10
الحلف على اللّه بحقّ الاَولياء
إنّ القرآن الكريم يصف بعضَ عبادِ اللّه، بقوله:
(الصّابِرينَ وَالصّادِقينَ وَالقانِتينَ وَالمُنْفِقينَ وَالمُسْتَغْفِرينَ بِالاََسْحار) .(1)
فلو أنّ أحداً قام في آناء الليل وصلّى ناشئته ثمّ ابتهل إلى اللّه متضرعاً، و قال: «اللّهمّ إنّي أسألُكَ بِحقِّ الْمُستَغْفِرينَ بالاَسحار اغفر لي ذنبي» فهل يجوز ذلك أو لا ؟
يمكن استكشاف الحكم من الاَحاديث المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاَئمّة الاَطهار.
1. قد أخرج الترمذي وابن ماجة والاِمام أحمد عن عثمان بن حنيف: انّ رجلاً ضريراً أتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: أُدعو اللّه أن يعافيني، ثمّ نقَلوا أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمره أن يتوضّأ ويُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعوا بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي
____________
1 ـ آل عمران/17.
2. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعاء التالي: «اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك وأسألك بحقّممشاي هذا».(2)
3. أخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه: (صلى الله عليه وآله وسلم)لما اقترف آدم الخطيئة رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحقّ محمّد الا غفرت لي.(3)
4. أخرج الحاكم في مستدركه، و الطبراني في معجمه الاَوسط، وأبو نعيم في حلية الاَولياء، عن أنس بن مالك، انّه لما ماتت فاطمة بنت أسد، حفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد، حفره رسول اللّه بيده، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ، دخل رسول اللّه فاضطجع فيه، وقال: اللّه الذي يحيي و يميت،وهو حيّ لا يموت، اغفر لاَُمّي فاطمة بنت أسد، ولقِّنها حجَّتها ووسِّع عليها مَدْخَلها بحقّ نبيّك والاَنبياء الذين من قبلي فانّك أرحم الرحمين.(4)
____________
1 ـ صحيح الترمذي5، كتاب الدعوات، الباب 119 برقم 3578؛سنن ابن ماجه:1/441 برقم 1385؛ مسند أحمد:4/138، إلى غير ذلك من المصادر، وقد مرّ في مبحث التوسل.
2 ـ سنن ابن ماجة: 1/256 برقم 778، باب المساجد؛ مسند أحمد:3/21.
3 ـ البيهقي: دلائل النبوة: 5/489.
4 ـ الحاكم: المستدرك: 3/108؛ الطبراني، المعجم الاَوسط: 356؛ حلية الاَولياء: 3/121.
وقد ورد الحلف على اللّه بحقّ الاَولياء في غير واحد من أدعية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)الذين هم أعدال الكتاب وقرناوَه بنصّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي».(1) يقول الاِمام الطاهر الحسين بن علي (عليهما السلام) في دعاء يوم عرفة و هو يناجي ربّه: «بحقّ من انتخبت من خلقك، و بِمَن اصطفَيتَه لنفسك، بِحقِّ من اخترتَ من بريّتك، ومن اجتبيتَ لشأنك، بحقِّ من وصلتَ طاعتَه بطاعتك، وبحقّ من نيَّطت معاداته بمعاداتك.(2)
لما زار الاِمام الصادق (عليه السلام) مرقد جدّه الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) دعا في ختام الزيارة بقوله: اللّهمّ استجب دعائي، واقبل ثنائي، وأجمع بيني وبين أوليائي، بحقِّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين».(3)
وهذه الاَدعية عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تدلّ على جواز الحلف على اللّه بحقّ أوليائه الصالحين.
____________
1 ـ حديث متواتر عن كلا الفريقين.
2 ـ ابن طاووس: الاقبال: 309.
3 ـ الطوسي: مصباح المتهجد: 682.
سوَال وإجابة
ربمايقال: انّ المسألة بحقّ المخلوقين غير جائز لاَنّه لا حقّللمخلوق على الخالق.
والجواب أوّلاً: انّهذا اجتهاد في مقابل النص الصريح، إذ لو لم يكن للمخلوق حقّ في ذمة الخالق، فلماذا أقسم النبي آدم «عليه السلام» والنبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) على اللّه بالحقوق، الواردة في الروايات؟
وثانياً: انّه سبحانه يُثبت لعباد اللّه الصالحين حقوقاً في ذمته، ويقول: (وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُوَْمِنينَ)(1) ، (وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً في التَّوارةِ وَالاِِنْجيل)(2) (كَذلِكَ حَقّاً عَلَيْنا نُنْجِ الْمُوَْمِنينَ) :(3) (إِنّما التَّوبَةُ عَلى اللّهِ للَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة) .(4)
وثمة مجموعة من الروايات تشير إلى وجود الحقّ للمخلوق في ذمة الخالق، وإليك نماذج منها:
1. «حقّعلى اللّه عون من نكح التماس العفاف ممّا حرم اللّه».(5)
2. قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «ثلاثة حقّ
____________
1 ـ الروم/47.
2 ـ التوبة/111.
3 ـ يونس/103.
4 ـ النساء/17.
