلافه عمر(رض) حوادث سنة 13 هـ.

3- تاريخ اليعقوبي 2: 115، الإمامة والسياسة 1: 36 وفيه: وليتني تركت بيت علي وإن كان اعلن علي الحرب، العقد الفريد 3: 69 استخلاف أبي بكر لعمر، شرح نهج البلاغة 2: 46 عن الكامل للمبرد، تاريخ الإسلام للذهبي: عهد الخلفاء الراشدين، صفحة 117 ترجمة أبو بكر الصدّيق، الكامل للمبرد 1: 5، المعجم للطبراني 1: 62 رقم 43، لسان الميزان 1: 388، كنز العمال 3: 135، منتخب كنز العمال 2: 171.

4- تاريخ الطبري 3: 202 حوادث سنة 11 هـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد عن الجوهري 6: 48.


الصفحة 714
فضرب به صخرة في البيت فكسره، ثم أخذ بيد الزبير، فأقامه ثم دفعه فأخرجه وقال: يا خالد، دونك هذا، فأمسكه خالد -وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس، أرسلهم أبو بكر ردءاً لهما- ثم دخل عمر فقال لعلي: قم فبايع. فتلكأ واحتبس، فأخذ بيده وقال: قم. فأبى أن يقوم. فحمله ودفعه كما دفع الزبير، ثم أمسكهما خالد، وساقهما عمر ومن معه سوقاً عنيفاً، واجتمع الناس ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال، ورأت فاطمة ما صنع عمر، فصرخت وولولت، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن، فخرجت الى باب حجرتها ونادت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا اُكلم عمر حتّى ألقى الله.

قال: فلما بايع علي والزبير، وهدأت الفورة، مشى إليها أبو بكر بعد ذلك، فشفع لعمر، وطلب إليها فرضيت عنه(1).

وفي رواية ابن قتيبة، أن عمر جاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لاُحرقنها على من فيها! فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة! فقال: وإن(2).

وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله، كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله، فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب، خرج حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله، والله ما أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر

____________

1- شرح نهج البلاغة 6: 48، وقد ثبت فيما سبق أن علياً لم يبايع طيلة مدة حياة فاطمة!

2- الإمامة والسياسة 1: 30.


الصفحة 715
عندك أن أمرتهم أن يحرّق عليهم البيت(1).

وأخرج ابن عبد البر هذه الرواية بنفس السند، ولكنه ذكر أن عمر قال: ولأن يبلغني لأفعلن ولافعلن!(2).

وفي رواية البلاذري: فجاء عمر ومعه فتيله، فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يابن الخطاب، أتراك محرقاً عليّ بابي! قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك(3).

وفي رواية ابن عبد ربه: فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا! قال: نعم، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الاُمة(4).

وفي تاريخ أبي الفداء: فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار(5).

موقف فاطمة

لم يكن الهجوم على بيت فاطمة في بداية خلافة أبي بكر هو الحادث الوحيد الذي تعرضت له فاطمة، فقد كانت قضية ميراث فاطمة فدكاً ورفض إعطاء أبي بكر إياها هي المواجهة الثانية بينها وبين الخليفة الأوّل، تلك القضية -إضافة لسابقتها- تركت آثاراً جسيمة على العلاقة بين أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وبينه، وأدت الى إثارة غضب فاطمة على كل من أبي بكر وعمر، والامتناع عن كلامهما، والوصاية بدفنها سراً دون استئذان منهما!

____________

1- المصنّف 7: 432.

2- الاستيعاب في معرفة الاصحاب 3: 975.

3- أنساب الأشراف 1: 586.

4- العقد الفريد 5: 13.

5- المختصر في أخبار البشر 1: 156.


الصفحة 716
وقصة المهاجرة بين فاطمة وأبي بكر، كما أخرجها المحدّثون والمؤرّخون - واللفظ فيها للبخاري- عن عائشة: أن فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت الى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مِمّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، إنما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذا المال، وإني والله لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأبى أبو بكر أن يدفع الى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفّيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفّيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفّيت، استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل الى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك، كراهية لمحضر عمر... الخ(1)

وملخص قضية فدك، أنه لما نزلت الآية (وَآتِ ذا القُربى حَقَّهُ)(2) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدكاً(3).

