الصفحة 106

____________

<=

وهذا الإمام الشافعي محمّد بن إدريس كان جدّه شافع بن السائب مولىً لأبي لهب، فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع، فطلب من عثمان ذلك ففعل، حكاه الجرجاني عن أصحاب مالك كما في مناقب الشافعي للرازي ص 24، وقيل: إنّ أُمّه حملت به أربع سنين.

وحتّى أحمد بن حنبل وإن نسب عربياً إلاّ أنّ عمّه كان أحد القادة الخراسانية زمن المعتصم، ذكر ذلك العراقي في مجمع الأخبار وغيره كما في حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 79، أفيعقل أن يكون هو عربياً وعمّه خراسانياً؟!

وكذا بقية الأئمّة والفقهاء، كالحكم بن عتيبة، وعبد الله بن ذكوان، ومعمر بن راشد، وربيعة الرأي، ومالك بن دينار، وأيّوب السختياني، وسفيان الثوري، وعمرو بن عبيد، وشعبة بن الحجّاج، ومحمّد بن الحسن، وحمّاد بن سلمة، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وابن أبي الدنيا، ويحيى بن سعيد القطّان، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن آدم، وحمّاد بن زيد، وابن المنذر، وداود الظاهري، والطبري، والسرخسي، والغزّالي، وغيرهم.

ومن الرجاليّين وأئمّة الجرح والتعديل، يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وعبد الرحمن بن المهدي، وابن سعد، وأبو زرعة الرازي، والجوزجاني، وأبو حاتم الرازي وابنه، والعقيلي، وابن عديّ، وأبو الشيخ، وابن شاهين، والرامهرمزي، والخطيب، وغيرهم.

ومن أرباب الصحاح والسنن والمسانيد والمستخرجات: البخاري، ومسلم بن الحجّاج بن كوشاذ النيسابوري، وابن ماجة القزويني، وأبو داود السجستاني، والترمذي، والنسائي، والطيالسي، وسعيد بن منصور، وإسحاق بن راهويه، والدارمي، والدورقي، وعبد بن حميد، ومحمّد بن نصر المروزي، والبزّار، وابن خزيمة، والروياني، وأبو عوانة، والنسوي، وابن أسلم الطوسي، والبغوي، وابن الجارود، وابن السكن، والشاشي، وابن حبّان، والدارقطني، والحاكم النيسابوري، وتمّام الرازي، وأبو نعيم الأصفهاني، والبيهقي، والديلمي، وغيرهم.

ومن المفسّرين مجاهد، والسُدّي، وابن سيرين، ووكيع، والفريابي، وابن جرير، والجصّاص، وابن مردويه، والثعلبي، والماوردي، والواحدي، والزمخشري، والنسفي، والفخر الرازي، والبيضاوي، والخازن، وغيرهم.

=>


الصفحة 107

____________

<=

ومن الأُصوليّين والمتكلّمين، ابن فورك الأصبهاني، والبربهاري، والباقلاني، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن طاهر، والجويني، والاسفراييني، والآجري، وابن مندة، والشهرستاني، والنسفي، والرازي، والآمدي، والسرخسي، وابن قدامة، والأيجي، والتفتازاني، والدواني، والسيالكوتي، والجرجاني، والبيضاوي، والقوشجي، والفضل بن روزبهان، وغيرهم.

ومن المؤرّخين، ابن قتيبة، والبلاذري، والدينوري، والطبري، والقشيري، والسهمي الجرجاني، والسمعاني، والرافعي القزويني، وابن قايماز الذهبي، وأبي الفداء، وغيرهم.

أمّا أهل التصوّف فقل ما شئت.

وأما ابن تيميّة الجامع لكل العلوم فلا يعرف له أصل ولا فصل سوى إنّه حرّاني، وحرّان كان أهلها صابئة مندائيّين ويزيدية.

ولو وضعنا أيّ عربي جنب هؤلاء وكلاّ حسب طبقته فمحلّه حمل الأسفار والقراطيس ليس إلاّ.

بينما نجد الحال عند الشيعة على عكس ذلك تماماً، فأئمّتهم الاثنا عشر (عليهم السلام) هم سادة العرب وعنهم يأخذون أحكامهم أُصولا وفروعاً، كما أنّ أغلب الفقهاء والرواة وأصحاب الأُصول من أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) والذين يلونهم وكذا المتكلّمين والرجاليّين والمفسّرين والعلماء والأُدباء والشعراء هم من العرب، وإن وجد لأحدهم ولاءً فهو ولاءً تحالفياً كولاء عمار بن ياسر لبني مخزوم وأصله من مذحج، والمقداد بن عمرو الكندي لبني زهرة، وذلك بسبب الظروف القاسية التي كانت تعصف بالشيعة، فكان بعضهم يوالي قبيلة لها نفوذ أو قوّة أو قربٌ من السلطان حفاظاً على أرواحهم، مع ملاحظة أنّ الكثير منهم جامع لأغلب هذه العلوم.

فمن الفقهاء والمحدّثين المتقدّمين: أبان بن تغلب، محمّد بن مسلم الثقفي، بريد بن معاوية العجلي، ليث بن البختري المرادي، الفضيل بن يسار، أبو بصير الأسدي، جابر بن يزيد الجعفي، أبو الصباح الكناني، جميل بن درّاج، حمّاد بن عيسى، أبان بن عثمان، صفوان بن يحيى البجلي، عبد الله بن المغيرة، فضالة بن أيّوب، ثعلبة بن ميمون، حريز بن عبد الله الأزدي، الحسن بن علي الوشّاء، الحسن بن ظريف، إسحاق بن آدم الأشعري، أيّوب بن نوح، حذيفه بن منصور،

=>


الصفحة 108

____________

<=

علي بن جعفر العريضي، غياث بن إبراهيم، محمّد بن قيس البجلي، منصور بن حازم، معاوية بن وهب البجلي، موسى بن القاسم البجلي، يحيى بن عمران الحلبي، حُميد بن المثنّى العجلي، حُميد بن زياد، جعفر بن بشير البجلي، سيف ابن عميرة النخعي، عبد الله بن أبي يعفور، زكريّا بن آدم الأشعري، إسحاق بن عمّار بن حيّان التغلبي، محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عبد العظيم الحسني، عبد الملك بن عتبة الهاشمي، نصر بن قابوس اللخمي، جميل بن صالح الأسدي، الحسين بن المختار، ابن جمهور، أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري، محمّد بن علي بن محبوب، أحمد بن إسحاق الأشعري، أحمد بن إدريس، عبد العزيز بن يحيى الجلودي، عبد الله بن جعفر الحميري، وغيرهم.

