الصفحة 43

(7) (مسيح الأناجيل ملعون)

قال بولس في غلاطية: المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لاجلنا لانه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة.. ومعلوم لديك ان اللعنة لا تكون إلاّ على الاثيم الذميم المرتكب لاكبر الخطايا والجرائم.

(8) (نعم يسوع الأناجيل كان يرتكب الجرائم، ويقترف المآثم، فكان يأخذ أموال الناس ظلماً وعدواناً)

ولهذه الدعوى شواهد من الأناجيل مبثوثة في أكثر الأبواب ولكني اكتفي بقصة الجحش والاتان فان فيها فكاهة.

لا يخفى ان الأناجيل اتفقت على نقل قصة الجحش التي حاصلها ان يسوع أمر اثنين من تلاميذه ان يذهبا إلى قرية كانا في خارجها وقال لهما: انكما ستجدان جحشاً مربوطاً فحلاه وأتياني به فإذا انكر صاحبه فقولا له: ان الرب محتاج إليه(1) فذهبا وفعلا ما امرهما يسوع وجآءا بالجحش وطرحا عليه ثيابهما فركب عليه يسوع وسار... ولا يهمنا انها على بساطتها أو ان اليسوع أراد أن يطبّق على نفسه من التوراة آية زكريا في كتابه: ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت اورشليم، هو ذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وراكب على حمار وعلى جحش ابن اتان(2). ولا يهمني ان الآية تنطبق عليه أم لا، انما الغرض اني لا أدري

____________

1- إلاّ واني ابرأ من رب محتاج ولا اعبد إلاّ رباً غنياً.

2- لا يخفى بعد الذي مرّ عليك من كلمات يسوع ان هذه الآية بمعزل عنه وانها لا تنطبق عليه بتاً فانه يقول في آخرها ويقطع قوس الحرب ويتكلم بالسلام للامم، اين السلام وهو يقول ما جئت لالقي سلاماً بل سيفاً وتارة بل ناراً وتارة انقساماً، فقد نفى الآية عن نفسه بنفسه، وشهادته اوثق على نفسه من شهادة الجحش والحمار.


الصفحة 44
كيف استباح ركوب الجحش من دون اذن صاحبه بل مع ظهور انكاره كما يظهر من سياقها.

والفكاهة المضحكة ان (متى) لم يتدبّر آية زكريا فحرف فيها تحريفاً طريفاً فقال في العدد الثاني من اصحاح (21): ان المسيح قال لاثنين من تلاميذه اذهبا إلى القرية التي امامكما فالوقت تجدان اتاناً مربوطة وجحشاً معها فحلاهما وأيتاني بهما (3) وان قال لكما أحد شيئاً فقولا الرب محتاج إليهما إلى أن قال فذهب التلميذان وفعلا كما أمرهما يسوع (7) واتيا بالأتان والجحش(1) ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما. وفي بعض النسخ (فاجلسوه عليهما) وسار.. وليت شعري، ولا أدري كيف يركب انسان واحد على دابتين في وقت واحد اللهم إلاّ أن يكون قد اركبوا الجحش على الاتان وركب يسوع على الجحش وهو شيء بديع، ما أظن وقع مثله في العالم، ولا بدع فمسيح الأناجيل لا زال يأتي بالعجائب فلتكن هذه إحدى عجائبه ـ نظير صلبه بين لصين مكللا بأكليل الشوك ثم يقوم من القبر بعد ثلاثة أيام بشهادة مريم المجدلية التي كان قد اخرج منها سبعة شياطين.

(9) (مسيح الأناجيل جبار متكبّر مسرف مبذر)

ففي (37) من (7) (لوقا) وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت انه متكي في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب (38) ووقفت من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحها بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب وقال الفريسي: لو كان نبياً لعلم من هذه المرأة التي تلمسه انها خاطئة، أقول ما سمعنا في شيء من النبوات، ان نبياً تقبل رجليه المومسات، وتسكب على قدميه قارورة

____________

1- هنا موضع الغلط والاشتباه من (متى) فانه توهم ان العطف في آية زكريا عطف نسق يوجب التعدد ولم يفهم ان عطف بيان وتفسير فوقع في تلك المضحكة وهو لا يدري.


