كشف الحقيقة الرابعة
اعتقاد اختصاص أهل البيت وشيعتهم بعلوم
ومعارف نبوية وإلهية دون سائر المسلمين
ومستند هذه الحقيقة ما أورده صاحب الكافي بقوله: عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فقلت: جُعلت فداك، إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علَّم علياً عليه السلام ألف باب من العلم يفتح منه ألف باب. قال: فقال: يا أبا محمد، علَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام ألف باب، يفتح له من كل باب ألف باب. قال: قلت: هذا بذاك. قال : ثم قال: يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة ؟ قال: قلت: جعلت فداك ، وما الجامعة ؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأملاه من فلق فيه، وخط علي بيمينه كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش والخدش. قال: قلت: هذا والله العلم ! قال: إنه لعلم وليس بذاك. ثم سكت ساعة ثم قال: عندنا الجفر، ما يدريهم ما الجفر ؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل. قال: قلت: إن هذا العلم ! قال: إنه العلم، وليس بذاك. ثم سكت ساعة، ثم قال : وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة ؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد ! قال:
و بعد:
إن النتيجة الحقيقية لهذا الاعتقاد الباطل لا يمكن أن تكون إلا كما يلي:
1 ـ الاستغناء عن كتاب الله تعالى، وهو كفر صراح.
إن هذا الحديث لا يدل على هذه النتيجة ولا على غيرها من النتائج التي ذكرها كما سيتضح قريباً إن شاء الله تعالى.
وهذا الحديث المروي في الكافي صحيح الإسناد، فيه بيان ما خُصَّ به أهل البيت عليهم السلام من الصحائف والكتب وما عندهم من العلوم الشرعية والمعارف الإلهية التي لم تكن عند غيرهم من الناس.
ومنها: الجامعة:
ومنها
وهو كتاب فيه علم ما يكون
____________
(1) راجع بحار الأنوار 25/116، 26/18، 20، 21، 22، 23، 33، 34، 35، 36، 38، 39، 41، 45، 46، 48، 47/26.
وأما الجفر
وأما الجفر الأحمر فهو وعاء آخر فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يخرجه الإمام المهدي عليه السلام حين خروجه كما في صحيحة الحسين بن أبي العلاء،
____________
(1) الكافي 1/240.
(2) المصدر السابق 1/241.
إذا اتضح ذلك نقول:
إن حيازة مثل
ثم إن الاستغناء عن كتاب الله عز وجل لا يتحقق إلا بالإعراض عنه إلى غيره، وأما الاستفادة من الكتب المدونة في شتى العلوم والفنون فهي لا تدل على الرغبة عن كتاب الله العزيز، ولا سيما إذا كانت مبيِّنة لمجملات القرآن، وموضحة لما يحتاج منه إلى بيان كما هو الحال في الصحيفة الجامعة، التي تشتمل على الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس مفصّلاً، أو كانت مشتملة على بيان الملاحم والفتن وما يكون إلى قيام الساعة، كما هو الحال في مصحف فاطمة عليها السلام.
وعلى كل حال فإن الصحيفة الجامعة كتاب جامع في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومصحف فاطمة عليها السلام كتاب مشتمل على حديث جبرئيل عليه السلام، وباقي الكتب هي من كلام الله عز وجل، وكل ذلك حق لا يجوز نسبته إلى الباطل كما هو واضح.
____________
(1) المصدر السابق 1/240.
وعليك أيها القارئ العزيز بمراجعة ما سبق بيانه في ردّ ما تمسَّك به الجزائري في إثبات هذه التهمة في حقيقته الأولى.
لعل الخصم يقول: إن كل ذلك لا يصح، ولو أنا علمنا أن علياً عليه السلام كتب الصحيفة الجامعة من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومصحف فاطمة عليها السلام من إملاء جبريل عليه السلام لما نازعناكم في كل ذلك، ولكن ذلك لم يثبت، فلا يمكن قبوله بحال.