ومن الأئمّة المجتهدين الذين يلونهم: ابن عقيل العماني الذي يُعدّ أوّل من فتح باب الاجتهاد بمعناه المصطلح، الشيخ السديد والوليّ الرشيد أبو عبد الله المفيد الذي يُعدّ إمام الشيعة ورئيسهم بعد المعصومين.

فهو للشيعة كالشافعي بالنسبة للشافعية، وكأبي حنيفة بالنسبة للأحناف، كان كابوساً بالنسبة للأشاعرة واتباع المذاهب لشدّة عارضته وقوّة حجاجه، وصفه ابن العماد الحنبلي: بأنّه رئيس الكلام والفقه والجدل، ووصفه الخطيب البغدادي بأنّه لو شاء أن يثبت لك سارية الخشب على أنّها من ذهب لفعل، ثمّ قال: وقد أضلّ خلقاً من العباد ـ يعني هداهم إلى طريق الرشاد ـ حتّى أراح الله المسلمين منه، وكان الأولى به أن يقول ـ لو كان منصفاً ـ: ما أعظم خسارة المسلمين بفقده.


لا صوّت الناعي بفقدكإنّه يوم على آل الرسول عظيمُ

قال ابن حجر في ترجمته: حتّى يقال: له على كلّ إمام منّة، ويوم وفاته كان يوماً مشهوداً في الكرخ، أمّا الرصافة فقد زيّنت محالّها وجلس إمام الأشاعرة في ذلك الوقت لتلقّي التهنئة، وقال: الآن طاب لي الموت بعد موت ابن المعلّم.

ومنهم أيضاً: أبو يعلى الجعفري، الشريف المرتضى، ابن البرّاج، ابن زهرة، ابن ادريس، المحقّق الحلّي الذي لو اجتمع فقهاء السُنّة قاطبة على أن يوازوه فقاهة لمّا استطاعوا، والمقداد، والشهيدان، والمحقّق الكركي المتوفّى 940 هـ والذي صبّ عليه أكثر أهل السُنّة لعناتهم لأنّهم عدّوه مؤسّس مذهب الرفض في بلاد

=>


الصفحة 109

____________

<=

فارس، علماً أنّه جوزي جزاء سنمار.

واقتصرنا على ذكر هؤلاء اختياراً لا استقصاءً.

ومن المتكلّمين: سليم بن قيس الهلالي، وأبو جعفر الأحول، والميثمي، والضحّاك أبو مالك الحضرمي، وهشام بن الحكم، ومحمّد بن عمرو الزبيدي، وقيس بن الماصر، وأحمد بن داود الفزاري، وأبو الأحوص المصري، والكندي، والفضل بن شاذان الأزدي، والناشئ الصغير، وسعد بن عبد الله الأشعري، والشريف المرتضى، والكراجكي، وأبو الصلاح الحلبي، وابن جبر، وابن ميثم، والعلاّمة، وغيرهم.

ومن الرجاليّين: أبان بن تغلب الذي يُعدّ أوّل من صنّف في علم الدراية وأُصول الحديث كما عن ابن النديم، وعبد الله بن جبلة، وابن محبوب، والكاهلي، والجعابي، والعقيقي، والبرقي، وابن الغضائري، والنجاشي، وابن داود الحلّي، وغيرهم.

ومن المفسّرين: أبو طالب التميمي، وأحمد بن صبيح الأسدي، وعلي بن أسباط، ومحمّد بن خالد البرقي وأخوه الحسن، والجلودي، وابن المنذر، ومحمّد ابن الحسن بن الوليد، وفرات الكوفي، والعيّاشي، وعلي بن إبراهيم، والنعماني، وغيرهم.

ومن المؤرخين: العمّي، وابن سمكة، والجلودي، وعبد الله بن إبراهيم الجعفري، وإبراهيم الثقفي، ونصر بن مزاحم المنقري، وأبو مخنف الأزدي، والمنذر بن محمّد القابوسي من ولد النعمان بن منذر، والحسين بن محمّد الأزدي، والمسعودي، واليعقوبي، وابن أبي طيّ، وغيرهم.

ومن اللغويين والأدباء: أبو الأسود الدؤلي وابنه عطاء، ويحيى بن يعمر، وصعصعة بن صوحان، والأصبغ بن نباتة، وابن مهزم العبدي، والشمشاطي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، والمازني، والنديم، واليشكري، والصولي، وابن هرم، وأبو العبّاس المبرّد، وابن دريد، والرواسي، وابن حمدون النديم، والأزدي، وسمكة، وابن النجّار، والربعي، وابن الأنباري، والشجري، والمهلبي، وابن الحاجّ.

حتّى شاع في القرن الثالث والرابع قولهم: (هل رأيت أديباً غير شيعي) ، وأصبح

=>


الصفحة 110

____________

<=

مثلا سائراً، وقال ابن هاني الأندلسي:


شيعيٌّ أملاك بكر إن هم انتسبواولست تلقى أديباً غير شيعي

أمّا الشعر فكاد يكون حصرياً على الشيعة لكون عمالقة الشعر العربي هم شيعة، فمنهم: عمرو بن معدي كرب الزبيدي، فارس العرب وقاتل رستم في القادسية وكان من المعمِّرين الذين شهدوا صفّين، كما حكاه صاحب كتاب الإشراف في منازل الأشراف، ويحتمل أنّه استشهد فيها، لانقطاع أخباره بعدها، ومتمّم بن نويرة، والنابغة الجعدي، وكعب بن زهير، ولبيد بن ربيعة العامري، وأبو الطفيل عامر بن وائلة، وعبد الرحمن بن حنبل الجمحي، والفرزدق، والفضل بن العباس ابن عتبة، والكميت، وكثير عزّة، والسيّد الحميري، والعبدي، ودعبل الخزاعي، وديك الجنّ، ومسلم بن الوليد، وأبو نؤاس، وأبو تمّام، والبحتري، وابن الرومي، والعكوك، وأبو دلف العجلي، والمفجّع، والصنوبري، والتنوخي، والنمري، والزاهي، وأشجع السلمي، والبسامي، والخبز أرزي، وابن طباطبا، وابن نباتة السعدي، والمتنبّي، والحسين بن الحجّاج، وأبو فراس الحمداني، والوأواء، والخالديان، والسري الرفا، وأبو العبّاس الضبّي، والسلامي، والنامي، والشريف الرضي، والمعرّي، وابـن هـاني الأندلسي، والحريري، وابن منير الطرابلسي، والفقيه عمارة، وابن التعاويذي، والأبيوردي القرشي الأُموي، والحاجري، وابن عفيف، وابن سرايا، وصفي الدين الحلّي، وغيرهم من الشعراء في القرون اللاحقة وحتّى اليوم.

