والوجه الثاني: أنّه منع منها الشرع دون العقل، ثمّ اختلف من قال بهذا، فقال ابن سريج: إنّ الذي يمنع منه أنّ الشرع لم يرد به... وقال أبو حامد الأسفرائيني: الشرع منع منه ولم يكن مجوّزاً فيه.
واحتجّ من جوّز بالعقل أنّه لو لم يجز لكان لنا أن لا نجوّز في القدرة أو في الحكمة.
والأوّل: لا يجوز لأنّه معلوم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) كان يقدر على أنواع الكلام، ولو أتى بكلام موضوع لرفع حكم من أحكام الكتاب صحّ ذلك ودلّ على ما هو موضوع له.
والثاني: لا يجوز أيضاً لأنّه لو امتنع في الحكمة لكان وجه امتناعه أن يكون منفّراً عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وموهماً أنّه (عليه السلام) يأتي بالكلام من قبل نفسه وهذا لو نفّر عنه لنفر عنه من حيث أن أزال حكماً شرعياً وأوهوم أنّه أُوحي إليه بإزالته، وهذا قائم في نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السُنّة بالسُنّة...
إلى أن قال: وأمّا دليلنا قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) والسُنّة لا تكون مثل القرآن ولا خيراً منه، فوجب أن لا يجوز النسخ بها، وأيضاً فإنّه تعالى قال: (نأت بخير منها أو مثلها) فهذا يدلّ على أنّه هو المتفرّد بالإتيان بخير من الآية وذلك لا يكون إلاّ نسخاً، والناسخ قرآن، وأيضاً فإنّه تعالى قال: (نأت بخير منها) وقوله: (منها) يفيد أنّه يأت من جنسه، وجنس القرآن قرآن، والإستدلال بالآية معتمد يدلّ عليه أنّه تعالى ساق الآية إلى قوله: (ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) وهذا يدلّ أنّ غيره يعجز عنه.
قلنا: إذا دلّ الدليل على نسخ القرآن بالسُنّة فالذي أتى بذلك هو الله عزّ وجلّ، ألا ترى أنّ الله هو الناسخ على لسان نبيّه (صلى الله عليه وسلم) كما أنّه هو المثبت لسائر الشرائع على لسان نبيّه (صلى الله عليه وسلم) .
قالوا: وعلى هذا سقط تعلّقكم بقوله تعالى: (ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) إنّ الله تعالى إذا كان هو الناسخ في الحقيقة على لسان نبيّه (صلى الله عليه وسلم) فالقدرة في ذلك له دون غيره، وأمّا قولهم إنّ قوله: (نأت بخير منها) يقتضي أن يكون ما يأتي من جنسه.
قال: هذا لا يفيد ما قلتم، فإنّ الإنسان إذا قال: ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه، احتمل أن يأتيك بثوب ويحتمل أن يأتيك بشيء آخر، وإذا أتاه بشيء آخر هو أنفع منه سواءً كان ثوباً أو غيره، فقد صدق في قوله ووعده، ثمّ ذكروا سؤالا آخر حكوه عن أبي هاشم ثمّ المتكلّم، وهو أنّ قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) ، ليس فيه أنّه يأت بخير منها ناسخاً، بل لا يمتنع أن يكون الذي يأتي به ممّا هو خير منها، أنّه في حكم آخر بعد نسخ الآية، ويكون الناسخ غير الآية.
الجواب:
إنّ الإستدلال بالآية قائم، ونقول على سؤالهم الأوّل: إنّ قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) يقتضي أنّ الذي يأتي به خير من الآية
فإن قيل: إذا دخلتم في أمثال هذا فلا يتصوّر أن يأتي بخير من الأوّل بحال، وإن نسخ القرآن بالقرآن، لأنّ القرآن لا تكون بعض آياته خيراً من البعض.
قلنا: يجوز أن يكون في الثواب أو في إظهار الإعجاز أمثل بتوقّي الإخلاص والإخلاص أكثر في الثواب من غيره وقوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) (1) أبلغ في الإعجاز من غيره، فإذا نسخ القرآن بالقرآن يجوز أن يظهر الخيرية المطلقة، فأمّا إذا نسخ القرآن بالسُنّة فلا يظهر الخيرية المطلقة، لأنّه إن كان خيراً في الثواب فالقرآن خير منه في نفسه في الإعجاز، فإنّه كلام الله عزّ وجلّ وإنّه ينال الثواب بقراءته إلى غير ذلك.
