الصفحة 47

قال: شيئاً بعد شيء، أو جملة؟

قال: علمته شيئاً بعد شيء.

قال: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟

قال: بقي عليّ.

قال: فهذا ممّا لم تعلمه، وقد علّمكه أمير المؤمنين.

قال: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.

قال: في خلق القرآن؟

قال: في خلق القرآن.

فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله(1) .

وحكى أبو بكر ابن العربي التجاء أحمد بن حنبل إلى التقيّة والتورية زمن فتنة القول بخلق القرآن (أنّه دعي إلى أن يقول بخلق القرآن، فقال: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ـ يعدّدهن بيده ـ هذه الأربعة مخلوقة، يقصد هو بقلبه أصابعه التي عدّدها بها، وفهم الذي أكرههُ أنّه يريد الكتب الأربعة المنزّلة من الله على أنبيائه، فخلص في نفسه، ولم يضره فهم الذي أكرهه) (2) .

ـ قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي، ثمّ استدلّ بقوله تعالى: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ثمّ ذكر حديث

____________

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 432.

(2) أحكام القرآن ج 3 ص 161.


الصفحة 48
تعذيب المشركين لعمّار بن ياسر(1) ، وراجع كلامه في مسألة (من أُكره على الطلاق لم يلزمه) (2) .

ـ وقال ابن الجوزي: الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها ; وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان، إحداهما: أنّه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمر به، والثانية: أنّ التخويف لا يكون إكراهاً حتّى ينال بعذاب، وإذ ثبت جواز التقيّة فالأفضل أن لا يفعل، نصّ عليه أحمد في أسير خُيّر بين القتل وشرب الخمر، فقال: إن صبر على القتل فله الشرف وإن لم يصبر فله الرخصة، فظاهر هذا الجواز.

وروى عنه الأثرم أنّه سُئل عن التقيّة في شرب الخمر، فقال إنّما التقيّة في القول(3) .

5 ـ السلفية والوهّابية والتقيّة:

ـ قال الآلوسي في تفسير قوله تعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) : وفي الآية دليل على مشروعية التقيّة وعرّفوها بمحافظة النفس، أو العرض، أو المال من شرّ الأعداء.

والعدوّ قسمان: الأوّل: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني: من كانت عداوته مبنيّة على أغراض دنيوية كالمال والمتاع و الملك والإمارة، ومن هنا صارت التقيّة قسمين:

أمّا القسم الأوّل: فالحكم الشرعي فيه أنّ كلّ مؤمن وقع في محلّ لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرّض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محلّ

____________

(1) المغني ج 10 ص 105.

(2) المغني ج 8 ص 259 وما بعدها.

(3) زاد المسير ج 4 ص 378.


الصفحة 49
يقدر فيه إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبّث بعذر الاستضعاف فإنّ أرض الله واسعة، نعم إن كان ممّن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوّفهم المخالفون بالقتل، أو قتل الأولاد، أو الآباء، أو الأمّهات تخويفاً يظنّ معه إيقاع ما خوّفوا به غالباً، سواءً كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت، أو بنحو ذلك، فإنّه لا يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة، ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقّة التي يمكنه تحمّلها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضاً موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة، فلو تلفت نفسه لذلك فإنّه شهيد قطعاً، وممّا يدلّ على أنّها رخصة ـ ما روي عن الحسن ـ أنّ مسيلمة الكذّاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، فقال: أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: نعم، ثمّ دعا بالآخر فقال له: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، فقال أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: إنّي أصمّ، قالها ثلاثاً، وفي كلّ مرّة يجيبه بأنّي أصمّ، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: أمّا هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئاً له، وأمّا الآخر فقد رخّصه الله تعالى فلا تبعة عليه.

ثمّ قال: وعدّ قوم من باب التقيّة مداراة الكفّار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسّم في وجوههم والانبساط معهم وإعطاءهم لكفّ أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم، ولا يعدّ ذلك من باب الموالاة المنهي عنها، بل هي سُنّة وأمرٌ مشروع.