وكذا بقية الفنون العلمية كالفلك والكيمياء والفلسفة، وغيرها، وقد تعرض أصحابها لمختلف صنوف الاضطهاد، وصنّفوا ضمن الزنادقة والمهرطقين، كجابر بن حيّان الكوفي تلميذ الإمام الصادق (عليه السلام) ، وأبو إسحاق الكندي، تلميذ الإمام الهادي (عليه السلام) ، وعبد الله بن سعيد بن حيّان الكناني، وإخوان الصفا، وابن الهيثم، وغيرهم ولم يتغنّ بهم العرب إلاّ أخيراً.

ولطالما نُبِزنا بالزندقة والشعوبية ظلماً وعدواناً، وهنا ينطبق المثل (رمتني بدائها وانسلّت) ولست ممّن يبحث في دفاتر عتيقة، ولكن عندما يتعلّق الأمر بإخفاء الحقائق وطمسها، وكأنّها من مختصّاتنا، حتّى قال أحمد أمين في ضحاه: التشيّع عشّ الشعوبية، أرى لزاماً عليّ بما لدي من معلومات بسيطة أن أكشف

=>


الصفحة 111

____________

<=

جانباً من الحقيقة، وأقول عكس أحمد أمين تماماً: إنّ التسنّن كان عشّ الشعوبية والزندقة، وأنّ أبرز رموز الزندقة والشعوبية هم من أهل السُنّة، كعبد الله ابن المقفّع، وابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني، وعبد الملك البصري، وهؤلاء لطالما ردّهم الإمام الصادق (عليه السلام) وتلامذته، وعلاّن الشعوبي، وبشّار بن برد، وإسماعيل بن يسار، ومطيع بن إياس، وحمّاد بن سابور المعروف بحمّاد الراوية، وحمّاد عجرد، ويزيد بن ضبّة، الذي كان منقطعاً للوليد بن يزيد، وأحمد بن بشير، أحد رجال البخاري والترمذي وابن ماجة، وابن الكلبي الذي أراد التقرّب من الشيعة وإمامهم الصادق (عليه السلام) ، فكشف (عليه السلام) جهله بنسبه وبيّن كونه كرديّاً، كما في الكافي ج 1 ص 394 ح 6، فعمل كتاب المثالب وشحنه بمثالب بني هاشم، ولم يسلم منه حتّى آل أبي طالب، وقد طبع أخيراً، ومعمر بن المثّنى، والهيثم بن عديّ، وسهل بن هارون، وابن قتيبة، وإبراهيم بن حمشاد نديم المتوكّل، وإسحاق بن حسّان الحريمي، ومن المتأخّرين ابن خلدون البربري.

بينما نجد الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للشيعة، فإنّ أبرز الذين ردّوا على الشعوبيّين هم من الشيعة، وصنّفوا بذلك وبفضل العرب المصنّفات، مثل محمّد ابن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري (ت حدود 280 هـ) صاحب كتاب "نوادر الحكمة"، وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري (ت 290 هـ) ، وسعد بن عبد الله الأشعري (ت 299 هـ) صاحب "البصائر"، وعبد الله بن جعفر الحميري (ت حدود 300 هـ) ، صاحب كتاب "قرب الإسناد"، وعبد العزيز بن يحيى الجلودي (ت 322 هـ) ، كما في تراجمهم في فهرست النجاشي والشيخ الطوسي، وهؤلاء من أعيان علمائنا الأعلام في القرن الثالث الهجري، وعلي بن الحسين المهلّبي، وأبو علي محمّد بن محمّد بن عبد الله، كما في الذريعة.

بل، حتّى الشعراء بدا ذلك منهم واضحاً من خلال قريضهم، كالحمّاني، وأبي الطيب المتنبّي، وأبي فراس الحمداني، والشريف الرضي، وغيرهم.

نعم، اتّهموا دعبل الخزاعي وديك الجنّ بالشعوبية، ولكن تناسى المغفّلون أنّهما عرب صليبة، فالأوّل خزاعي، والثاني كلبي، وما ذاك إلاّ لأنّهم مدحوا أهل البيت (عليهم السلام) وهجوا بني أُميّة وخلفاء بني العبّاس، فما علاقة هذا بالشعوبية؟

وحتّى الدول والإمارات الشيعية نرى أغلبها عربية كالدولة الحمدانية في الشام،

=>


الصفحة 112

____________

<=

والموصل والتي تُعدّ العلامة المضيئة في تراثنا العربي ـ إن كان هناك فيه ما يضيء بعد الصدر الأوّل ـ فكراً وحرية وأدباً وعلماً وجهاداً ضدّ الروم، ودولة الأدارسة، والدولة الفاطمية، وإمارة بني عمّار، وإمارة ابن شاهين في البطيحة، والدولة المزيدية في الحلّة، والزيدية في اليمن، والمشعشعية في جنوب العراق والأهواز، وغيرها.

بخلاف ذلك نجد أنّ أغلب الدول السُنّية هي غير عربية، إذا استثنينا دولة الملك العضوض، فالدولة العباسية ليس لها من العروبة إلاّ الاسم فقط، فقد بدأت خراسانية مسلمية، ثمّ برمكية، ثمّ سهلية، ثمّ خاقانية، ثمّ أصبحت مهزلة صبيانية، فتراهم يوماً يقتلون خليفة ويوماً يعزلون ويوماً يسملون، واستمرّ الأمر على هذه الحال حتّى عام 575 هـ، عندما تسلّم الخلافة الخليفة الناصر لدين الله رحمه الله الذي حكم لمدّة 47 عاماً والذي أعاد للخلافة هيبتها التي ماتت بموت المعتصم، وعمّ في عهده العدل والأمان، وقضى على الفساد، ووحّد البلاد، وخضع له أغلب حكّام الأمصار حتّى وصفه بعض المؤرخين بأنّه كانت له هيبة الأسود فضلا عن كونه عالماً كبيراً وفقيهاً مجتهداً، وروى عنه السيّد ابن طاووس، ومع كلّ هذا فقد وصفه أهل السُنّة بأنّه كان ظالماً وبخيلا، وما ذاك إلاّ لكونه شيعياً، وأنا على يقين بأنّه لو كان سُنّياً لفضلوه على عمر بن عبد العزيز.

وبعد وفاته عاد الأمر إلى السفل والانحطاط كما كان، وضربوا أسوأ الأمثلة بدولهم هذه ظلماً وجوراً وبعداً عن روح الإسلام كالدولة الغزنوية، والسلجوقية، والخوارزمية، ولو نظرنا إلى التاريخ نظرة إنصاف لرأينا أنّ ما فعله محمود بن سبكتكين بالهنود كان أبشع ممّا فعله الأمريكان بالهنود الحمر، وأمّا خوارزم شاه الذي أهلك الأُمّة بسبب رعونته وهمجيّته، عندما قتل تجّار المغول وسلب أموالهم وقتل رسلهم وأغار على بلادهم، فوجد أهلها خلوفاً، فقتل الأطفال، وسبى النساء، وأحرق الديار.