الصفحة 45
طيب ناردين خالص كثير الثمن قيمته ثلاثمائة دينار كما في (12) يوحنا فهل هذا إلاّ فعل جبار متكبّر مسرف، نعم ربهم اليسوع بجزئه الناسوتي تجري عليه جميع صفات وكان يومئذ شاباً وسيما ابن ثلاثين سنة أو دونها فلعله صبا إلى تلك الخاطئة كما صبت هي إليه، فمرغت وجهها وشعرها على قدميه، ويظهر من بقية اصحاح (لوقا) انه كان يشتهي ان يقبلها وتقبله ولكن الظروف ما سمحت بذلك لرقابة الفريسي ويهوذا الاسخريوطي فان اليسوع قال في مراجعته لسمعان المعترض كما في عدد (44) من ذلك الاصحاح أما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها (45) قبلة لم تقبلني إلى آخر ما هناك من حديث القبلة وكانت الغاية ان قال لها ايمانك خلصك فاذهبي بسلام، وياله من ايمان تقبل به الأقدام، وتمحى به الخطايا والآثام.

(10) (مسيح الأناجيل لا قداسة فيه، ولا كرامة، ولا امانة)

أما عدم القداسة فلانه لم يقدس جلال الله وعظمة كبريائه عن أدناس الطبيعة وأرجاس البشرية، حيث جعل الأب فيه وهو في الأب فقال كما في (10) يوحنا: الأب في وأنا فيه، واني انا في الأب والأب في، والأب الحال فيّ هو يعمل الأعمال بعد قوله لا تدعوني صالحاً ليس صالح إلاّ الله، وانه اله واحد وليس آخر سواه.

وأما عدم الكرامة، فانه لم يكرم واحداً من الأنبياء السابقين عليه بل أهانهم وحقّرهم حتى جعلهم سراقاً لصوصاً كما مرّ عليك قريباً، وأما عدم الأمانة فلانه أئتمن الخائن السارق وهو يهوذا الاسخريوطي الذي كان أولا من أخص أصحابه واسلمه اخيراً للصلب وكان يسوع لا يزال بخير بخبث نيته وسوء سريرته، فكيف جعل صندوق الأموال عنده؟ كما صرّح به في (12) يوحنا عدد (6) قال هذا (أي

الصفحة 46
يهوذا)(1) ليس لانه كان يبالي بالفقراء بل لانه كان سارقاً وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه، أي يسرق منه، فهل هذا إلاّ تعمد على ائتمان الخائن والوثوق بالسارق.

(11) (مسيح الأناجيل يغازل النسوان، ويجلس في حضنه الغلمان)

أما مغازلة النسوان فيشهد له مضافاً إلى ما سبق من حديث القارورة ـ التي ليست هي منه بأول قارورة ـ ما في (11) من يوحنا عدد (5) وكان يسوع يحب مرثا واختها ولعازر. اقول: ويستشف من وراء ستار الأناجيل انه له معهن شؤون. وأما جلوس الصبيان في حضنه ففي (13) يوحنا عدد (23) وكان متكئاً في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه.

(12) (يسوع الأناجيل يستعمل الظلم، والعدوان فيدخل الشيطان في الإنسان، وفي الحيوان، بل يدخل الظلم والبوار حتى على الأشجار)

أما ادخاله الشيطان في الانسان فانه هو الذي ادخله في يهوذا الاسخريوطي الذي هو من الحواريين الاثني عشر الذين اختارهم يسوع بنفسه ففي (13) يوحنا عدد (26) في جواب من سأله عن الذي يسلّمه للصلب أجاب يسوع: هو ذاك الذي اغمس اللقمه وأنا واعطيه فغمس اللقمة واعطاها ليهوذا الاسخريوطي فبعد اللقمة دخله الشيطان.. والعجب كيف اختاره من السبعين وهو يصرح بعلمه انه شيطان ففي آخر السادس من يوحنا (70) اجابهم يسوع: أليس اني انا اخترتكم الاثني عشر وواحد منكم شيطان؟... فما ادري اذاً لماذا اختاره أيريد أن يقع الشر والفساد في الأرض؟

____________

1- وهذا اشارة الى الاعتراض في مسألة قارورة الطيب.