قال الخطّابي: إنّ الشيء إذا أُطلق أنّه خير من الشيء فلا يجوز أن يكون دونه على وجه من الوجوه.
أما قولهم: إنّا إذا نسخنا القرآن بالسُنّة فيكون الذي يأتي بالناسخ هو الله عزّ وجلّ أيضاً، قلنا: لا ننكر هذا لكنّ الحكم المضاف إلى الله تعالى في حقّ الظاهر والإطلاق هو ما أوجبه في كتابه وافترضه نصّاً فيه، وأمّا
____________
(1) سورة هود 11: 44.
هذا كما إنّ الوحي يختلف، فمنه ما يكون رؤيا ومنه ما يكون إلهاماً ونفثاً في الروح، ووحي الكتاب مخالف لكلّ هذا، إذ هو الأعلى والمتقدّم على سائر أنواعه، كذلك هاهنا يكون الحكم الثابت بالكتاب ثابت على وجوه ما يثبت به.
أمّا قولهم على قولنا: إنّ قوله: (بخير منها) يقتضي أن يكون من جنسه، أنّه يجوز أن يكون من جنسه ويجوز أن يكون من غير جنسه والاستشهاد الذي قالوه.
قلنا: لا، بل يفيد أن يكون الذي يأتي به من جنس الأوّل وهذا الذي يفهم عند إطلاق ذلك اللفظ، فأمّا قول القائل: ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه، إنّما يفيد ما ذكرتم لأنّه ذكر لفظ ما، وهذا اللفظ يقع على الثوب وعلى غيره وليس كذلك الآية، لأنّ الله تعالى لم يقل: بما هو خير منها، وإنّما قال: (نأت بخير منها) ، فنظير قول القائل: ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه، وهو مفيد ثوباً خيراً من الثوب الأوّل.
وأمّا الذي نسبوه إلى أبي هاشم من السؤال، فليس بشيء، لأنّه خلاف قول المفسّرين، بل خلاف قول جميع الأُمّة، وقد قال كلّ من تكلّم في هذه الآية من العلماء: إنّ الآية التي تأتي هاهنا هي الناسخة والأُخرى هي المنسوخة، وهذا السؤال من أبي هاشم سؤال جدلي لا يجوز أن يعترض به على إجماع المفسّرين.
ونقول أيضاً على قولهم: إنّ ما يثبت بالسُنّة قد يكون أنفع وأفضل في الثواب.
ثمّ قال: وأمّا تعلّقهم بالمواضع التي استدلّوا بها في وجوب نسخ الكتاب بالسنّة فهي دلائل ضعيفة وسنبيّن الكلام على واحد واحد من ذلك... إلى آخره(2) .
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في اللمع: وأمّا نسخ القرآن بالسُنّة: فلا يجوز من جهة السمع، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز من جهة السمع ولا من جهة العقل....
والدليل على أنّه لا يجوز من جهة السمع قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) والسُنّة ليست من مثل القرآن، ألا ترى أنّه لا يثاب على تلاوة السُنّة كما يثاب على تلاوة القرآن، ولا إعجاز
____________
(1) سورة يونس 10: 15.
(2) قواطع الأدلّة في الأُصول ج 1 ص 450 ـ 454.
وقال أيضاً في التبصرة: لا يجوز نسخ القرآن بالسُنّة آحاداً كانت أو متواترة، مستدلاّ بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ، وقال: فأخبر أنّه لا ينسخ آية إلاّ بمثلها، أو بخير منها، والسُنّة ليست مثل القرآن، ولا هي خير منه، فوجب أن لا يجوز النسخ بها.
فإن قيل: المراد نأت بخير منها أو مثلها في الثواب، وقد يكون في السُنّة ما هو خير من المنسوخ في الثواب.
قيل: هذا لا يصلح لوجوه:
منها: إنّه قال: (نأت بخير منها) ، وهذا يقتضي أن يكون هو الذي يأتي به، والسُنّة إنّما يأتي بها النبيّ (عليه السلام) .
