الصفحة 70
موسى نسى ربه هنا وذهب يطلبه في موضع آخر، والقوم إما كانوا في غاية البلادة والجلافة حيث اعتقدوا أن العجل المعمول هو إله السماء والأرض، أو كان اعتقادهم في العجل اعتقاد الحلولية، وعلى التقديرين لا وجه لإنكار ابن عبد الوهاب أن القوم أرادوا من موسى إلهاً خالقاً مدبراً.

ثانياً: إنا لو سلمنا كون القوم على إيمانهم حين ما طلبوا من موسى ذات أنواط، لكن الكفر والشرك ليس في طلبها، ولذا لم يكفرهم موسى بل قال لهم: (إنكم قوم تجهلون) وإنما الكفر والشرك يكون في عبادتها.

ومعلوم أن عبادة غير الله توجب الكفر والشرك، ولكني أين هذا ممن لا يعبد الشفيع في توسله به والاستشفاع منه؟؟

وتوهم أن ذلك عبادة لغير الله، مدفوع بخروجه عن الفهم المستقيم، كما نبهناكم عليه… بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

وثالثاً: إن جعل الشفيع والوسيلة إلى الله تعالى إذا كان من عند الله تعالى لا يضر بالإيمان الخالص بالله، ألا ترى أن الأنبياء سفراء ووسائط بين الخلق والخالق، يتوسل الناس بهم ويشد الرحال إليهم عليهم السلام شوقاً وحباً وتبركا بهم، وقضاء للحاجة من الله تعالى بواسطتهم، ولا يكون ذلك من جعل الآلهة؟؟

ومثل ذلك شد الرحال إليهم عليهم السلام بعد وفاتهم لغرض الحاجة والدعاء والمسألة، أنهم يسمعون نداء من يناديهم واستغاثة من يستغيث بهم.

الصفحة 71

المبحث الثالث
أدلة الوهابية على حرمة الزيارة

في المبحث مع ابن تيمية فنقول إنه استدل منهاج السنة على حرمة الزيارة بحديث ابن عباس: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور».

والجواب عنه:

أولا: أنه خبر واحد ظني لا يقاوم الأخبار المتواترة المفيدة للقطع، فلا ترفع اليد عن القطع بالظن.

وثانياً: أن اللعن قبل النسخ. كما تدل عليه رواية ابن أبي مليكة عن عائشة حين أقبلت من المقابر وفيه. قلت أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها؟ قالت: نعم ثم أمر بها. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: نهيتكم من زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر.

قال محمد بن عبد الهادي في حاشية النسائي في شرح قوله صلى الله عليه وآله وسلم «نهيتكم» الخ: جميع بين الناسخ والمنسوخ والنهي والأذن.

وثالثاً: النهي متوجه إلى النساء، لحرمة خروجهن من بيوتهن بغير الإذن، أو لما في الخروج من لزوم الفساد.

قال ابن تيمية: الشيعة يعظمون المشاهد مشابهة للمشركين.

ويرده: إن الشيعة وسائر المسلمين يعظمون قبر النبي صلى الله عليه وأله وسلم وقبور الأئمة تعظيما للدين ولكونها شعائر الله، ومن الحرمات التي أوجب سبحانه إحترامها وحرم على الأمة هتكها.

الصفحة 72

وحسبك لوجوب تعظيم قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حكاه الغزالي ـ الذي هو من أئمة الشافعية ـ عن كعب الأحبار: أنه مامن فجر يطلع إلا ونزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا منل ذلك وحتى إذا انشقت الأرض في سبعين ألفاً من الملائكة يوقرونه ـ الحديث.

ومثل قبر النبي في كونه مهبط الرحمة قبور أهل بيته وأصحابه المنتجبين، فلا يترك زيارتهم تبركاً بقبورهم وحباً وشوقاً إليهم، كما كان الناس يحبونهم ويشتاقون إلى زيارتهم حال حياتهم. وليست الزيارة عبادة للمزور، وإلا لما جازت شرعأ زيارة المؤمن حياً مع أنها جائزة وراجحة إجماعا.

طعن ابن تيمية على الشيعة والرد عليه

وأما قول ابن تيمية: «النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد» فالجواب عنه: أنه قول بلا دليل مع أن لنا الدليل من أمر النبي بزيارة قبره وقبور سائر المؤمنين، ولولا أمره لما كان المسلمون يزدلفون إلى زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم ويجعلونه شعاراً لهم ويحجون إليه في كل عام كما يحجون إلى بيت الله الحرام، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من حج وزار قبري كان كمن زارني».

وفي إحياء العلوم في باب زيارة النبي قال نافع: كان ابن عمر ـ رأيته مائة مرة أو أكثر ـ يجئ إلى القبر فيقول: «السلام على النبي السلام على أبي بكر السلام على أبي».

وهذا هو العكوف على قبر الذي أنكرته الوهابية على المسلمين وادعت أنه الشرك.

الصفحة 73

وتندفع بأن الشرك إنما هو مع عدم مشروعية الزيارة، وإلا فمع المشروعية والأمر من الشارع لا تكون الزيارة عبادة لغير الله، ألا ترى أن إطاعة أئمة الدين لا يكون خروجا من الدين، حيث أنه بأمر من رب العالمين؟؟ ومن هنا نقول: إن سجدة الملائكة لآدم عليه السلام ما كانت شركا، ولا الأمر بها إشراكاً.

وأما قول ابن تيمية على كل من يجوز الزيارة من فرق المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والأولياء.