والجواب:
أنا قد تلقَّينا ذلك من الثقات الأَثبات فلا نردّه وإن كان لا يلزمنا الاعتقاد به، لِما بيّناه فيما تقدَّم من أن الاعتقادات لا بد أن تكون يقينية، والخبر الصحيح وإن كان حجَّة في الأحكام الشرعية إلا أنه غير حجَّة في المعتقدات، لأن أقصى ما يفيده الظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً.
وعليه، فإذا كنا لا نلتزم بالاعتقاد به فمن باب أولى لا نُلزم الخصم به ، إلا أن ردّه مع عدم استحالته مشكل، ولا سيما مع ورود النهي عن رد ما قاله أهل الكتاب مما لم تثبت صحته ولم يتّضح بطلانه.
فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة، أنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسِّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا (آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم ) الآية(1) .
____________
(1) صحيح البخاري 3/237 كتاب الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة
=>
قال الجزائري:
2 ـ اختصاص آل البيت بعلوم ومعارف دون سائر المسلمين، وهو خيانة صريحة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونسبة الخيانة إليه صلى الله عليه وآله كفر لا شك فيه ولا جدال.
1ـ أن اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من هذه الأمة بعلم لا يُعد خطأ ولا خيانة، ولا سيما إذا كانت ثمة منفعة خاصة أو عامة، ولهذا خص النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بأسماء المنافقين دون غيره من الناس حتى سُمّي بصاحب سر رسول الله.
كما خص بعض أزواجه بحديث وسألها كتمانه(2) ، فلما أفشته أطلعه
____________
<=
(1) سنن ابي داود 3/318 حديث 3644. مسند أحمد 4/136. المستدرك على الصحيحين 3/358. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8/52. شرح السنة 1/268.
(2) قيل نبأها بأن أبا بكر وعمر يليان الأمر من بعده، وهو مروي عن ابن عباس. وقيل: نبأها بأنه حرم مارية على نفسه، أو حرم على نفسه شرب العسل. راجع
=>
قال عز من قائل (وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرَّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبَّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبَّأني العليم الخبير )(1) .
وخصَّ فاطمة عليها السلام
وخصَّ أمير المؤمنين عليه السلام بما لم يخص به غيره كما أخرج الترمذي بسنده عن جابر، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما انتجيته ولكن الله انتجاه(3) .
____________
<=
(1) سورة التحريم، الآية 3.
(2) صحيح البخاري 4/247 ـ 248 كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.
(3) سنن الترمذي 5/639. قال الملا علي القاري في شرح الحديث في مرقاة المفاتيح 10/471: والمعني أني بلغته عن الله ما أمرني أن أبلغه إياه على سبيل النجوى. وقال: قال الطيبي رحمه الله: كان ذلك أسرارا إلهية وأمورا غيبية جعله من خزائها.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم والهيثمي وغيرهم عن ابن عباس قال : كنا نتحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره(2) .
هذا كله مضافاً إلى أن آية النجوى وهي قوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر، فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم )(3) لم يعمل بها أحد من هذه الأمة إلا علي بن أبي طالب عليه السلام كما نص عليه كل من وقفنا على قوله في الآية من العلماء والحفاظ والمفسرين(4) .
____________
(1) مسند احمد 6/300. المستدرك 3/138 وقال: هذا حديث صحيح الإسنا ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. فضائل الصحابة 2/686.
(2) الطبقات الكبرى 2/338. حلية الأولياء 1/686. مجمع الزوائد 9/113.
(3) سورة المجادلة، الآية 12.