هذا هو السبب الأوّل والأخير الذي حرّك المغول من سباتهم مخالفاً بذلك ما صحّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: تاركوهم ما تاركوكم، فجلب بذلك الويل والثبور على الأُمّة، وهكذا بقيّة الدول حتّى قبرت الخلافة على يد أتاتورك.

ومن خلال ما استعرضناه ألا يحقّ لنا أن نقول بأنّ التسنّن فارسي؟ نعم هذا هو

=>


الصفحة 113

____________

<=

الحقّ، إذ لم يُلمّ الفرس بالتشيّع إلاّ في القرن العاشر الهجري.

بل هناك مناطق عديدة في بلاد فارس كانت تُعرف بالنصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) ، فقد ذكر المؤرّخون في أحداث سنة 99 هـ عندما منع عمر بن عبد العزيز سبّ عليّ (عليه السلام) على المنابر، امتنع أهل أصفهان من امتثال أمر الخليفة لأوّل وهلة، وطلبوا من رسول الخليفة بقاءَهم على سُنّة معاوية، وعندما رفض رسول الخليفة طلبهم بذلوا له مئة ألف على أن يسبّوا عليّاً هذه الجمعة فقط، وكان قد وصلهم يوم جمعة فرفض، وكانوا يغلون في حبّ معاوية حتّى عدّه بعضهم نبيّاً أو وليّاً من أولياء الله، وعند مرور ركب السيّدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفرعليهما السلامبمدينة ساوة والتي تبعد عن قم نحو عشرين فرسخاً، وهي في طريقها إلى أخيها الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في خراسان، هاجم أهل ساوة موكبها وقتلوا نحواً من ثمانين شخصاً من مرافقيها فيهم عدد من إخوتها وعدد من أبناء عمومتها وقبورهم إلى اليوم شاخصة تزار، وعندما سمع بذلك الأشعريّون في قم هبّوا لنجدتها وقدموا بها ومن معها من النساء إلى قم وبقيت خمسة عشر يوماً تعاني المرض حتّى توفّيت، وقيل: إنّ سبب وفاتها أنّها سقيت ماءً مسموماً في ساوة.

أمّا بخصوص قم، فهي مدينة مصّرها وسكنها العرب الشيعة من الأشعريّين في عام 83 هـ بعد فشل ثورة عبد الرحمن بن الأشعث، وأوّل من مصّرها طلحة بن الأحوص الأشعري وبنو عمّه، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان ج 4 ص 451: وكان بدء تمصيرها ـ قم ـ في أيّام الحجّاج بن يوسف سنة 83 هـ، وذلك أنّ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث بن قيس كان أمير سجستان من جهه الحجّاج، ثمّ خرج عليه وكان في عسكره سبعة عشر نفساً من علماء التابعين من العراقيّين، فلمّا انهزم ابن الأشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في جملته إخوة يقال لهم عبد الله والأحوص وعبد الرحمن وإسحاق ونعيم، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري ـ صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقعوا إلى ناحية قم، وكان هناك سبع قرى إسم إحداها كمندان، فنزل هؤلاء الإخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها وقتلوا أهلها واستولوا عليها وانتقلوا إليها واستوطنوها واجتمع إليهم بنو عمّهم وصارت السبع قرى سبع محالّ بها وسُمّيت باسم إحداها وهي كمندان، فأسقطوا بعض حروفها فسُمّيت بتعريبهم قمّاً. انتهى.

=>


الصفحة 114

____________

<=

ويلاحظ عليه قوله: (وقتلوا أهلها) فإنّه ليس بدقيق، فالمروي من طرقنا أنّ الأشعريّين شاهدوا أهل هذه القرى في أحد الأيّام قد هربوا إلى الجبال المحيطة بقم، وعندما استعلموا الخبر منهم أخبروهم بأنّ جماعة من اللصوص وقطّاع الطرق تأتي من جهة الريّ للسلب والنهب، فثبت لهم الأشعريّون وقتلوهم، وقطع بذلك ضررهم.

ثمّ توالت هجرة الكوفيّين إلى قم، ومن أبرز من هاجر إليها من العلماء: إبراهيم ابن هاشم، ومحمّد بن خالد البرقي، وغيرهم.

وإن وجد أثر للتشيّع في بعض الأماكن في ذلك العصر فهو بسبب التهجير القسري الذي فرض على أهل الكوفة من قبل ولاة السوء الظلمة للقضاء على التشيّع فيها، فقد هجّر زياد ابن أبيه خمسين ألفاً من شيعة الكوفة إلى خراسان، وكذا فعل سخله عبيد الله، ومن بعده الحجّاج، إلى أن قضى على أكثرهم أبو مسلم الخراساني بإشارة من إبراهيم الإمام، وعمل فيهم السيف وشرّد بقيّتهم كلّ مشرّد، حتّى وصلوا إلى التبت.

ويبدو أنّ هذه السياسة قد راقت لصدّام فقام بالفعل نفسه وهجّر مئات الآلاف من الشيعة اقتداءً بسلفه الطالح من الحكّام الفسقة الفجرة، ولطالما نبز غالبية شعبه بالشعوبية.

هذه هي الحقيقة الناصعة لواقع الحال من عروبة التشيّع وفارسية التسنّن، لا كما يشاع ويشتهر.

وخير دليل على ذلك كلام الفضل بن روزبهان، المتكلّم الأشعري في عصره في تلك الديار في مقدّمة كتابه الذي ردّ فيه على كتاب العلاّمة الحلّي "نهج الحقّ" والذي سمّاه "إبطال نهج الباطل" وقد فرغ من تصنيفه سنة 909 هـ، قال: ثمّ إنّ زماننا قد أبدى من الغرائب ما لو رآه محتلم في رؤياه لطار من وكر الجفن نومه، ولو شاهده يقظان في يومه لاعتكر من ظلام الهموم يومه، وممّا شاع فيه أنّ فئة من أصحاب البدعة استولوا على البلاد، وأشاعوا الرفض والابتداع بين العباد، فاضطرّتني حوادث الزمان إلى المهاجرة عن الأوطان، وإيثار الاغتراب، وتوديع الأحبّة والخلاّن، وأزمعت الشخوص من وطني أصفهان حتّى حططت الرحل بقاسان، عازماً على أن لا يأخذ جفني القرار، ولا تضاجعني الأرض بقرار، حتّى

=>


الصفحة 115
هذه أهمّ الأُمور التي نبزوا بها الشيعة وعملوا على ترويجها.

