وقد ثبت عن جماعة من المفسّرين أنّهم حملوه على ذلك، وقد رواه أصحاب الحديث في كتبهم:
فروى أبو حاتم الرازي بإسناده عن مجاهد، قال: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة) ، قال: حسنة مستبشرة تنتظر الثواب.
وروى الوليد بن أبان في تفسيره بإسناده عن أبي صالح نحوه.
وروى هشام بن عبيد الله الشيبي الرازي، قال: حدّثنا جرير، عن منصور في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة) ، قال: ناضرة من السرور والنعيم والغبطة، تنتظر من ربّها ما أمر لها به.
وروى عمرو بن عبيد الطنافسي، عن منصور، قال: سألت مجاهداً: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة) ، فإنّ أُناساً يزعمون أنّها تنظر إلى ربّها؟ قال: فقال: لا، إنّه لا يراه أحد، ولكنّها ناضرة من الفرح والسرور، وناظرة تنتظر ثوابها.
وروى يونس بن عبيد، عن الحسن: (وجوه يومئذ ناضرة) ، يقول: وجوه يومئذ ناعمة، إلى خير ربّها منتظرة، وذلك مرويّ في تفسير العبّاس بن يزيد النجراني.
وروى الطبراني بإسناده، عن ابن عبّاس في قوله: (وجوه يومئذ
____________
(1) سورة القيامة 75: 22 و 23.
(2) سورة القيامة 75: 24 و 25.
(3) سورة النمل 27: 35.
وهذا التأويل مروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً فيجب حمل الآية عليه(1) .
وقال حسّان بن ثابت:
وجوه ناظرات يوم بدر | إلى الرحمن يأتي بالفلاحِ(2) |
وقال الزمخشري: سمعت سروية مستجدية بمكّة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقايلهم، تقول: عُيينتي نويظرةٌ إلى الله وإليكم(3) ، أي راجية ومتوقّعة الإحسان.
فتحصّل ممّا تقدّم أنّ النظر في هذه الآية هو بمعنى الانتظار والتوقّع والرجاء لا بمعنى الرؤية كما يذهب الأشاعرة، وإلاّ فإنّ الحشوية وأهل الحديث من الحنابلة وغيرهم يستدلّون على الرؤية بمثل ما روي: أنّ يوم القيامة تجيء فاطمة بنت محمّد معها قميص الحسين ابنها تلتمس القصاص من يزيد بن معاوية، فإذا رآها الله تعالى من بعيد دعا يزيد وهو بين يديه، فقال له: ادخل تحت قوائم العرش لا تظفر بك فاطمة، فيدخل ويختبئ، وتحضر فاطمة، فتتظلّم وتبكي فيقول سبحانه: انظري يا فاطمة إلى قدمي، ويخرجها إليها وبه جرح من سهم نمرود، فيقول: هذا جرح نمرود في قدمي وقد عفوت عنه أفلا تعفين أنتِ عن يزيد؟! فتقول هي: اشهد يا
____________
(1) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ج 4 ص 212 ـ 214 نقلا عن كتاب الآثار لجعفر ابن بشر.
(2) تمهيد الباقلاّني ص 312.
(3) الكشّاف ج 4 ص 192.
ومن ضمن حوار لي مع أحد فضلاء الأشاعرة منذ ما يقرب من سبع سنين حول مسألة الرؤية والذي كان لأوّل وهلة مصرّاً على عدم التنازل عن الاعتقاد بها، فقال: كلّ شيء أتنازل عنه إلاّ رؤية ربّي يوم القيامة.
وبعد أن ألزمته بما في القول بالرؤية من مفاسد كالحلول في جهة الملازم للتجسيم والتركيب والاحتياج وهو محال على الله، قال: إنّ الله تعالى يخلق لي يوم القيامة باصرة أنظر بها من جميع الاتّجاهات.
فقلت له: على هذه الحال تكون أنت والناظرين معك في جوف الله تعالى وأحد أحشائه أو يكون هو كالصندوق المقفل وأنت بداخله، وهذا أكثر فساداً من الكون في جهة معينة.
