7 ـ وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً» رواه العقيلي.
8 ـ وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من جاءني زائراً لا تعلم له حاجة إلاّ زيارتي كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً» رواه الدارقطني.
9 ـ وعن بكر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أتى المدينة زائراً إليَّ وجبت له شفاعتي يوم القيامة» رواه يحيى بن حسين.
10 ـ وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من زارني كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» رواه ابن مردويه.
11 ـ وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» رواه أبو عوانة.
12 ـ وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي» رواه ابن عدي.
13 ـ وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه ابن النجار.
14 ـ وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من جاءني زائراً لا تعمده حاجة إلاّ زيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة» رواه الطبراني.
15 ـ وعن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من حجّ إلى مكّة ثم قصدني في مسجدي كُتِبَت له حجّتان مبرورتان» رواه الديلمي في مسند الفردوس.
17 ـ وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما من أحد من أُمّتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر» رواه ابن النجار.
18 ـ وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من وجد سعة ولم يفد إليّ فقد جفاني» رواه ابن حبّان.
19 ـ وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا عذر لمن كان له سعة من أُمتي أن لا يزورني» رواه ابن عساكر.
20 ـ وعن ابن عمر: «من حج وزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» رواه سعيد بن منصور.
21 ـ وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من حجّ ولم يزر قبري فقد جفاني» رواه ابن عساكر.
22 ـ وعن ابن عمر: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» رواه ابن عدي بسند حسن(1) .
____________
(1) محمد الفقي، التوسل والزيارة في الشريعة الاسلامية : 48و49.
زيارة النبيّ الاكرم في حديث العترة
تضافر الحديث عن العترة الطاهرة حول زيارة قبر النبيّ الاكرم(صلى الله عليه وآله)نقتبس منه ما يلي:
1 ـ روى الحميري (م/299هـ) عن هارون، عن ابن صدقة عن الصادق عن أبيه الباقر (عليهما السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من زارني حيّاً وميّتاً، كنت له شفيعاً يوم القيامة»(1) .
2 ـ روى الصدوق (م/630ـ381هـ) بسنده عن الامام عليّ (صلوات الله عليه): «أتمّوا برسول الله حجّكم، إذا خرجتم إلى بيت الله، فإنّ تركه جفاء وبذلك أُمرتم، وأتمّوا بالقبور التي ألزمكم الله زيارتها وحقّها»(2) .
3 ـ روى الصدوق بسنده عن الامام الرضا (عليه السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من زارني في حياتي وبعد موتي فقد زار الله تعالى...»(3) .
4 ـ روى الصدوق عن إبراهيم بن أبي حجر الاسلمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أتى مكّة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن جاءني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة»(4) .
5 ـ روى ابن قولويه (م/963هـ) عن أبي حجر الاسلمي قال: قال رسول الله (وذكر مثل ماسبق وزاد في آخره) «ومن مات في أحد الحرمين ـ مكّة أو المدينة ـ لم يعرض إلى الحساب ومات مهاجراً إلى الله وحشر يوم القيامة مع أصحاب بدر»(5)
____________
(1) الحميري، قرب الاسناد : 31 ـ والمجلسي، البحار 97 : 139.
(2) الصدوق، الخصال 2 : 406 ـ المجلسي، البحار 97 : 139.
(3) الصدوق، عيون أخبار الرضا 1 : 115 ـ المجلسي، البحار 97 : 140.
(4) الصدوق، علل الشرائع : 460 ـ المجلسي، البحار 97 : 140.
(5) ابن قولويه، كامل الزيارات : 460 ـ المجلسي، البحار 97 : 140.
7 ـ روى ابن قولويه بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة»(2) .
8 ـ روى ابن قولويه عن ابن أبي نجران قال: قلت لابي جعفر الثاني (الامام الجواد (عليه السلام) : جعلت فداك، ما لمن زار رسول الله (صلى الله عليه وآله)متعمّداً؟ قال: «له الجنّة»(3) .
9 ـ روى ابن قولويه باسناده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن عليّ بن أبي طالب قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي وكنت له شهيداً أو شافعاً يوم القيامة»(4) .
10 ـ روى ابن قولويه بسنده عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إليَّ في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إليَّ بالسلام فإنّه يبلغني»(5) .
نكتفي بهذا القدر من الروايات، وبهذا يتضح اتفاق الفريقين على استحباب زيارة قبر النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد بلغ الاتفاق إلى حدّ نرى
____________
(1) الصدوق، علل الشرائع : 460 ـ المجلسي، البحار 97 : 140.
(2) ابن قولويه، كامل الزيارات : 12 ـ المجلسي، البحار 97 : 142.
(3) المصدر نفسه، وفي البحار : 143.
(4) المصدر نفسه : 13، والمصدر الثاني نفسه.
(5) المصدر نفسه: 14، والمصدر الثاني : 144.
ومن تجرّد عن الرأي المسبق أو التشكيك الذي أثاره بعض الناس، ونظر إلى كلمات أعلام المذاهب وروايات الفريقين يحصل له القطع واليقين على أنّ استحباب زيارته (صلى الله عليه وآله) من الاُمور الواضحة في الشريعة الاسلامية الغرّاء، وأنّ التشكيك فيها تشكيك في الاُمور المسلَّمة والمتَّفق عليها.