الصفحة 47
وأما ادخاله الشيطان في الحيوان ففي ثامن (متى) وثامن (لوقا) وخامس (مرقس) عجيبة من عجايب ربهم اليسوع حاصلها انه لما جاء إلى القبر استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جداً فصرخا قائلين ما لنا ولك يا يسوع ابن الله أجئتنا قبل الوقت لتعذبنا وكان بعيداً منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى فالشياطين طلبوا إليه قائلين ان كنت تخرجنا فأذن لنا ان نذهب إلى قطيع الخنازير، فقال لهم: امضوا فخرجوا ومضوا إلى قطيع الخنازير، وفي (لوقا) انها نحو الفين، وإذا قطيع الخنازير كله قد اندفع من على الجرف إلى البحر ومات في المياه أما الرعاة فهربوا انتهى.

أقول: مسكينة أنت ايتها الخنازير، ما أدري بأية جناية وخطيئة، وقعت عليك هذه البلية، أغرق يسوع أولك بالبحر بعد أن أدخل فيك الشياطين، وسلط على نسلك لامته الخناجر والسكاكين، فهل كان الاذن بدخولها إلاّ ظلماً وعدواناً؟ وقد سرى هذا الظلم وتلك القساوة منه حتى إلى الأشجار فقد ذكر أيضاً في (متى) في اصحاح (21) عدد (18) وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع (19) فنظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلاّ ورقاً فقط فقال لها لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد فيبست في الحال وذكرها غيره من الأناجيل بابسط من هذا، ولكني اقول: مسكينة أنت ايتها التينة، سوء حظك بعث إليك يسوع الوديع صاحب الحنان والرحمة على مخلوقات الله وكان جايعاً ولم يكن فيك تين فدعى عليك فيبست. وليت شعري أنسي يسوع ولم يكن معه من يرشده إلى أن يدعو بأن تحمل تيناً فيأكل عوض أن يدعو عليها فتيبس فيكون ظالماً لها من غير سبق جناية منها ولكن الأمم الغابرة كانوا مغفلين، أو قاسين ظالمين، وأين هذا من نبي الرحمة الذي كان يمرّ بالشجرة فتورق وتحمل ويأكل هو وأصحابه منها، وبالشاة العازب الحايل فتعود حلوباً ولعل على ذكر منك شاة أم معبد المعجزة المشهور

الصفحة 48
التي نظمها ابنها معبد في ابيات قبل أن يسلم يقول فيها:


ليهن بني كعب مقام فتاتهمومقعدها للمؤمنين بمرصد
دعاها بشاة حائل فتحلبتعليه صريحاً صرة الشاة مزبد
فغادرها رهناً لديها لحالبيرددها في مصدر ثم مورد

وكم له سلام الله عليه وآله من أمثال ونظاير طفحت بها كتب السير والتواريخ حتى صارت كالنار على المنار، والشمس في رائعة النهار.

وقد استحضرنا لك اثني عشر خطيئة من خطايا المسيح بنص أناجيلهم ولو شئنا أن نبلغ بها الخمسين فأكثر كان شيئاً هينا، وامراً ممكناً، ولكن الحرص على الاختصار عاقنا عن ذلك، ولكن بعد ذلك كله فهل يستطيع أحد من المبشرين ان يجتري ويقول لك أيها المسلم ان المسيح ما ارتكب الخطيئة ولا قارف الاثم؟، فالحق ان يسوع بحسب ذات أناجيلهم كان مجموعة خطايا وجرائم وجرثومة فساد ومآثم، واي جريمة تريد أكبر من الكذب الصريح في أكثر من عشرين مورد، ومن تحقير الأنبياء وجعلهم لصوصاً وسراقاً، ومن تبديل أحكام الناموس وتعطيل حدود الله وأمثال ذلك، فحقّاً انه هو بذاته احوج ما يكون إلى مخلص يخلصه وشفيع يشفع له، وظني (وظني الا لمعي يقين) انه لا ينال الخلاص من القصاص إلاّ بالتمسك بطهارة اذيال حبيب الله محمد(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، فانهم هم الشفعاء الوجهاء عند الله ولا وجيه أوجه عنده منهم، ولا ينجو أحد إلاّ بولايتهم وشفاعتهم، ومن جميع ما سقناه لك في هذا المجال ظهر لك سند الدعوى في الفصل الثاني، وهو تناقض الأناجيل مع العهود القديمة اعني التوراة فان المسيح وتلاميذه على رغم قوله إلى أن تزول السموات والأرض ولا يزول واحد من الناموس، قد ازالوا كل حكم من أحكامها، وابطلوا كل شريعة من شرايعها، وعليه عملهم إلى اليوم.