فكان قولي هذا هو الفاصل الذي غيّر اتّجاه تفكيره، ثمّ قلت له: أيّ القولين أقرب إلى تنزيه الله تعالى عن التجسيم والتشبيه، قولنا أم قولكم؟
قال: بل قولكم.
واستمرّ حوارنا ستّ ليال تناولنا فيها مطالب متنوّعة في الأُصول والفروع إلى أن استبصر وهداه الله وله المنّة الحمد.
أمّا ما قيل من حمل الرؤية على الرؤية القلبية فهو خارج عن محلّ النزاع، كما لا يخفى.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟
فقال (عليه السلام) : أفأعبد ما لا أرى؟!
____________
(1) شرح ابن أبي الحديد ج 2 ص 227.
قال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين(1) .
وقال (عليه السلام) : الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدالّ على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أنّ لا شبه له... تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام، بل تجلّى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها(2) .
وفي الحديث محلّ البحث مواضع أُخر للنظر ضربنا عنها صفحاً لتفاهتها.
3 ـ أخرج الشيخان وعبد الرزاق وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : تحاجّت ـ وفي لفظ: اختصمت ـ الجنّة والنار، فقالت النار: أُوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين، وقالت الجنّة: ما لي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم؟! فقال الله تبارك وتعالى للجنّة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنّما أنت عذابٌ أُعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملؤها، فأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع رجله فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عزّ وجلّ من خلقه أحداً، وأمّا الجنّة فإنّ الله عزّ وجلّ ينشئ لها خلقاً(3) .
____________
(1) نهج البلاغة ص 258 خطبة رقم 179.
(2) نهج البلاغة ص 269 خطبة 185.
(3) صحيح البخاري ص 246 ح 344 ـ كتاب التفسير ـ و ج 9 ص 239 ح 75 ـ كتاب التوحيد، صحيح مسلم ج 8 ص 151 ـ 152، مصنّف عبد الرزاق ج 11 ص 422 ح 20893، مسند أحمد ج 2 ص 278 و 314، مسند أبي عوانة ج 1 ص 160 ح 464.
4 ـ روى الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، قال: قال الله عزّ وجلّ: إذا تقرّب عبدي منّي شبراً تقرّبت منه ذراعاً، وإذا تقرّب ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة(1) .
وعلى هذا فلو أتى العبد مهرولا لأتاه الربّ عدواً، ولو أتاه العبد عدواً لأتاه الربّ بصحن طائر، ثمّ بالأحضان.
إنّي لأعجب والله من هذه الصحاح التي تخرج أمثال هذه المناكير والخزعبلات مع ما فيها من لوازم القول بالتجسيم والتشبيه بالإنسان، المستلزم للكفر والعياذ بالله، كما تقدّم.
5 ـ روى البخاري والنسائي والآجري والبيهقي، عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله إنّي رجل شابّ وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوّج به النساء فأذن لي أختصي [برواية حرملة]، فسكت عنّي، ثمّ
____________
(1) صحيح البخاري ج 9 ص 216 ح 34، و ص 279 ح 163، كتاب التوحيد، صحيح مسلم ج 8 ص 62 ـ 63 و ص 66 ـ 67، كتاب الذكر، و ص 91 ـ التوبة، سنن الترمذي ج 5 ص 542 ح 3603، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1255 ح 3822، سنن النسائي الكبرى ج 4 ص 412 ح 7730، مسند أحمد ج 2 ص 251 و 413 و 480 و 500، ومواضع أُخر، مسند أبي يعلى ج 11 ص 479 ح 6601.
وفي هذا الخبر عدّة مواضع للنظر لا يمكن القبول بها لوجوه:
منها: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن إخصاء الخيل والبهائم(2) ، فكيف بالإنسان؟!
ومنها: إنّ الخصاء مثلة وقد نهى (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المثلة(3) .
ومنها: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك أبا هريرة هملا ولم يرشده إلى ما يهديه، كما هو ظاهر لفظ الحديث وهذا خلاف هدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنّه بعث هادياً كما عُلم ضرورة.
ومنها: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بيّن هذا الأمر، وقال: من لم يستطع الباءة فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء(4) .