5 ـ الجامع الصغير للسيوطي:2/33.
3. «أتدري ما حقّ العباد على اللّه».(2)
نعم من الواضح انّه ليس لاَحد بذاته حقّ على اللّه تعالى، حتى لو عبد اللّه قروناً طويلة، لاَنّ كلّما للعبد من حول و قوة، ونعمة فهو للّه تعالى فلم يُبذل العبد شيئاً من نفسه في سبيل اللّهحتى يستحق بذاته الثواب.
فإذاً فما معنى الحقّ؟
والجواب: انّالمقصود من الحقّ في هذه الاَدعية أو الاَحاديث هو المنزلة التي يمنحها اللّه لعباده مقابل طاعتهم وانقيادهم، لكن بتفضّل وعناية منه، لا بإستحقاق من العبد، فالحقّ الذي يُقسَم به على اللّه حق، جعله اللّه على ذمته لا انّالعبد استحق حقاً على اللّه، ونظير هذا استقراضه سبحانه من عبده، يقوله: (مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً) .(3)
إنّهذا التعبير نابع من لطفه سبحانه وعنايته الفائقة بعباده الصالحين حتى يعتبر ذاته المقدسة مديوناً لعباده، وعبادَه دُيّاناً أصحاب الحق، ففي هذا الاَمر من الترغيب والتشجيع إلى طاعة اللّه ما لا يخفى.
____________
1 ـ سنن ابن ماجة:2/841.
2 ـ النهاية لابن الاَثير: مادة حق.
3 ـ البقرة/245.
11
الحلف بغير اللّه
هل يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه كالحلف بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و القرآن والكعبة وغيرها من المقدسات أو لا ؟
عندما نستنطق القرآن في ذلك، نرى انّه سبحانه حلف في سورة الشمس وحدها بثمانية أشياء من مخلوقاته هي: الشمس، ضحاها، القمر، النهار، الليل، السماء، الاَرض، والنفس الاِنسانية.(1)
وكذلك ورد الحلف بغير اللّه في سورة النازعات والمرسلات والطارق والقلم والعصر والبلد وإليك نماذج من الحلف بالمخلوق في غير تلك السور.
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون* وَطُورِسينينَ* وَهذا البَلَدِالاََمين) .(2)
(وَاللَّيلِ إِذا يَغْشى*وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى) .(3)
(وَالْفَجْرِ* وَليالٍ عَشْرٍ*والشَّفعِ وَالوَتْر*واللَّيلِ إِذا يَسْر) .(4)
____________
1 ـ الشمس/1ـ7.
2 ـ التين/1ـ3.
3 ـ الليل/1ـ2.
4 ـ الفجر/1ـ4.
(لَعَمْرُكَ إنّهم لَفِي سَكْرَتهِمْ يَعْمَهُون) .(2)
فلو كان الحلف بغير اللّه شركاً وأمراً قبيحاً، فكيف يصدر منه سبحانه وقد وصف الشرك بالفحشاء، وقال: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) .(3)
والقبيح قبيح مطلقاً دون فرق بين ارتكابه من قِبل الخالق أو المخلوق، وهذا يُعرب عن أنّ الحلف بغير اللّه سبحانه إذا كان لغاية عقلائية أمر لا محذور فيه.
ثمّ إنّ الغاية ـ غالباًـ من حلفه سبحانه بالاَُمور الكونية هي الاِشارة إلى الاَسرار المكنونة فيها ودعوة الناس إلى الامعان فيها وكشف رموزها، ولكن الغاية في حلف الاِنسان بالذوات القدسية ـ وراء الاشارة إلى قدسيّتهم ـ هي امّا الترغيب أو الترهيب أو كسب ثقة المقابل.
وإذا عطفنا النظر إلى السنة النبوية نجد انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يحلف
____________
1 ـ الطور/1ـ6.
2 ـ الحجر/72.
3 ـ الاَعراف/28.
أخرج مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة، قال:
«جاء رجل إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أما ـ وأبيك ـ لتنبّأنّه أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء».(1)
وأخرج أيضاً عن طلحة بن عبيد اللّه، قال:«جاء رجل إلى رسول اللّه ـ من نجد ـ يسأل عن الاِسلام، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): خمس صلوات في اليوم والليل.
فقال: هل عليَّ غيرهن؟
قال: لا... الا أن تطوع،وصيام شهر رمضان.
فقال: هل عليَّ غيرها؟
قال: لا... الا ان تطوع، وذكر له رسول اللّه الزكاة.
فقال الرجل: هل عليّ غيره؟
قال: لا...الا أن تطوع.
فأدبر الرجل وهو يقول: واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
فقال رسول اللّه: أفلح ـ و أبيه ـ(2) إن صدق.
____________
1 ـ صحيح مسلم: 3/94، باب أفضل الصدقة من كتاب الزكاة.
2 ـ أي: قسماً بأبيه، و «الواو» للقسم.
وثمةأحاديث أُخرى طوينا الكلام عن ذكرها مخافة الاطالة.