فالجواب عنه إن المسلمين لا يؤدون منسكاً خاصاً عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور أهل بيته وأصحابه إلا ما هو الوارد شرعاً، وفي عدة من السنن:

في سنن الزيارة

أحدهما: الصلاة والسلام المصرح بهما الشرع كتاباً وسنة: (فمن الكتاب) قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) ، وقوله تعالى: (وسلام على آل يس) الشامل لحيهم وميتهم ومثله قوله سبحانه: «وسلام على المرسلين».

وأصرح من الجميع قوله سبحانه (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً) وقوله تعالى: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) .

(ومن السنة) ما هو الواجب شرعاً في الصلاة من أول: «السلام

الصفحة 74
عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ومنه يعلم جواز السلام على غير النبي من المؤمنين وأئمة الدين من بعيد وقريب، كل ذلك مضافاً إلى ماورد في زيارة النبي صلى الله عليه وآله وزيارة قبور المؤمنين.

وثانيها: التمسح يالضرائح المقدسة وتقبيلها والتبرك بها، فالإمامية حكموا بجوارها، والوهابية صاورا إلى المنع عنها، معللا بأنها عادات المشركين.

والجواب عنها:

أولا: إن المتبع في أمثال ذلك ـ مما لم يرد عنه نهى من الشارع ـ أصالة الإباحة في الأفعال والأقوال، حسبما عرفت في المقدمة.

وثانياً ـ إن مجرد كون فعل من عادة جماعة من أهل الضلال لا توجب صيرورته حراما، كما عليه الإجماع الذي في كلام ابن تيمية في منهاج السنة قائلا: إن الذي عليه أئمة المسلمين أن ما كان مشروعا لم يترك لمجرد فعل أهل البدع، وأصل الأئمة كلهم يوافقون هذا ـ انتهى.

وثالثاً: إن المسح لا يكون من الأفعال العبادية المتمحضة في العبادة حتى يكون محرما عند عدم الوظيفة الشرعية، وإنما هو من الأفعال العادية والحركات البدنية التي لا يتوقف الإتيان بها على صدور الأمر من الشارع، فلو أتى به الإنسان لا بقصد العباد لم يفعل محرماً، كما لو نظر إلى القبر أو جلس عنده وغير ذلك مما لا يتوقف على اتباع الشارع.

نعم لو أتى به قاصداً به العبادة كان بدعة، وذلك لتوقف العبادة على

الصفحة 57
الأمر من الشارع المفقود هنا. وأما لو أتى به حباً وشرفا لصاحب القبر فلا يكون عبادة حتى يكون حراما مع عدم الاستنان شرعا.

فدعوى الوهابية أن المسح على القبر عبادة يتوقف على الاتباع دون الابتداع يدفعها ما ذكرنا من المنع الشاهد عليه الوجدان، لنهوضه على أن من يمسح القبر ويمسه أو يستلمه لا يرى من نفسه إلا الحب والشوق والتبرك، لا عبادة القبر أو صاحبه.

ورابعاً: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بعادة أهل الكتاب، كما في صحيح البخاري في باب صفة النبي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله يحب موافقة أهل الكتاب.

وفي البخاري أيضاً في باب صيام يوم عاشوراء عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء يصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه.

وفيه أيضاً عن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فصوموه.

وخامساً: أن التمسح بقبر النبي واستلامه نظير التمسح بحجر الاسود وتقبيله واستلامه واستلام الركن اليماني المسنون شرعا إجماعا، وعليه الصحاح والسنن.

ففي البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال: لولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك.

الصفحة 76

فإذا صح أن النبي يقبل الحجر ولم يكن ذلك من نحو تعظيم الشجرة على انها ذات أنواط فليكن التمسح بالقبر هكذا، لوحدة الوجه المشروع.

والعجب مع ذلك مما في رسالة أحمد الرومي نقلا عن الأزرقي عن قتادة في قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» أنه قال: الناس أمروا أن يصلوا عند المقام ولم يؤمروا أن يمسحوا ـ انتهى.

فإنه إن كان المسح به حراما وكان شركا خفياً فالصلاة أولى بعدم الجواز لعظم شأنها وتمحضها في العبادة. فتكون مفسدة الشرك فيها أعظم من مفسدة المسح، فإن قلت ـ كما قاله الغزالي ـ: اللازم عند استلام الحجر تصميم العبد على أنه يبايع الله، لما ورد أن الحجر يمين الله في الارض.

قلنا: إن الغرض ذلك من مسح قبر النبي وقبر الوصي لما في التنزيل: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) .

فإن قلت ـ كما قاله الغزالي في: ص209 من إحياء العلوم ـ: وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالمستجار فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت وتبركا بالمماسة ورجاء للتحصن من النار، ولتكن نيتك في التعلق بالستر الإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان، كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه المتضرع إليه في عفوه وأنه لا يفارق ذيله إلا بالعفو وبذل الأمن في المستقبل.

قلنا: إن الغرض من المسح والالتصاق بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الولي المطلق أيضاً ذلك عند الامامية حرفاً بحرف، فلا يقدمون عليه إلا ونيتهم التبرك وطلب القرب حباً وشوقاً إلى صاحب وسؤال الشفاعة منه

الصفحة 77
والإلحاح في بذل الشفاعة لهم يوم القيامة، نظراً إلى قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وأنت فيهم) وقوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لو جدوا الله تواباً رحيما) .

قد صح عن النبي: إن مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق… وإن مثل أهل بيتي فيكم كباب حطة في بني اسرائيل.

وسادساً: إن المعتمد في المسح عند المسلمين مافي صحيح البخاري في كتاب المناقب في باب صفة النبي وفيه عن الحكم قال: سمعت أبا جحيفة يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ ثم صلى الظهر، إلى أن قال: وقام الناس فجعلوا يأخذون بيده فيمسحون بها وجوههم. قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب من المسك.