الصفحة 49
وليكن هذا تمام الكلام في الباب الأول، فلنشرع في (الباب الثاني) وهو دحض الوهية المسيح... وكنا قبل برهة من السنين وقفنا على مقال (للاب لويس شيخو اليسوعي) أحد كبار الكلية اليسوعية في بيروت، ومن الشيوخ الذين افنوا اعمارهم وكرسوا حياتهم للدعوة والتبشير، كتب ذلك المقال في مجلته المشهورة التي وسمها (بالمشرق)، يحاول في مقاله ذاك اثبات الوهية المسيح، فدخلني من العجب والبهت عند مطالعته، ما لا يبلغ غوره مسبار وصف ولا بيان، ونفثت يراعتي بكلمات ما نظرتها قبل هذا حدقة، ولا نشرتها ورقة، وقد أوردتها هنا بنصها، بعد تكميل نقصها، وجعلتها هي (الباب الثاني) وها هي بحروفها:


الصفحة 50

القول الصحيح في دحض الوهية المسيح


بسم الله الرحمن الرحيم

(أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُـلُمَاتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(1).

عجباً لك أيها الإنسان ولا يكاد ينقضي فيك العجب، ما اجهلك في علمك، بل ما اجهلك بجهلك ما سعدت إلاّ وشقيت، وما ارتقيت إلاّ وهويت، بينا تجد الإنسان قد اتسعت معارفه، واعتدلت مداركه واستقامت قرايحه، وقلتَ قد أخذ من العرفان بحظ، ومن الاستنارة بقسط، ومن الصواب بنصاب، وجمع بين طرفي الامانة والمتانة، والحصافة والحصانة، ورسخت في المزالق اقدامه، واعتادت على نسخ الحقائق اقلامه، فلا تلتبس عليه الغامضة، ولا تلتاث دونه العويصة، ولا تضيع في أوهامه الحقيقة، بينا انت منه على ذلك أو مثله، إذ بك تراه يتخبط في ظلمات الأوهام، ويتورط في لجج اللجاج، يمشي في ضاحية وكأنما يمشي في حنادس الظلم لا يزيده كثرة السير إلاّ بعداً، يتقدم القهقرى، ويسير معكوساً سير السرطان إلى ورا، رفعت بالأمس إلي مجلة (المشرق) في عددها الثاني من سنتها الحادية عشرة فوجدت في فاتحتها هذا العنوان (البرهان الصريح، في اثبات الوهية المسيح) رداً من منشئها (لويس شيخو اليسوعي) على مجلة (المنار)

____________

1- النمل: 63 ـ 64.


الصفحة 51
الشهيرة.

