3.التوسل بعمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أخرج البخاري في صحيحه،عن أنس: «انّ عمر بن الخطاب كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب (رض) فقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا، وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا. قال: فيسقون».(1) هذا ما نصّ عليه البخاري وهو يدل على أنّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشخصه وشخصيته وقدسيته وقرابته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بدعائه ويدل على ذلك:
قول الخليفة عند الدعاء: «اللّهمّ كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا» وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بنفسه بالدعاء عند الاستسقاء، وتوسل بعمّ الرسول وقرابته منه في دعائه.
ج. التوسل بحقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاَنبياء والصالحين
وهناك لون آخر من التوسل وهو التوسل بحقّ الاَنبياء والمرسلين، والمراد الحقّ الذي تفضل به سبحانه عليهم فجعلهم أصحاب الحقوق، وليس معنى ذلك انّ للعباد أو للصالحين على اللّه حقّاً ذاتياً يلزم عليه تعالى الخروج منه، بل الحقّ كلّه للّه، وإنّما المراد
____________
1 ـ صحيح البخاري:2/27، باب صلاة الاستسقاء، باب سوَال الناس الاِمام الاستسقاء إذا قحطوا من كتاب الصلاة.
ويدل على ذلك من الروايات ما يلي:
أ. روى أبو سعيد الخدري: قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): من خرج من بيته إلى الصلاة، وقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحقّ ممشاي هذا،فانّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة وخرجت اتقاء سُخْطِك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي انّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، أقبل اللّه عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك.(2)
ب. روى عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ربّي أسألك بحقّمحمّد لما غفرت لي، فقال اللّه عزّوجلّ: يا آدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه قال: لاَنّك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّمن روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلاّاللّه، محّمد رسول اللّه، فعلمت انّك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال اللّه عزّ وجلّ: صدقت يا آدم انّه لاَحبّ الخلق إليّ، وإذا سألتني بحقّه فقد غفرت ولولا محمّد ما خلقتك.(3)
____________
1 ـ الروم/47.
2 ـ سنن ابن ماجة:1/256رقم 778، باب المساجد؛ مسند أحمد:3/21.
3 ـ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لاَبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي:5/489، دار الكتب العلمية.
إلى هنا تم البحث عن أقسام التوسل الثلاثة وعرفت انّ الجميع يدعمه الكتاب والسنة وتصور انّ التوسل بغيره سبحانه تأليه وعباده لغيره قد عرفت بطلانه وذلك لوجهين:
الوجه الاَوّل: لو كان التوسل بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذاته أو حقّه شركاً يلزم أن يكون كلّ توسل كذلك حتى التوسل بالغير في الاَُمور العادية مع أنّه باطل بالضرورة، لاَنّ الجميع من قبيل التوسل بالاَسباب، عادية كانت أو غير عادية، طبيعيةً كانت أو غير طبيعية.
الوجه الثاني: قد عرفت في تعريف العبادة انّه الخضوع أمام الغير بما هو إله أو ربّ أو مفوض إليه أُموره سبحانه، وليس واحد من هذه القيود متحّققاً في التوسل بالاَنبياء والصالحين والشهداء بل يتوسل بهم بما انّهم عباد مكرمون يستجاب دعاوَهم عند اللّه سبحانه، أو انّ لذواتهم وحقوقهم منزلة عند اللّه، فالتوسل بهم يثير
____________
1 ـ معجم الطبراني الاَوسط: 356؛ حلية الاَولياء:3/121؛ مستدرك الحاكم: 3/108.
كيف يكون التوسل بنبي التوحيد(صلى الله عليه وآله وسلم) شركاً مع أنّه يتوسل به بما انّه مكافح للشرك ومقوض لدعائمه؟
د. التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين بعد رحيلهم
من أقسام التوسل الرائجة بين المسلمين هو التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحين بعد رحيلهم.
ولكن ثمة سوَالاً يطرح نفسه وهو:
انّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حياً يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو اللّه سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سوَالك، أمّا إذا كان المستغاث ميتاً انتقل من هذه الدنيا فكيف يصحّ التوسل بمن انتقل إلى رحمة اللّه وهو لا يسمع؟
والجواب: انّ الموت ـ حسب ما يوحي إليه القرآن والسنّة النبوية ـ ليس بمعنى فناء الاِنسان وانعدامه، بل معناه الانتقال من دار إلى دار وبقاء الحياة بنحو آخر والذي يعبر عنه بالحياة البرزخية.