الصفحة 50
فقد روى الديلمي عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أنّه قال: " إنّ الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض " وفي رواية " بعثت بالمداراة " وفي الجامع " سيأتيكم ركبٌ مبغضون فإذا جاؤوكم فرحّبوا بهم ".

وروى ابن أبي الدنيا " رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس " وفي رواية البيهقي " رأس العقل المداراة "، وأخرج الطبراني " مداراة الناس صدقة " وفي رواية له " ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة ".

وأخرج ابن عديّ وابن عساكر " من عاش مدارياً مات شهيداً، قوا بأموالكم أعراضكم، وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه ".

وعن بردة عن عائشة (رض) قالت: (استأذن رجل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا عنده، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " بئس ابن العشيرة ـ أو أخو العشيرة ـ ثمّ أذن له فألان له القول، فلمّا خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثمّ ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إنّ من أشرّ الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتّقاء فحشه ".

وفي البخاري عن أبي الدرداء " إنّا لنكشّر في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم " وفي رواية الكشميهني " وإنّ قلوبنا لتقليهم " وفي رواية ابن أبي الدنيا، وإبراهيم الحرمي بزيادة " ونضحك إليهم " إلى غير ذلك من الأحاديث(1) .

ـ وقال جمال الدين القاسمي: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) أي تخافوا منهم محذوراً، فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنّه قال: " إنّا لنكشّر في وجوه أقوام وقلوبنا

____________

(1) روح المعاني ج 3 ص 195 ـ 197.


الصفحة 51
تلعنهم " وأصل " تقاة " وقية...

ثمّ قال: ومن هذه الآية استنبط الأئمّة مشروعية التقيّة عند الخوف وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه " إيثار الحقّ على الخلق " فقال ما نصّه:

وزاد الحقّ غموضاً وخفاءً أمران:

أحدهما: خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ، ولا برح المحقّ لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة (رض) أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.

وما زال الأمر في ذلك يتفاحش، وقد صرّح الغزّالي بذلك في خطبة " المقصد الأسنى " ولوّح بمخالفته أصحابه فيها، كما صرّح بذلك في شرح " الرحمن الرحيم " فأثبت حكمة الله ورحمته، وجوّد الكلام في ذلك، وظنّ أنّهم لا يفهمون المخالفة، لأنّ شرح هذين الاسمين ليس هو موضوع هذه المسألة ولذلك طوى ذلك، وأضرب عنه في موضعه، وهو اسم الضارّ كما يعرف ذلك أذكياء النظار.

وأشار إلى التقيّة الجويني في مقدّمات " البرهان " في مسألة قدم القرآن، والرازي في كتابه المسمّى " الأربعين في أُصول الدين "... إلى آخر ما ساقه المرتضى، فانظره(1) .

____________

(1) محاسن التأويل ج 4 ص 79 ـ 83.


الصفحة 52
ـ وقال الصابوني: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) أي من تلفّظ بكلمة الكفر مكرهاً والحال أنّ قلبه مملوء إيماناً ويقيناً...

قال المفسّرون: نزلت في عمّار بن ياسر، أخذه المشركون فعذّبوه حتّى أعطاهم ما أرادوا مكرهاً، فقال الناس: إنّ عمّاراً كفر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمّار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يبكي، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنّاً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد(1) .

وها هم الوهّابيون ومن انضوى تحت رايتهم نراهم اليوم وقد تلبّسوا بالتقيّة وشربوها حتّى الثمالة عندما دارت عليهم الدوائر وضاقت عليهم السبل ولا سيّما بعد أحداث ما يسمّى بـ 11 أيلول.

6 ـ الخوارج وقولهم بالتقيّة:

وحتّى الخوارج مع ما عرفوا به من جرأة وإقدام وبسالة حتّى كانوا يعدّون الموت في سبيل عقيدتهم من الأمانيّ لم يسعهم ترك اللجوء إلى التقيّة والاعتقاد بجوازها.