نعم لا غضاضة على المرء ان يحامي عن دينه، ويذب عن حياضه، ويدافع عن حوزته، ولكن موضع العجب والاستغراب انه كيف يخرج الإنسان بالشيء عن حدوده؟ ويتجاوز به عن نصابه، وينظمه في غير سلكه، موضع العجب انه كيف يغالط الإنسان نفسه، ويكابر وجدانه، ويناكر عقله، وكيف يشتبه على مثل ذلك الرجل، ان مسألة كهذه تصادم الضرورة، وتصك جبهة الوجدان، ليست هي موضع بحث ودليل، وفحص واستقراء، وانما هي موضع ايمان وتسليم، وانقياد واذعان، كيف غاب عنه ان مسألة كهذه ما هي إلاّ كقارورة زجاج لا يليق به إلاّ ان يحتفظ عليها، ويرفق أشد الرفق بها، ولا يعرضها لصدمات الاستدلال والبحث والجدال، فانها لو وقعت في معرض ذلك، لا تقيم وشيكاً ان تعود هشيماً تذروه الرياح وتسفي عليه السافيات، لعمر العلم انه ما امتهن ولا افتتن ولا اثقلت كواهله، واعيت كلاكله، بعبء اثقل عليه من تأليه البشر، وتربيب المربوب، وتسوية الخالق بالمخلوق، لعمر العلم ان هذه لهي المحنة التي تركت الناس تخرج من دين الله أفواجاً، وتبرأ من الأديان بتاتاً، وتصفى افئدتها إلى الإلحاد، وتجده خيراً لها من ان تعبد مخلوقاً مثلها، وتدين بالوهية واحد من أبناء جنسها، يجري عليه ما يجري عليها، وينتظم كل حكم ينتظم لها، لعمر العلم ان هذه لهي العاصفة التي لفت أعاصيرها على أوليات الدهر، وغابرات العصور كراديس من الأمم وملايين من الشعوب فالقتهم في لحود الإلحاد، وسالت بهم سيل الآتي حتى قذفتهم في مهاوي الكفر والجحود فيوماً ابيقورية كلبية، وعصراً مزدكية، وآخر قرامطة وباطنية وتارة نيشرية أو اشتراكية، وهلم جرا إلى ان برزوا اليوم بين ماسونية أو دارونية، وهاتان الامتان بل الطامتان هما اللتان لا يزال صاحب المشرق وأهل الأديان يتبرمون من شرورهما، ويحذرون سوء العقبى من صيور أمرهما.


الصفحة 52
ولو تدبّر بعض أهل الأديان أحسن التدبر، لوجدوا انهم هم الذين حملوا اولئك القوم على خلع نير الأديان والتملّص من اغلالها التي اصبحت لا تحيد كثيراً عن عبادة الأوثان، والمشاعر إذا استوت مداركها، تجد لا محالة ان رفض الدين بتاتاً خير من أن يكون الإنسان مديناً لمثله، بدعوى انه جزء من الإله أو حل جزء من الإله فيه بالتوالد الأزلي منه أو الانفصال الحادث عنه أو غير ذلك من اختلافات مزاعمهم، وشتى مشاربهم، ولو صح ذلك (معاذ الله) لخفت وطأة النكير منا معاشر المسلمين على بعض الفرق التي تنتحل الإسلام وما هي منه (كالسبائية) وأمثالها من الغلاة في أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

أليست هذه الدروز إلى جنبنا تقول بالوهية (الحاكم بالله) وقد نشرت أو نشرت عنها رسالة عنوانها (دين التوحيد) وتعاليم الدروز، وهي تسجل في غضونها الوهية ذلك البشر الذي قد اصبح جسده رميماً، والله اعلم بروحه أفي نعيم أم جحيم؟ وهم يرون انه الأول والآخر، والباطن والظاهر، وانه صاحب الأدوار والأكوار ظهر في ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم.

وإذا صحت مزعمة الغلو في عيسى أمكن على الجواز ان تصبح في غيره ففي الحكمة الأولى (ان حكم الامثال فيما يجوز وما لا يجوز سواء) وإذا ثبت أصل الامكان وارتفع الامتناع هان أمر الوقوع، والغلاة في علي(عليه السلام) أو في (الحاكم بالله) لعلها تدعي لهما من المعجزات ما هو فوق معجزات عيسى بكثير، أما الولادة بغير لقاح فما أكثر ما يقع في سلائل الأحياء مثله من التولد الذاتي والسكون الفجائي من كاينات الطين أو الماء أو النبات أو غيرها، وهذا هو المثل الذي ضربه تعالى شأنه في فرقانه الحميد بقوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَاب)(1).

____________

1- آل عمران: 59.


الصفحة 53
أما العلاقة الروحية، والنفحة الإلهية، وكلمة المشية، فانها بنسخها وأصل جوهرها سارية في كل ذوات الأرواح، اعني ان الجميع سواء في الانتساب إلى ذلك الفيض الأقدس، والحضرة المنيعة، وبالأخص الأرواح الطاهرة، والنفوس الزكية، على اختلاف مراتبها في القرب والبعد، والصفاء والتجرّد.