ومنها ـ وهو أهمّها ـ: قوله: يا أبا هريرة جفّ القلم بما أنت لاق ; أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافّاً لا مداد فيه لفراغ ما كتب به(5) ، وهذا محال ضرورة، فلو كان الأمر على هذه
____________
(1) صحيح البخاري ج 7 ص 7 ح 13، سنن النسائي ج 6 ص 59، الشريعة ص 256 ح 583، سنن البيهقي ج 7 ص 79.
(2) مسند أحمد ج 2 ص 24 وغيرها (3) صحيح البخاري ج 3 ص 271 ح 47 و ج 7 ص 171 ح 49، سنن أبي داود ج 3 ص 53 ح 2667، سنن الدارمي ج 1 ص 279 ح 1658، مسند أحمد ج 4 ص 307 ومواضع أُخر.
(4) متّفق عليه رواه، البخاري ج 7 ص 4 ح 4، ومسلم ج 4 ص 128.
(5) كما في شرح البخاري ـ للقسطلاني ـ ج 11 ص 400 ح 5076.
نعم نحن نؤمن بقضاء الله وقدره ولكن ليس على إطلاقه، بحيث يصبح العبد كالريشة في مهبّ الريح تسيّرها حيث اتّجهت، أو كالإنسان الآلي المبرمج الذي يُسير وفقاً بما غذّي من معلومات، بحيث يصبح لا دخل له ولا إرادة في فعله، والاّ لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، ولأصبحت أوامر الله ونواهيه أقرب إلى العبثية، بل هي العبثية بعينها، نعوذ بالله من هذه الآراء الفاسدة.
كيف يأمرني ربّي بفعل أمر أو ينهاني عن آخر وقد خطّ عليّ خلافه؟! أليس من حقّي أن أقول له (عزّ وجلّ) : لم يا ربّي كتبت عليَّ أن أكون عاصياً وجعلته أمراً محتوماً ولم تكتب وتقدّر لي بأن أكون مطيعاً وكتبت لغيري كذا ولم تكتب لي كذا؟! ولِمَ لَمْ تساوني به وأنت الحكم العدل؟!
إلاّ أنّ أُولي الألباب يقولون: نعم إنّ الله تعالى قدّر كلّ شيء ولكن ليس قدراً حتمياً، وقضى كلّ أمر ولكن ليس قضاءً مبرماً، فإنّه تعالى خلق العبد ومنحه قدرة يتمكّن بها، ووهبه عقلا ينير له المسالك ويميّز به سبل الخير والشرّ، وأمره بفعل الخير ووعده بجزيل الثواب، ونهاه عن الشرّ وحذّره شدّة العقاب، وجعله حُرّاً في اختياره، ولم يجبره على فعل شيء، ولم يكلّفه بما لا يطاق، فإنّه محال، وأرسل الأنبياء هداةً مهديّين، مبشّرين ومنذرين، وما عليهم إلاّ البلاغ المبين، وعلينا الاختيار بين الطاعة والعصيان، وكلٌّ بقضاء الله وقدره، وليس في هذا عزل لله عن سلطانه، وتعطيل لقدرته، ولا تفويض الأمر لعبده، وإنّما أمر بين أمرين، كما ورد
ولا يتخلّف علمه تعالى عن فعل العبد الاختياري كما توهّمه الأشاعرة، لأنّ علمه سبحانه يتعلّق بفعل العبد الاختياري بخصوصيّاته الموجودة فيه وكونه مجبولا بالاختيار، والعلم بالفعل لا يعني الإجبار عليه بالضرورة.
قال تعالى: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) (1) ، وقال تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) (2) ، وقال تعالى: (كلّ امرئ بما كسب رهين) (3) ، وقال تعالى: (كلّ نفس بما كسبت رهينة) (4) ، وقال تعالى: (إنّما تجزون ما كنتم تعملون) (5) ، وتواتر عن النبيّ قوله: إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى(6) ; ولا يخفى أنّ نيّة العبد هي باختياره وإرادته، وبالتالي فهو مختار مريد لعمله لتبعية الأعمال للنيّات بالجملة.
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة، عن أبي خزامة، قال: سألت
____________
(1) سورة الدهر 76: 3.