سوَال وجواب
أخرج النسائي في سننه، عن ابن عمر: انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من حلف بغير اللّه فقد أشرك.(2)
ومعه كيف يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه؟
والجواب: انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يشير في قوله هذا إلى نوع خاص من الحلف الرائج في ذلك العصر وهو الحلف بالاَصنام كاللات والعزّى، ويدل على ذلك ما أخرجه النسائي أيضاً في سننه عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من حلف، فقال في حلفه باللات والعزّى، فليقل لا إله إلاّ اللّه».(3)
وأخرج أيضاً عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمّهاتكم ولا بالاَنداد.(4)
إنّ الحديث الاَوّل يكشف عن انّ رواسب الجاهلية ما زالت عالقة في بعض النفوس، فكانوا يحلفون بأصنامهم، فأمرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقولوا بعد الحلف «لاإله إلاّ اللّه»، لاَجل القضاء على تلك الخلفيات.
____________
1 ـ صحيح مسلم: 1/32، باب «الاِسلام ما هو و بيان خصاله» من كتاب الاِيمان.
2 ـ سنن النسائي:7/8.
3 ـ سنن النسائي:7/8.
4 ـ سنن النسائي:7/8.
ويظهر من كثير من الفقهاء جواز الحلف بغير اللّه غير انّهم اختلفوا في وجوب الكفارة عند الحنث، وهذا يعرب عن تصافقهم على جواز الحلف وإنّما الاختلاف في انعقاده وكفارته،وإليك بعض النصوص:
قال ابن قدامة: الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام اللّه يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها، وبهذا قال ابن مسعود، والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأبو عبيد وعامة أهل البيت.
وقال أبو حنيفة: وأصحابه ليس بيمين ولا تجب به كفارة.(1)
وقال ابن قدامة في موضع آخر: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق والاَنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها، وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا: الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة.(2)
نعم اتّفق الفقهاء على أنّه لا تفُضَّ الخصومات عند القاضي إلاّ بالحلف باللّه.
____________
1 ـ المغني: 11/193، كتاب اليمين.
2 ـ المصدر نفسه: 11/209.
12
تسمية المواليد بإضافة العبد إلى غير اللّه سبحانه
لقد تعارف لدى المسلمين تسمية أولادهم بعبد الرسول وعبد الحسين وما ضاهاهما ويجمع الكلّ اضافته إلى أسماء الرسول وأئمّة الاِسلام.
وربما وقع ذلك ذريعة للسوَال عن جوازه، فنقول:
تطلق العبودية ويراد منها أحد المعاني التالية:
1. العبودية هي التي تقابل الاَُلوهية، وهي بهذا المعنى ناشئة من المملوكية التكوينية التي تعمّ جميع العباد، ومنشأ المملوكية كونه سبحانه خالقاً، والاِنسان مخلوقاً.
وعلى ضوء ذلك فالعبودية إذا كانت رمزاً للمملوكية الناشئة من الخالقية، فهي لا تضاف إلاّ إلى اللّه سبحانه كما يقول سبحانه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالاََرْضِ إِلاّ اتِى الرَّحمنِ عَبْداً) .(1)
وقال سبحانه حاكياً عن المسيح: (إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبِيّاً) .(2)
____________
1 ـ مريم/93.
2 ـ مريم/30.
فأمر الاسارى ـ الذين يقعون في الاَسر بيد المسلمين ـ موكول إلى الحاكم الشرعي فهو مخيّر بين إطلاق سراحهم بلا عوض أو بأخذ مال منهم أو استرقاقهم.
فإذا اختار الثالث فيكون الاَسير عبداً للمسلم، ولذلك ترى انّالفقهاء عقدوا باباً باسم «العبيد والاماء».
قال سبحانه: (وَأَنْكِحُوا الاََيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَليمٌ) .(1)
تجد انّه سبحانه ينسب العبودية والاِمائية إلى الذي يتملكونهم ويقول «عبادكم وإمائكم» فيضيف العبد إلى غير اسمه جلّ ذكره.
3. العبودية بمعنى الطاعة وبها فسرها أصحاب المعاجم.(2)
وهذا هو المقصود من تلك الاسماء فيسمون أولادهم باسم عبد الرسول أي مطيع الرسول وعبد الحسين أي مطيعه وكلّمسلم مطيع للرسول والاَئمّة من بعده ولا شكّ انّه يجب إطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أولي الاَمر..
____________
1 ـ النور/32.
2 ـ لسان العرب: مادة عبد، وكذلك القاموس المحيط في نفس المادة.
فعرف القرآن النبي مطاعاً والمسلمين مطيعين، ولا عتب على الاِنسان أن يظهر هذا المعنى في تسمية أولاده وأفلاذ كبده.
نعم المسمى بعبد الرسول هو عبد للرسول و في الوقت نفسه عبد للّه أيضاً و لا منافاة بين النسبتين لما عرفت من انّ العبودية في الصورة الاَُولى هي العبودية التكوينية النابعة من الخالقية ولكنّها في الصورة الثانية ناجمة عن تشريعه سبحانه حيث جعل النبي مطاعاً وأمر الناس باطاعته وشتان ما بينهما.
جعفر السبحاني
قم ـ الجامعة الاِسلامية
____________
1 ـ النساء/59.