أما ما يوجد في بعض آيات العهدين من اطلاق الآلهة أو ما يساويها على السيد المسيح، فهو من فرض صحته وعدم خيانة الترجمة فيه وسلامته من مد يد التحريف إليه، لا يقضي له أيضاً بشيء من ذلك، بعدما ورد مثله في أمثال عيسى كهرون وموسى وغيرهم من بني اسرائيل، مثل ما في سابع الخروج فقال الرب لموسى انظر أَنا جعلتك إلهاً لفرعون وهرون أخوك يكون نبيك، وكثير من أمثالها، مما ليس القصد في الحاضر احصاؤه ولا نريد أن نغلي هذه اللمة، ونخوض في العاجل هذه اللجة، ونكشف القناع عن محيا هذه الجلبة، وانما الهم والعزيمة، ان ننظر في البرهان الصريح الذي أخذه (المشرق) على عهدته، وجعله في ضمانه وكفالته، نريد ان ننظر هل يأتي لنا بوجه مقبول، وتصوير معقول؟ لتصحيح ذلك الانبثاق والولادة الإلهية، أو تقمص الإله للطبيعة البشرية، وهل يقنعنا بان الواحد البسيط المجرّد، والازلي السرمد، يعود مركباً ثلاثياً، وحادثاً بشرياً؟ (لاها الله) ان (المشرق) قد حاول امراً عظيماً، وخطراً جسيماً، بيد اننا مهما كان الأمر من المنعة والعزة، والإباء والتعجيز فنحن رهاين البرهان، واسراء الدليل، وحلفاء البينة واتباع الحقيقة، سوى اننا لا نأخذ الكلام على عواهنه ولا يقنعنا البيان بسطوحه، ولا ننخدع بحشد الأقوال الضافية، وتنميق السطور المتزاحمة، وتنسيق الصفحات المتراكمة، دون ان نلقى ذلك في نار الامتحان، ونعرض على محك النقد، ونضعه في بوتقة التصفيه، وننفخ عليه بكير التمحيص، فان خلص لنا منه الجوهر السبيك، والأصل السليم، اخذناه بثمنه، وسمناه بمثله، وعرفنا له قدره، وجعلناه زينة

الصفحة 54
صدورنا، وحلية أجيادنا، وها نحن نخوض معه في هذه الغمرة حتى تنجلي الحقيقة، وتسطع شمسها من وراء الغيوم المتلبدة على افق (المشرق) ان شاء الله.

ولا نخرج من دائرة الأدب، ومحافظة السلم، إذ ليس قصدنا سوى طلب الحقيقة دون الجدال والخصام، والله على ما نقول وكيل.

قال في الصفحة الأولى من ذلك العدد في الحاشية ما حرفه: (والعجب ان بعض المسلمين إذا جادلوا النصارى نقلوا آيات الأسفار المقدسة ولا ينسبون إليها التحريف إلاّ إذا وجدوا فيها شيئاً لا يوافق آراءهم) انتهى.

اقول: أيها الأب لا تعجب من اولئك المسلمين فان المجادلين من النصارى كثيراً ما يتمسّكون بآيات القرآن الكريم فيما يتعلق بذكر التوراة ونبوة عيسى وهم لا يؤمنون بالقرآن ولا يعترفون بصحته، فان كان ذلك من طريق الالزام والجدل فليكن هذا هو عذر من تعنيه من المسلمين ولا يليق ان تشاركهم انت واخوانك في الفعل ثم تفردهم بالتعجب، قال في صفحة (2) تحت عنوان (مقدمات) ما نصه: في مقالتنا التالية نفترض اموراً لابدّ من تقديمها لئلا تكون حججنا مبنية على ركن فاسد، ـ اولها ـ صحة اسفار العهد الجديد واخصها الأناجيل الأربعة... وكذلك اسفار العهد العتيق... وقد اقتنع الأب لويس بذلك الافتراض ولم يذكر شيئاً من الأدلّة على سلامتها من التحريف الذي يدعمه خصمه باقوى الحجج والبراهين ولو خاض في ذلك وذكر ما يبتني صحتها عليه لخضنا معه، ولكنا نتساهل ونفترضها كما فرض صحيحة، وننظر هل في شيء من آياتها شبهة برهان؟ أو شية دليل على اثبات التأليه البشري، والتقميص الإلهي، الذي يؤل الى التركيب أو الشرك بل الكفر المحض، تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً.