الآية الاَُولى:
قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْأَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) .(1)
وقد كان المشركون يقولون: إنّ أصحاب محمّد يقتلون أنفسهم في الحروب دون سبب، ثمّ يقتلون ويموتون فيذهبون، فوافى الوحي رداً عليهم بأنّه ليس الاَمر على ما يقولون، بل هم أحياء وإن كان المشركون وغيرهم لا يدركون ذلك.
الآية الثانية
قوله تعالى: 1. (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون) .
2. (فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) .
3. (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَإِنَّ اللّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُوَْمِنينَ) .(2)
____________
1 ـ البقرة/154.
2 ـ آل عمران/169ـ 171.
1. (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) .
2.(يُرْزَقُونَ) .
3. (فَرِحينَ) .
4. (وَيَسْتَبْشِرُونَ) .
والمقطع الثاني يشير إلى التنعم بالنعم الاِلهية، والثالث والرابع يشير إلى النعم الروحية والمعنوية، وفي الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة.
وقد نزلت الآية: إمّا في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الاَنصار وستة من المهاجرين، وإمّا في شهداء أُحد وكانوا سبعين رجلاً، أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبد اللّه بن جحش وسائرهم من الاَنصار، وعلى قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين.
الآية الثالثة
قوله سبحانه: (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَومِ اتَّبِعُوا المُرْسَلينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَمالِيَ لا
اتفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رسل عيسى (عليه السلام)، وقد نزلوا بأنطاكيا داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غيره سبحانه، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في نفس السورة.
فبينما كان القوم والرسل يتحاجون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى اللّه سبحانه وقال لهم:
إتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الاَجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم مهتدون إلى طريق الحقّ، سالكون سبيله، ثمّ أضاف قائلاً:
ومالي لا أعبد الذي فطرني وأنشأني وأنعم إليّ وهداني وإليه ترجعون عند البعث، فيجزيكم بكفركم أتأمرونني أن أتخذ آلهة من دون اللّه مع أنّهم لا يغنون شيئاً ولا يردون ضرراً عني، ولا تنفعني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذونني من الهلاك والضرر، وعندما مهَّد السبيل
____________
1 يس/20ـ 29.
ولكنّه سبحانه جزاه بالاَمر بدخول الجنّة، بقوله: (قيلَ ادخُل الْجَنّة) ثمّ هو خاطب قومه الذين قتلوه، بقوله: (قالَ يا لَيْتَ قَومي يعلَمُون* بِما غَفَر لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمين) .
ثمّ إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلاً حتى أرسل جنداً من السماء لاِهلاكهم، يقول سبحانه:(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَومِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزلينَ*إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) .
أي: كان اهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر، وهي صيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم، فإذا هم خامدون ساكتون.
ودلالة الآية على بقاء النفس وإدراكها وشعورها وإرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا من الوضوح بمكان، حيث كان دخول الجنّة: (قيل ادخُل الجَنّة) والتمني (يا لَيْتَ قَومي) كان قبل قيام الساعة، والمراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الاَُخروية.
إلى هنا تمّ بيان بعض الآيات الدالة على بقاء أرواح الشهداء
1.(النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشدَّ الْعَذاب) .(1)
تدل الآية بوضوح على أنّآل فرعون يُعرضون على النار قبل قيام الساعة غدوّاً وعشيّاً، كما انّهم بعد قيامها يُدخلون أشدّ العذاب، فعذابهم قبل الساعة غير عذابهم بعدها، وهو دليل صريح على حياة تلك الطغمة.
2. (مِمّا خَطيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَادْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِأَنْصاراً) .(2)
تدل الآية على أنّ قوم نوح اغرقوا أوّلاً فادخلوا ناراً، ولم يجدوا لاَنفسهم أنصاراً وليست هذه النار، نار يوم القيامة بشهادة انّه سبحانه يقول:(فادخلوا ناراً) وهو يدل على تحقق الدخول بلا فاصل زمني بعد الغرق ولو أُريد نار يوم الساعة لكان الاَنسب أن يقول«فيدخلون ناراً».
____________
1 ـ غافر/46.
2 ـ نوح/25.
إنّ الكافر حينما يواجه الموت يجد مستقبل حياته مظلماً وكأنّه يشاهد العذاب الاَليم بأم عينه بعد موته فيتمنّى الرجوع إلى الحياة الدنيا، فيجاب بـ (كَلاّ) وما يشاهده ليس إلاّ عذاباً برزخياً لا عذاباً أُخروياً ولذلك يقول سبحانه (وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوم يُبْعَثُون) .