ـ قال أبو العبّاس المبرّد: كان مرداس بن حُدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظّمه الخوارج، وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، فلقيه غيلان بن خرشة الضبّي، فقال: يا أبا بلال إنّي سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء ـ كانت من المجتهدات من الخوارج وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم من رهط سجاح التي كانت تنبّأت ـ وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال

____________

(1) صفوة التفاسير ج 2 ص 144.


الصفحة 53
فقال لها: إنّ الله قد وسّع على المؤمنين في التقيّة فاستتري، فإنّ هذا المسرف على نفسه الجبّار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأمّا أنا فما أحبّ أن يعنّت إنسان بسببي، فوجّه إليها عبيد الله بن زياد فأتى بها، فقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق، فمرّ أبو بلال والناس مجتمعون فقال: ما هذا؟ فقالوا: البلجاء، فعرّج إليها فنظر ثمّ عضّ على لحيته وقال لنفسه: لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرداس(1) .

ـ وقال أبو سعيد الكدمي الإباضي: والعذر في التقيّة في الدين في ما يجوز كالعذر في التقيّة في النفس في ما يجوز... ومن كان في حال التقيّة جاز لهُ أن يدعو لمن لا يتولاّه بما يدعو به لأهل الولاية، ويعقد المعنى لغيره(2) .

ـ وقال أبو بكر السمدي الإباضي: إنّه من كذب كذبة فهو منافق، إلاّ أن يتوب، فإن تاب، وإلاّ برئ منه، ومن يقول إنّه منافق، يقول: إنّها كبيرة ما كانت إلاّ في تقيّة أو إصلاح(3) .

التقيّة عند الأديان الأُخرى:

ـ وليس الأمر مقتصراً على الفرق والمذاهب الإسلامية فحسب، بل حتّى بقيّة الأديان لم تجد لها مفزعاً سوى الالتجاء إلى التقيّة، عندما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فقد اتّخذ الرسل وأتباعهم من النصارى دياميس روما ومغاراتها تحت الأرض سكناً وأمناً لهم لما لاقوه من ظلم وقتل

____________

(1) الكامل ـ للمبرّد ـ ج 2 ص 181 ـ 182.

(2) المعتبر ج 1 ص 216.

(3) المصنفّ ـ لأبي بكر السمدي ـ ج 2 ص 203.


الصفحة 54
وتعذيب على أيدي أباطرة روما أمثال نيرون الذي أحرق روما، وفسبازيان، ودومتيان، كما تقول رسالة يوحنّا الأُولى، وديسيوس، وأورليوس، ودقلديانوس وغيرهم من الطغاة والظلمة واستمرّوا على هذه الحالة إلى أن بعثهم الله من تلك الدياميس والقبور على يد قسطنطين الأكبر وأُمُّه هيلينا عند تحوّلهم إلى المسيحية.

وقد ذكر ديورانت فصلا مفصّلا حول الموضوع وكيفيّة حفر الطرقات الطويلة تحت الأرض، وقال فيه: فلمّا علا شأن المسيحية وانتصرت على أعدائها... أضحت الدياميس أماكن معظّمة يحجّ إليها الناس، وقبل أن يحلّ القرن التاسع سدّت السراديب ونسيها الناس ولم تكتشف إلاّ بطريق المصادفة عام 1578(1) .

كما لا يفوتنا الإشارة إلى قصّة أصحاب الكهف (عليهم السلام) وكيف أخفوا إيمانهم، ثم كيف منّ الله عليهم بحسن الخاتمة حتّى غدت قصّتهم معجزةً للعالمين.

وكذلك الحال بالنسبة لليهود في زمن الفراعنة ـ الذين كانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم ـ اضطرّوا إلى كتم رفضهم لربوبية فرعون إلى أن أنقذهم الله على يد موسى.

وأمّا في زمن العصور الوسطى، فقد لاقوا من شرّ أعمالهم ما لاقوا من التنكيل والقتل حتّى اعتنق الكثير منهم المسيحية خوفاً على حياتهم، ومنهم من تستّر بها خصوصاً في القرن الرابع عشر الميلادي وما بعده.