وفي أواخر هذا الباب: أنه خرج بلال فنادى بالصلاة، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله فوقع الناس عليه يأخذونه منه.

أقول: فاذا صح التمسح بيد النبي والتبرك بفضل وضوئه حال حياتهم ولم يكن من جعل الآلهه وعبادة ذات أنواط، ولا من الأخذ بعادة اليهود والنصارى صح أيضاً التمسح والتبرك بقبره بعد وفاته لا تحاد الوجه.

وسابعاً: إنه لو سلمنا كون المسح على القبر حراما شرعا واقعاً لكنه ليس لمن رأى أنه حراماً منع غيره ممن يرى أنه مباحا شرعا، اعتماداً على ما ذكرنا من الوجوه، لأن النهي عن المنكر إنما هو لمن يرى أنه منكر وليست

الصفحة 78
مسألة حرمة المسح على القبر من المسائل الضروية المسلمة عند كل طائفة أن تتبع رغائب طائفة اُخرى وإلا لبطلت المذاهب والإجماع على صحتها. مع أنها مختلفة في كثير من المسائل الفرعية. ولم يحكم أحد عليهم بوجوب الموافقة.

وثالثها: صلاة الزيارة يصليها الزائر عقيب الزيادة في أي مكان شاء ويهدي ثوابها إلى روح المزور، ولا بأس بها شرعا لأن الصلاة خير موضوع ولكونها نظير قراءة القرآن وإهداء ثوابها إلى الميت.

وقد أورد في البخاري في باب علامات النبوة: أنه خرج النبي يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم أنصرف.

فالغرض بيان جواز الصلاة عند القبر أولا، وجواز الصلاة عند قبر المزور ترحماً على الميت وإهداء لثوابها إليه ثانياً، فتكون من النسك الجائزة، فيندفع بذلك ما في كتاب مجموعة التوحيد: من أن الغلاة ـ عنى بها الإمامية ـ إذا وصلوا إلى القبور يصلون عندها ركعتين… إلى قوله: فلا تكون صلاتهم لله تعالى بل للشيطان.

أقول: فلو قال أن صلاتهم لله شكراً له تعالى لما وفقهم إلى زيارة قبور الأنبياء والأولياء ومنحهم من الفضل ما لم يمنح به غيرهم، لكان بمجنب عن متابعه الهوى وأبعد من الكذب والافتراء. والسلام من اتبع الهدى.

ورابعها: سؤال الزائر من الله حاجته عقيب الصلاة، وهذا جائز وليس شركا ـ لا جلياً ولا خفياً ـ كما في الرسائل النجدية، فإن الدعاء لم يقيد بوقت خاص ولا مكان مخصوص لقوله تعالى: (ادعوني استجيب لكم) .

الصفحة 79

نعم أنكرت الوهابية جواز التوجه حال الدعاء نحو الحجرة النبوية، مصرحين بالمنع في رسائلهم، ويردهم قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) .

وفي البخاري: كان النبي صلى الله عليه وآله يصلي على راحلته أينما توجهت به.

(ودعوى) الوهابية ـ تبعاً لابن القيم ـ: أن ذلك من التشبه بعبدة الأصنام الذين يقفون تجاه اللات والعزى حال الدعاء، ولذا شرعا النهي عن الصلاة في أوقات خاصة وأماكن مخصوصة، فإنه لقطع مفسدة التشبه بعبادات أهل الشرك.

مدفوعة بأنه لو كان حال الدعاء نحو المقبرة ذريعة إلى الشرك لزم الشارع أن يعينه بالنهي عنه، كما نهى عن الصلاة في الأماكن المكروهة أو المحرومة، ولما لم يبين مرجوعية التوجه حال الدعاء نحو الحجرة الطاهرة لا يمكننا الحكم بالمرجوحية بعد ثبوت الرخصة العامة في الآيات المذكورة، والحجة الشرعية تقتضي الأخذ بعموم العام إلى أن يأتي المخرج القطعي..

وليس لنا في قبال الآيات البينات حجة وافية اليد عنها، فالحكم بخلافها سلوك منهج لم يأذن به الله تعالى، كل ذلك مضافا إلى ما حكم به الإمام مالك حين ما سأله المنصور فقال له: يا أبا عبد الله استقبل القبلة وأدعو الله أم أستقبل رسول الله؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله، بل استقبله واستشفع به ـ الحديث.

الصفحة 80

ولا يخفي أن هذه الرواية ذكرها جملة من أعاظم علماء السنة بأسانيد صحيحة فراجع شفاء السقام للإمام السبكي وخلاصة الوفاء للسمودي والمواهب اللدنية للعلامة القسطلاني، إلى غير ذلك من أقوال للعلماء في كتبهم حتى يظهر لك أنه لا وجه للحكم بالشرك على من توجه حال الدعاء نحو الحجرة الطاهرة.

الصفحة 81

المسألة السادسة

قد نسب الوهابيون إلى الأمامية أموراً ليست في كتبهم، ولا توجد في أصول مذهبهم:

منها: تجويزهم الطواف حول مراقد أئمتهم والحج إلى تلك المشاهد، اكتفاءاً منهم به عن الحج إلى البيت العتيق.

ومنها: تقديمهم القرابين والنذور للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام، والحال أن النذر لا يكون إلا لله.

ومنها: اتخاذهم تلك المراقد مساجد يعبدونها ويصلون إليها كما يصلى إلى الكعبة.