ولم يزدهم تقادم السنين وتصرّم الأيّام إلاّ رعونة وحمقاً، فتراهم يتخبّطون بين ما يحملونه من تراث في السمع والطاعة للسلطان وإن كان ظالماً فاسقاً وضرب أبشارهم، وأوجع ظهورهم، وغصب مالهم، كما صحّ من طرقهم(1) ، وبين الخروج على الحكّام الظلمة الفسقة، فتجاوزوا سلسلة الأسباب إلى سبب أبعد، فكان ضررهم على الإسلام والمسلمين أكثر ممّا أمّلوه من نفع، متناسين أنّ القضاء على السبب المباشر يقضي على بقيّة الأسباب المرتبطة به، وهو أولى بالمواجهة ابتداءً.

دكّوا جبلين مجوّفين غربيّين، ففقدوا مصرين إسلاميّين، فكدموا غير مكدم، ونزوا بين القرينين.

نعم لقد شوّهوا صورة الإسلام الجميلة، وأخّروه قروناً إلى الوراء فوق ما هو متأخّر، فوقعوا في وادي جدبات، وأوردوا أهله حياض

____________

<=

أستوكر مربعاً من مرابع الإسلام، لم يسمعني فيه الزمان صيت هؤلاء اللئام ـ الشيعة ـ واستوطن مدينة أتّخذها دار هجرتي، ومستقرّ رحلتي، تكون فيها السُنّة والجماعة فاشية، ولم يكن فيها شيء من البدع والإلحاد ناشية.

ثمّ قال: فلمّا استقرّ ركابي بمدينة قاسان اتّفق لي مطالعة كتاب من مؤلّفات المولى الفاضل جمال الدين ابن المطهّر الحلّي غفر الله ذنوبه، وقد سمّاه "نهج الحق وكشف الصدق" قد ألّفه في أيّام دولة السلطان غياث الدين أولجايتو محمّد خدابندا، وذكر أنّه صنّفه بإشارته.

وقد كان ذلك الزمان أوان فشو البدعة، ونبغ نابغة الفرقة الموسومة بالإمامية من فرق الشيعة، فإنّ عامّة الناس يأخذون من السلاطين وسلوكهم، والناس على دين ملوكهم، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم. انتهى كلام الفضل (دلائل الصدق ج 2 ص 15) .

تالله لعبارة الفضل الأخيرة لنا لا علينا، ومن فمك أُدينك، فلطالما أخذتم مذاهبكم وسلوككم من يزيد إلى بايزيد، وبينهما الوليد واللارشيد، وكلّ جبار عنيد، إلى السلطان عبد الحميد.

أمّا نحن فمساكين والله، ليس لنا سوى سُنيّات أشدّ الناس ظلامةً علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومن بعده المأمون، والواثق، على هنات وهنات، والمعتضد، والناصر ليس إلاّ مع قلّة التأثير لغلبتكم على أسباب الحكم.

ولا يخفى أنّ قول الفضل: (وقد كان ذلك الزمان أوان فشو البدعة) ليس في دياره وإنّما في أذربيجان، فقد سبقهم الأتراك إلى هذا الأمر بنحو قرنين من الزمان، وكان ذلك على يد العلاّمة الحلّي رحمه الله.

(1) انظر: صحيح البخاري ج 1 ص 281 ح 84 و ج 9 ص 113 ح 6 و 7، صحيح مسلم ج 6 ص 19 ـ 20 باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم، وباب طاعة الأُمراء وإن منعوا الحقوق، سنن أبي داود ج 4 ص 92 ـ 93 ح 4244، سنن الترمذي ج 4 ص 458 ح 2265، سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 222 ح 8727 و 8728، سنن ابن ماجة ج 2 ص 954 ـ 955 ح 2859 و 2860، مسند أحمد ج 3 ص 171 و ج 5 ص 156 ومواضع أخر.


الصفحة 116
عطيش.


أوردها سعد وسعد مشتملما هكذا يا سعدُ تورد الإبلُ

فإذا كانت صورة الإسلام متمثّلة بالوهّابية وما تمخضّ من رحمها كالطالبان، فعلى الإسلام السلام، وإذا كان السلف الصالح متمثّلا بابن خزيمة وابن تيمية فلا خير فيه من سلف، وإذا كان خلف هذا السلف متمثّلا بابن عبد الوهّاب وابن جبرين وابن باز، والعثيمين وأمير المؤمنين ملاّ عمر وكلّ أعمى البصر والبصيرة، فأُفٍّ وتفٍّ لهذا الخلف.

صدّام والشيعة:

وفي غفلة من الزمن وهدنة من المحن، ومن زوايا الضعة والخمول جاء صدّام عفلق بقطار إشتراكي أمريكي، كما صرّح بذلك أحد رفاق دربه، معلناً حربه على الإسلام، متّهماً أهله بالرجعية، حتّى عاد الدين كشمس كادت أن تكون صلاءً.

جاء وهو يدبّ مع القُراد، ليت أُمّه صبحة رجّعت به علقة، أو مسخاً، وما أن استوى على العراق بكثير من الدم المهراق، حتّى قام فاغراً فاه، رافعاً عصاه، مقرّباً ومستعيناً بكلّ فاسق فاجر، ومجرم كافر، وأرعن أهوج، وجلف أعوج، ومعه أهله وذووه، وبنو أمّه وعمّه، وخنوصاه المسعوران البغيضان، المقبوران، أعداء الله ورسوله والمؤمنين، قاتلهم الله وأقصاهم من رحمته، ينهشون أموال البلاد ولحوم العباد كما تنهش الضباع البرّية الضارية جاموساً بريّاً أو بقرة وحشية، حتّى اتّخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا، كأنّه ورث البلاد والعباد من أبيه الذي لا يعرف أيّ هَيّ ابن

الصفحة 117
بَيّ، فلم يدع موبقة إلاّ فعلها، ولا جريمة إلاّ اقترفها، موقداً نار الطائفية بأبشع صورها، قتل مئات الفئام(1) ، وعشرات الآفاق(2) ، كباراً وصغاراً، أطفالا ونساءً، وقتل العلماء والفضلاء، والمؤمنين والصالحين، وملأ الطوامير والسجون، ومارس معهم من صنوف التعذيب ما لم تسمع به أُذن الدنيا، قتلوا الأطفال أمام الأُمّهات، وهتكوا الأعراض أمام الأرحام، وأعدم الناس بالجملة ودفنهم في مقابر جماعية، كما ظهرت صورها اليوم للعيان، وشرّد مثلهم حتّى نأت بهم الديار، وابتلعتهم البحار، ولم تسلم منه حتّى السهول والجبال، والبراري والقفار، والبساتين والأشجار، والبحيرات والأهوار، حتّى أنسى ذكر غيره من أقرانه المجرمين من ذوي الأصل الوضيع، كابن سمية، وابن مرجانة، وابن المتمنّية المستفرمة بعُجم زبيب الطائف، وابن جورجيا، إلى أن أولجته نفسه شرّاً، وأقحمته رعونته غيّاً، وجرّه حمقه إلى غاية خُسر، وأورده تهوّره المهالك، وأوعر عليه طيشه المسالك، حين شنّ الغارة على من كان له عوناً، فسلّط الله عليه من هو أكثر منه بطشاً وبأساً، مجلبباً شعبه الويلات والأحزان، وجيشه الهزيمة والخذلان، وكنت على ذلك شاهد عيان، ثمّ سقوه كأس الذلّ والهوان، تحت خيمة صفوان.