(2) سورة الأنعام 6: 104.
(3) سورة الطور 52: 21.
(4) سورة المدّثّر 74: 38.
(5) سورة الطور 52: 16.
(6) صحيح البخاري ج 1 ص 2 ح 1، صحيح مسلم ج 6 ص 48، سنن أبي داود ج 2 ص 269 ح 2201، سنن الترمذي ج 4 ص 154 ح 1647، سنن النسائي ج 1 ص 58، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1413 ح 4227، مسند أحمد ج 1 ص 25 و 43.
فهذا النصّ يفيدنا علماً بأنّ الرقية والدواء والتقاة هي بقدر الله، وعدم فعلها أيضاً بقدر الله، ويبقى الإنسان حُرّاً في اختيار أيّ قدر شاء.
ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) للسائل الشامي لمّا سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟... فقال له: ويحك! لعلّك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً! ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إنّ الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلك ظنّ الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار) (2) (3) .
وروى الأصبغ بن نباتة، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ فقال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله(4) .
وروي مثله عن عمر بن الخطّاب عندما قدم الشام وقد وقع بها الوباء، وعندما أراد الرجوع قال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله، فقال
____________
(1) مسند أحمد ج 3 ص 421، سنن الترمذي ج 4 ص 349 ح 2065 و ص 395 ح 2148، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1137 ح 3437، صحيح ابن حبّان ج 7 ص 633 ح 6068 نحوه.
(2) سورة ص 38: 27.
(3) نهج البلاغة ص 481 قصار الكلم رقم 78.
(4) التوحيد ص 369 ح 8، الاعتقادات ص 35.
هذا هو الاعتقاد الصحيح للقضاء والقدر والذي يوافق الكتاب والسُنّة الصحيحة والعقل والفطرة السليمة، لا كما يعتقد ذلك الأصفهاني الذي وجد مع امرأته رجلا فلمّا همّ بها قالت له: ما ذنبي أنا؟! إنّما هو قضاء الله وقدره، فقال لها: بأبي أنتِ وأُمّي إنّك من المؤمنين بالقضاء والقدر، وعفا عنها.
ومن أعجب ما قرأت ما ذكره الدكتور علي الوردي في لمحاته الاجتماعية عن الطاعون الذي حدث في بغداد عام 1831 م، وكان داود باشا قد طلب من طبيب القنصلية البريطانية إعداد منهج للحجر الصحّي بغية منع الوباء من التقدّم نحو بغداد، ولكنّ فقهاء السوء الجهلة أفتوا بأنّ الحجر الصحّي مخالف للشريعة، وتركوا الأمر إلى قضاء الله وقدره، فبدأ الطاعون يحصد الناس حتّى وصل عدد الوفيات يومياً إلى أكثر من تسعة آلاف، ولم يبقَ من سكّان بغداد سوى خمسين ألف بعد أن كانت تعجّ بالملايين(2) .
وهل الذي أوصل الأُمّة إلى هذا المستوى من التخلّف والانحطاط إلاّ هذه العقيدة الفاسدة؟!
6 ـ روى الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم
____________
(1) صحيح البخاري ج 7 ص 238 ح 44، صحيح مسلم ج 7 ص 29، الموطّأ ص 781 ح 22، مصنّف عبد الرزاق ج 11 ص 147 ح 20159، مسند أبي يعلى ج 2 ص 150 ح 837، صحيح ابن حبّان ج 4 ص 265 ح 2942، شرح معاني الآثار ـ للطحاوي ـ ج 4 ص 304، سنن البيهقي ج 7 ص 278، وغيرهم من الحفّاظ.
(2) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج 1 ص 269.
حقّاً قيل: الجنون فنون ; ومن أحد أنواعه رواية هذه السفاسف والخزعبلات والتصديق بها.
ما بال بني إسرائيل يغتسلون عراة وهم أصحاب كتاب؟! ألم ينههم نبيٌّ من الأنبياء من عهد يعقوب وحتّى موسى إلى حرمة هتك الستر؟!
وكيف يهتك الله تعالى ستر نبيّه، والأنبياء منزّهون عمّا يشينهم ضرورة؟!