(4) أخرج الحاكم في المستدرك 2/482 وغيره عن علي عليه السلام أنه قال:... إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى (يا أيها الذين آمنو إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) الآية. قال: كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فناجيت النبي صلى الله عليه وآله، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ) الآية. قال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم
=>
2 ـ كانت لأمير المؤمنين عليه السلام منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لم تكن لأحد غيره، فهو ربيبه وصهره على ابنته سيدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام وابن عمه وأخوه بالمؤاخاة دون غيره من المسلمين ، ولهذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت الذي لا يدخل عليه فيه أحد من الناس، كما أخرج النسائي وأحمد وابن خزيمة وغيرهم عن علي عليه السلام، أنه قال: كانت لي منزلة من رسول الله 0لم تكن لأحد من الخلائق ، آتيه بأعلى سَحَر، فأقول: السلام عليك يا نبي الله. فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي، وإلا دخلت عليه(1) .وأخرج أحمد وابن خزيمة والبيهقي والطحاوي وغيرهم عن علي عليه السلام أنه قال: كانت لي ساعة من السَّحَر أدخل فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كان في صلاته سبَّح، فكان ذلك إذنه لي، وإن لم يكن في صلاته أذن لي(2) .
وروى السيد الرضي أعلى الله مقامه في نهج البلاغة عن علي عليه السلام أنه قال واصفاً منزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويُمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه...
____________
<=
(1) سنن النسائي 3/12 كتاب السهو، باب رقم 17. مسند أحمد 1/85. صحيح ابن خزيمة 2/54. خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ص132. مرقاة المفاتيح 10/478.
(2) مسند أحمد 1/77. صحيح ابن خزيمة 2/54. السنن الكبرى 2/247. مشكل الآثار 2/306. خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ص130.
والحاصل أن منزلة علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقتضي أن يسمع منه صلى الله عليه وآله ما لا يسمعه غيره، وأن يعلم منه ما لا يعلمه غيره، كما صحَّ عندهم مثل ذلك في أبي هريرة فيما أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة إذ قال: إن الناس يقـولون: أكثَرَ أبو هـريرة. ولـولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثت حديثاً . ثم يتلو (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات ) إلى قوله (الرحيم ) ، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون(2) .
وأخرج أيضاً عنه أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثْته، وأما الآخر فلو بثثْته قُطع هذا البلعوم(3) .
فإذا صح عندهم مثل ذلك في حق أبي هريرة فمن باب أولى يصح مثله على الأقل في حق علي عليه السلام الذي صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ نعومة
____________
(1) نهج البلاغة، ص200.
(2) صحيح البخاري 1/39 كتاب العلم، باب حفظ العلم.
(3) المصر السابق 1/40.
3 ـ كان علي عليه السلام شديد الحرص على تحصيل العلوم
وأخرج ابن سعد عن علي عليه السلام أنه قيل له: مالَك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً ؟ فقال: إني كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكتُّ ابتداني(3) .
هذا مضافاً إلى ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
هذا كله مع ما امتاز به علي عليه السلام من شدة الذكاء والفطنة ورجاحة
____________
(1) أخر البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 4/239، بسنده عن أبي هريرة، قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنين لم أكن في سني أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن.
(2) سنن الترمذي 5/640.
(3) الطبقات الكبرى 2/338. ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ دمشق 2/456.
(4) سورة الحاقة، الآية.
(5) جامع البيان في تفسير القرآن 29/35، 36. الدر المنثور 8/267. تفسير القرآن العظيم 4/413. التفسير الكبير 10/107. الجامع لأحكام القرآن 18/264. الكشاف 4/134. فتح القدير 5/282. تفسير غريب القرآن المطبوع بهامش تفسير الطبري 29/30 ـ 31. أسباب النزول، ص294. لباب النقول في أسباب النزول، ص219.
وبالجملة فمن كل ما تقدم يتضح أنه لا محذور في أن يخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام بما شاء من العلوم، ولا استبعاد في أن يكتب علي عليه السلام شيئاً مما كان قد سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صحيفة أسماها أو سُمّيت بعد ذلك الصحيفة الجامعة ، ولا سيما أن غيره من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يكتبون بعض مسموعاتهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعبد الله بن عمرو بن العاص، كما في حديث البخاري الذي رواه عن أبي هريرة إذ قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب(2) .