(5)
شدّ الرحال إلى زيارة النبيّ الاكرم(صلى الله عليه وآله)
إذا كانت زيارة النبيّ الاكرم أمراً مطلوباً وعملاً مستحبّاً كما دلّت عليه الروايات المتضافرة والسيرة القطعية يكون شدّ الرحال، الذي هو بمنزلة المقدمة أمراً مستحبّاً، بناءً على الملازمة بين استحباب الشيء واستحباب مقدمته، كما عليه أكثر الاُصوليين، وهذا له نظائر في الشريعة الاسلامية، تحكي أنّ وسيلة القربة، قربة قال سبحانه: (ومَنْ يَخْرُج مِنْ بَيتِه مُهاجراً إلى اللهِ ورَسُولهِ ثُمَّ يُدرِكْهُ المَوتُ فَقَدْ وَقعَ أجرُهُ عَلى اللهِ) (النساء/100) فهذا الانسان مأجور بخروجه هذا وإن كان مقدمة لامر مطلوب آخر.
يقول سبحانه في حقّ المجاهدين: (ذلكَ بأنَّهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبيلِ اللهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفّارَ ولا يَنالُونَ مِن عَدُوّ نَيلاً إلاّ كُتِبَ لَهُم بهِ عَملٌ صالِحٌ إنَّ اللهَ لايُضِيعُ أجرَ
وهذه الاُمور التي كتب الله لهم بها أجراً، وسيلة الجهاد، ومقدمة للقتال، وهذا يكشف عن التلازم بين الاستحبابين، أو الثوابين.
نعم، ذهب بعض الاُصوليين إلى عدم الملازمة ولكنّهم متّفقون على لزوم كون المقدمة مباحة لا محرّمة، لاستلزامه التناقض في التشريع، حيث لا يعقل البعث إلى أمر، مع المنع عمّا يوصل المكلف إليه، وعلى كل تقدير لا يصحّ تحريم السفر مع افتراض كون الزيارة أمراً راجحاً، وفعلاً مستحبّاً فلا محيص إلاّ بالقول باستحبابه، أو إباحته. ولا تجتمع حرمة المقدمة مع استحباب ذيها.
نعم، هنا فرق بين زيارة قبر النبيّ، وزيارة قبور المسلمين، فإنّ الاوّل مستحبّ بالخصوص، بخلاف الاخرين فإنّها مسنونة على وجه العموم فلو زار إنسان قبر أبيه أو أخيه، فإنّما يزورهما بما أنّ زيارتهما داخلة تحت عموم قوله (صلى الله عليه وآله): «فزوروا القبور، فإنّ زيارتها تذكّركم الاخرة»، وهذا بخلاف زيارة الرسول فإنّها ـ مضافاً إلى أنّها داخلة تحت العموم ـ مستحبة في نفسها.
وقد جرت سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى يومنا هذا على شدِّ الرحال إلى زيارة النبيّ الاكرم وعدّوا زيارتها قربة، والسفر إليها مثلها، ولم ينكر أحد قربية الزيارة ولا جواز السفر إلاّ ابن تيمية في أوائل القرن الثامن لشبهة طرأت له، وسنتعرض لها في فصل مستقل.
ولاجل إيقاف القارئ على اتصال السيرة إلى عصر الصحابة نذكر
1 ـ روى ابن عساكر بإسناده عن أبي الدرداء قال: لمّا فرغ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)عن فتح بيت المقدس فصار إلى الجابية سأله بلال أن يقرَّه بالشام ففعل ذلك ـ إلى أن قال ـ: ثم إنّ بلالاً رأى في منامه رسول الله وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال، فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسينَ (رضي الله عنهما) فجعل يضُمّهما ويقبّلهما فقالا له: نشتهي أذانَك الذي كنت تؤذِّن به لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد ففعل، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلمّا أن قال: الله أكبر، الله أكبر، ارتجّت المدينة، فلمّا أن قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، إزدادت رجّتها، فلمّا أن قال: أشهد أنّ محمداً رسول الله، خرجت العواتق من خدورهنّ وقالوا: بُعِثَ رسول الله. فما رؤي يوم أكبر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله من ذلك اليوم(1) .
2 ـ استفاض عن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) أنّه كان يُبرِد البريد من الشام إلى المدينة يقول: سلِّم لي على رسول الله، روى ابن الجوزي: «وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرئ النبيّ ثم يرجع»(2) .
____________
(1) ابن عساكر، مختصر تاريخ دمشق 5 : 265 ـ الحافظ جمال الدين المزّي، تهذيب الكمال 4 : 289.
(2) ابن الجوزي، مثير الغرام الساكن.
3 ـ روى يزيد بن أبي سعيد، مولى المهري قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز فلمّا ودّعته قال: إليك حاجة إذا أتيت المدينة سترى قبر النبيّ فاقرأه منّي السلام(1) .
4 ـ روى أبو الليث السمرقندي الحنفي في الفتاوي في باب الحج: قال أبو القاسم: لمّا أردت الخروج إلى مكّة قال القاسم بن غسان: إنّ لي إليك حاجة، إذا أتيت قبر النبي فاقرأه منّي السلام، فلمّا وضعت رحلي في مسجد المدينة ذكرت.