ولأنّه قال في سياق الآية: (ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) والذي يختصّ الله بالقدرة عليه هو القرآن.
ولأنّه قال: (نأت بخير منها أو مثلها) وهذا يقتضي أن يكون المثل من جنس المنسوخ، كما إذا قال: لا آخذ منك ثوباً إلاّ أُعطيك خيراً منه، اقتضى خيراً منه من جنسه.
ولأنّ المثل يقتضي أن يكون مثله من كلّ وجه، والسُنّة قطّ لا تماثل القرآن في الثواب في تلاوته، ولا في الدلالة على صدق النبيّ (عليه السلام) بنظمه.
فإذا قيل: لو كانت السُنّة لا تماثل القرآن، فالقرآن أيضاً لا يكون بعضه خيراً من بعض، فيجب أن يكون المراد به الأحكام.
قيل: قد يكون بعض القرآن خيراً من بعض فى الثواب، ألا ترى أنّ
____________
(1) اللمع في أُصول الفقه ص 59 ـ 60.
فإن قيل: قوله: (نأت بخير منها) ليس فيه أنّ ما يأتي به هو الناسخ ويجوز أن يكون الناسخ غيره.
قلنا: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) شرط، وقوله: (نأت بخير منها) جزاء، ولهذا جزم قوله: (ما ننسخ) ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ما يأتي به لأجله وبدلا عنه، كما إذا قال: ما تصنع أصنع، وما أخذُه أُعط مثله، اقتضى أن يكون الجزاء لأجل الشرط وبدلا عنه، فدلّ على أنّه هو الناسخ.
فإن قيل: النسخ إنّما يقع في الحكم لا في التلاوة، ولا مفاضلة بين حكم الكتاب وحكم السُنّة، وإنّما المفاضلة بين لفظيهما، والنسخ لا يقع إلاّ في اللفظ.
قيل: الخلاف في نسخ التلاوة والحكم واحدة، فإنّ عندهم لو تواترت السُنّة بنسخ التلاوة وجب النسخ بها ولا ممّاثلة بينهما، وعلى أنّ نسخ الحكم أيضاً يقتضي نسخ الآية، ألا ترى أنّه إذا نسخ الحكم الآية قيل هذه آية منسوخة؟! فيجب أن لا يكون ذلك إلاّ بمثلها أو بخير منها.
ويدلّ عليه: هو أنّ السُنّة فرع للقرآن، ألا ترى أنّه لولا القرآن لما ثبتت السُنّة؟! فلو جوّزنا نسخ القرآن بها لرفعنا الأصل بفرعه، وهذا لا يجوز، ولأنّ السُنّة دون القرآن في الرتبة، ألا ترى أنّها لا تساويه في الإعجاز في لفظه، ولا في الثواب في تلاوته؟! فلم يجز نسخه بها.
واحتجّوا بقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم) (1) والنسخ بيان للمنزل، فيجب أن يكون ذلك بياناً له.
والجواب: هو أنّ البيان يراد به الإظهار والتبليغ، ألا ترى أنّه علّقه على جميع القرآن، والنسخ لا يجوز أن يتعلّق بجميع القرآن؟! فدلّ على أنّ المراد به ما ذكرناه.
ولأنّ النسخ ليس بياناً للمنسوخ، وإنّما هو إسقاط ورفع، فلا يدخل في الآية.
قالوا: ولأنّه دليل مقطوع بصحّته فجاز نسخ القرآن به كالقرآن.
قلنا: هذا يبطل بالإجماع، فإنّه مقطوع بصحّته، ثمّ لا يجوز النسخ به.
وعلى أنّه لا يمتنع أن يتساوى القرآن والسُنّة في القطع، ثمّ يجوز النسخ بأحدهما دون الآخر، ألا ترى أنّ الخبر والقياس يتساويان في أنّ كلّ واحد منهما مظنون، ثمّ يصحّ النسخ بأحدهما دون الآخر.
ثمّ المعنى في القرآن أنّه يماثل المنسوخ في التلاوة والإعجاز، فجاز نسخه به، وليس كذلك هاهنا، فإنّ السُنّة دون القرآن في الثواب والإعجاز فلم يجز نسخه بها.