ولكن رواية البخاري وغيره تدل على أن أبا بكر قد منع فاطمة من فدك،

____________

1- صحيح البخاري 5: 178 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 3: 138 كتاب الجهاد والسير، وباب قول رسول الله "نحن لا نورث، ما تركنا صدقة"، مسند أحمد 1: 9، السنن الكبرى للبيهقي 6: 300، صحيح ابن حبان 11: 153، 14: 573، مسند الشاميين للطبراني 4: 198، سير أعلام النبلاء 2: 121، تاريخ الطبري 3: 207، الكامل لابن الاثير حوادث سنة 11، البداية والنهاية 5: 201، مجمع الزوائد 9: 211، العقد الفريد 3: 64، ومروج الذهب 2: 414، الصواعق المحرقة 1: 12، تاريخ الخميس 1: 193، الاستيعاب 2: 244، اُسد الغابة 3: 222 وغيرها من المصادر.

2- الاسراء: 26.

3- الدر المنثور للسيوطي 4: 177 عن البزّار وأبي يعلى وابن أبي حاتم وإبن مردويه بالاسناد الى أبي سعيد الخدري.


الصفحة 717
قال ابن حجر الهيتمي المكي: إن أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً(1). وكان ذلك السبب على ما يبدو في مقاطعة فاطمة لأبي بكر. إلاّ أن البعض قد أطالوا الكلام في ذلك والتمسوا تبرير عمل أبي بكر مستشهدين ببعض النصوص، منها ما ذكره ابن كثير الدمشقي في القضية، فبعد أن أورد عدداً من الروايات التي تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال بعدم وراثة أحد له، قال ابن كثير: وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر(رضي الله عنه) وأرضاه، فما أدري ما وجهه، فان كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث، فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث، كما خفي على أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) حين أخبرتهن عائشة بذلك! ووافقنها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتهمت الصدّيق(رضي الله عنه) فيما أخبرها به، حاشاه وحاشاه من ذلك، كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، وعبدالرحمان بن عوف، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريباً، ولو تفرد بروايته الصدّيق(رضي الله عنه)، لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك، وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصدّيق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثاً أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله: أنه لما كان خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهو يرى فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويلي ما كان يليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولهذا قال: وإني والله لا أدع أمراً كان يصنعه

____________

1- الصواعق المحرقة: 31.


الصفحة 718
فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت، وهذا الهجران والحالة هذه، فتح على فرقة الرافضة شراً عريضاً وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهموا الاُمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابه، ويتركون الاُمور المحكمة المقدرة عند أئمة الاسلام...(1)

وقضية حديث "لا نورث" مرتبطة بحديث آخر كنّا قد أجّلنا الكلام عنه في وقته وبيان دلالته، وذلك عند الكلام عن الأحاديث التي وضعت أو التي زيد في ألفاظها واختلاق قصص لها في ذم علي بن أبي طالب، وذكرنا يومها قصة خطبة علي بن أبي طالب لبنت أبي جهل، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني"، وقد جاء هذا الحديث بألفاظ مختلفة، وخرّجها المحدّثون بألفاظ منها: "فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها"، و "فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها ويبسطني ما يبسطها"، و "فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها". وفي لفظ "يسعفني ما يسعفها"، أو "فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها" و "فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني" أو "يسرني ما يسرها"(2).

____________

1- البداية والنهاية 5: 307 ـ 308.

2- صحيح البخاري 5: 26 باب مناقب قرابة رسول الله(ص) ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي(ص)، 5: 36 باب مناقب فاطمة عليها السلام، صحيح مسلم 5: 53 ح 93، 94 كتاب فضائل الصحابة، سنن أبي داود 2: 226 ح 2071، سنن إبن ماجة 1: 643 ح 1998، سنن الترمذي 5: 655 ح 3867 مشكاة المصابيح 3: 369 ح 6139، مصابيح السنة 4: 185 ح 4799، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 1: 156، مختصر تاريخ دمشق 2: 269، صفة الصفوة 2: 13، اسد الغابة 7: 222 رقم 7175، تذكرة الخواص: 310، المواهب اللدنية للقسطلاني 2: 65، تاريخ الخميس 1: 412، الصواعق المحرقة: 188، كنوز الدقائق 2: 24، أعلام النساء لعمر رضا كحالة 4: 112.


الصفحة 719
وكذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله): "إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها"، وقوله لفاطمة: "إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك"(1).