قال الفقيه: فيه دليل إن لم يقدر على الخروج يأمر غيره ليسلّم عنه فإنّه ينال فضيلة السلام(2) .
5 ـ روى الواقدي في فتوح الشام: كان أبو عبيدة منازلاً بيت المقدس فأرسل كتاباً إلى عمر مع ميسرة بن مسروق (رضي الله عنه) يستدعيه الحضور، فلما قدم ميسرة مدينة رسول الله دخلها ليلاً ودخل المسجد وسلّم على قبر رسول الله وعلى قبر أبي بكر (رضي الله عنه)... ثم إنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الاحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه قال عمر (رضي الله عنه) له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتع بزيارته، فقال لعمر يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر
____________
(1) الامام السبكي، شفاء السقام : 56.
(2) المصدر نفسه.
6 ـ قال ابن بطة العكبري الحنبلي (م/387هـ) في كتاب الابانة عن شريعة الفرقة الناجية: «إنّ كل عالم من علماء المسلمين وفقيه من فقهائهم ألَّف كتاباً في المناسك ففصّله فصولاً وجعله أبواباً، يذكر في كل باب فقهه، ولكل فصل عمله وما يحتاج إليه الحاج إلى عمله والعمل به قولاً وفعلاً من الاحرام والطواف والسعي والوقوف، والنحر، والحلق، والرمي، وجميع ما لا يسع الحاج جهله، ولا غنى بهم عن عمله، حتى زيارة قبر النبي فيصف ذلك فيقول: تأتي القبر فتستقبله وتجعل القبلة وراء ظهرك وتقول: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، حتى تصف السلام والدعاء ثم يقول: وتتقدم على يمينك وتقول السلام عليك يا أبا بكر وعمر. ـ إلى أن قال ـ : ولقد أدركنا الناس ورأيناهم وبلغنا عمّن لم نره أنّ الرجل إذا أراد الحج فسلم عليه أهله وصحابته قالوا: وتقرأ على النبي وأبي بكر وعمر منّا السلام فلا ينكر ذلك أحد ولا يخالفه(2) .
إطباق السلف والخلف على جواز السفر
جرت سيرة المسلمين على زيارة الرّسول ـ عند الوفود إلى الحج ـ بالمرور بالمدينة أو رجوعاً من مكة إليها، و هذا أمر ملموس وظاهر مشهود من الوافدين من كل فجّ عميق، وعلى ذلك جرت السيرة
____________
(1) الواقدي، فتوح الشام 1 : 244، طبعة دار الجيل، بيروت.
(2) أبو عبد الله ابن بطة، في الابانة عن شريعة الفرق الناجية ـ كما في شفاء السقام : 60.
ومن نازع في ذلك وقال فانّهم يقصدون من سفرهم زيارة المسجد، لا زيارة الرسول الاكرم، فلم ينصف وكابر في أمر بديهي فإنّ الناس من حين يعرجون إلى طريق المدينة، لا يخطر ببالهم غير الزيارة من القربات إلاّ قليلاً منهم، وغرضهم الاعظم هو الزيارة ولو لم يكن ربّما لم يسافروا، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه وليس الصلاة فيه بأقل ثواباً من الصلاة في مسجد النبيّ(1) .
____________
(1) الامام السبكي، شفاء السقام : 100و101.
حديث عدم شدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة
لقد تجلّى جواز السفر إلى زيارة النبيّ الاكرم ولم يبق في المقام سوى ما رواه أبو هريرة عن رسول الله من عدم شدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة، وهو المستمسك الوحيد اليوم لمن يحرّم السفر، وإليك توضيحه:
إنّ الرواية نقلت بصور مختلفة، والمناسب لما يرومه المستدلّ الصورة التالية:
«لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام ومسجد الاقصى».
فتحليل الحديث يتوقّف على تعيين المستثنى منه وهو لا يخلو من صورتين:
1 ـ لا تُشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد...
2 ـ لا تُشدّ الرحال إلى مكان من الامكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد...
فلو كانت الاُولى كما هو الظاهر، كان معنى الحديث النهي عن شدّ الرحال إلى أي مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم جواز شدِّ الرحال إلى أيّ مكان من الامكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً، فالحديث يكون غير متعرض لشدّ الرحال لزيارة الانبياء والائمة الطاهرين والصالحين، لانّ موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد، وأمّا غير ذلك فليس داخلاً فيه، فالاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى غير المساجد، باطل.
وأمّا الصورة الثانية: فلا يمكن الاخذ بها إذ يلزمها كون جميع السفرات محرّمة سواء كان السفر لاجل زيارة المسجد أو غيره من
ثم إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لانّ المساجد الاُخرى لاتختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.
وفي هذا الصدد يقول الغزالي: «القسم الثاني، وهو أن يسافر لاجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد... ويدخل في جملته زيارة قبور الانبياء(عليهم السلام) وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاولياء، وكلّ من يُتبرَّك بمشاهدته في حياته يُتبّرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله (صلى الله عليه وآله): «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام ومسجد الاقصى»، لانّ ذلك في المساجد، فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الانبياء والاولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله(1) .