وكانت أشدّ البلدان وطأة عليهم فرنسا وألمانيا والنمسا وإسبانيا، وقد

____________

(1) قصة الحضارة ج 11 ص 277 ـ 289 / الفصل الأوّل.


الصفحة 55
ذكر المؤرّخ ديورانت في قصّة الحضارة هذه الأحداث بالتفصيل.

التقيّة حالة فطرية وطبيعية:

وبغضّ النظر عن كون التقيّة مسألة تعبّدية، رخصة كانت أم عزيمة في بعض الحالات التي تجب فيها، فهي غريزة عقلية وفطرية لكلّ إنسان، موحّداً كان أم مشركاً، وحتّى الملحدين بدافع الطبيعة والجبلّة، وبما أنّ الدين الإسلامي لم يأتِ بما يصادم العقول ويخالف البديهيات والفطريات، فلذلك كانت التقيّة من إحدى ضرورياته.

بل لو تجاوزنا عالمنا الإنساني إلى عالم الحيوان نجده ليس بمجانب لها، فنجد كثيراً من الحيوانات المائية منها والبريّة وحتّى الحشرات نجدها تقي أنفسها عندما يداهمها الخطر من أعدائها بأساليب وأشكال متنوعة مظهرةً عجيب صنع الله تعالى، فمنها ما يظهر الخضوع والتذلّل للأقوى اعترافـاً منه بسطوته وبطشه ولا سيّما في الحيوانات المفترسـة، وبهذه الطريقة قد يسلم على نفسـه، ومنها مـا يتلوّن بلون الطبيعة كالأرض وحشائشها، والأشجار وأوراقهـا، كبعض أنواع العضايات والسحالي والجنادب واليعاسيب، بـل منهـا مـا يغيّر لونـه في لحظـات يسيرة إلى عـدّة ألوان وفقاً لِلَون المحيط أو الطبيعة التي يعيش فيها كبعض أنواع الحرباء والأُخطبوط.

فتبيّن أنّ جميع مخلوقات الله سبحانه وتعالى تعمل بالتقيّة، وتلجأ إليها عندما يداهمها الخطر توقّياً من الضرر، فَلِمَ خُصصنا بشناعة القول بها؟!

نعم، باء غيرنا مسموح لها أن تجرّ وترفع وتنصب، وباؤنا ممنوعة ولو من الجرّ فحسب.


الصفحة 56

الشيعة كانوا أحوج إلى التقيّة من غيرهم ولا سيّما في فترة ما يسمّى بخير القرون وهي الثلاث الأوّل:

نعم، كان شيعة أهل البيت أحوج الناس إليها لما لاقوه من قتل وتشريد وظلم واضطهاد طيلة أربعة عشر قرناً.

ـ قال ابن أبي الحديد: روي أنّ أبا جعفر محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا! إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثمّ تداولتها قريش، واحدٌ بعد واحد، حتّى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود، حتّى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثمّ غدر به، وأُسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أُمّهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته، وهم قليل حقٍّ قليل، ثمّ بايع الحسين (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نستذلّ ونستضام، ونقصى ونمتهن ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) ، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطعت الأيدي

الصفحة 57
والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام) ، ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكلّ ظِنّة وتهمة، حتّى إنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال: شيعة علي، وحتّى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع(1) .

ذكر ما فعله معاوية بالشيعة:

ومن الأحداث الشنيعة ما فعله معاوية في سنة 39 من شنّ الغارات على شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقد فرّق جيوشه في مختلف الأصقاع وولّى عليها أُناساً ممّن لا خلاق لهم كالضحّاك بن قيس، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وسفيان بن عوف، والنعمان بن بشير، وزهير بن مكحول العامري، وبسر بن أرطأة، لقتل الأبرياء أينما كانوا(2) .