فههنا دعاوى ثلاثة:

الأولى: تجويز الشيعة الطواف حول المراقد المشرفة… ولا يخفى أنها مدفوعة، لعدم جوازه عند الموحدين فضلا عن المسلمين، فلو طاف أحد حول المراقد قاصداً به العبادة فهو كافر مشرك، وأما إذا طاف لا بذلك القصد بل بقصد التبرك والتشرف أو قاصداً به الإلحاح في طلب النجاح فلا يكون ذلك كفراً وشركا «ولكل امرئ مانوى».

ولا يكون الطواف في حد نفسه عبادة يحرم إيقاعه مطلقاً، وإنما هو من الأفعال التي لا تكون عبادة إلا إذا أتى العبد به بقصد العبادة.

وقد نص الشارع على أن الأعمال بالنيات، ويزيدك وضوحاً أن الشكر

الصفحة 82
إذا وقع لله كان عبادة له، بخلاف ما إذا وقع لغيره تعالى، ولذا جاز الأمر به لغيره في قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك) .

وأوضح من ذلك وقوع الأمر بالسجدة لآدم عليه السلام، ولقد اجمع المفسرون لقوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً) على أن هذه السجدة ليست سجدة عبادة بل سجدة تعظيم، نظير سجدة الملائكة لآدم عليه السلام.

فاندفعت شبهة الوهابية كما اندفعت أيضاً شبهة من يقول: إن أهل التوحيد كيف لا يجوزون عبادة غير الله تعالى؟

والحال أن القرآن ناطق بجوازها من قوله تعالى: (وإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ومن قوله تعالى (يا أبت إني رأيت أحد عشركوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) وقوله تعالى: (ورفع أبويه على عرش وخروا له شجداً) ؟؟

مضافاً إلى أن عليها عمل المسلمين، حيث يطوفون حول البيت ويعظمون الأحجار بالاستلام، فنقول ـ جواباً عن شبهتهم ودفعاً لتسويلاتهم ـ:

إن المقصود بالطواف ليس عبادة البناء، وإنما هو كالسجود نحو الكعبة يراد به تعظيم المنسوب إليه، لأن البيت بيت الله تعالى، وأن سجدة الملائكة لآدم لم تكن سجدة عبادة، وإلا كان لإبليس أن يجيب بأنها شرك ينافي التوحيد، لا إنه يستكبر ويقول: أنا خير منه.

الثانية: دعوى تقديم الإمامية الذبائح والنذورات إلى المشاهد، ويكذيها

الصفحة 83
الرجوع الى مصنفات الإمامية المصرحة بأن النذر والعهد والأضحية لا تكون إلا لله تعالى(1) .

نعم المشاهد مأوى الفقراء والمساكين، فكل من يقدم إليها النذر أو القربان غرضه التفريق على المستحق لا غير، فكل من قال بغير ما قلنا فقد كفر بالله، وكل من نسب ذلك إلى الإمامية فقد كذب وافترى.

الثالثة: دعوى أن الإمامية عباد القبور، فيسجدون إلى القبر.

وفيها: أما أولا: فلأن الإمامية لايصلون الى أي قبر كان، ولاجرت عادتهم عليها، فلو صلوا أحياناً فذلك لا لكون القبر عندهم قبلة، وكيف يكون ذلك عند من يدين بالاسلام ويقول: بأن القبلة هي الكعبة؟؟ فهل رأى أحد أن الإمامية يضحون أو يذبحون على خلاف القبلة أو نحو قبور الأئمة مع أن مذابحهم بمرأى ومنظر من عامة الخلق؟

جواز الصلاة الى القبر عن كراهية

نعم الصلاة إلى القبر مسألة فقهية لادخل لها بالعقائد الدينية، ولم يذكرها واحد من أهل الفضل في أصول العقائد. ألاترى أن العلماء قاطبة اختلفوا في الصلاة في أماكن مخصوصة كراهية وتحريماً؟ مثل الصلاة في الحمام وبيوت الغائط وجواد الطرق وإلى نار مضرمة وإلىالصور والتماثيل أو إنسان مواجه مع أن القائل بالحرمة وفساد الصلاة فيها لم يقل بالكفر والشرك.

وفي البخاري: باب كراهة الصلاة في المقابر، وفيه أيضاً: باب من صلى

____________

(1) وهي جائزة في أي مكان كان حتى في بيت المسلم نفسه.

الصفحة 84
وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به وجه الله عز وجل. ثم ذكر ما يدل على جواز الصلاة إليها.

قوله: (فأراد به وجه الله) شاهد على أن مورد البحث نفس الصلاة إلى القبر، كما يصلى الإنسان إلى أي جدار كان، من غير أن يجعل القبر مسجدا يصلى نحوه كما يصلى إلى الكعبة، وإلا فلا وجه لاختصاص الحرمة وفساد الصلاة بالصلاة إلى القبر، بل يعم سائر الصور التي قالوا فيها بالكراهة.

بل لو صلى الإنسان نحو الحائط وجعله قبلة لصلاته عوضاً عن الكعبة كانت صلاته باطلة، ولو صلى لا بهذه الجهة كانت صلاته صحيحة.

ومثل ذلك الصلاة نحو القبر حيث أراد المصلي بصلاته وجه الله لا وجه صاحب القبر، فإنها إذ لم يرد من الشرع ما يدل على الفساد والحرمة كانت صحيحة، ولذا ذهب في البخاري إلى الكراهة.

واستدل علىالجواز بأن عمر رأى أنس بن مالك يصلى عند القبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعادة.

وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلاها. وبأنه لما مات الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت، أورده في باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.

وأما ثانياً: فلأن ما استدل به ابن تيمية بما عن عائشة أنه: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهودي والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً.