فغضب فاطمة كان موجهاً الى أبي بكر وعمر، بعد حادثتي كشف بيتها وحرمانها من فدك، فكان الأمر يتطلب أولا وضع حديث ينسب غضب فاطمة الى علي بن أبي طالب أولا لصرف الأذهان عن قضية غضبها على أبي بكر، ومن ثم افتعال حديث آخر يبرر تصرف أبي بكر ويكسبه الشرعية اللازمة، فكان حديث "لا نورث" هو الذي يفي بالغرض، ولعل القارئ يستغرب مني القول بوضع هذا الحديث المشهور، إلاّ أنني في الحقيقة لست أوّل قائل بذلك، فان الحافظ إبن خراش، كما ينقل عنه الحافظ إبن عدي، قال: سمعت عبدان يقول: قلت لابن خراش: حديث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل، اتهم مالك بن أوس بالكذب(2).

ولهذا السبب تحامل الذهبي على إبن خراش وقال: جهلة الرافضة لم يدروا الحديث ولا السيرة ولا كيف ثم، فأما أنت أيها الحافظ البارع الذي شربت بولك إن صدقت في الترحال، فما عذرك عند الله؟ مع خبرتك بالاُمور، فأنت زنديق معاند للحق، فلا رضي الله عنك..!(3)

ولا أدري ما سبب هذه الثورة على إبن خراش لردّه هذا الحديث، فان الواقع يؤيد ذلك، وقد اعترف بذلك الفخر الرازي، فقال: إن المحتاج الى معرفة

____________

1- المستدرك 3: 154 وصححه، المعجم الكبير للطبراني 1: 108 ح 182، تذكرة الخواص: 310، ميزان الاعتدال: ج 535، تهذيب التهذيب 12: 469، كنز العمال 13: 674 ح 37725 كنوز الدقائق 1: 75، الإصابة 4: 378 رقم 830، الصواعق المحرقة: 175، شرح المواهب للزرقاني 3: 202، مجمع الزوائد 9: 203 وقال أخرجه الطبراني واسناده حسن.

2- الكامل في الضعفاء 5: 518.

3- تذكرة الحفاظ 2: 684، ميزان الاعتدال 2: 600، سير اعلام النبلاء 13: 508.


الصفحة 720
هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعلي والعباس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهّاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبا بكر فانه ما كان محتاجاً الى معرفة هذه المسألة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يورّث من الرسول، فكيف يليق بالرسول أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة له إليها، ولا يبلغها الى من له الى معرفتها أشد الحاجة!!(1).

مواقف قريش

لقد مرّ فيما سبق إنكار البعض لقول علي بن أبي طالب: إن مما عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله): إن الاُمة ستغدر بي بعده(2).

ولست أرى وجهاً للانكار بعد أن أكّد الحاكم صحة الحديث وأقره الذهبي على ذلك، كما أن الأحداث تثبت الأحقاد التي كانت تكنها قريش لعلي بن أبي طالب وبني هاشم جميعاً، كما سوف يأتي.

إن موقف الأنصار، ومبادرتهم السريعة لعقد ذلك الاجتماع العاجل في سقيفة بني ساعدة بمجرد سماعهم بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ليدل على أنهم كانوا قد استشفوا بعض ما كانت قريش تدبّره في الخفاء من أجل إزاحة بني هاشم عن الخلافة -لأنهم كرهوا أن تجتمع فيهم الخلافة والنبوة كما اعترف عمر بن الخطاب- فبادر الأنصار لأخذ زمام المبادرة بهدف الاستيلاء على السلطة، فتكون لهم السيادة على قريش فيأمنوا جانبهم، حتى عبّر خطيبهم عن هذا الرأي صراحة، وهو الحباب بن المنذر فقال: منّا أمير ومنكم أمير، إنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا

____________

1- التفسير الكبير 9: 210.

2- المستدرك 3: 140 وصححه، ووافقه الذهبي.


الصفحة 721
أبناءهم وآباءهم واخوانهم، فقال عمر بن الخطاب: إذا كان ذلك، قمت إن استطعت(1).

وعبّر البراء بن عازب عن شعوره بما كان يحدث حوله، قال: لم أزل لبني هاشم محباً، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) خفتُ أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكنت أتردد الى بني هاشم وهم عند النبي (صلى الله عليه وآله) في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش، فاني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالاُزر الصنعانية، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي وخرجت أشتد حتى انتهيت الى بني هاشم والباب مغلق، فضربت عليهم ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن قحافة! فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر...(2)

والحوادث التي سبقت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بقليل تثبت أن قريشاً كانت تعد العدّة للاستيلاء على منصب الخلافة رغم قناعة الجميع بأن علياً كان الأولى بها، وقد روى الجوهري عن ابن عباس، قال: تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر، فسار كل واحد مع إلفه، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته، فشكا إليَّ تخلّف عليّ عنه، فقلت: ألم يعتذر إليك؟ قال: بلى، فقلت: هو ما اعتذر به. قال: يابن عباس، إن أول من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 53.

