وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جعفرا يطير في الجنة.
ونقل أبو بكر محمد بن عبدالله الشافعي أن عيسى لما دفن مريم، قال: السلام عليك يا أماه، فأجابته من جوف القبر: وعليك السلام حبيبي، وقرة عيني، فقال لها: كيف وجدت طعم الموت؟ فقالت: والذي بعثك بالحقّ ما ذهبت مرارة الموت من حلقي، ولا خشونته من لساني.
وروى الحاكم عن سالم بن أبي حفصة قال: توفي أخ لي، فوضعته في القبر، وسوّيت عليه التراب، ثم وضعت أذني على لحده، فسمعت قائلاً يقول له: من ربّك، فسمعت أخي يقول بصوت ضعيف: ربي الله، فقال له: وما دينك، فسمعت أخي يقول بصوتٍ ضعيف: ديني الأسلام، فسمعته يقول له: ومن نبيّك؟ فسمعته يقول بصوت ضعيف: محمّد نبيّي، فسمعته يقول له: نم نوم العروس، وسمعت الملك الآخر يقول له أبشر بروحٍ وريحان، وربّ غير غضبان(1) .
وفي الأخبار، عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما من ميت يموت، يوضع على سريره، فيخطى ثلاث خطوات، إلاّ وينادى بنداء يسمعه ما شاء الله من الخلائق غير الثقلين. فيقول: يا إخوتاه، يا خدماه، يا حملة نعشاه، لا تغرّنكم الدنيا كما غرّتني، ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي، خلّفت ما جمعت لورثتي، ولم يحملوا من خطيئتي شيئاً، والديّان يحاسبني، وأنتم تشيعوون جنازتي، ثم تدعونني في لحدي.
وزيد في آخر: ثم تسلمونني الى منكر ونكير، واندامتاه واندامتاه، واندامتاه(2) .
وعن الفقيه الزاهد إسماعيل بن الحسن، عن عمر بن الخطاب أنه دخل المقابر، فنادى يا أهل المقابر الأموال قد قسّمت، والدور قد سكنت، والأزواج قد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فأخبرونا ما عندكم، قال: فهتف به هاتف، وهو ينادي ويقول: يابن الخطاب وجدنا ما عملنا ربحاً، وما خلفنا خسراناً، والجبار سألنا عن جميع ما فعلنا، ثم سكت.
وعن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يمرّ أحد بالمقابر إلاّ ويناديه أهل القبور: يا
____________
(1) كنز العمال: 15/605.
(2) كنز العمال: 1/596.
وعن الضحاك، عن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الموتى ينادون في كل يوم ثلاث مرات من قبورهم: يا أهل الديار عجلوا عجلوا، فأنما نحن محبوسون من أجلكم، الرحيل الرحيل، لا تحبسوا إخوانكم، خرّبوا ما بنيتم، وأتركوا ما جمعتم، نورتم البيوت، وأظلمتم القبور، وبنيتم البيوت، ونسيتم القبور، وعمرتم البيوت، وخربتم القبور، ووسعتم البيوت، وضيقتم القبور، (وذكروا غير ذلك)(2) .
وعن أبي عبدالله محمد بن عمر، يروي عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من يوم يمضي إلا وملك يهتف: يا أهل القبور من تغبطون اليوم فيقولون: نغبط أهل المساجد، يصلّون في مساجدهم، ويصومون ويصدّقون، ولا نقدر نصلي ونصوم ونتصدق.
وعن محمد بن أبي عبدالله بن الفضل، عن محمد بن كعب، قال: مرّ عيسى على قبر، فرأى فيه عذابا شديداً، فدعا الله حتى أحياه، فقال له عيسى: فلم تعذّب. قال: كنت جالسا في سوق (مصر)، وقد أكلت شيئا، فأخذت عودةً من حزمة شوك لأخلل أسناني بها، ومت منذ أربعة آلاف سنة وأنا في عذابها، ثم قال: يا روح الله منذ أربعة آلاف سنة ومرارة الموت باقية في حلقي. فقال عيسى: اللّهم يسّر علينا سكرات الموت.