قالوا: ولأنّ النسخ إنّما يتناول الحكم والكتاب والسُنّة المتواترة في إثبات الحكم واحد، وإن اختلفا في الإعجاز، فيجب أن يتساويا فى النسخ.
قلنا: هما وإن تساويا في إثبات الحكم إلاّ أنّ أحدهما أعلى رتبة من
____________
(1) سورة النح 16: 44.
قالوا: ولأنّ المانع من ذلك لا يخلو، إمّا أن يكون فضله على السُنّة في الثواب، أو فضله عليها في الإعجاز، ولا يجوز أن يكون المانع بفضل الثواب، لأنّه يجوز نسخ أكثر الآيتين ثواباً بأقلّهما ولا يجوز أن يكون المانع فضل الإعجاز، لأنّه يجوز نسخ الآية المعجزة بالآية التي لا إعجاز فيها، وإذا بطل هذا الوجهان لم يبق ما يتعلّق به المنع، فوجب أن يجوز.
قلنا: المانع عندنا معنىً آخر، وهو رفع كلام الله تعالى بغير كلامه، وهذا لم يدلّوا على إبطاله، أو المانع من ذلك رفع الأصل بفرعه، وهذا أيضاً لم يدلّوا عليه.
ولأنّا لو جعلنا المانع ما ذكروه من فضل القرآن على السُنّة بالإعجاز لصحّ، وما ذكروه من نسخ الآية المعجزة بغير المعجزة، لا يصحّ، لأنّ الناسخ كالمنسوخ في الإعجاز، ألا ترى أنّ كلّ واحد منهما إذا طال وكثر كان معجزاً، وإذا لم يطل لم يكن معجزاً؟!
واحتجّ من أجاز النسخ بأخبار الآحاد خاصّة: أنّ ما جاز نسخ السُنّة به، جاز نسخ القرآن به، كالقرآن.
والجواب: هو أنّه ليس إذا جاز أن يسقط به مثله، جاز أن يسقط به ما هو أقوى منه، ألا ترى أنّ القياس يجوز أن يعارض مثله، ولا يجوز أن يعارض الخبر؟!
قالوا: ولأنّ النسخ إسقاط لبعض ما يقتضيه ظاهر القرآن، فجاز بالسُنّة، كالتخصيص.
ولأنّ التخصيص إسقاط بعض ما اشتمل عليه اللفظ بعمومه، فجاز تركه بخبر الواحد، وليس كذلك النسخ، فإنّه إسقاط اللفظ بالكلّيّة، فلم يجز بما دونه.
قالوا: ولأنّه إذا جاز النسخ إلى غير بدل، فجوازه إلى بدل ثبت بلفظ دونه أَوْلى.
قلنا: لو كان هذا صحيحاً، لوجب أن يجوز بالقياس، فيقال: إنّه إذا جاز رفعه إلى غير بدل، فلأن يجوز إلى بدل يثبت بالقياس أَوْلى.
ولأنّ النسخ إلى غير بدل لا يؤدّي إلى إسقاط القرآن بما دونه، لأنّه يجوز أن يكون قد نسخ بمثله أو بما هو أقوى منه، والنسخ بالسُنّة يؤدّي إلى إسقاط القرآن ورفعه بما هو دونه، وهذا لا يجوز(2) .
هذه بعض أقوال وحجج أعلام أهل السُنّة وأئمّتهم بما فيهم أئمّة المذاهب سوى أبي حنيفة وهو في عداد أهل الرأي، وارتأينا أن نأتي باستدلالهم وردودهم حتّى يكون أبلغ في الحجّة وأقطع للعذر، في ردّ قول القائلين بجواز نسخ الكتاب بالسُنّة.
على أنّ أغلب القائلين بجوازه هم جوّزوه عقلا لا شرعاً وهم بعض الأشاعرة وأصحاب الرأي والكلام، وقليلٌ منهم قالوا بوقوعه سمعاً، ولكن حتّى هذا ليس بتامّ وفق قواعدهم وأُصولهم، وسنردّ عليه نقضاً وحلاّ.
____________
(1) لا يخفى أنّ القياس عندنا ليس بحجّة.