ومن الفجائع التي تصكّ أنباؤها المسامع ما فعله بسر في المدينة واليمن، من سفك للدماء وقتل للشيوخ والأطفال، وسبي للنساء، ولا سيّما مع نساء همدان، فكنّ أوّل مسلمات سبين في الإسلام، فكان يكشف عن سوقهن، فأيّتهنّ كانت أعظم ساقاً اشتُريت على عظم ساقها، وقتل أحياء

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 11 ص 43، الدرجات الرفيعة ص 5.

(2) راجع تاريخ الطبري ج 3، تاريخ ابن الأثير ج 3، تاريخ أبي الفداء ج 1 (أحداث سنة 39 هـ) .


الصفحة 58
بني سعد(1) ، وما فعله من فعلة شنعاء من ذبحه طفلي عبيد الله بن العبّاس، وكان يومئذ عاملا لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) على اليمن فهرب إليه من بسر، واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي، وكان جدّ الطفلين لأُمّهما، فقتله بسر في من قتل، وقتل ابنه، وبحث عن الطفلين فوجدهما عند رجل من كنانة في البادية فلمّا أراد بسر قتلهما قال له الكناني: لم تقتلهما وهما طفلان لا ذنب لهما، فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما، فقتله ثمّ ذبحهما، وقالت له امرأة من كنانة لمّا ذبحهما: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام، والله يا بن أرطأة إنّ سلطاناً لا يقوم إلاّ بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير، ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء، ونال أُمّهما من ذلك أمر عظيم وهامت على وجهها جنوناً ممّا نالها، وكانت تأتي في الموسم تنشدهما فتقول:


يا من أحسّ بُنيَّيَّ اللذين هماكالدرّتين تشظّى عنهما الصدف
يا من أحسّ بُنيَّيَّ اللذين هماقلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف
يا من أحسّ بُنيَّيَّ اللذين همامخّ العظام فمخّي اليوم مزدهف
من دلّ والهةً حرّى مدَلّهةًعلى صبيّينِ ضلاّ إذا هوى السلف
نُبّئت بُسراً وما صدّقت ما زعموامن قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودَجَي ابني مُرهفةًمشحوذةً وكذاكَ الإثمُ يقترف
حتّى لقيتُ رجالا من أرومتهشمُّ الأُنوف لهم في قومهم شرفُ
فالآن ألعنُ بسراً حقّ لعنتههذا لعَمر أبي بسر هو السرفُ(2)

____________

(1) الاستيعاب ج 1 ص 161.

(2) الأغاني ج 16 ص 291 ـ 292، الاستيعاب ج 1 ص 159 ـ 160، تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 250 ـ 251، تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 179.


الصفحة 59
فلمّا سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) بقتلهما جزع جزعاً شديداً ودعا على بسر، فقال: اللّهمّ اسلبه دينه وعقله، فأصابه ذلك وفقد عقله فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زقّ منفوخ فلا يزال يضربه ولم يزل كذلك حتّى مات(1) .

وقتل معاوية حجر بن عديّ الكندي وأصحابه وهم: ولده، وشريك ابن شداد الحضرمي، وصيفيّ بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب المنقري، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حيان العنزيان، صبراً في مرج عذراء قرب دمشق على التشيّع وامتناعهم من سبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهو الذي فتحها وأوّل من كبّر بها، وكان من خيار الصحابة مستجاب الدعوة ويسمّى راهب أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما عن الحاكم، وابن عبد البرّ(2) .

روى ابن عساكر بإسناده عن أبي الأسود، قال: دخل معاوية على عائشة، فقالت: ما حملك على قتل حجر وأصحابه؟ فقال: يا أُمّ المؤمنين رأيت قتلهم صلاحاً للأُمّة وأنّ بقاءهم فساداً للأُمّة، فقالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء "(3) .

وروى بإسناده عن علي بن أبي طالب، قال: يا أهل الكوفة سيقتل فيكم سبعة نفر خياركم، مثلهم كمثل أصحاب الأُخدود، منهم حجر بن الأدبر وأصحابه. قتلهم معاوية بالعذراء من دمشق كلّهم من أهل الكوفة(4) .