وما ذنب الحجر وهو لا يعقل حتّى يضربه موسى هذا الضرب المبرّح إذا كان الأمر إلهياً؟!
ومتى وأين رأى أبو هريرة ندب الحجر حتّى يقسم على أنّهنّ ستّة أو سبعة؟!
7 ـ روى الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد، عن أبي هريرة، قال ـ واللفظ لمسلم ـ: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: اللّهم إنّما محمّد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإنّي قد اتّخذت عندك عهداً لن
____________
(1) صحيح البخاري ج 1 ص 129 ح 30 و ج 4 ص 305 نحوه، صحيح مسلم ج 1 ص 183 و ج 7 ص 99، سنن الترمذي ج 5 ص 335 ح 3221، سنن النسائي الكبرى ج 6 ص 437 ح 11424، مسند أحمد ج 2 ص 315.
وهذا باطل ضرورة، لأنّه يوجب كون الملعون أفضل حالا من غير الملعون إذا كانت كلّ لعنة قربة وزكاةً يفوز بها الملعون ويحرمها غيره، فضلا عن أنّه يستلزم فسق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والعياذ بالله، وذلك لقوله (صلى الله عليه وسلم) : سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر(2) ; وكيف يلعن النبي مؤمناً وهو الذي يقول: لعن المؤمن كقتله(3) .
أحقّاً كان رسول الله سبّاباً ولعّاناً؟!
ألم يصفه ربّه عزّ وجلّ قائلا: (وإنّك لعلى خلق عظيم) (4) ؟!
ألم يصفه أنس بن مالك بقوله: لم يكن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) سبّاباً، ولا فحّاشاً، ولا لعّاناً، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه(5) ؟!
ألم يرو أبو هريرة نفسه عنه (صلى الله عليه وسلم) أنّه قيل: يا رسول الله! ادع على
____________
(1) صحيح مسلم ج 8 ص 25 ـ 26، صحيح البخاري ج 8 ص 139 ح 54، سنن الدارمي ج 2 ص 216 ح 2761، مسند أحمد ج 2 ص 243 و ص 488.
(2) صحيح البخاري ج 1 ص 33 ح 47 و ج 8 ص 27 ح 72 و ج 9 ص 90 ح 25، صحيح مسلم ج 1 ص 58، سنن الترمذي ج 4 ص 311 ح 1983 و ج 5 ص 22 ح 2635، سنن النسائي ج 7 ص 121، سنن ابن ماجة ج 1 ص 27 ح 69 و ج 2 ص 1299 ـ 1300 ح 3939 ـ 3941، مسند أحمد ج 1 ص 176 و 385 ومواضع أُخر.
(3) متّفق عليه، رواه مسلم في صحيحه ج 1 ص 73، والبخاري في صحيحه ج 8 ص 27 ح 75، وأحمد في مسنده ج 4 ص 33، والطبراني في الكبير ج 2 ص 72 ح 1326.
(4) سورة القلم 68: 4.
(5) صحيح البخاري ج 8 ص 23 ح 59 و ص 27 ح 74، مسند أحمد ج 3 ص 126 و ص 144 و ص 158.
نعم، هو بشر ولكن لا يغضب كالبشر، وإنّما يغضب لله ويلعن من هو أهلٌ للّعن، ولا يسبّ إلاّ من يستحقّ السبّ كما هو مقتضى عصمته ضرورة، وواضح أنّ أبا هريرة وضع هذا الحديث ليقرّبه من بني أُميّة زلفى بعد أن استفاض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن الشجرة الملعونة في القرآن، وبني الحكم الذين رآهم ينزون على منبره نزو القردة.
8 ـ روى الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد، عن أبي هريرة، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: قال سليمان بن داودعليهما السلام: لأطوفنّ الليلة على مئة امرأة أو تسع وتسعين كلّهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم يحمل منهنّ إلاّ امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل، والذي نفس محمّد بيده لو قال ان شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون(2) .
في هذا الحديث مواضع للنظر:
منها: إنّ الليلة حتّى إن كانت أطول ليلة شتائية، فإنّ وقتها لا يسع لمواقعة مئة امرأة، فهو بحاجة إلى ليلتين أخريين في أقلّ تقدير.