الصفحة 85

فالجواب عنه: إن الحديث لا دلالة له على حرمة الصلاة نحو القبر إذا أراد المصلى بهاوجه الله تعالى، وإنما يدل على لعن اليهود على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبدونها كما يعبدون موسى وعيسى، أو يجعلونها قبلة نظير بيت المقدس عندهم والكعبة عند المسلمين.

كلام ابن عبدالوهاب وابن تيمية في الصلاة الى القبر

ويشهد لذلك ما في منهاج السنة من رواية مالك في الموطأ أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

فإن الحديث ناطق بحرمة اتخاذ القبر مسجداً يسجد إليه، ومعلوم أن ذلك شرك لو اعتقده المصلى.

ويدل على ذلك ايضاً قول عائشة: «غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً».

قال السندي شارح النسائي: مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يحذر أمته أن يضعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم، من اتخاذهم تلك القبور مساجد: إما بالسجود إليها تعظيما، أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها.

وعن النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء: إنما نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولذا قال في الحديث: «ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً» انتهى.

الصفحة 86
وقال جلال الدين السيوطي في شرحه على النسائي:

قال البيضاوي: لما كان اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنها، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنع المسلمين من مثل ذلك، وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه فلا يدخل في ذلك الوعيد.

الصفحة 87

المسألة السابعة

في هدم المساجد المشيدة حول المراقد المشرفة

مذهب الوهابية على وجوب هدم المساجد المبنية حول المراقد المشرفة واحتجوا لذلك: بأنها أسست على غير تقوى من الله، وبحديث عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

وقال الإمامية ـ بل وسائر المسلمين ـ على جواز البناء وحرمة الهدم، لكونها من مساجد الله الواجب تعظيمها، نظير مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسجد الأموي وبيت المقدس الذي دفن فيه كثير من الأنبياء من ولد إسحق، وعليه السيرة القطعة أيضاً، وفتوى العلماء بأن من اتخذ فسحة منالمكان مسجداً ولو كان في ناحية القبر ـ نظير مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبره وقبر أبي بكر وعمر ـ جاز ذلك" كما عرفته من كلام البيضاوي وجلال الدين السيوطي.

والجواب عن الرواية:

أولا: أنها معارضة بما في البخاري وغيره من قوله صلى الله عليه وآله وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلاها»، وبأنه لما مات الحسن بن علي عليه السلام ضربت امرأته قبة على قبره إلى سنة فإنه يدل على جواز الصلاة في ناحية القبر بالملازمة الواضحة.

وثانياً: أن كون النصارى واليهود شرار الخلق ليس من جهة بناء المسجد على القبر، وإلا لما مدح الله تعالى المؤمنين بقوله: (وقال الذين غلبوا على

الصفحة 88
أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً) بل لأن اليهود والنصارى زادوا على كفرهم كفراً آخراً، حيث أشركوا لأجل تعظيمهم صور الصالحين منهم بجعلها في معابدهم نظير الأصنام المعلقة في الجاهلية على الكعبة.

وأين هذا ممن جعل فسحة من الأرض مسجداً لا يريد به غير التوجه إلى الله ولا تعظيم أحد غير الله؟

والكتاب العزيز ناطق بجوازه، ففي تفسير الجلالين: «وقال الذين غلبوا على أمرهم» وهم المؤمنون و «لنتخذن عليهم» أي حولهم «مسجداً» يصلى فيه، وفعل ذلك عن باب الكهف.

وفي تفسير الرازي «لنتخذن عليهم مسجداً» نعبد الله فيه ونستبقى آثار أصحاب الكهف يسبب ذلك ـ انتهى.

وإذا جاز اتخاذ المسجد على باب الكهف بنص القرآن استبقاء للأثر من دون أن يكون شركا، فها نحن نعمل بما جوزه القرآن إلى أن يثبت بنص ـ يعتمد عليه ـ النسخ أو التخصيص المخرج عن حكمه.

الصفحة 89

خاتمة

مباينة الوهابية لسائر المسلمين

في بيان ما عليه الطائفة الوهابية، وهي عدة أمور اتخذوها شعاراً لهم، منها مباينتهم مباينة عظيمة لسائر طوائف المسلمين، حتى إنهم جعلوا ديارهم ديار توحيد وديار غيرهم ديار شرك، كما هو دأب الخوارج في أصول مذهبهم. وهذه مباينة مذمومة شرعاً، كيف لا وهي تفرق منهى عنه في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقوله سبحانه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) .

وفي البخاري في كتاب الفتنة عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: هم من أهل جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرقة كلها.

وليت علماء الوهابية الذين ألفوا رسائل في أصول التوحيد وبينوا فيها أنواع الشرك والكفر يعدون من أقسام الكفر كفر التفرقة عن الجماعة، نظراً إلى قوله تعالى (لست منهم في شيء) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام».

ومنها: أن الوهابية أصحاب الزلازل والفتن بنص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما

الصفحة 90
في البخاري في كتاب الفتن عن أبي عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال مرتين: اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا. قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان.

وفيه أيضاً عن سالم عن أبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال إلى جنب المنبر فقال: الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان.

وأيضاً عن نافع عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان.

وفي شرح السنة عن عقبة ابن عمر قال: أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده نحو اليمن وقال: الإيمان ههنا، إلا أن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرن الشيطان.

في شرك المحبة والرد عليه

ومنها: أنهم جعلوا من أقسام الشرك «شرك المحبة» كما في كتاب مجموعة التوحيد، واستندوا في ذلك إلى قوله سبحانه: (ويجعلون لله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) .