____________

(1) الأغاني ج 16 ص 292، تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 252.

(2) المستدرك ج 3 ص 531، الاستيعاب ج 1 ص 331.

(3) تاريخ دمشق ج 12 ص 226.

(4) تاريخ دمشق ج 12 ص 227.


الصفحة 60
وقال الحسن البصري: أربع خصال كنّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت موبقة: إنتزاؤه على هذه الأُمّة بالسفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابناً سكِّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " الولد للفراش وللعاهر الحجر "، وقتله حجراً، ويلا له من حجر وأصحاب حجر، قاله مرّتين(1) .

وقتل عمرو بن الحمق الخزاعي الذي أبلته العبادة لحبّه عليّاً، سقى يوماً رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لبناً، فقال: " اللّهمّ متّعه بشبابه "، فمرّت عليه ثمانون سنة لم يرَ شعرة بيضاء(2) ، وكان رأسه أوّل رأس يهدى في الإسلام، حُمل وألقي في حجر زوجته آمنة بنت الشريد في السجن، وكان معاوية قد حبسها، فارتاعت لذلك، ثمّ وضعته في حجرها ووضعت كفّها على جبينه، ثمّ لثمت فاه، ثمّ قالت: غيّبتموه عنّي طويلا ثمّ أهديتموه إليَّ قتيلا، فأهلا بها من هديّة غير قالية ولا مقلية(3) .

ذكر ما فعله يزيد بالشيعة:

وازداد حال الشيعة سوءاً وشدّة مع تصرّم السنين والأيّام إلى أن دنت منيّته وحلّ أجله فختم صحيفة أعماله السوداء بعهده ليزيد وقوله له: إنّ لك من أهل المدينة يوماً فإن فعلوها فارمهم بمسلم ـ بل بمجرم ـ بن عقبة فإنّه

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 232، تارخ ابن الأثير ج 3 ص 337، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 105.

(2) تاريخ دمشق ج 45 ص 497، كنز العمال ج 13 ص 495 ـ 496 ح 37288 عن البغوي والديلمي وابن عساكر.

(3) أسد الغابة ج 3 ص 715.


الصفحة 61
رجل قد عرفنا نصيحته(1) ، ففعل ما أوصاه به أبوه فكانت وقعة الحَرّة، وما أدراك ما الحرّة؟! حدثت فيها من المآسي والويلات تكاد السماوات يتفطّرن من هولها، فقد أباحوا مدينة الرسول ثلاثة أيّام حتّى بالت الدواب وراثت في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحتّى افتضّ فيها ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار(2) ، وقتل يومئذ من قريش والمهاجرين والأنصار ووجوه الناس ألف وسبعمئة، ومن سائر المسلمين اللائذين بضريح سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة آلاف سوى النساء والصبيان، ولم يبق بعدها بدري(3) ، وقتل من النساء والصبيان عدد كثير، وكان الجندي يأخذ برجل الرضيع فيجذبه من أُمّه ويضرب به الحائط فينتشر دماغه على الأرض وأُمّه تنظر إليه(4) ، ثمّ أُمروا بالبيعة على أنّهم خَوَلٌ وعبيد ليزيد إن شاء استرقّ وإن شاء أعتق فبايعوه على ذلك، وفيهم جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وغيرهم من بقيّة الصحابة، مع ما هم فيه من سفك الدماء وهتك الأعراض وسلب الأموال.

ثمّ بعث مسلم ـ بل مجرم ـ بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلمّا أُلقيت بين يديه قال:


ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلّوا فرحاًثمّ قالوا: يا يزيد لا تشلْ

____________

(1) تاريخ خليفة بن خياط ص 182، تاريخ الطبري ج 3 ص 359، العقد الفريد ج 3 ص 372، تاريخ دمشق ج 58 ص 104.

(2) البداية والنهاية ج 8 ص 177، وفيات الأعيان ج 6 ص 276، الفخري ـ لابن الطقطقي ـ ص 116، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ص 249، الإتحاف ص 66.