وما أن هبّ الناس منتفضين، بسبب كلّ ما جرى وكان، بعد أن وُعدوا الأزر والعون، جاءت الإشارة من أُمراء التعصّب الطائفي بمدّ يد العون لصدّام للقضاء على ما لم يكن بالحسبان، فخرج من جحر الذلّ، وحلّت عليه الشجاعة فجأة، رافعاً شعار: لا شيعة بعد اليوم ; فقصف المدن

____________

(1) مايساوي عشرة آلاف.

(2) ما يساوي مئة ألف.


الصفحة 118
بالمدافع والصواريخ حتّى قبّة الحسين (عليه السلام) على يد صهره المقبور، وقتل الناس تحت كلّ حجر ومدر، وشرّدهم كلّ مشرّد، وما أن التقط أنفاسه حتّى أعلن الكـذّاب الأشر، أنّي بطلٌ منتصر!


أسدٌ علَيَّ وفي الحروب نعامةٌربداءُ تجفلُ من صفيرِ الصافرِ

والأعجب منه أنّه ظلّ يردّد ذلك طيلة اثني عشر عاماً بالرغم من تعاملهم معه بأقسى حالات الذلّ والهوان، ملبّياً كلّ ما يطلبون، حتّى فتشوا مخدعه، ودخلوا منزعه وتلاعبوا به كما يتلاعب السنّور بالفأر، وهو مع كلّ هذا وذاك منتصر، وحقّاً قيل: إذا لم تستح فافعل ما شئت.

ومع طول المدّة، وشدّة المحنة، وعظم المصيبة، وفداحة الخطب، تراه منشغلا ببناء العشرات من القصور المحلاّة بالذهب، والمزيّنة بكلّ ما هو عجب، وشعبه يعاني شظف العيش، ويقاسي الحرمان من أدنى أسباب الحياة البسيطة.

وما أن قررّ أسياده إنهاء خدماته حين نضب معينه، وأزفت ساعته، رفع عقيرته متوعّداً الغزاة بأن تكون أسوار بغداد مقبرة لهم، وما أن وصلوا مشارف بغداد، بعد أن قاتل الشيعة في الجنوب طيلة ثلاثة أسابيع، حتّى خانه قومه وحرسه، فسلّموا بغداد وولّوا مدبرين، وهذه المرّة كانت حقيقة كما ظهر للعيان، وشاهدناه في فضائيات النفاق والبهتان، وليس افتراءً، كما أُتّهم الوزير ابن العلقمي زوراً وبهتاناً بأنّه مالأَ عساكر هولاكو على دخول بغداد(1) .

____________

(1) إتّهام الوزير ابن العلقمي بالخيانة بهذا الشكل لا يستقيم مع الأُسلوب العلمي للبحوث التاريخية وذلك للأسباب التالية:

1 ـ إنّ المغول قطعوا بزحفهم آلاف الأميال ولم يتركوا بلاداً إلاّ اكتسحوها، ولا مدينة إلاّ خرّبوها، ولا قلعة حصينة إلاّ فتحوها، ولم يقف أمامهم شيء، فما هو وجه استثناء بغداد من هذه المعادلة ولا سيّما وأنّها ليست في منطقة وعرة المسالك أو محاطة بالجبال المنيعة حتّى يصعب فتحها، بل في أرض بسيطة وسورها من الطوب والطين، ولذا فإنّ وجود ابن العلقمي أو عدمه لا يغيّر من الأمر الواقع شيئاً.

2 ـ في عام 643 هـ أدار ابن العلقمي معركة ضدّ التتار، وكان يمدّ العسكر الإسلامي بآرائه وتوجيهاته وتدبيراته بما ينتهون إليه ويقفون عنده، فكان النصر حليف المسلمين حتّى مدحه الشعراء، ومنهم ابن أبي الحديد بخصوص هذه الوقعة، كما في شرحه ج 8 ص 240 ـ 243.

3 ـ تهاون الخليفة وإهماله لوصول عسكر هولاكو كما حكاه ابن الطقطقي المعاصر لتلك الفترة في الفخري ص 319 قائلا: فَلَمْ يحرّك ذلك منه عزماً، ولا نبّه منه همّةً، ولا أحدث عنده همّاً، وكان كلّما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال، ولم يكن يتصوّر حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدولة حقّ المعرفة، وكان وزيره مؤيّد الدين ابن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك ويكاتبه بالتحذير والتنبيه، ويشير عليه بالتيقّظ والاحتياط والاستعداد وهو لا يزداد إلاّ غفولا.

=>


الصفحة 119

____________

<=

4 ـ إنّ ما أُشيع من مكاتبة ابن العلقمي للمغول بسبب استباحة محلّة الكرخ الشيعية سنة 654 هـ ليس بصحيح، لأنّ هولاكو زحف نحو بغداد بناءً على أوامر عليا أصدرها إمبراطور المغول مانغوخان سنة 651 هـ بفتح البلاد الغربية التي من ضمنها العراق والشام ومصر، أي قبل حادثة الكرخ بثلاث سنين، الأمر الذي يبطل هذه الدعوى لانتفاء موضوعها.

5 ـ إحاطة الخليفة بحاشية فاسدة مستولية عليه، قال ابن الطقطقي في الفخري ص 318: وكان أصحابه مستولين عليه، وكلّهم جهّال من أراذل العوّام، إلاّ وزيره مؤيّد الدين ابن العلقمي، فإنّه كان من أعيان الناس وعقلاء الرجال، وكان مكفوف اليد، مردود القول، يترقّب العزل والقبض صباح مساء.

6 ـ بلغ استهتار حاشية الخليفة بأُمور الدولة وسياسيتها بمكان، حتّى عدّت تصرّفاتهم من الغرائب التي لا تصدّق، فقد بعث إليهم أحد أُمراء الخليفة كتاباً يقول فيه: إرحموا أرواحكم واطلبوا الأمان، لأنّه لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة.