يقول الدكتور عبد الملك السعدي: إنّ النهي عن شد الرحال إلى المساجد الاخرى لاجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب، لانّه في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة لانّ العبادة في المسجد
____________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين 2 : 247، كتاب آداب السفر، ط دار المعرفة، بيروت.
والدليل على أنّ السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرّماً، ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: «كان رسول الله يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين»(2) .
ولعلّ استمرار النبي على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قبا والصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقلّ ثواباً من الثواب في مسجده.
دراسة كلمة ابن تيمية في النهي عن شدّ الرحال
إنّ لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة، إذ مع أنّه قدّر المستثنى منه لفظ المساجد، إلاّ أنّه استدلّ على منع شدّ الرحال لزيارة قبور الانبياء والصالحين بمدلوله أي القياس الاولوي، فقال في الفتاوى:
«فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الائمة الاربعة بل قد نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وآله) فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتّخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله، حتى أنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحجّ إليها على
____________
(1) الدكتور عبد الملك السعدي، البدعة : 60.
(2) مسلم، الصحيح 4 : 127 ـ البخاري، الصحيح 2 : 76 ـ النسائي، السنن 2 : 137، المطبوع مع شرح السيوطي.
ولو صحّ ذلك النقل عن ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتى إليك بيانها:
1 ـ قال: «إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع».
يلاحظ عليه:
من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم؟! وقد عرفت أنّ النهي ليس تحريمياً مولوياً وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، ولاجل ذلك لو ترتّبت على السفر مصلحة لجاز كما عرفت في سفر النبيّ إلى مسجد قبا مراراً.
2 ـ نسب عدم المشروعية إلى الائمة الاربعة، إلاّ أنّنا لم نجد نصّاً منهم على التحريم، ووجود الحديث في الصحاح لا يدلّ على انّهم فسّروا الحديث بنفس ما فسّر به ابن تيمية.
ولا يخفى على الائمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى، لا كون العمل محرّماً.
3ـ أنّ عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلاً على عدم جوازه إلى (بُيوت أذِنَ اللهُ أنْ تُرفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ) (النور/36) إذ لا ملازمة بينهما، لانّه لا تترتب على السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوى تحمّل عناء السفر، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد، نفسها في البلد الاخر، وليس اكتساب الثواب متوقّفاً على السفر، وهذا بخلاف المقام فإنّ درك فضيلة قبر النبيّ يتوقف على السفر، ولا
____________
(1) ابن تيمية، الفتاوى ـ كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي.
4 ـ يقول: «إنّ المسلمين يتّخذون قبور الانبياء أوثاناً وأعياداً ويشرك بها» (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ تَخْرُجُ مِنْ أفْواهِهِمْ) أفمن يشهد كلّ يوم بأنّ محمداً عبده ورسوله ويكرمه ويعظّمه لانّه سفير التوحيد ومبلّغه ـ أفهل ـ يمكن أن يتّخذ قبره وثناً؟!
5 ـ يقول: «تدعى من دون الله» إنّ عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته، فعامة المسلمين حتى ابن تيمية يقولون في صلاتهم: «السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته». والمراد من قوله سبحانه: (ولا تَدْعوا معَ اللهِ أحداً) (الجن/18) لا تعبدوا مع الله أحداً. قال سبحانه: (ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُم إنَّ الَّذينَ يَستَكْبرونَ عَنْ عبادَتي سَيَدْخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ) (غافر/60) فسمّى سبحانه دعوته: عبادة. فإذاً الدعوة على قسمين: دعوة عبادية إذا كان معتقداً بإلوهية المدعوّ بنحو من الانحاء، ودعوة غير عبادية، إذا دعاه على أنّه عبد من عباده الصالحين، يستجاب دعاؤه عند الله، والدعوة بهذا النوع تؤكّد التوحيد.
6 ـ نَقَل: «إنّ بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الاماكن على الحجّ إلى بيت الله» لكنّها فرية بلا مرية، وليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل عليه.
7 ـ لو كان السفر إلى القبور أمراً محرّماً فلماذا شدّ النبيّ الرحال لزيارة قبر أُمّه بالابواء وهي منطقة بين مكّة والمدينة، أفصار النبيّ ـ والعياذ بالله ـ مشركاً أو أنّ الرواية التي أطبق المحدّثون على نقلها مكذوبة، والله لا هذا ولا ذاك وإنّما...
9 ـ احتمال أنّ المراد من زيارة القبور (زوروا القبور) هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص، احتمال ساقط وذلك لانّ «ال» (الجنسية) إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أيّ فرد يتحقق به جنس القبر ويستوي في ذلك المفرد والجمع.
10 ـ كيف يقال ذلك مع أنّ السيدة عائشة (رض) كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه(1) حتى أنّ النبيّ يخصّ بعض القبور بالزيارة وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مظعون وقال: «لتعرف بها قبر أخي» ولا تترتب على التعرّف فائدة سوى زيارته.
____________
(1) ابن قدامة، المغني 2 : 270.