(3) الإمامة والسياسة ج 1 ص 237 و ص 239، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 177.

(4) الإمامة والسياسة ج 1 ص 238.


الصفحة 62

حين حلّت بفنائها برّكهاواستحرّ القتل في عبد الأشهلْ
قد قتلنا القرم من ساداتهموعدلنا ميل بدر فاعتدلْ
لعبت هاشم بالملك فلاخبر جاء ولا وحيٌ نزلْ
لست من خندف إن لم أنتقممن بني أحمد ما كان فعلْ

فقال له رجال من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين! قال: بلى، نستغفر الله! قال: والله لا ساكنتك أرضاً أبداً، وخرج عنه(1) .

ـ وروى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب " الأحداث " قال: كتب معاوية نسخة واحدةً إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر، يلعنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ; وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ; لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) ، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة، وضمّ إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيّام علي (عليه السلام) ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم من العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق، ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم

____________

(1) العقد الفريد ج 3 ص 374، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 179 ـ 180، وغيرها.


الصفحة 63
وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.

ثمّ كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله، فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وأُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتّهمتموه بمولاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره.

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيّما بالكوفة حتّى إنّ

الصفحة 64
الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون، والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها.

فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي (عليه السلام) ، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (عليه السلام) وولي عبد الملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّي عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من علي (عليه السلام) وعيبه، والطعن فيه، والشنآن له حتّى إنّ إنساناً وقف للحجّاج ـ ويقال إنّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به: أيّها الأمير إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجّاج، وقال: لِلُطفِ ما توسّلت به قد ولّيتك موضع كذا.

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين

الصفحة 65
وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُميّة، تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم(1) .

وجاء في " رسائل أبي بكر الخوارزمي ":

وكتب إلى جماعة الشيعة بنيسابور لمّا قصدهم محمّد بن إبراهيم واليها:

سمعت أرشد الله سعيكم وجمع على التقوى أمركم، ما تكلّم به السلطان الذي لا يتحامل إلاّ على العدل، ولا يميل إلاّ على جانب الفضل، ولا يبالي بأنْ يمزّق دينه إذا رفا دنياه، ولا يفكّر في أن لا يقدّم رضا لله إذا وجد رضاه، وأنتم ونحن، أصلحنا الله وإيّاكم، عصابة لم يرض الله لنا الدنيا فذخرنا للدار الأُخرى، ورغب بنا عن ثواب العاجل فأعدّ لنا ثواب الآجل، وقسّمنا قسمين: قسماً مات شهيداً وقسماً عاش شريداً، فالحيّ يحسد الميت على ما صار إليه، ولا يرغب بنفسه عمّا جرى عليه.

قال أمير المؤمنين ويعسوب الدين (عليه السلام) : المحن إلى شيعتنا أسرع إلى الحدور.

وهذه مقالة أُسّست على المحن، وولد أهلها في طالع الهزاهز والفتن، فحياة أهلها نغص، وقلوبهم حشوها غصص، والأيّام عليهم متحاملة، والدنيا عنهم مائلة، فإذا كنّا شيعة أئمّتنا في الفرائض والسنن، ومتّبعي آثارهم في ترك كلّ قبيح وفعل حسن، فينبغي أن نتّبع آثارهم في المحن.

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 11 ص 44 ـ 46، الدرجات الرفيعة ص 6 ـ 8.


الصفحة 66
غُصبت سيدتنا فاطمة صلوات الله عليها وعلى آلها ميراث أبيها صلوات الله عليه وعلى آله، يوم السقيفة، وأُخّر أمير المؤمنين عن الخلافة، وسُمّ الحسن رضي الله عنه سرّاً، وقتل أخوه كرّم الله وجهه جهراً، وصُلب زيد بن علي بالكناسة، وقطع رأس زيد بن علي في المعركة(1) ، وقُتل ابناه محمّد وإبراهيم على يد عيسى بن موسى العبّاسي، ومات موسى بن جعفر في حبس هارون، وسُمّ علي بن موسى بيد المأمون، وهُزم إدريس بفخ حتّى وقع إلى الأندلس فريداً، ومات عيسى بن زيد طريداً شريداً، وقُتل يحيى بن عبد الله بعد الأمان والأيمان، وبعد توكيد العهود والضمان.