قال: كما اننا في ذكرنا للكنيسة لا نعتبرها إلاّ كجمعية دينية بحتة مع صرف النظر عن خواصها وتمييزها عن بقية المجتمعات الدينية انتهى.


الصفحة 55
وأقول: ان كان المراد جعل الكنيسة احد الاصول الموضوعة، والأدلة المفروضة، والأمور المقرّرة كما هو ظاهر النسق والسياق، فنحن نقول: أيها الأب المحترم، ان الدين ليس شيئاً يؤخذ من اتفاق جمعية، أو منعقد لجنة أو أكثرية آراء، وانما هو أمر سماوي، ووحي إلهي، وبراهين عقل، ومدارك وجدان، لا مجال لتقليد بشر بوجه من الوجوه فلا تعتد قرار الكنيسة والسندو سناهات، من الأدلة والبينات، ولا تجعله ضمن البرهان الصريح فان خصومك لا يخضعون لقرار الكنايس ولا يتعبدون بها ولو اجمعت جميع البابوات والقسس إلاّ أن تثبت لهم عصمه، أو يقوم لهم نبأ نبوه، واحسب ان وضع بيض الأنوق على ناصية العيوق اقرب إليك من ذلك.

قال: نفهم بالإلوهية كون السيد المسيح الجامع في شخصه الكريم الطبيعتين الإلهية والبشرية ليس هو إلاّ اقنوماً كما ان كل واحد هو انسان فرد قائم بعنصرين مختلفين هيولى هو الجسد وروح هي النفس وكما ان للإنسان أعمالا هيولية تتم في جسده كالأكل والشرب وأعمالا روحية تتم بقواه العقلية كالفكر والإرادة وكلها مع ذلك تنسب إلى شخصه، فكذلك للسيد المسيح أعمالا بشرية اتاها في ناسوته كالنوم والمشي والتعب والولادة والموت، وأعمالا إلاهية قام بها لاهوته كالمعجزات العديدة التي صنعها، أما في ذاته، وأما في غيره، كتجليه في جبل الطور وكإقامته الموتى، ومصدر هذه الأعمال المختلفة هو الشخص الواحد الإلهي الذي وحده أمكنه أو يقول دون كفر وتجديف (أنا نور العالم) (أنا الطريق والحق والحياة أنا والأب واحد) ولولا الوهيته لحق لليهود ان يصلبوه ويقتلوه، لان كلاماً مثل هذا لا يصح لبشر انتهى.

وأما وربك الأكرم، ان هذا الكلام، ليوقفي موقف الحيرة والدهشة، فها انا ويراعتي بين ثلاث اناملي لا ادري أي عوار ادل عليه من هذا الكلام، وأي مزعمة