وفيه: أنه لم يتحصل معنى لما جعلوه شركا، فإن أرادوا أن مجرد محبة غير الله شرك لزم عليهم شرك المسلمين جميعاً لمحبتهم آبائهم وأولادهم وأموالهم وأحبائهم، ولم يقل به أحد ولم يأت به شرع، وإن أرادوا أن المحبة ينتهى بها الأمر إلى عبادة المحبوب من الأنبياء والصديقين، قلنا: إن الانتهاء إليها ممنوع ولاملازمة إلا عند الغلاة، وما عداهم من المسلمين لا يعبدون من يحبونه

الصفحة 91
من نبي أو صديق بل يحبونهم لحب الله، لا إنهم يحبونهم كحب الله، فلا يجدون في أنفسهم إلا هذا المقدار من المحبة والمودة للأنبياء والأولياء. ولذا لم يقولوا في حقهم إلا ما قاله الله ولا يثبتون لهم إلا ما أثبته الله من القرب والمنزلة ورضى لهم من الشفاعة.

والعجب أن لو سئل من الوهابية: إنكم تحبون رسول الله؟ فيقولون نعم، مع أن محبتهم للنبي لا ينتهي الأمر بهم إلى الشرك الخفي، فكيف تنتهي محبة غيرهم لولي أو صديق أو إمام معصوم إلى الشرك؟

ومنها: أجتراؤهم على الله ورسوله بهدم القباب الطاهرة لأئمة البقيع الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأن ذلك منهم إنكار لمودة ذي القربى التي هي من الضروريات الثابتة بالكتاب والسنة لقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) فأقدمت جماعة من الأعراب على تخريب قبور أهل بيت رسول الله، كما أقدمت السابقة منهم على قتلهم، كم ترك الأول للآخر. وكم اقتفى المتأخر أثر المتقدم؟ فتركوا جميعاً وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته وراء ظهورهم.

هذا مع أن في الهدم بعد البناء من هتك احترام الميت ما لا يخفى…

كيف لا والحال اتفقت المذاهب على أن المشي على قبر المؤمن والاتكاء به والجلوس عليه هتك لحرمته؟ فبالأولوية القطعية يكون هدمه وتخريبه هتكاً لها.

الصفحة 92

هدم الوهابية للقبور

والذي ينبئك عن أن هدم قبور أئمة البقيع هتكا لهم وتعرضاً بسوء إليهم ما نشره السلطان ابن سعود في المفاوضات الهندية قائلا في ص17:

«ذكرتم أسئلة ستة تتعلق بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيته، فقد أعلنا غير مرة رأينا في أن قبر النبي وبيته ندافع عنه بأموالنا وأرواحنا وبكل ما نملك ولم نقف أمام المدينة المنورة ونكتفي بحصارها إلا حرمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولمسجده».

وقال ايضاً في بعض مراسلاته إلى بعض العلماء:

وبعد، فإننا نذكرهم أن القبة النبوية لم يمسها أحد بسوء ولم يخطر ببالنا قط أن نمسها بسوء، وإن للرسول حرمة لدينا لا تدانيها حرمة» انتهى.

فإنه كما ترى معترف بأن الباعث لحفظ مرقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو احترامه بحيث لو مسته يد التخريب كان ذلك سواءاً منافياً للإحترام، وليته أيضاً يعترف بأن احترام النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحترام أهل بيته موجب لحفظ مراقدهم وعدم مسهم بسوء، وإلا فأي فرق بين الاحترامين؟ أم أي تفكيك بينهما.

والحال أن ذرية النبي صلى الله عليه وآله أبعاضه بنص القرآن «إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم».

وفي البخاري: «فاطمة بضعة مني» فهم أبعاضه صلى الله عليه وآله، واحترامهم احترامه، وهتكهم هتكه، صلى الله عليه وآله، فإذا كان هدم

الصفحة 93
قبة النبي صلى الله عليه وآله مخالفاً لقول الله تعالى وتركاً للسنة ومساً بسوء كان هدم قبور آل الرسول كذلك أيضاً، والفرق تحكم بحث وقول بغير علم.

البناء على القبور في الأرض المسبلة

ومنها: ذهاب علماء الوهابية إلى أنه لو كان البناء على القبور في أرض مسبلة للدفن وجبت إزالتها لأنها تضيق على الناس، وجعلوا هذا وجهاً مصححاً لهدم القباب فيالبقيع. لكنه يتوجه عليهم:

أولاً: سؤال الوجه في هدم سائر البناءات التي ليست في البقيع، أو لم توجب الضيق على الناس، فإنه يحرم هدمها حيث أنه تصرف في أموال المسلمين وتضييع عليهم.

وثانياً: إن ذلك في الأراضي المسبلة للدفن دون المباحات الأصلية التي منها البقيع، حيث لم يعهد من أحد وقفها وتسبيلها للدفن، بل ولم يعهد أن أحداً ملكها ثم سبلها، فعلى من يدعى الوقف والتسبيل إثبات ذلك كله.. وعلى ماذكرنا يستحق المسلمون منها مقدار حيازتها بدفن أو بناء على قبر.

وثالثاً: إن الهدم والتخريب فيما لو وجد بناء على قبر في أرض موقوفة للدفن وعلم أصله وأنه وضع بغير حق، وأما لو وجد بناء في أرض مسبلة ولم يعلم حاله ترك على حاله، لاحتمال أن يكون وضع بحق واللازم حمل فعل المسلم على الصحة فكيف بأفعال المسلمين في طول هذه المدة؟ فإن تلك البناءات والقباب تناولتها أيدي المسلمين في كثير من الأحقاب، وكانت بمرأى من الخلفاء والعلماء ولم ينكرها أحد ولا ادعى أنها بنيت على غير حق إلى أن

الصفحة 94
ظهرت الوهابية فأقدمت على هدم تلك القباب الطاهرة ورفع آثارها وهدم المساجد المبينة حولها، بلاحق أظهروه ولاعدل أفشوه، بل ذلك خلاف منهم لله ولرسوله ولسيرة الخلفاء من بعده.