(2) التبصرة في أُصول الفقه ص 264 ـ 269.
إنتقاض أصل المجوّزين للنسخ عقلا:
ونقول للقائلين بجوازه عقلا: إنّ قولكم هذا مخالف لما هو معروف من أصلكم الذي اعتمدتم عليه وبنيتم عليه أُسس عقائدكم من عدم اعتبار جهة العقل في إثبات أهمّ المسائل الأُصولية، وإنّما باعتبار السمع، فقد أوجبتم النظر سمعاً لا عقلا(1) ، وخالفتم بذلك جميع العقلاء، وقلتم: إنّ معرفة الله واجبة بالسمع لا بالعقل(2) مع ما يوجبه من لزوم الدور، المعلوم بطلانه بالضرورة، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة المُوجِب، فإنّ من لا نعرفه بشيء من الاعتبارات ألبتّة، نعلم بالضرورة أنّا لا نعرف أنّه أوجب، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال.
وأثبتّم له سبحانه وتعالى صفات خبرية كالوجه، والعين، واليد، والأصابع، والساق، والحقو، والنزول، والصعود، والضحك، والرؤية، وغيرها، من جهة السمع مع استحالة ذلك عقلا، لما يوجبه من التجسيم والتركيب والحلول والكون في جهة أو مكان، وهو محال ضرورة.
وأنكرتم الحسن والقبح العقليّين، وقلتم الحسن ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع، وأنّ العقل لا يحكم بحسن الشيء ألبتّة ولا بقبحه(3) ، مع ما فيه من لزوم محالات عدّة، وجوّزتم التكليف بما لا يطاق
____________
(1) الملل والنحل ج 1 ص 88، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ص 64 ـ 65، شرح المقاصد ج 1 ص 262، شرح المواقف ج 1 ص 270 ـ 271.
(2) الملل والنحل ج 1 ص 88، المواقف ص 28، شرح المواقف ج 1 ص 270 ـ 271.
(3) أربعين الفخر الرازي ج 1 ص 346 ـ 349، المواقف ص 323، شرح المقاصد ج 4 ص 282.
وبنيتم أساس عقائدكم في القضاء والقدر من جهة السمع لا العقل، وجوّزتم المعاصي على الأنبياء سمعاً(2) ، مع استحالة ذلك عقلا ومنعه شرعاً، واعتبرتم تصديق الأنبياء ومعاجزهم من جهة السمع لا العقل(3) ، مع ما فيه من لزوم الدور، لأنّ تصديق النبيّ يتوقّف على العلم بصدقه، والعلم بصدقه يتوقّف على العلم بصحّة معجزته، والعلم بصحّة معجزته يتوقّف على العلم بصدقه، ولا يمكن حلّ هذه المعضلة إلاّ بالنظر الواجب بالعقل والاعتقاد بالحسن والقبح العقليَّين.
ولطالما تذرّعتم عندما تضيق عليكم دائرة الحجاج بقولكم: جرت عادة الله على ذلك، حتّى لا ينتقض أصلكم الذي اعتمدتم عليه في اعتبار جهة السمع والمنع من ذلك عقلا، فما الذي دهاكم هذه المرّة حتّى تنحنحتم وحككتم عثانينكم وأشحتم بأبصاركم، وقلتم بجواز نسخ الكتاب عقلا مع قولكم بعدم وقوعه شرعاً، وخالفتم أصلكم بمنع اعتبار العقل؟!
ومن جهة أُخرى كيف يستقيم قولكم هذا مع قولكم بقدم كلام الله سبحانه وتعالى؟!(4) ، أليس في هذا تناقض واضح؟!
____________
(1) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ص 293 و 295، المواقف ص 330 ـ 331، شرح المقاصد ج 4 ص 294.
(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ص 320، المواقف ص 359، شرح المواقف ج 8 ص 264 ـ 265.
(3) أربعين الفخر الرازي ج 2 ص 101 ـ 102، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ص 305 ـ 306، المواقف ص 341 ـ 342.
(4) اللمع ـ للأشعري ـ ص 36، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ج 1 ص 82، أربعين الفخر الرازي ج 1 ص 250 ـ 258، المواقف ـ للأيجي ـ ص 293.