الصفحة 56
افند منه وأي رزية انعى عليه؟ عمرك الله أترى ان ذلك الكاتب، ما يدعيه لنفسه أو يدعي له لم يعلم ليومه هذا ان اساس الإلوهية ودعائمها التي تبتني عليه، هو وجوب الوجود المساوق للقدم والأزلية المضاد للحدوث وملابسة العدم الذي يستحيل ان يجامع التركيب بكل فروضة وانحائه فان مثار كل ذلك هو الإمكان، والإمكان والوجوب ضدان بل نقيضان، فلا يجتمعان في شيء واحد كما لا يرتفعان، وعليه فالطبيعة الإلهية المجتمعة مع البشرية في شخص عيسى(عليه السلام) لا محالة وقعت متصفة بالحدوث وإلاّ لكانت البشرية ازلية وهو خلاف الضرورة كما هو خلاف المدّعى، فاقتران الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية أمر حادث وطبيعة الإلهية هي الواجب والواجب لا يتصف بالحادث ولا يكون محلا للحوادث فالواجب ممكن، وهذه إحالة لا محالة، دع عنك حديث التشبيه بالروح والجسد فانه لا يخفى عليك أمره(1)، ولكن هلم الخطب فيما ادمجه من الدليل على تلك الدعوى في غضون الدعوى نفسها بقوله: واعمال الإلهية بها لاهوته كالمعجزات العديدة، أيها الأب ان كانت المعجزات، ولا انكر انها اعمال إلهية، تقضي بكون مصدرها ومجراها فيه طبيعة إلهية أو بالأخص انه إله فما بالكم تخصون هذا الحكم بالسيد المسيح وما الذي قعد بساير الأنبياء عن هذه المنزلة ألم يكونوا ذوي معجزات عديدة، وتجليات إلهية؟ أليس موسى كليم الله، من الأنبياء باعتراف الأب لويس وقومه؟ أليس هو ذو معجزات ورب تجليات على طور سيناء؟ فما باله نسخ من ديوان الإلوهية التي فاز بها سيدنا المسيح ان كان السبب في الحكم بالوهيته هو الأعمال الإلهية من القيام بالمعجزات كما يظهر من تلك الجملة، وان كان شيئاً آخر فنحن في فسحة انتظاره حتى ننظر فيه، أما ما نقله عن

____________

1- فان الروح والجسد كلاهما حادثان ممكنان قد حصل فيهما نحو من التركيب والاتحاد فاين هو من تركيب الواجب بالممكن وامتزاجه.


الصفحة 57
السيد المسيح من ألفاظ الانانية: أنا نور العالم، أنا الطريق الخ.

فلا أظن ان أحداً يقتنع لاثبات الإلوهية بهذه العبارات أو يجعلها هي البرهان، وأنت انار الله بصيرتك، تعرف ما تحتمله الألفاظ من التصاريف والوجوه والكنى والمجازات على ان كل هذه الألفاظ حتى لو حملناها على حقايقها واصول مداليلها لم يكن شيء منها بدال على شيء من تلك المرتبة. نعم ان المسيح نور العالم، وكل نبي ورسول من الله للهداية للإرشاد هو نور العالم إذا كانت نبوته عامة كالكليم والمسيح وحبيب الله محمد(صلى الله عليه وآله)، كما ان كل نبي هو الطريق إلى الله وهو الحق من الله والحياة لمن يتبعه ويأخذ بما يجيء به من عند الله، نعم وكل نبي هو الأب واحد كلامه من كلامه، وامره من امره، وكل حركاته وسكونه باذنه، فهل تجد في شيء من ذلك شيئاً من الإلوهية، أم هو محض الغناء والعبودية.

أما قوله: (ولولا الوهيته لحق لليهود أن يصلبوه ويقتلوه).

أفلا تعجب أيها الناظر من هذه المماحكة؟، أفما في نبوة السيد المسيح وانه كلمة الله وآية من آياته، ما يجعل قتلهم له وصلبهم إياه، من أكبر الفظائع وأفظع الجرائم، وهل ينحصر السبب في حرمة الجناية عليه وشناعة ما ارتكبوه منه إلاّ بالوهيته أو اقنوميته؟ أم هل تلك الحروف على فرض صدورها منه لا تصح ولا تنطبق إلاّ على ربوبيته، وما من نبي أو رسول إلاّ وقد دلّ على نفسه بامثال تلك الجمل التي ليس اقصى الغرض منها سوى دعوى الرسالة وبيان تلك الرابطة الخاصة والعلاقة الإلهية التي تمتاز بها عن العامة فقول: (ان كلاماً مثل هذا لا يصح لبشر) ان اراد به مطلق البشر حتى الدهماء منهم، قلنا نعم، لا يصح، ولكن يصح من قسم خاص منهم وهم المؤيدون بالمعجزة، المسدّدون بالعصمة، وان أراد انه لا يصح من أحد من البشر، فهو كماترى ممنوع أشد منع، مفنّد اعظم تفنيد، فان تلك الكلمات قد صدرت من موسى الكليم وهو بشر حتى باعتراف المسترسل بتلك