هذا مع نص بعض أعلام أهل السنة على أن علياً عليه السلام كان ممن يكتب حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن الصلاح: اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في كتابة الحديث، فمنهم من كرِه كتابة الحديث والعلم وأمروا بحفظه، ومنهم من أجاز ذلك...
إلى أن قال: وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعَله علي وابنه الحسن وأنس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين(3) .
وقال السيوطي: وأباحها ـ أي كتابة الحديث ـ طائفة وفعلوها، منهم
____________
(1) الطبقات الكبرى 2/338. حلية الأولياء 1/67 ـ 68. ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق 3/26.
(2) صحيح البخاري 1/38 كتاب العلم، باب كتابة العلم.
(3) مقدمة ابن الصلاح، ص87 ـ 88.
قال الجزائري:
3 ـ تكذيب علي رضي الله عنه في قوله الثابت الصحيح: لم يخصنا رسول الله آل البيت بشيء، وكذب على علي كالكذب على غيره حرام لا يحل.
أنا قد أوضحنا فيما تقدم أن هذا القول المروي عن علي عليه السلام ليس متواتراً حتى يلزم تكذيبه، وإنما هو مما رواه أهل السنة في كتبهم، فلا يصح الاحتجاج به على غيرهم.
على أنا لو سلَّمنا بصحة هذا الحديث وغيره مما يؤدِّي معناه فالظاهر منه أن علياً عليه السلام قد أخبر أنه ليس عند أهل البيت عليهم السلام شيء مكتوب يقرؤونه قد خصَّهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الناس غير القرآن إلا تلك الصحيفة كما بيَّناه فيما تقدم.
أما أن علياً عليه السلام قد كتب أو لم يكتب صحيفة أخرى تشتمل على بعض ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا شيء آخر لم يرد له ذكر في تلك الأحاديث، فإن ظاهر بعض تلك الأحاديث يدل على أن علياً عليه السلام قد سُئل عما خصَّه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما هو مكتوب، أما ما كتبه هو عليه السلام من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم فلم يُرِده السائل ، ولم يرِد في جوابه عليه السلام. هذا وقد سبق بيان المزيد في هذا الحديث، فراجعه.
____________
(1) تدريب الراوي 2/65.
إن أراد أن ما جاء في الحديث من أن رسول الله صلى الله عليه وآله علَّم علياً عليه السلام ألف باب من العلم، يُفتح له من كل باب ألف باب هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيردُّه أنه مروي في كتبهم أيضاً فيما أخرجه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال عن علي عليه السلام أنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب، كل باب يفتح ألف باب.
وعن ابن عباس قال: إن علياً خطب الناس فقال: يا أيها الناس ، ما هذه المقالة السيئة التي تبلغنيعنكم ؟ والله لتقتلُنَّ طلحة والزبير ولتفتحُنَّ البصرة، ولتأتينكم مادة من الكوفة، ستة آلاف وخمسمائة وستين، أو خمسة آلاف وستمائة وخمسين. قال ابن عباس: فقلت الحرب خدعة. قال: فخرجت فأقبلت أسأل الناس: كم أنتم ؟ فقالوا كما قال. فقلت: هذا مما أسرَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنه علَّمه ألف ألف كلمة، كل كلمة تفتح ألف ألف كلمة(1) .
هذا مع أنا قد أوضحنا فيما تقدَّم أن علياً عليه السلام كان ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان شديد الحرص على التعلم منه واقتفاء آثاره، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم شديد العناية به والرعاية له والحرص على تعليمه، فكان يجيب علياً عليه السلام إذا سأله، ويبتدؤه إذا لم يسأله.
وإذا صح عندهم أن أبا هريرة كان عنده وعاءان من العلم تلقَّاهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبثَّ أحاديثه الكثيرة من أحد ذينك الوعاءين، فكيف
____________
(1) منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد 5/43.
هذا مضافاً إلى أن علياً عليه السلام
وقوله عليه السلام: سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل.