____________
(1) رواه مسلم في صحيحه ج 8 ص 24، والبخاري في الأدب المفرد ص 101 ح 324، وأبو يعلى في مسنده ج 11 ص 35 ح 6174، بل خصّص مسلم باباً في صحيحه ج 8 ص 23 تحت عنوان "النهي عن لعن الدوابّ وغيرها" من كتاب البرّ والصلة والآداب.
(2) صحيح البخاري ج 4 ص 79 ح 35 و ج 7 ص 69 ح 171 و ج 8 ص 262 ح 13 ومواضع أُخر، صحيح مسلم ج 5 ص 88، سنن الترمذي ج 4 ص 92 ح 1532، سنن النسائي ج 7 ص 25، مسند أحمد ج 2 ص 229 و ص 275، مسند أبي عوانة ج 4 ص 52 ـ 53 ح 5999 ـ 6001.
ومنها: لماذا لم يقل سليمان (عليه السلام) إن شاء الله وهو نبي، ولا سيّما بعد أن نبّهه صاحبه أو الملك في بعض النصوص؟! هل هو استكبار وتحدٍّ لله أو تهاونٌ واستخفافٌ به عزّ وجلّ؟ أم جهلٌ من سليمان ـ وحاشاه من الجهل ـ.
ومنها: ما هذا التوافق عندهنّ في نزول البويضة واستعدادهنّ للإخصاب في هذه الليلة؟!
ومنها: ماذا يريد بقوله (شق رجل) وفي لفظ (نصف رجل) ؟! هل هو بساق واحدة ويد واحدة ونصف بطن ونصف صدر ونصف رأس؟! هل تصدق عليه خرافة النسناس؟! أم ماذا؟! نعوذ بالله من هذا الهذيان والتخريف.
9 ـ روى الشافعي، عن أبي هريرة أنّه قال: رأيت هنداً بمكّة كأنّ وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمرّ رجل فنظر إليه فقال: إنّي لأرى غلاماً إن عاش ليسودنّ قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلاّ قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان(1) .
وفيه مواضع للنظر:
منها: إنّ أبا هريرة عندما رأى هنداً ـ إن كان رأها ـ فبعد فتح مكّة، وهي في هذا الوقت لم يكن وجهها كفلقة قمر، بل كانت عجوزاً شمطاء قد تجاوزت الستّين إن لم نقل السبعين.
____________
(1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ج 70 ص 174، والزمخشري في ربيع الأبرار ج 4 ص 217، والحافظ ابن كثير في تاريخه ج 8 ص 95، وغيرهم.
ومنها: كيف لعاقل أن يصدّق بأنّ عجيزة المرأة مهما عظمت تنطوي وراءَها بحيث تصبح مثل الرجل الجالس؟!
10 ـ أخرج أحمد وابن قتيبة وابن عساكر وغيرهم، عن أبي هريرة: إنّ مقعد الحوراء قدر ميل من الأرض ـ وفي لفظ: عجيزة الحوراء أنّها ميل في ميل، وفي لفظ: جالسة على كرسي ميل في ميل قد خرج عجيزتها من جوانب الكرسي(1) ـ.
إذاً ما أحوج أبا هريرة يوم القيامة إلى جردان أعظم من برج بيزا الإيطالي بثلاثة أضعاف أو ضعفَي أحد برجَي كوالالمبور في أقلّ تقدير حتّى يتمّ التناسب والتناسق، وكأنّه لم يسمع قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (2) ، وقوله: (وصوّركم فأحسن صوركم) (3) ، وقوله تعالى: (وكلّ شيء عنده بمقدار) (4) الذي يبيّن بأنّه تعالى اختار الجسم الأمثل والصورة الأفضل للإنسان، فتصوّر لو أصبح طول الإنسان على قدر النصف أو ضعف ما هو عليه من متوسّط طوله الطبيعي ماذا يكون الحال؟! فكيف إذا أصبح طوله بحدود ستّة أميال وفقاً لمؤدّى
____________
(1) مسند أحمد ج 2 ص 537، تأويل مختلف الحديث ص 20، تاريخ دمشق ج 34 ص 137، تفسير ابن كثير ج 4 ص 136، مجمع الزوائد ج 10 ص 400 ووثق رجاله، الدر المنثور ج 1 ص 99.