تفنيد أدلّة المجوّزين شرعاً:
وأمّا الموارد التي استشهدوا بها فلا يخفى ما فيها من ضعف وركاكة كما سنبينه، على أنّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا توجب عملا.
1 ـ قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين) (1) .
فقد ادُّعي أنّها منسوخة بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا وصية لوارث(2) ، وادّعى آخرون أنّها منسوخة بآية المواريث، والصحيح أنّ الآية محكمة ولا تعارض بينها وبين آية المواريث أو الخبر، لأنّ الآيات قد دلّت على أنّ الميراث مترتّب على عدم الوصيّة، بل فيها تأكيد على تقديم الوصية مطلقاً، أمّا حديث (لا وصية لوارث) ، فمع غضّ النظر عن الخدشة في سنده، فلا يقتضي إلاّ الظنّ، وليس هناك تناف بينه وبين الآية، فغاية ما يفيد أن يكون مقيّداً لإطلاق الآية، فتختصّ الوصية بالوالدين إذا لم يستحقّا الإرث لمانع، وبمن لا يرث من الأقربين، مع أنّه معارض بما رويَ عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: سألته عن الوصية للوارث، فقال: تجوز.
____________
(1) سورة البقرة 2: 180.
(2) سنن الترمذي ج 4 ص 377 ح 2120 و 2121، سنن النسائي ج 6 ص 247، سنن ابن ماجة ج 2 ص 905 ح 2712 و 2713، مسند أحمد ج 4 ص 186، 238، وانظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 141.
قيل: نسخت بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام، والثيّب بالثيّب جلد مئة والرجم(2) .
وليس في ذلك نسخ، قال ابن قدامة: إنّ الله سبحانه أمر بإمساكهنّ إلى غاية يجعل لهنّ سبيلا، فبيّن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أنّ الله جعل لهنّ السبيل، وليس ذلك بنسخ(3) ، وقد حمل بعضهم لفظ الفاحشة على خصوص المساحقة، وقيل: إنّ الحكم في الآية منسوخ بالحدّ المفروض في قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مئة جلدة) (4) ، وإليه ذهب الحسن البصري ومجاهد وقتاة والضحّاك وغيرهم، والله العالم.
وعلى كلّ حال، فلا يمكن قبول القول بنسخ الآية بهذا الحديث، لأنّه أمارة ظنّيّة والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
3 ـ قوله تعالى: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) (5) .
قيل: نسخت بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اقتلوا ابن خطل ولو كان متعلّقاً بأستار
____________
(1) سورة النساء 4: 15.
(2) صحيح مسلم ج 5 ص 115، سنن الترمذي ج 4 ص 32 ح 1434، سنن ابن ماجة ج 2 ص 852 ـ 853 ح 2550، مسند أحمد ج 5 ص 320، وانظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 214.
(3) روضة الناظر ج 1 ص 263.
(4) سورة النور 24: 2.
(5) سورة البقرة 2: 191.
وقيل: إنّها نسخت بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (2) .
والصحيح أنّ الآية محكمة، ولا مانع من تخصيصها بحالة خاصة مثل قتل عبد الله بن خطل لعظم جرمه، على أنّها من مختصّات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لكلّ أحد، كما أنّه خبر ظنّي لا يثبت به النسخ.
أمّا بالنسبة للقول بنسخها بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين...) فلا نسخ أيضاً، لأنّ الأُولى مخصّصة لعموم الثانية، وتُحمل على قتال المشركين في غير الحرم إلاّ أن يبدأوا هم بالقتال.
4 ـ قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أُوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير...) (3) .
قيل: نسخت بما روي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السباع، وكلّ ذي مخلب من الطيور(4) .
والصحيح لا نسخ فيها لأنّها إخبار، والنسخ لا يقع في الجملة الخبرية، والآية بصدد بيان عدم حرمة ما حرّمه المشركون على أنفسهم كما يظهر من سياق الآيات السابقة لها.
كما أنّه لا مانع من تخصيص عموم الآية بما ذكر، قال الإمام أبو
____________
(1) سنن الدارمي ج 2 ص 51 ح 1937، و ص 153 ـ 154 ح 2454، وانظر: التبصرة في أُصول الفقه ص 270.