تجاسر الوهابيين على المسلمين

ومنها: تجاسر الوهابيين على المسلمين بقتلهم وهتك أعراضهم ونهب أموالهم، حتى إن السلطان أقر على ذلك كما أعلن بذلك في المنشور بعنوان المفاوضات لوفد جمعية خدام الحرمين، لكن جلالة السلطان ابن سعود برأ نفسه من كل عمل عمله أي رجل من قواده وجنوده مما لا يجوز الشرع قياساً لحاله بحال النبي صلى الله عليه وآله، وحال قواده بحال خالد بن الوليد حين بعثه النبي إلى رهط من العرب ـ لا على قتالهم ـ فخدعهم خالد وقتلهم، فلما انتهى الخبر إلى النبي رفع يديه نحو السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك من صنع خالد» ثلاث مرات.

أقول: مقايسة حال جلالة السلطان بحال خالد بن الوليد ليست من تمام الجهات، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث خالداً للمقاتلة، وإنما هي شيء أتى به خالد من عند نفسه، والجنود المبعوثة من جانب السلطان إلى الحجاز إنما بعثت للقتال والجدال مع الخصم.

ومعلوم أن في الأقطار الحجازية من تكون ذمته بريئة ولا عهد ولا ميثاق له في المقاتلة والمجادلة، مع ما فيها أيضاً من النساء والصبيان وغيرهم من الضعفاء، والواجب على السلطان العارف بحقوق الرعية عدم التجاوز عن الحدود الشرعية المقررة في باب الجهات والدفاع عن البلاد، فلا يبعث إليها من يسومهم سوء

الصفحة 95
العذاب ويعامل مع المسلمين المبرئين معاملة الألمان في بلاد بلجيكا والفرنسيين، ويسايرهم بسيرة الأوربيين.

أو يقال في مقام الاعتذار للوفد الهندي كما في المفاوضات المطبوعة اليوم:

«وليس ماوقع في الطائف بدعا في تاريخ الحروب في العالم، فهذه أفعال الألمان في القرن العشرين مسطورة في بطون التاريخ من أعمال جنودهم في بلاد بلجيكا وبلاد الإفرنسيين، بل هذه أعمال جنود الخلفاء وسيرتهم في سائر البلاد التي دخلوها» انتهى.

فإذا كان هذا حال المسلمين في الجهاد وفتحهم البلاد، وهذا عذرهم إذا اعتدوا على واحد من أنفسهم وإخوانهم في الدين، فعلى الإسلام السلام، لأن سلوك مسلك الكفارخروج عن الدين. كيف لا؟ والحال أن الكفار لا يرون دون إنجاح مقاصدهم لواحد منهم أو من غيرهم عهداً ولا ذمة، وأين هذا من دين المسلمين المؤدبين بآداب سيد المرسلين؟؟

حتى إنه صلى الله عليه وآله جعل لهم في جهادهم شرائط شرعية واجبة الرعاية. التي لا يراعى واحداً منها أحد من الكفار والمشركين.

ثم إن ما قيل أو يقال في مقام الاعتذار من ناحية جلالة سلطان نجد ينافي ما صدر منه في ص16 من المنشور المبوع باسم المفاوضات ما هذا نصه هو:

«إن ديننا دين الإسلام ومرجعنا في أعمالنا كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وما عليه الأئمة الأربعة، الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أبوحنيفة، والإمام أحمد رحمهم

الصفحة 96
الله تعالى. فإذا كان لدى أحد من الناس حجة يوردها علينا في أمر من الأمور فيما يتعلق بهذه الأقسام الثلاثة من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو من أعمال السلف الصالح أو من أقوال الأئمة الأربعة فليتفضلوا علينا بها لتكون أول المطيعين» انتهى.

أقول: إن كان الأمر كما ذكره جلالة السلطان وصدر من حضرته هذا الإعلان، فإني أقسم عليه برب الكعبة أن يراجع هذه المسائل المحررة في هذه الرسالة حتى يتبين لحضرته الحق وينكشف لديه الصواب، ويظهر له أن ما صنعته الأعراب من هدم المآثر الإسلامية لو كان بأمر منه فليتدارك، وإلا فالمشتكى إلى الله تعالى ونحتسب عنده ذلك.

ولنا التسلى بما صدر قبل الإسلام من تخريب مردة الدين الكعبة والبيت المقدس وسائر الأماكن المشرفة، وكلك ما صدر بعد الإسلام مما صنعه يزيد بن معاوية من قتله ابن رسول الله وتركه تلك الجسوم الطاهرة على وجه الأرض بلا غسل ولا كفن ولا دفن، ثم عطفه على تخريب الكعبة وإباحته المدينة، بل وما صنعه الحجاج في واقعة ابن الزبير ورميه الكعبة بالمنجنيق..