هذه الآيات وغيرها تعرب عن بقاء الحياة بعد الانتقال عن نشأة الدنيا، وإن أطلق الموت عليه فإنّما هو باعتبار انتهاء أمد حياته الدنيوية و اندثار بدنه وأمّا روحه ونفسه فهي باقية بنحو آخر تتنعم أو تعذَّب.
الصلة بين الحياتين: الدنيوية والبرزخية
ربما يمكن أن يقال: انّالآيات دلت على كون الشهداء والاَولياء بل الكفار أحياء، ولكن لا دليل على وجود الصلة بين الحياتين وانّهم يسمعون كلامنا، وهذا هو الذي نطرحه في المقام ونقول:
دلّ الذكر الحكيم على وجود الصلة بين الحياة الدنيوية والبرزخية بمعنى انّ الاَحياء بالحياة البرزخية يسمعون كلامنا
____________
1 الموَمنون/99ـ 100.
1. قال سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمينَ* فَتَولّى عَنْهُمْ وَقالَيا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصحينَ) .(1)
نزلت الآيات في قصة النبي صالح حيث دعا قومه إلى عبادة اللّه وترك التعرض لمعجزته (الناقة) وعدم مسِّها بسوء، ولكنّهم بدل ذلك فقد عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم فعمَّهم العذاب فأصبحوا في دارهم جاثمين، فعند ذلك عاد النبي صالح يخاطبهم وهم هلكى، بقوله: (فَتَولى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحينَ) .
وقد صدر الخطاب من النبي صالح (عليه السلام) بعد هلاكهم وموتهم، بشهادة قوله: (فتَولّى عَنْهُم) في صدر الخطاب المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.
فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين لما خاطبهم النبي صالح بهذا الخطاب.
2. قال سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ
____________
1 الاَعراف/78ـ 79.
وقد وردت هذه الآية في حقّ النبي شعيب (عليه السلام) ودلالة الآية كدلالة سابقتها، حيث يخاطب شعيبُ قومَه بعد هلاكهم، فلو كانت الصلة مفقودة ولم يكن الهالكون بسبب الرجفة سامعين لخطاب نبيهم، فما معنى خطابه لهم؟
3. قال سبحانه: (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ الِهَةً يُعْبَدُونَ) .(2)
ترى انّه سبحانه يأمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بسوَال الاَنبياء الذين بعثوا قبله وأمّا مكان السوَال فلعلّه كان في ليلة الاسراء.
السنة الشريفة والصلة بين الحياتين
ثمة روايات متضافرة بل متواترة تدل على وجود الصلة بين الحياتين، وجمع هذه الروايات بحاجة إلى تأليف كتاب مفرد.
ونكتفي هنا بالحديث المتفق عليه بين المسلمين وهو تكليم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أهل القليب.
____________
1 الاَعراف/91ـ 93.
2 ـ الزخرف/45.
فقال له أصحابه: يا رسول اللّه أتنادي قوماً موتى؟!
فقال (عليه السلام): ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
يقول ابن هشام بعد هذا النقل: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذَّبتموني وصدَّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.
ثمّ قال: هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّاً ؟!.(1)
أخرج البخاري: عن نافع انّ ابن عمر أخبره، قال: اطّلع النبي (عليه السلام) على أهل القليب، فقال: وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً؟!
فقيل له: ندعوا أمواتاً، فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون.(2)
____________
1 ـ السيرة النبوية:1/649؛ السيرة الحلبية:2/179و180.
2 ـ صحيح البخاري: 9/98، باب ما جاء في عذاب القبر من كتاب الجنائز.
«السّلام عليك أَيُّها النَّبيّ ورَحمة اللّه وبركاته».
وقد أفتى الاِمام الشافعي وآخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد، وأفتى الآخرون باستحبابه، لكن الجميع متفقون على أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) علمهم السلام وانّ سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثابتة في حياته وبعد وفاته.(1)
فلو انقطعت صلتنا بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بوفاته، فما معنى مخاطبته والسلام عليه يومياً؟!
سوَال و جواب
لو كانت الصلة بيننا وبين من فارقوا الحياة موجودة فما معنى قوله سبحانه: (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتى(2) ) وقوله سبحانه: (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُور) .(3)
والجواب: بملاحظة الآيات السابقة هو انّ المراد من الاِسماع، الاِسماع المفيد، ومن المعلوم انّسماع الموتى أو من في
____________
1 ـ تذكرة الفقهاء:3/333، المسألة 294؛ الخلاف:1/47.
2 ـ الروم/52.
3 ـ فاطر/22.