(2) سورة التوبة 9: 5.
(3) سورة الأنعام 6: 145.
(4) مسند أحمد ج 1 ص 332، سنن النسائي ج 7 ص 200، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1077 ح 3234، وانظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 288.
5 ـ قوله تعالى: (وأُحلّ لكم ما وراء ذلكم) (2) .
قيل: نسخت بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها.
قال أبو إسحاق الشيرازي: هو عموم دخله التخصيص بالخبر، وإذا أمكن الجمع لم يصحّ حمله على النسخ، فسقط ما قالوه(3) .
وقال ابن السمعاني: هذا وأمثاله ليس بنسخ وإنّما هو عموم خصّ ونحن نجوّز تخصيص الكتاب بالسُنّة، وإنّما الكلام في النسخ، وقد منع الشرع من النسخ، ولم يمنع من التخصيص(4) .
وقال الشاطبي: وهذا من باب تخصيص العموم(5) .
والحقّ أنّ الآية ليس لها عموم لفظي، وإنّما يستفاد عمومها من الإطلاق وقرينة الحكمة، فهذا من باب تقييد إطلاق الآية فلا نسخ، وحتّى هذا التقييد مقيّد عندنا بما رويناه من طرقنا باشتراط موافقة العمّة والخالة رضاعاً ونسباً.
هذه أدلّة المجوزين لنسخ الكتاب بالسُنّة وهي كما ترى في غاية الضعف والسقوط.
ولم يبق في البين ما يصلح لأنّ يستدلّ به على الجواز مطلقاً.
____________
(1) التبصرة في أُصول الفقه ص 271.
(2) سورة النساء 4: 24.
(3) التبصرة ص 271.
(4) قواطع الأدلّة ج 1 ص 455.
(5) الموافقات ج 2 ص 67.
منع نسخ التلاوة دون الحكم وصحّة نسخ الحكم دون التلاوة:
وأمّا بالنسبة لنسخ التلاوة دون الحكم، ومثّلوا له بآية الرجم، ونسخ التلاوة والحكم معاً، ومثّلوا له بآية الرضعات العشر، فهو مستحيل عقلا ; لأنّه يوجب الشكّ في المجعولات الشرعية وعدم ثبوتها شرعاً، على أنّهم رووا في الصحاح والسنن والمسانيد عن عليّ (عليه السلام) ما يعارض ذلك من أنّه جلد بكتاب الله ورجم بسُنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (1) .
نعم، وقد نسخ الحكم دون التلاوة، وهو المشهور بين المسلمين، وقد غالى بعض المصنّفين بجمع الآيات الناسخة والمنسوخة كالنحّاس في " الناسخ والمنسوخ " وغيره، ولكنّ كثيراً من المحقّقين أنكروا جلَّ ذلك، لأنّ أكثر هذه الآيات مُحكمة، فهي إمّا مخصّصة لعموم تلك، أو مقيّدة
____________
(1) صحيح البخاري ج 8 ص294 ح 11 باب رجم المحصن، مسند أحمد ج 1 ص 93 و 107 و 116 و 140 ومواضع أُخر، مسند أبي يعلى ج 1 ص249 ح 290، سنن الدارقطني ج 3 ص 84 ح 3202 ـ 3206 من عدّة طرق.
قال الشاطبي بعد أن استعرض عدداً من الآيات وأثبت عدم نسخها: " وأكثر القرآن على ذلك، معنى هذا أنّهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو ممّا لا يعدّ نسخاً، وهكذا كلّ ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية، فإذا اجتمعت هذه الأُمور ونظرت إلى الأدلّة من الكتاب والسُنّة لم يتخلّص في يدك من منسوخها إلاّ ما هو نادر، على أنّ هاهنا معنىً يجب التنبيه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ، وذلك أنّ الذي يظهر من كلام المتقدّمين أنّ النسخ عندهم في الإطلاق أعمّ منه في كلام الأُصوليّين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً وعلى تخصيص العموم بدليل متّصل أو منفصل نسخاً، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخاً "(4) .
____________
(1) سورة المجادلة 58: 12.