فأجابوه بكتاب يقولون فيه: من يكون هولاكو؟! وما قدرته ببيت عبّاس من الله ملكهم؟! ولا يفلح من يعاندهم، ولو أراد هولاكو الصلح لما داس أرض الخليفة ولما أفسد فيها، والآن إن كان يختار المصالحة فليعد إلى همذان ونحن نتوسّل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشّعاً في هذا الأمر لعلّه يعفو عن هفوة هولاكو، كما في تاريخ مختصر الدول ـ لابن العبري ـ ص 236، الأمر الذي زاد من تصميم هولاكو على احتلال بغداد.

7 ـ إنّ هولاكو كان قد طلب من الخيلفة النجدة عندما كان يحاصر قلاع الإسماعيلية وينذره بالقدوم إن لم يفعل، ولكن الخليفة لم يهتمّ للأمر بتأثير من حاشيته، وعندما فتح القلاع أرسل رسولا إلى الخليفة يعاتبه، فشاور الوزير ابن العلقمي، فاقترح عليه بذل نفائس الأموال والإبل والجياد والتحف والهدايا في صحبة الرسل الكفاة الدهاة مع تقديم الاعتذار لهولاكو وجعل الخطبة والسكّة باسمه فأُعجب الخليفة برأي الوزير، ولكن الدويدار أثنى الخليفة عن هذا الرأي، فاقتصر على شيء نزر لا قدر له، فغضب هولاكو، وقال: لا بدّ من مجيئه هو بنفسه أو يسيّر أحد ثلاثة نفر، إمّا الوزير وإمّا الدويدار وإمّا سليمان شاه، ولكن الخليفة أرسل ابن الجوزي بمشورة حاشيته، ثمّ تمّ الاتّفاق على إعداد الجيوش على أنّ الخليفة يبذل الأموال ويصرف رواتبهم، فقام الوزير بإعداد الجيش، وبعد خمسة

=>


الصفحة 120

____________

<=

أشهر طلب الوزير من الخليفة صرف رواتبهم، ولكنّه اعتذر ولم يفِ بما وعد، فسرّح الجنود أنفسهم، وظلّ منغمساً في لذّاته ولهوه إلى أن ذهب كلّ شيء.

فقد ذكر المؤرخون أنّه وجد في بركة له من الذهب والكنوز والجواهر ما لم يوصف وجمعت فكانت كالجبل، ووجد عنده سبعمائة سرّية وألف خادمة وغير ذلك من الرقيق والأموال.

فمن خلال ما تقدّم نستنتج، أنّه لم يكن للوزير أي جريرة بالأمر لا من قريب ولا من بعيد سوى حسد خواصّ الخليفة بأجمعهم، وأنّ الذي يُتّهم بالخيانة هو قائد الجيوش مجاهد الدين أيبك الشركسي المعروف بالدويدار الصغير، خصوصاً إذا علمنا أنّه كان قد اتّفق مع طائفة من الأعيان على خلع الخليفة وتولية آخر مكانه، وعندما حذّر الوزير الخليفة من هذه المؤامرة وعاتب الخليفة الدويدار أقنعه بعدم صحّة ذلك وعاد معزّزاً مكرّماً الأمر الذي يعطينا خُبراً بأن الدويدار هو من يتّهم بمخامرة المغول والذي يؤكّد ذلك قتله بعد إمساكه، وهذا دأب المغول مع كلّ الخونة الذين تعاملوا معهم كما ذكره المؤرخون، والذي يزيد ذلك تأكيداً ما فعله المغول عند محاصرتهم لأصفهان عام 633 هـ عندما اتّفق معهم الشافعية على فتح أبواب أصفهان على أن يقتلوا الحنفية، ولكنّ المغول عندما دخلوا بدأوا بالشافعية ثمّ ثنّوا بالحنفية، ثمّ استباحوا المدينة وأحرقوها، كما في شرح ابن أبي الحديد ج 8 ص 237.

وبما أنّ طرفي المعادلة من أهل السُنّة فالأمر لا يستحقّ الذكر مع فداحته.

وقد أنكر عدد من المؤرخين نسبة الخيانة لابن العلقمي، قال ابن الطقطقي في الفخري ص 322، ونسبة الناس إلى أنّه خامر وليس ذلك بصحيح، ومن أقوى الأدلّة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة، فإنّ السلطان هولاكو لمّا فتح بغداد وقتل الخليفة سلّمَ البلد إلى الوزير، وأحسن إليه وحكّمه، فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه.

وقال الزركلي: ونفى عنه بعض ثقات المؤرّخين خبر المخامرة على المستعصم حين أغار هولاكو على بغداد. (الأعلام ج 5 ص 321) .

هذا، وكاد أن يتّفق كلّ من أرّخ لتلك الحقبة على فضله وعلمه وأدبه، ووصفوه بالوقار والنزاهة والعفّه على أموال الديوان، والمعرفة بأدوات الرئاسة، وقد وصفه

=>


الصفحة 121
ولكن يبقى الفعل الأكثر شناعة وهمجية في صحيفته السوداء هو قتل ـ بل قتّلَ ـ صدر الصدور الذي فنّد في فلسفته الكثير من الأفكار الفلسفية الإسلامية التقليدية منها، والماركسية، والرأسمالية، وعطّل الحركة الديالكتيكية في الفكر الماركسي، وعالج أكثر الشكوك الفلسفية التي نشأت في ضوء التطوّر العلمي الحديث في مجالاته الطبيعية والفسيولوجية

____________

<=

سبط ابن الجوزي بأنّه كان فاضلا صالحاً عفيفاً قارئاً للقرآن، ووصفه الخزرجي: بأنّه كان عالماً فاضلا أديباً، حسن المحاضرة، دمث الأخلاق، كريم الطباع، خيّر النفس، كارهاً للظلم، خبيراً بتدبير الملك، ومدحه الشعراء وصنّف له العلماء المصنّفات، وتحتوي خزانته على أكثر من عشرة آلاف مجلّد من نفائس الكتب، فهل يعقل من كانت هذه سيرته ونفسيّته وشخصيّته أن تخامره نفسه بالخيانة؟!

راجع: تاريخ مختصر الدول ـ لابن العبري ـ ص 230 وما بعدها، الفخري في الآداب السلطانية ص 318 وما بعدها، شرح ابن أبي الحديد ج 8 ص 218 وما بعدها، الحوادث الجامعة، أحداث سنة 651 ـ 656، جامع التواريخ ج 2 ق 1 ص 262 ـ 296، الأعيان ج 9 ص 82 ـ 101.


الصفحة 122
والسايكولوجية، ووجّهها إلى الوجهة الصحيحة المؤدّية إلى الإيمان بالصانع المدبّر لهذا الكون.