(2) سورة التين 95: 4.
(3) سورة غافر 40: 64.
(4) سورة الرعد 13: 8.
11 ـ روى الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة ـ واللفظ لمسلم ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لا تقوم الساعة حتّى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة ; وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة ـ وفي لفظ البخاري: وذو الخلصة طاغية دوس التي كان يعبدون في الجاهلية(1) ـ.
وفيه مواضع للنظر:
منها: إنّ ذو الخلصة كان صنماً لقبيلة خثعم وليس لدوس وبينهما تباين في النسب، وقد هُدم في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كغيره من الأصنام، وحكى المبرّد أنّ موضع ذي الخلصة صار مسجداً كما في فتح الباري(2) ، واحتمل بعضهم التعدّد ولكنّه ليس بنافع.
ومنها: إنّه لم يحدث من هذا شيء طيلة أربعة عشر قرناً، ولو فرضنا جدلا أنّه سيحدث ـ وأنّى يحدث ـ إلاّ أنّه ليس تحت عنوان نساء دوس، فهذا أمر قد غبر، ودثر ذو الخلصة وغيره إلى الأبد إن شاء الله تعالى.
ومنها: ألا تعجبون معي من سرّ اهتمام أبي هريرة بأليات النساء وعجيزاتهنّ في الدنيا والآخرة؟!
12 ـ روى البخاري وغيره، عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: إنّي محتاج وعليّ عيال ولي
____________
(1) صحيح مسلم ج 8 ص 182، صحيح البخاري ج 9 ص 105 ح 60، مسند أحمد ج 2 ص 271، مصنّف عبد الرزاق ج 11 ص 379 ح 20795، السُنّة ـ لابن أبي عاصم ـ ص 38 ح 77 و 78.
(2) فتح الباري ج 8 ص 89.
قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخلّيت سبيله.
قال: أما إنّه قد كَذَبَك وسيعود.
فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إنّه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: دعني فإنّي محتاج وعليّ عيال لا أعود، فرحمته فخلّيت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟
قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخلّيت سبيله.
قال: أما إنّه قد كَذَبَك وسيعود.
فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهذا آخر ثلاث مرّات أنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود.
قال: دعني أُعلّمك كلمات ينفعك الله بها.
قلت: ما هو؟
قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم، حتّى تختم الآية، فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ لا يقربنّك شيطان حتّى تُصبح.
فخلّيت سبيله، فأصحبت، فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ما فعل أسيرك؟
قلت: يا رسول الله زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سبيله.
قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أوّلها حتّى تختم الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتّى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير.
فقال النيّ (صلى الله عليه وسلم) : أما إنّه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟
قال: لا.
قال: ذاك شيطان(1) .
قلت: هذه أساطير الأوّلين، وسمادير الممسوسين، أوحت بها الشياطين، إلى أوليائهم المقرّبين، وأصفيائهم المختارين ليحدّثوا بها المسلمين، بعد أن ينسبوها إلى رسول ربّ العالمين، ويرويها الحشويون والكاذبون، ويصدّق بها الحمقى والمغفلون، ويُبتلى بها الباحثون والمحقّقون، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ويظهر هنا أنّ أبا هريرة نسي أن يذكر أنّ نبي الله سليمان (عليه السلام) أوكله أيضاً بمسك الشياطين، ولكنّه لم يلتزم بهذه الوكالة وخان الأمانة، فأطلق سراح الشيطان ثلاث مرّات بعد أن سخر منه وجعله أُلعوبة يلعب به، كما خان الأمانة التي أوكله عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرّات وترك الشيطان يأخذ من الطعام الذي أوكله عليه.
هذا فضلا عن أنّه أكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرّات، ولم يلتفت
____________
(1) صحيح البخاري ج 3 ص 204 كتاب الوكالة، سنن النسائي الكبرى ج 6 ص 238 ح 10795، صحيح ابن خزيمة ج 4 ص 91 ـ 92 ح 2424، دلائل البيهقي ج 7 ص 107.