وعن وهب بن منبه أن عيسى عليه السلام مرّ على نهرٍ فيه ماء عذب، وحوله خابية(3) ، كلما يوضع فيها من ذلك الماء يصير مالحاً، فقال: إلهي ما خبر هذا الماء المالح؟! فأذن الله للخابية بالكلام، فقالت: إني كنت آدمياً، فبقيت في قبري ثلاثمائة سنة، ثم جاء لبّان، فضرب ترابي لبناً، وبنيت في قصر ثلاثمائة سنة، ثم خرب القصر، فبقيت تراباً مائتي سنة، ثم جاء شخص فجعلني (حبّاً)، ووضعني سقايةً على شاطىء هذا النهر من مائة سنة وكل ما يجعل فيّ يكون مالحاً، لما في من مرارة نزع الروح، وأنا معذب منذ مت، لأني أخذت إبرةً من جاري، وما رددتها حتى متّ. فما أدري أنّ عذابي أشد أم مرارة الموت، فقال عيسى: اللّهم يسّر عليّ الموت، ونجني من عذاب القبر… (الحديث). وقد ذكرنا من مضمونه محل الحاجة.
وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أشد الأحوال على الميت حين يدخل (الغسال) داره ليغسله، فيخرج خواتم الشبان من اصابعهم، وينزع قميص العروس من بدنها، ويرفع
____________
(1) في النسخة المطبوعة: الملح بالماء.
(2) كنز العمال: 15/626.
(3) الخابية: الجرّة الكبيرة المستعملة لحفظ الماء.
فإذا خرج من الدار، نادى بالله عليكم يا حملة نعشي لا تعجّلوا بي، حتى أودّع داري التي بنيتها، وزيّنتها ونقشتها بأنواع النقوش، وأهلي ومالي وأولادي، فأن هذا خروج لا مردّ بعده إلى يوم القيامة.
فإذا رفعت الجنازة، نادى يا حملة نعشي بالله عليكم لا تعجّلوا بي، حتى أسمع أصوات أولادي الذين يعولون خلف جنازتي، وعروسي التي تبكي عليّ، ووالدي الذي تقوّس ظهره لموتي، ووالدتي التي شدّت وسطها بالمنديل لمفارقتي، وقد نشرت شعرها، وضربت صدرها، وتقوّس ظهرها، وأبيضّت عيناها لفقدي.
فإذا صلّي على جنازته، ورفع من المصلى،ورجع بعض أصدقائه، يقول: يا إخوتاه كنت أعلم أنّ الميت ينساه الأحياء، لكن لا بهذه السرعة، رجعتم قبل أن تدفنوني، ونسيتموني بهذه السرعة، وجسمي بعد بين أظهركم.
فإذا وضع في لحده، ووضع عليه التراب، ينادي واورثتاه، تركت لكم الكثير، فلا تنسوني، وتصدّقوا عني على فقرائكم، ولو بكسرة خبز محترق، وعلمتكم القرآن والأدب، فلا تنسوني من الدعاء، فأني صرت محتاجاً، كفقرائكم على أبوابكم، ومحتاجاً إلى دعائكم، كصاحب حاجتكم الى ساداتكم(1) .
ومما يدل على بقاء حياتهم في قبورهم، ما دلّ على أنّ الميّت بعدما يسأل، يفتح له باب إلى الجنة، إن كان من أهل الخير، أو إلى النار إن كان من أهل الشر، وبقاء اللذة والألم ظاهر في بقاء أثر الحياة.
وعن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات أحدكم، عرض عليه مقعده بالغدوة والعشيّ، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الميت يسأل في قبره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأن
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في الجزء الخامس عشر من كنز العمال في الباب الأول (في ذكر الموت وفضائله)، حديث 42094 حتى حديث 43011 (من ص548 حتى ص758).
وعن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يأتيه ملكان يجلسانه، ثم ذكر أنهما يسألانه، فأن أجاب بحق، فتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، وإلاّ يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها. الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على أنهم في قبورهم يتلذذون و يتألمون، وهذا من توابع الحياة ولوازمها.