وأبطل في اقتصاده الماديّة التاريخية الماركسية كنظرية، وأثبت استحالة تطبيق ما يُهدف منها من حيث النتائج المفترضة أو من الناحية التطبيقية، لأنّها ستعود في نهاية الأمر من حيث بدأت في أوّل مراحلها، وواقع الحال أثبت ذلك.

كما دحض الحجج والأساليب والتطبيقات الاقتصادية الرأسمالية كمذهـب، وقطـع الطريق على مـن حاول من رموزه في اعتمـاده كنظرية وفقـاً للأدلّة العلمية القاطعـة، واكتشف المذهب الاقتصـادي الإسلامي مستنداً إلى الكتاب والسُنّـة، فهو يُعدّ بحقّ مؤسس المذهب الاقتصادي الإسلامي الذي يتميّز بأنّـه لا يحمل مساوئ الاقتصادين، الإشتراكي والرأسمالي.

كما أتى في أُسسه المنطقية للاستقراء بما لم تستطعه الأوائل، ذلك الكتاب الذي أدهش نخب العقول، والذي فنّد فيه المنطق الأرسطي ومبادءَه وأثبت عجز نظريات شهيرة قائمة لأقطاب الفكر الغربي أمثال: لابلاس، وكنز، ورسل، وغيرهم بناءً على نظرية الاحتمالات.

وأعاد بناء نظرية المعرفة ووجّهها إلى الوجهة الحقّة وفقاً للأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة، وأثبت أنّ الأُسس المنطقية التي تقوم عليها كلّ الاستدلالات العلمية المستمدّة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأُسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم، عن طريق ما يتّصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير، وبذلك أمكن الاستغناء عن

الصفحة 123
البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجرّدة التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم.

ممّا حدا بأحد مفكّري الغرب إلى القول بأنّ هذا الكتاب يفترض أن يصدر بعد ثلاثمئة عام من تطوّر الفكر البشري.

هذا، فضلا عن كونه صاحب مدرسة أُصولية فرضت نفسها في البحوث العلمية والفقهية وإن رغم البعض.

ذهب ضحية لهمجية صدّام شهيداً مظلوماً، ولم تقتصر مظلوميّته على صدّام، بل حتّى من قبل الوسط الذي ينتمي إليه حسداً وعصبية، بل خذله معظم تلامذته البارزين، فسلامٌ عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

هذه نظرة بسيطة نظرناها بصدور أعيننا، من خلال كوّة صغيرة إلى بعض زوايا التاريخ وصحائفه، ورأينا ما جرى على الشيعة من المحن والإحن، والظلم والجور، وعمليات الإبادة والإستئصال، طيلة أربعة عشر قرناً، وما خفي كان أعظم، هذا الذي ألجأنا إلى التقيّة في بعض الأوقات والأحايين، فلو لم تكن مشرّعة بنصّ الكتاب والسُنّة، لكان لنا ألف عذر وعذر للّجوء إليها من الذي جرى وكان.

وأُقسم بالله قسم صدق لو تعرضت فرقة أو طائفة أو مذهب لبعض ما تعرّض له الشيعة لأصبحت أثراً بعد عين، واسماً بعد رسم، كما حدث للمعتزلة، وغيرهم.

وهم اليوم بحمد الله يبلغ تعدادهم من ربع، على قول المقلّ، إلى ثلث تعداد المسلمين، على قول المكثر، وإنّ أعداد المتحوّلين إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) آخذٌ بالاطّراد، وخصوصاً بين الأوساط الفكرية المتنوّرة

الصفحة 124
وحملة الشهادات العلمية(1) ، لأنّهم وجدوه أفضل المذاهب المنسجمة مع عجلة التطوّر الحضاري والتقدّم العلمي المتسارع، مضافاً إلى أنّهم وجدوا الإجابات الناجعة لكلّ استفهاماتهم المحيّرة عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ،

____________

(1) لا أعني بقولي هذا على إطلاقه، وإلاّ فهناك من غير حملة الشهادات عندما تحاورهم تجد نفسك مأخوذاً منبهراً بما يحملونه من ثقافة وعلم، وعلى النقيض من ذلك تجد كثيراً من حملة الشهادات ليس فيهم شيئاً مميّزاً سوى حمل الشهادة ليس إلاّ، أمّا مبلغه من العلم فَلَيْسٌ، وسوف أنقل شاهداً واحداً لتأكيد ما ادّعيت.

يُعدّ كتاب " المغني " للقاضي عبد الجبار من أهم الكتب الكلامية المتقدّمة، وإن كنّا لا نتّفق معه في كثير من آرائه، والجزء الرابع منه حقّقه الدكتور محمّد مصطفى حلمي، والدكتور أبو الوفا الغنيمي، وراجعه الدكتور إبراهيم مدكور، وأشرف عليه الدكتور طه حسين، ونشر المؤسسة المصرية العامّة للتأليف والأنباء والنشر.

ذكر القاضي في متن صفحة 213: " إنّ المراد بقوله: (إلى ربّها ناظرة) يعني إلى ثواب ربّها ناظرة، وقد رويَ ذلك عن ابن عبّاس، ومجاهد، وعن السندي، وعكرمة ".

وهذا نصّ تعليقة المحقق: " في الأصل (السُدّي) ولعله يعني (السندي) وهو محمّد بن عبد العزيز السندواني المحدّث، المنسوب إلى السندية ببغداد، فغيّروا النسبة، فقالوا: السندواني، للفرق بينه وبين ابن شاهلة السندي صاحب الحرس ".

أيعقل هذا الهذيان والمخرقة من هؤلاء الدكاترة؟! إنّ صغار طلبة العلم والمبتدئين منهم، بل كثير من عموم الناس يعرفون السُدّي المفسّر، المعروف بالسُدّي الكبير، ولا تجد صاحب تفسير من الطبري وحتّى صاحب " المنار " إلاّ وينقل عنه، بل قد لا تجد صفحتين في أيّ كتاب تفسير إلاّ وينقل عنه، وغالباً ما تجد اسمه مقترناً مع مجاهد، وقتادة، وعكرمة وهم من أشهر قدماء المفسّرين.

ثمّ من أعطاهم الحقّ في تغيير أصل المتن حتّى لو افترضنا أنّه غير صحيح فمن باب الأمانة العلمية أن يبقى على حاله، ثمّ يُعلّق بما يُرى صحيحاً في الحاشية.

وليت الأمر اقتصر على هذا فحسب، بل حتّى من سُمّي بابن شاهلة ليس بصحيح، وإنّما هو السندي بن شاهك صاحب سجن الرشيد، فاقرأ وتعجب ثمّ تبصّر واعتبر ولا تغرّنّك سعة الألقاب فلربّما تجد كثيراً من حملتها أجهل من قاضي جُبّل.