(6)
شبهات حول زيارة الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله)
استفاضت السنّة النبوية ـ كما مر ـ على استحباب زيارة الرسول، ودلّت السيرة القطعية طوال القرون، المنتهية إلى عصر الصحابة والتابعين، على أنّها من السنن المطلوبة، وأنّ شدّ الرحال إليها، كشدّ الرحال إلى سائر الاُمور المسنونة، وأكّد أعلام المذاهب على كونها أمراً قُرْبيّاً، لذا فالتشكيك في جواز زيارة الرسول أشبه بالتشكيك في أمر بديهي، ولا غرو في التشكيك فيها، فقد شكك عدّة من فلاسفة الاغريق في أبده الاُمور وأوضحها، حتى شكّوا في كل شيء، بما في ذلك ذواتهم وأنفسِهم، وتفكيرهم وتعقّلهم، حتى في حرارة النار وبرودة الماء، ولولا قيام الحكماء الالهيين كسقراط، وبعده أفلاطون وأرسطو، في وجوه هؤلاء المنسلخين عن الانسانية لعمّت الداء العمياء وجه البسيطة.
الشبهة الاُولى: في تقسيم الزيارة إلى شرعية وبدعية
إنّ زيارة القبور على قسمين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام على الميّت والدعاء له إن كان مؤمناً، وتذكّر الموت سواء أكان الميت مؤمناً أم كافراً. والزيارة لقبر المؤمن نبياً كان أو غير نبيّ من جنس الصلاة على جنازته، يدعى له، كما يدعى إذا صُلِّي على جنازته.
وأمّا الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الاشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه أو به أو التمسّح بقبره أو تقبيله أو السجود له ونحو ذلك. فهذا كلّه لم يأمر الله به ورسوله ولا استحبّه أحد من المسلمين، ولا كان أحد من السلف يفعله، لا عند قبر النبي ولا غيره، ولا يسألون ميتاً ولا غائباً سواء كان نبياً أو غير نبي بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئاً(1) .
يلاحظ عليه: بأمرين:
1 ـ حصر الزيارة في قسمين مع أنّها ذات أقسام كما سنذكر.
2 ـ إدخال الاُمور الجانبية، كالاستغاثة والسؤال به أو منه في ماهية
____________
(1) الامام السبكي، شفاء السقام : 124-125، نقلاً عن خط ابن تيمية.
فالزيارة في اللّغة هو العدول عن جانب والميل إلى جانب آخر، قال ابن فارس: «الزور» أصل واحد يدل على الميل والعدول، ومن هذا الباب الزائر لانّه إذا زارك فقد عدل عن غيرك(1) .
ويظهر من غيره أنّه «بمعنى القصد» وهو لا يخالف ما سبق، لانّ الميل إلى جانب لا ينفك عن القصد، قال الطريحي: زاره يزوره زيارة: قصده فهو زائر، وفي الحديث من زار أخاه في جانب المصر، أي قصد، وفي الدعاء: اللّهمّ اجعلني من زوّارك إني من القاصدين لك، الملتجئين إليك. والزيارة قصد المزور إكراماً له وتعظيماً واستئناساً به(2) .
والظاهر كما يظهر من ذيل كلامه أنّ معناها ليس مجرّد القصد بل القصد المنتهي إلى حضور الزائر لدى المزور لاحدى الغايات المذكورة في كلامه، من التكريم والتعظيم والاستئناس به.
هذا هو معنى الزيارة وليس فيها شيء من الاُمور التي ذكرها ابن تيمية بل هي الحضور عن قصد لدى المزور لاحدى الغايات، وهي تختلف حسب اختلاف المزور شأناً، ومقاماً، ومهنة.
نعم في إمكان الزائر أن يزور الرسول لاحدى الغايات التالية:
____________
(1) ابن فارس، مقاييس اللغة 3 : 36.
(2) الطريحي، مجمع البحرين 1 : 305.
2 ـ أن يزور الرسول (صلى الله عليه وآله) للدعاء له، كما زار الرسول أهل البقيع، وهذا مستحبٌ في حقّ كلّ ميت من المسلمين، ويتحققّ في زيارته (صلى الله عليه وآله)إذا صلّى عليه، وطلب الدرجة الرفيعة له، كما ورد في الحديث: كان عليّ(عليه السلام) يقول: اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نُزُلَه، وشرِّف عندك منزله، وآته الوسيلة، وأعطه السناء والفضيلة، واحشرنا في زمرته(1) .
3 ـ أن يزوره (صلى الله عليه وآله) للتبرّك به لانّه ليس في الخلف أعظم بركة منه وهو حيّ يرزق، والصلة بيننا وبينه غير منقطعة، وقد استفاضت الروايات على أنّه يسمع كلامنا، ويرد سلامنا، بشهادة أنّ عامة المسلمين، يسلّمون عليه في تشهّدهم ويخاطبونهم بقولهم: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.
4 ـ أن يزوره (صلى الله عليه وآله) لاداء حقّه، فإنّ من كان له حقّ على الشخص فينبغي له برّه في حياته، وبعد موته والزيارة من جملة البرّ لما فيها من الاكرام وليس إنسان أوجب حقّاً عليها من النبيّ.