هذا غير ما فعل يعقوب بن الليث بعلوية طبرستان، وغير قتل محمّد ابن زيد والحسن بن القاسم الداعي على أيدي آل ساسان، وغير ما صنعه أبو السيّاح في علوية المدينة، حملهم بلا غطاء ولا وطاء، من الحجاز إلى سامرّاء، وهذا بعد قتل قتيبة بن مسلم الباهلي لابن عمر بن علي حين أخذه بابويه، وقد ستر نفسه، ووارى شخصه، يصانع حياته، ويدافع وفاته، ولا كما فعله الحسين بن إسماعيل المصعبي بيحيى بن عمر الزيدي خاصّة، وما فعله مزاحم بن خاقان بعلوية الكوفة كافّة.

وبحسبكم أنّه ليست في بيضة الإسلام بلدة إلاّ وفيها لقتيل طالبي تربة تشارك في قتله الأُموي والعبّاسي...

قادتهم الحميّة إلى المنيّة، وكرهوا عيش الذلّة، فماتوا موت العزّة، ووثقوا بما لهم في الدار الباقية، فسخت نفوسهم عن هذه الفانية، ثمّ لم يشربوا كأساً من الموت إلاّ شربها شيعتهم وأولياؤهم، ولا قاسوا لوناً من

____________

(1) الظاهر أنّ هنا سقطاً يتعلّق بعبد الله بن الحسن.


الصفحة 67
الشدائد إلاّ قاساه أنصارهم وأتباعهم.

داس عثمان بن عفّان بطن عمّار بن ياسر بالمدينة، ونفى أبا ذرّ الغفاري إلى الربذة، وأشخص عامر بن عبد القيس التميمي، وغرّب الأشتر النخعي وعديّ بن حاتم الطائي، وسيّر عمر بن زرارة إلى الشام، ونفى كميل بن زياد إلى العراق، وجفا أُبي بن كعب وأقصاه، وعادى محمّد بن أبي حذيفة وناواه، وعمل في دم محمّد بن سالم ما عمل، وفعل مع كعب ذي الخطبة ما فعل.

واتبعه في سيرته بنو أُميّة، يقتلون من حاربهم، ويغدرون بمن سالمهم، لا يحفلون المهاجري، ولا يصونون الأنصاري، ولا يخافون الله، ولا يحتشمون الناس، وقد اتّخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا، يهدمون الكعبة، ويستعبدون الصحابة، ويعطّلون الصلاة الموقوفة، ويحطّمون أعناق الأحرار، ويسيرون في حرم الرسول سيرتهم مع الكفّار، وإذا فسق الأُموي فلم يأت بالضلالة عن كلالة.

قتل معاوية حجر بن عديّ الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي بعد الأيمان المؤكّدة والمواثيق المغلّظة، وقتل زياد بن سميّة الأُلوف من شيعة الكوفة وشيعة البصرة صبراً، وأوسعهم حبساً وأسراً، حتّى قبض الله معاوية على أسوأ أعماله، وختم عمره بشرّ أحواله، فاتّبعه ابنه، يجهز على جرحاه ويقتل أبناء قتلاه...

ثمّ تسلّط ابن الزبير على الحجاز والعراق، فقتل المختار بعد أن شفى الأوتار وأدرك الثار وأفنى الأشرار، وطلب بدم المظلوم الغريب، فقتل قاتله ونفى خاذله، وأتبعوه أبا عمر بن كيسان، وأحمر بن شميط، ورفاعة بن يزيد، والسائب بن مالك، وعبد الله بن كامل، وتلقّطوا بقايا الشيعة،