وقد مرّ انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يزور القبور، و يخرج آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السّلام عليكم دار قوم موَمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مأجلون وانّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لاَهل بقيع الغرقد.(2)
اتّفق المسلمون على تعذيب الميت في القبر، أخرج البخاري عن ابنة خالد بن سعيد بن العاص انّها سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتعوذ من عذاب القبر، وأخرج عن أبي هريرة كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار.(3)
كلّ ذلك يدل على أنّ المراد من نفي الاسماع هو الاسماع المفيد. تحقيقاً لقوله سبحانه: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَ رَبِّ ارجِعُونِ* لَعَلّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ
____________
1 ـ البخاري:الصحيح: 2/90، باب الميت يسمع خفق النعال.
2 ـ صحيح مسلم:3/63، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز.
3 ـ البخاري:الصحيح: 2/99، باب التعوذ من عذاب القبر من كتاب الصلاة.
هـ.طلب الشفاعة
اتّفقت الاَُمّة الاِسلامية على انّ الشفاعة أصل من أُصول الاِسلام نطق به الكتاب والسنّة النبوية، وأحاديث العترة الطاهرة، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين وإن اختلفوا في بعض خصوصياتها.
وأجمع العلماء على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الشفعاء يوم القيامة، إلاّ أنّ الكلام في المقام في طلب الشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل يجوز أن نقول: يا رسول اللّه اشفع لنا عند اللّه، كما يجوز أن نقول: اللّهمّ شفّع نبيّنا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) فينا يوم القيامة، أو لا يجوز؟ تظهر حقيقة الحال من خلال الوجوه التالية:
الوجه الاَوّل: انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أو الولي (عليه السلام) في حقّ المذنب وإذا كانت هذه حقيقتَها فلا مانع من طلبها من الصالحين، لاَنّ غاية هذا
____________
1 الموَمنون/99ـ 100.
والدليل على أنّ الشفاعة هو طلب الدعاء، ما أخرجه مسلم، عن عبد اللّهبن عباس، انّه قال: سمعت رسول اللّه يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلاّ شفّعهم اللّه فيه.(1) ي قُبل شفاعتهم فيه وليست شفاعتهم إلاّ دعاوَهم له بالغفران.
وعلى هذا فلا وجه لمنع الاستشفاع بالصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء.
الوجه الثاني: انّ سيرة المسلمين تكشف عن جواز طلب الشفاعة في عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده.
أخرج الترمذي في سننه عن أنس قال: سألت النبي«صلى الله عليه وآله وسلم» أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قال: قلت يا رسول اللّه فأين أطلبك؟ فقال: اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط.(2)
نقل ابن هشام في سيرته: انّه لما توفّي رسول اللّه«صلى الله عليه وآله وسلم» كشف أبو بكر عن وجهه و قبله، وقال: بأبي أنت و أُمّي أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً.(3)
____________
1 ـ صحيح مسلم:3/53، باب من صلّى عليه أربعون شفعوا فيه من كتاب الجنائز.
2 ـ سنن الترمذي:4/621، كتاب صفة القيامة.
3 ـ السيرة النبوية: 2/656، ط عام 1375هـ و هو يدل على وجود الصلة بين الاحياء والاَموات وقد جئنا به لتلك الغاية.
انّ كلام الاِمام يدلّ على عدم الفرق في طلب الشفاعة من الشفيع في حين حياته وبعد وفاته، وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته.
وتصور انّ طلب الشفاعة من الشفيع الواقعي شرك تصور خاطىَ، فانّ المراد من الشرك في المقام هو الشرك في العبادة، وقد علمت انّمقومه هو الاعتقاد بأُلوهية المدعوّ أو ربوبيته أو كون مصير العبد بيده، وليس في المقام من ذلك شيء.
إنّ طالب الشفاعة من الشفعاء الصالحين ـ الذين أذن اللّه لهم بالشفاعة ـ إنّما يعتبرهم عباداً للّه مقربين لديه، وجهاء فيطلب منهم الدعاء، وليس طلب الدعاء من الميت عبادة له، وإلاّلزم كون طلبه من الحي عبادة لوحدة واقعية العمل.
وقياس طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بطلب الوثنيين الشفاعةَ من الاَصنام قياس مع الفارق، لاَنّ المشركين كانوا على اعتقاد بأُلوهية معبوداتهم وربوبيتها، و أين هذا من طلب الموحد الذي لا يراه إلهاً ولا ربّاً ولامن بيده مصير حياته؟! وإنّما تعتبر الاَعمال بالنيات لا بالصور والظواهر.
____________
1 ـ نهج البلاغة: رقم الخطبة 23.