____________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 106.
وقال تعالى: (إنَّهُمْ إذا قِيلَ لَهُمْ لا إلهَ إلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرونَ) (الصافات/35) فلا تجد مسلماً عندما يزور النبيّ تحت قبّته الخضراء وفي مسجده يكون على تلك الحالة أي إذا دُعِيَ اللهُ وحدَه كفَر به، وإن يشرك به يؤمن به، أو إذا سمع لا إله إلاّ الله يستكبر عن عبادته.
ولا أدري كيف تجرّى الرجل وحكم بشرك قاطبة المسلمين بمجرد أنّهم يطلبون منه الدعاء بعد رحيله، وكم من صحابيّ جليل، تكلّم معه وطلب منه الدعاء بعد وفاته.
1 ـ هذا أبو بكر: أقبل على فرسه من مسكنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة (رض) فتيمّم النبي (صلى الله عليه وآله) وهو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبيّ الله لا يجمع الله عليك موتتين أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها(1) .
____________
(1) البخاري، الصحيح 2 : 17، كتاب الجنائز.
2 ـ روى السهيلي في الروض الانف: «دخل أبو بكر على رسول الله في بيت عائشة ورسول الله مسجّى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم أقبل عليه فقبّله، ثم قال: بأبي أنت وأُمي أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا»(1) .
3 ـ روى الحلبي في سيرته وقال: «جاء أبو بكر من السنخ وعيناه تهملان فقبّل النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: بأبي أنت واُمي طبت حيّاً وميتاً»(2) .
4 ـ روى مفتي مكة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه، وقال: قال أبو بكر: طبت حيّاً وميّتاً، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للانبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجُلِّلتَ عن البكاء، ولو أنّ موتك كان اختياراً، لجُدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن على بالك(3) .
5 ـ قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) عندما ولي غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله): «بأبي أنت وأُمي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك
____________
(1) أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (508 - 581هـ) الروض الانف 4 : 260.
(2) الحلبي علي بن برهان الدين (975 - 1044هـ) السيرة الحلبية 3 : 74، ط دار المعرفة، بيروت.
(3) سيرة الزيني دحلان، بهامش السيرة الحلبية 3 : 391، ط مصر.
إلى هنا تمّت الاجابة عن الشبهة الاُولى وأمّا ما ذكره في ضمنها من أنّه ممّا لم يأمر به الله ولا رسوله فستوافيك الاجابة عنه في تحليل الشبهة الثانية.
الشبهة الثانية: إنّ زيارة النبيّ بدعة
«إنّ زيارة النبيّ ليس مشروعاً وانّه من البدع التي لم يستحبّها أحد من العلماء لا من الصحابة ولا من التابعين ومن بعدهم».
يلاحظ عليه:
أنّ ما ذكره فيها هو نفس ما ذكره في ذيل الشبهة الاُولى غير أنّه أضاف في المقام كون الزيارة بدعة.
نقول: إنّ البدعة عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه، والتصرّف في التشريع بإيجاد السعة أو الضيق فيه، وهذا إنّما يتصور فيما إذا لم يكن في المورد دليل، وقد عرفت تضافر السنّة النبوية، والسيرة القطعية المسلّمة بين المسلمين على زيارته ومع هذا كيف تصح لمسلم داع تسمية تلك بدعة.
ثم إنّ السلفي يطلق على من يقفو أثر السلف، وقد عرفت أنّ السلف منذ رحيل الرسول، دأبوا على زيارة قبره والتبرك به، حتى أنّ الخليفتين أوصيا بالدفن لدى النبيّ، لما فيه من التبرّك بتربته، فأين
____________
(1) نهج البلاغة : الخطبة 235.
إنّ الحوار الدائر بين الامام مالك وأبي جعفر المنصور، يكشف الغطاء، ويجلّي الحقيقة:
روى القاضي عياض في الشفاء بإسناده عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنّ الله تعالى أدّب قوماً، فقال: (لا تَرفَعُوا أصواتَكُمْ فَوقَ صَوتِ النَّبيِّ) (الحجرات/2)، ومدح قوماً فقال: (إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) (الحجرات/3) وذمّ قوماً فقال: (إنَّ الَّذِينَ يُنادُونكَ مِنْ وراءِ الحُجُراتِ) (الحجرات/4). وانّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً، فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: ولِمَ تصرفُ وجَهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (عليه السلام) إلى الله تعالى يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: (ولو أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاستغْفَروا الله) (النساء/64).
فانظر هذا الكلام من مالك رحمه الله وما اشتمل عليه من الزيارة والتوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله) وحسن الادب معه(1) .
____________
(1) الامام السبكي، شفاء السقام : 70.
وليس ضريح النبيّ ومدفنه بأقل كرامة من تابوت بني إسرائيل وما ترك آل موسى وآل هرون من قميص وعصي وغيرهما، وكان بنو إسرائيل يتبرّكون به في الحروب قال تعالى: (وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ آيةَ مُلْكِهِ أنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبقِيَّةٌ مِمَّا تَركَ آلُ مُوسى وآلُ هـرونَ تَحمِلُهُ المَلائِكَةُ إنَّ في ذلكَ لايةً لَكُم إنْ كُنتُمْ مُؤْمِنينَ) (البقرة/248) قال الرازي: إذا حضر (بنو إسرائيل) القتال قدّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوّهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصر، فلمّا عصوا وفسدوا سلّطَ اللهُ عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلَما سألوا نبيَّهم البيّنة على مُلك طالوت قال ذلك النبي: إنّ آية ملكه أنّكم تجدون التّابوت في داره(1) .