وقول ابن مسعود رضي الله عنه أن عليّا عليه السلام أُوتي علم الظاهر والباطن. وقد تقدم(1) .
هذا كله مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها(2) .
وأما إذا أراد أن ما جاء في الحديث من أن الجامعة هي من إملاء رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو كذب على النبي صلى الله عليه وآله، فهذا أمر لا يُجزم بعدم وقوعه، فلا يصح نفيه، ولا سيما أن الأحاديث التي سقناها إليك آنفاً قد دلَّت على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما كان ينتجي عليًّا عليه السلام فيخصّه بما شاء، وكان علي عليه السلام يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجيبه، بل كان يبتدؤه بالتعليم ابتداءاً فيفيده، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يكتب بعض ما سمعه من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه فلا استبعاد ولا غرابة في أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أملى على أمير المؤمنين عليه السلام صحيفة جامعة في الحلال والحرام، ولا سيما أن
____________
(1) تقدم في ص63. وراجع الطبقات الكبرى 2/338.
(2) صححه الحاكم في المستدرك 3/126، وحسنه السيوطي في تاريخ الخلفاء، ص159، وابن حجر والزركشي والعلائي كما في فيض القدير 3/46، 47.
فقد أخرج البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم وأحمد وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس، قال: لما حُضِر(1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده. فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً لن تضلُّوا بعده. ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قوموا. قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(2) .
وأخرج مسلم عن ابن عباس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس. ثم جعل تسيل دموعه، حتى رأيت على خدّيه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ائتوني بالكتف والدواة
والذي احتمله النووي وغيره أن الذي أراده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك
____________
(1) أي حضره الموت.
(2) صحيح البخاري 7/155 ـ 156 كتاب الطب، باب قول المريض قوموا عني. 9/137 كتاب الاعتصام، باب كراهية الخلاف. 6/11 كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفاته، 4/121 كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، 4/185 كتاب الجهاد، باب هل يستشفع إلى اهل الذمة ومعاملتهم. صحيح مسلم 3/1259 كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. مسند أحمد 1/324 ـ 325، 336. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8/201.
(3) صحيح مسلم 3/1259. مسند أحمد 1/355. وراجع مسند أحمد 1/222، 293 المستدرك 3/477. مجمع الزوائد 4/214، 5/181.
قال الجزائري:
5 ـ الكذب على فاطمة رضي الله عنها بأن لها مصحفاً خاصاً يعدل القرآن ثلاث مرات، وليس فيه من القرآن حرف واحد.
لقد أوضحنا فيما سبق أن مصحف فاطمة عليها السلام هو كتاب فيه علم ما يكون وأسماء من يملكون إلى قيام الساعة، بإملاء الملَك أو جبرئيل عليه السلام وبخط علي بن أبي طالب عليه السلام.
____________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 11/90.
(2) الصحيح هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن ينص على أمير المؤمنين عليه السلام خليفة من بعده، وذلك لأن مهمات الأحكام كانت مبينة وموضحة في ذلك الحين، وقد أكمل الله الدين وأتم النعمة قبل هذا اليوم، ولأن النص على الخلفاء أهم من إعادة أحكام مبينة، وبالنص على الخلفاء يندفع كل اختلاف وبلاء وتضليل، ولأن من خفيت عليه مهمات الأحكام فخالفها لا يكون ضالا بل حتى لو خالفها وهو بها عالم، فإنه يكون فاسقا لا غير، ولان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو أراد أن يكتب مهمات الأحكام لما حدث اللغط والاختلاف ونسبة الهجر إليه، وما سبب اللغط إلا علمهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد أن ينص على الخلفاء من بعده، ثم إن المناسب في ذلك الوقت ـ وهو قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأيام قليلة ـ مع شدة وجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانشغاله بنفسه أن ينص على من يقوم بالأمر من بعده لا كتابة مهمات الأحكام قبيل وفاته بأيام قليلة.