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 51 و 219 عن أبي سعيد الخدري.


الصفحة 722
قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة. قلت: لم ذاك يا أمير المؤمنين؟ ألم نُنلهم خيراً! قال: بلى، ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفاً جحفاً!(1).

فقريش كانت قد تعودت منذ الجاهلية على حب الفخر والسيادة والشرف على الآخرين، وكان بنو هاشم هم الأعظم سيادة، لا ينازعهم فيها إلاّ بنو اُمية وبنو مخزوم، ولكن بنو اُمية ومخزوم قد تخلّفوا عن الإسلام، وسبقتهم إليه أحياء أضعف وأقل شأناً منهم، كتيم قبيلة أبي بكر، وعدي قبيلة عمر، وكانت فرصة الوثوب مؤاتية مع انشغال بني هاشم بجهاز رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان الأمر يحتاج الى مبادرة سريعة ومباغتة تحسم الموقف منذ البداية، فكان ما كان.

الضغائن

لم يكن الفخر وحب الرئاسة هو المحرّك الوحيد للجانب القرشي للمبادرة بأخذ الخلافة من بني هاشم، فقد كانت النفوس منطوية على ضغائن سببتها الحروب التي خاضها النبي (صلى الله عليه وآله) ضد قريش، وسقط فيها جملة من صناديدها، وكانت لبني هاشم - وبخاصة علي- اليد الطولى في ذلك، حيث قتل علي جملة من سادات قريش وأقرانها، ومن العبث الاعتقاد بأن النفوس التي جُبلت على طلب الثأر، قد تغيّرت بسرعة، وأصبحت مستعدة للتنازل عن ذحولها وثاراتها، وقد جاء ذلك كله موثّقاً بروايات أخرجها المحدثون، فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) علياً بغدر الاُمة به من بعده كما مرّ سابقاً، وروى علي بن أبي طالب، قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة، إذ أتينا على حديقة، فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة! فقال: إن لك في

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 57 - 58.


الصفحة 723
الجنة أحسن منها (إلى أن قال): فلما خلا لي الطريق، اعتنقني ثم أجهش باكياً! قلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: "ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي"، قال: قلت: يا رسول الله، في سلامة من ديني؟ قال: "في سلامة من دينك"(1).

ولقد اعترف قوم من الصحابة ببغضهم علياً، فعن سعد بن أبي وقاص قال: كنت جالساً في المسجد، أنا ورجلين معي، فنلنا من علي، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) غضبان يُعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: "مالكم ومالي؟ من آذى علياً فقد آذاني"(2).

وعن بريدة قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً أميراً على اليمن، وبعث خالد ابن الوليد على الجبل، فقال: "إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس"، فالتقوا وأصابوا من الغنائم مالم يصيبوا مثله، وأخذ علي جارية من الخمس(3)، فدعا خالد بن الوليد بريدة، فقال: اغتنمها! فأخبِر النبي (صلى الله عليه وآله) بما صنع، فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في منزله، وناس من أصحابه على بابه، فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟ فقلت: خيراً، فتح الله على المسلمين، فقالوا: ما أقدمك؟ قال: جارية أخذها علي من الخمس، فجئت لاُخبر النبي (صلى الله عليه وآله). فقالوا: فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) فانه يسقط من عيني رسول الله (صلى الله عليه وآله)! ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يسمع الكلام، فخرج مغضباً وقال: "ما بال أقوام ينتقصون علياً! من ينتقص علياً فقد انتقصني، ومن فارق علياً فقد فارقني، إن علياً مني وأنا منه، خُلق من طينتي، وخُلقتُ من طينة إبراهيم، وأنا افضل من

____________

1- مجمع الزوائد 9: 118 وقال: رواه أبو يعلى والبزار، وفيه الفضل بن عميرة، وثقه إبن حبان وضعفه غيره. وبقية رجاله ثقات.

2- المصدر السابق 9: 126 وقال: رواه أبو يعلى والبزار باختصار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير محمود بن خداش وقنان وهما ثقتان.

3- هذا يثبت عدم صحة الادعاء بغضب فاطمة على علي غيرة من زواجه بأخرى!