(2) سورة المجادلة 58: 13.
(3) انظر: سنن الترمذي ج 5 ص 379 ح 3300، سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 152 ـ 153 ح 8537، صحيح ابن حبّان ج 9 ص 47 ـ 48 ح 6902 و 6903، مصنّف ابن أبي شيبة ج 7 ص 505 ح 62 و 63، منتخب عبد بن حميد: ص 59 ـ 60 ح 90، مستدرك الحاكم ج 2 ص 524 ح 7394، تفسير مجاهد: ص 651، تفسير الطبري ج 12 ص 20 ح 33788 ـ 33791، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ج 3 ص 640، تفسير الثعلبي ج 9 ص 261 ـ 262.
(4) الموافقات ج 3 ص 64 ـ 65.
إمّا أن يلتزموا بما رووه في الصحاح من روايات تصرّح بحصول النقص والزيادة والتحريف في القرآن الكريم، ثمّ الاعتقاد بمضمونها حملا على ما يروونه من صحّة أخبار الصحيحين وباقي السنن.
وإمّا أن يرفضوا هذه الروايات التي وردت في الصحاح والسنن والمسانيد، ولا سيّما البخاري ومسلم، وبهذا يسقط السور المحيط بهيبة الصحيحين، ويصبح حالهما حال بقية الجوامع الحديثية، فيها الصحيح والضعيف، بل والموضوع، وإلاّ فهو الضلال المحض.
ويحقّ لنا أن نسأل صاحب المقالة ومن يقول بقوله: لم جوّزتم حمل هذه الآيات على نسخ التلاوة ومنعتموه على غيركم ـ لو فرضنا جدلا القول به ـ؟! ولكن الحقّ ما تقدّم من استحالة هذا الحمل.
وبهذا نختم كلامنا آملين أن نكشف به عن بعض ما ينشره ويروّج له صاحب هذه المقالة ومن لفّ لفّه من الافتراءات والخزعبلات التي ليس الهدف منها إلاّ الطعن والتشهير بأتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وشقّ وحدة الصفّ الإسلامي، ونحن في ظرف أحوج ما نكون فيه إلى جمع الشتات، ورأب الصدع ورتق الفتق ونبذ ما يوجب الفرقة والاختلاف.
نعم، هذا الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، إذ العالم الإسلامي يُعرّض إلى أصعب الأوقات حراجة وأشدّ الهجمات شراسة، ها هو قلب الإسلام ـ أعني العراق ـ مستباح وتحت الاحتلال، ولعلّ المرحلة التالية ستكون بلاد صاحب المقالة أو التي يهوي إليها قلبه إن لم يكن من أهلها، ولنا أن نسأله وقومه ألا يوجد غير الشيعة غرضاً لهذه السهام المسمومة؟!
نعم، وفيها من يبحث عن تابوت من صنع أوهام آبائه الأوّلين تحت أنقاض بيت كان يوماً ما قبلة لنا، ومن يدري لعلّهم يبحثون يوماً ما عن حدائق كانت لهم في يوم من الأيّام ـ أعني حدائق فدك وخيبر ـ علّهم يجدون باب حصنها الشهير بعد أن يكونوا قد ضربوا بعصاهم الشطَّين ـ أعني النيل والفرات ـ ليشقّوا لهم اثني عشر طريقاً يبساً، بحثاً عن صواع الملك المفقود، وليبحثوا في طوامير بابل عن الأُسارى والمفقودين في زمن الأسر البابلي الغابر، لعلّهم يجدون بعض الأحياء منهم، ويظهر أنّهم قد بدأوا بحثهم في متاحف ومكتبات بابل، فتكون قد علقت مخالبهم ولات حين مناص.
نسأل الله تعالى أن يأخذ بيد المؤمنين إنّه سميع مجيب.
بدأنا بكتابة هذا الردّ في الحادي عشر من شهر صفر، وانتهينا منه في العشرين منه 1424 هـ، ثمّ بدأنا بتوسعة البحث في بعض المطالب كما أشرنا إلى ذلك في أوّل الكتاب في الأوّل من ربيع الآخر وانتهينا في التاسع من جمادى الآخرة 1424 هـ.
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، وسلّم تسليماً.
جواد الورد