ثم أقول: لو كانت ذمة جلالة السلطان في الواقع مشغولة، فالتبرئة لا تدفع عن حقوق الناس المتعلقة بالنفوس والأموال، بل الواجب أداء حضرته ما عليه من الحقوق التي صار هو سبباً لتضييقها على صاحبها، والنبي صلى الله عليه وآله معلوم أنه كان برىء الذمة، وإنما تبرأ جهاراً ليعلم الناس بأن ما فعله خالد منالقتل والنهب خلاف لله ولرسوله، ولكنه مع ذلك أرسل علياً عليه السلام لتدارك ما أتلفه خالد على الرهط وجنى عليهم. وأين هذا من صنع السلطان؟

الصفحة 97
فالقياس الصحيح بحال النبي صلى الله عليه وآله يقتضى أن يصنع السلطان مع المسلمين الذين جنت عليهم جنوده وقواده مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وآله من أدائه رسوم الجنايات والتعويض لهم بما أخذ منهم، فإن لكل مؤمن برسول الله أسوة حسنة.

ومنها: أن الوهابية منعوا عن الحرية المذهبية في الديار النجدية والحجازية، وضيقوا على المسلمين في الأخذ بمذهبهم وما أباحه الشارع لهم على طريقتهم، فجعلوا يرمون من قال: يا محمد، ويا رسول الله، بالكفر والشرك، ومنعوا الناس من الترحيم والتذكير والتسليم في أوقاتها، ومنعوا عن مسح قبر النبي صلى الله عليه وآله والالتصاق به والتوجه إليه حال الدعاء، ومنعوا عن شرب التتن وغير ذلك مما لم يصرح الشارع بحرمته والانتهاء عنه ـ لاخصوصاً ولا عموماً.

منع الوهابيين عن الحرية الدينية

وقد أعلنوا ـ كما في ص17 من المفاوضات الهندية:

«إن كل مسلم حر في كل قول أو عمل يجيزه الاسلام، ونمنع من كل قول أو عمل يحرمه الإسلام، إن الحجاز هو مصدر الإسلام وأساسه، فإذا لم تكن الكلمة العليا فيه لكتاب الله ولسنة رسوله ولما كان عليه السلف الصالح، ففي أي مكان تكون الكلمة العليا لهذه الأسس العظيمة» انتهى.

والجواب عن هذا الإعلان: إن المراد من الحرية المذهبية المعروضة لدى السلطان ليست ما أقدمت عليه الأمم الأوربية كي يستحق الوفد هذا الجواب

الصفحة 98
منه: وإنما يراد بها ما أعلنه الشارع في كتابه وسنة رسوله بقوله: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) .

ومقتضى الآية ـ مضافاً إلى ما عرفت في المقدمة ـ إباحة ما منعت عنها الوهابية وزجرت الناس عليها، كما أن مقتضى قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتاً أو دماً مسفوح) إباحة التدخين، فإن الآية وردت في تلقين النبي صلى الله عليه وآله طريق إبطال شريعة اليهود حيث حرموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه.

والتعبير عن عدم وجود الحرام بعدم الوجدان للإشارة بعد إلقاء الخصوصية إلى كفاية عدم الوجدان في الرخصة والحلية، وأنه طريق إلى معرفة الأحكام الشرعية.

ومثل هذه الآية في الدلالة على حلية شرب التتن قوله تعالى: (وما لكم أن لا تأكلون مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم) حيث دلت على كفاية خلو ما فصل من المحرمات عن ذكر حرمة شرب التتن في الحكم بعدم الحرمة.

ويكفي هذا المقدار من الآيات في نهوض الحجة على البراءة الشرعية وتكون هي الكلمة العليا في الأقطار الحجازية.

ولا يجب على المسلمين أن يجتمعوا على مذهب واحد، وإنما يجب عليهم اتباع الكتاب والسنة حسبما أدت إليه أنظارهم لقوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ، ولقوله سبحانه: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا

الصفحة 99
قومهم إذا رجعوا إليهم) وقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .

وفسر أهل الذكر بالعلماء من غير حصر في واحد أو أزيد، فهم المرجع للعوام، كما أن المرجع للعلماء الكتاب والسنة.

وليس في آية أو رواية من حرمة التدخين شيء، والإسراف والتبذير واللغوية جهات خارجية لا تتوجه إلى من يرى الانتفاع بها، وليس التتن مما تنفر الطباع منه كي يعد من الخبائث.

في حلية شرب التتن

ولو سلم فليس بأشد تنفراً من القهوة المرة والعقاقير المتداولة، ولو رأت طائفة أنه حرام ليس لهامنع الشارب إذا رأى أن شرب التتن مباح، فإن النهي عن المنكرإنما هو لمن يراه منكراً، وليست مسألة جواز التدخين أو حرمته من المسائل البالغة حد الضرورة كالصلاة والصوم، والأحكام المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، وليس لأحد أن يلزم الناس بقول قاله شيخ أو رئيس أو حاكم أو أمير إذا لم يوافقه قول الله وقول رسوله.

قال ابن تيمية في ص32 من الجزء الثالث من منهاج السنة: من اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر ـ انتهى.

والقرآن حكم عدل وقول فصل ينادي بحيث يعرفه كل عربي: بأن

الصفحة 100
الحكم بما أنزل الله فلا محيض له عن أن يسند حكمه إلى ركن وثيق، وإلا كان حكما بغير ما أنزل الله.

تمت الرسالة بعون الله وحسن توفيقه يوم الجمعة لخمس بقين في شهر ربيع الأول في شهور سنة 1346هـ.

وقد تم طبعه في النجف الأشرف ـ العراق في غرة رجب سنة 1382هـ. وأعيد طبعه في الأوفست في طهران في سنة 1394هـ.

وتم طبع هذا الكتاب بطبعته الثالثة بالقاهرة بمعاونة الأستاذ إبراهيم أحمد إبراهيم وكان ذلك يوم 9 أبريل سنة 1977 ـ 20 ربيع الثاني سنة 1397هـ.