____________
(1) الرازي، مفاتيح الغيب 6 : 177.
على أنّا قد ذكرنا استفاضة الاثر على أنّ الصحابة كانوا يستغيثون بنبيّهم، نبيّ الرحمة وقد ذكر موارده فلاحظ(1) .
الشبهة الثالثة: «إنّ الزيارة تؤدّي إلى الشرك»
هذه آخر ما في كنانة الرجل من سهام مرشوقة وقد استدلّ عليه بما لا يمتّ إلى مدعاه بصلة، قال: إنّ من اُصول الشرك اتخاذ القبور مساجد كما قال بعض السلف في قوله تعالى: (وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهتكُمْ ولا تَذرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً ولا يَغُوثَ وَيعُوقَ ونَسْرا) (نوح/23) قالوا: كان هؤلاء قوماً صالحين فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الامد فعبدوها.
يلاحظ عليه:
أنّ محور البحث هو الزيارة على ماجرت عليه سيرة السلف والخلف ولم تؤدي طوال القرون الاربعة إلى الشرك، ولم تكن عكوفاً على القبور ولا بتصوير تماثيلهم وعبادتهم مكان عبادة الله، فأيّ صلَة لهذا الكلام بمدعاه من تحريم الزيارة.
____________
(1) السبحاني، التوسل : 67 - 77.
يقول ابن زهرة:
«فإنّ التقديس الذي يتّصل بالرسل إنّما هو لفكرتهم التي حملوها، فالتقديس لمحمد (صلى الله عليه وآله) تقديس للمعاني التي دعا إليها، وحثّ عليها فكيف يتصوّر من مؤمن عرف حقيقة الدعوة المحمدية أن يكون مضمراً لايّ معنى من معاني الوثنية وهو يستعبر العبر، ويستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة والروضة المنيفة، فإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدي ذلك إلى الوثنية بمضي الاعصار والدهور فإنّه خوف من غير جهة. لانّ الناس كانوا يزورون قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى أوّل القرن الثامن ثم استمرّوا على هذه السيرة في العصور من بعده إلى يومنا هذا، ومع ذلك لم ينظر أحد إلى هذا العمل نظرة عبادة أو وثنية ولو تفرّط أحد فهو من العوام ولا يمنع تلك الذكريات العطرة بل يجب إرشادهم لا منعهم من الزيارة وتكفيرهم»(1) .
قال الشيخ محمد زاهد الكوثري من علماء الازهر الشريف:
إنّ سعي ابن تيمية في منع الناس من زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدل على ضغينة كامنة فيه نحو النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكيف يتصوّر الاشراك بسبب الزيارة، والتوسّل في المسلمين الذين يعتقدون في حقّه أنّه عبده ورسوله
____________
(1) كلام ابن زهرة في كتابه حول حياة ابن تيمية.
وأمّا ما رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2) . فإنّ الحديث ـ إذا افترضنا صحة الاحتجاج به ـ لا صلة له بالزيارة، وإنّما يهيب بالَّذين يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، يصلّون إليها ـ إذا اتّخذوها قبلة ـ أو لها، إذا عبدوها. ويدل على ما ذكرنا ما روي أيضاً من أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: «اللّهم لا تجعل قبري يصلّى إليه فإنّه اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(3) .
____________
(1) تكملة السيف الصقيل : 156.
(2) الامام أحمد، المسند 2 : 246.
(3) كنز العمال 2 : برقم 3802.
(7)
تذكرة وإنذار
إنّ لزيارة العظماء والقدّيسين، أصحاب الرسالات آثاراً إيجابيةً تعود تارة إلى الزائر وأُخرى إلى المزور.
أمّا الاُولى:
فلانّ الزيارة صلة بين الكامل ومن يروم الكمال، فالدوام على مواصلته محاولة للتخلّق بأخلاقه، واتّباعِ منهجه وتجديد العهد معه، ولذلك لا تجد إنساناً وَقف أمام قبر النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله) وزاره إلاّ ويتأثّر بشخصه و شخصيّته، وإن كان التأثّر قليلاً مؤقّتاً، فزيارتهم تقترن غالباً بذرف الدموع، والعطف والحنان على المزور، وهي لا تنفك عن تحوُّل نفسيّ وأخلاقيّ وحبّ ووُدٍّ لهم، وبالتالي شعوره بقربه منهم ومشاطرته لاهدافهم، إلى غير ذلك من الاثار الايجابية التي تعود على الزائر والتي أشرنا إليها في تمهيدنا الذي تصدّرت هذه الرسالة به، ولا نعود إلى تلك الاثار التي تعود إلى الزائر.
أمّا الثانية:
أعني الاثار الايجابية التي تعود إلى المزور فهذا هو المقصود في بياننا، وهو أنّ زيارة العظماء هي تخليد لذكراهم، وتجسيد لرسالاتهم في الاذهان، وبالتالي تكون سبباً لبقائهم أحياءً في كلّ عصر، وقرن، لا يتسرّب إلى وجودهم ورسالاتهم وبطولاتهم أدنى ريب وشكٍّ، فبذلك يتجلّى المزور في كل زمان حيّاً في القلوب وفي المجتمع، كما لو كان موجوداً بشخصه في زمن الزائر، فكأنَّ الزيارةَ استمرار لبقائهم في القلوب تجلي الصدأ عنها، وتتجلّى صحة وجودهم للخلف كما تجلّت للسلف وتكون بمنزلة الدليل على وجودهم ورسالاتهم وبطولاتهم.
فلو حذفنا الزيارة من قاموس حياتنا و تركنا مزارهم وأقفلنا أبواب بيوتهم ولم نهتمّ بآثارهم طوالَ قرون، فقد جعلنا آثارهم في مهبِّ الفناء والتدمير، وبالنتيجة التشكيك في أصل وجودهم وبعثهم، وبالتالي تصبح تلك الشخصيات بعد قرون أساطيرَ تاريخية للخلق، فيتلقّون النبيّ والامام بل الانبياء كلّهم قصصاً تاريخية نسجتها يدُ الخيال، كما هو الحال في كثير من القصص التاريخية التي أصبحت تُروى على ألسن الاطفال وفي المنتديات.
إنّ الانسان الغربيّ يتمتّع في حياته بكلّ ما هو غربيّ إلاّ الدين والمذهب، فإنّ مذهبه شرقيّ، لانّ المسيح وليد الشرق ومبعوثه سبحانه إلى أرض فلسطين وغيرها وبما أنّ الغربيّ لا يجد أثراً ملموساً للمسيح في حياته فمثلاً ليس له قبر حتى يُزار ولا لاُمّه قبر حتى يُنسب إليها، ولا لكتابه صورة صحيحة يؤمن به، ولا لتلاميذه وحوارييه آثار ملموسة، فلذلك صارت الديانة المسيحية أُسطورة تاريخية في نظر الغرب
وهذا بخلاف ما لو كان له أثر ملموس يُزار بين آونة وأُخرى، وتشدُّ الرحال إليه عندئذ لكانت الديانة المسيحية حيّة نابضة بلا شك وريب.
ومن الاسباب والوسائل التي أضفت على الاسلام حيوية وعلى نبيّه بقاءً في القلوب وعلى مواقفه وبطولاته خلوداً في الاذهان والضمائر، هو وفود المسلمين في كلّ شهر وسنة إلى موطنه (مكّة) و مهجَرِه (المدينة) وزيارة قبره وآثاره وقبور أولاده وأصحابه ومشاهدة مولده ومبعثه وما يمتُّ إليه بصلة طوال حياته، حيث أضفت هذه الوفادة المستمرة على وجوده ورسالته نوراً وضياءً، وواقعية تُذهِب كلّ ريب وشكّ وتقرّ في النفوس عظمته وبطولاته.
وإذا كانت الذكرى ناقوساً في وادي النسيان يذكّرك الحبيبَ ويرِنُّ في أسماعك جماله وكماله، فزيارته والمثول أمام آثاره وعظمته تُؤثر في خلوده وبقائه في النفوس وتزيل غبار النسيان عنه. لذا نرى أنّ الفقهاء أفتوا بأنّه يجب على الحاكم الاسلامي تجهيز المسلمين من بيت المال وإرسالهم إلى الحجّ اذا خلت الكعبة عن الزوار لئلاّ تُنسى وحتى تبقى خالدة في قلوب المسلمين ومهوى أفئدتهم، فكذلك قبور الانبياء والمرسلين وفي مقدّمتهم سيّدنا سيد الرسل نبيّنا الاكرم عليه صلوات
أخي القارئ الكريم; لقد عالجت مسألة الزيارة معالجة علميّة في ضوء القرآن والحديث الصحيح وقضاء الفطرة الانسانية، فلم يبق في رجحان الزيارة واستحبابها شرعاً شكّ ولا ريب، وقد تعرفت على آثارها الايجابية للزائر والمزور، وقد أزحنا بعضَ الاشواك النامية في هذا الطريق، فعلى المشرفين على القبور والاضرحة ونخصّ بالذكر قبرَ سيد البشر ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ استقبال الوافدين عليها بوجوه مشرقة مرَحِّبين بضيوف النبي مهيّئين الاجواء الودّية المناسبة للزيارة، وحشد كلّ الامكانات المادّية والمعنوية لاقامتهم في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)إقامة مقرونة بالارتياح.
ولا تفوتنا الاشارة هنا إلى واجب الخطباء والعلماء في إرشاد المسلمين وتوجيههم إلى الاداب الصحيحة للزيارة وتذكّرهم بما ينفعهم في الدنيا والاخرة، حتى يتلقّى الزائر أنّ الحضور في مزاره الشريف وسيلة للتذكرة به وهي لا تنفك عن العمل بشريعته ودينه وسنّته والتخلّق بأخلاقه.
نحمده سبحانه ونستعين به وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
جعفر السبحاني
24 محرم عام 1416