وكيف كان فقد بلغت هذه الأخبار فوق التواتر، وبعد عموم قدرة الفاعل المختار، لا بعد ولا غرابة في مداليلها.
وما دلّ من الكتاب والسنة على أنّ الأحياء يكون عند النفخ في (الصور)، فقد بيّنا أنّ المراد: إمّا الحياة على النحو المعهود من تلك الأشخاص الخاصة بعينها، أو يراد أنّه يوم البروز والظهور على عيون الأشهاد.
وإذا تبيّن بهذه الأخبار المتواترة، أنهم يسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم، صحّ لنا أن نخاطبهم مخاطبة الأحياء فنلتمس دعاءهم، ونقسم عليهم بالأقسام في أن يكونوا شفعاء لنا في الدنيا وفي يوم القيام، لأنّ الشفاعة أظهر فرديها أنها دعاء خاص، واختصاص الخواص بها باعتبار قبولها.
فلو قال قائل لنبي، أو وصي، أو عبد صالح: إشفع لي، أو إدع لي، أو أغثني، أو أعنّي (أي بدعائك)، أو قال: إقض لي حاجتي، أو إرزقني مالاً، وأدفع الضرر عني، ونحو ذلك ولا يريد سوى التوسط بالدعاء وسؤال الله، لم يكن عليه شيء.
وقد وقع كثير من ذلك في كلام الصحابة والتابعين، بل ربّما كان هذا التعبير أولى، لدلالته على قرب منزلة العبد عند مولاه واحترامه، فتكون شهادة له بنبوته، وقرب منزلته.
وليس على من قال للعبد المقرب، أو إلى الخادم المقرب: إقض حاجتي، (بمعنى إسع لي في قضاءها عند مولاك)، بأس، بل هو أنسب في التواضع الى المولى.
وأما من قال مثل ذلك معتقداً أنّ الأنبياء والأوصياء بأيديهم الأمر أصالةً، يفعلون ما يشاؤون، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
____________
(1) سنن الترمذي (كتاب الجنائز)، باب 70 ـ ما جاء في عذاب القبر حديث 1071.
وإني قد طفت بشطر من بلاد المسلمين، وخالطت كثيراً منهم منذ سنين، فلم أر أحداً بعتقد أنّ في الوجود فاعلاً مختاراً سوى الفاعل المختار العزيز الجبار تبارك وتعالى، وذلك مراد (العوام) في خطاباتهم، فضلاً عن العلماء الأعلام، إلاّ أنهم لا يمكنهم كشف الحال، وإن كان مقصدهم ذلك على الأجمال. نسأل الله وإياكم طريق السداد والنجاة من أهوال يوم المعاد.
الباب الثاني
في الزيارات
وفيه فصلان:
الفصل الأول
في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
روى الدارقطني في السنن وغيرها، والبيهقي، وغيرهما من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبدالله العمري، عن نافع، عن إبن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من زار قبري وجبت له شفاعتي.
وعن نافع، عن سالم، عن ابن عمر مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.
وعن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من حجّ وزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي.
وروي عن عائشة أيضا، وعن نافع، عن إبن عمر، عن النبي، قال: من زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً.
وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من حجّ فلم يزرني، فقد جفاني(1) .
وعن أبي هريرة مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من زارني بعد موتي، فكأنما زارني حياً(2) .
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في سنن البيهقي: 5 (كتاب الحج)، باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) كنز العمال (باب زيارة قبر النبي)، المجلد الخامس، حديث 12382.
وعن أنس مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال من زارني في المدينة، كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة(1) .
وعن أنس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من زارني ميّتاً كمن زارني حياً، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة.
وعن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من زارني في مماتي، كان كمن زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني.
وعن علي عليه السلام مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من زار قبري بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني.
وعن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من حج ّ وقصدني في مسجدي، كانت له حجتان مبرورتان.
وروى إبن عساكر، عن علي عليه السلام، قال من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن بكر بن عبدالله مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من أتى المدينة زائراً لي، وجبت له الجنة.
وعن كعب الأحبار أنّ عمر لمّا فتح بيت المقدس، قال لي: هل لك أن تسير معي الى المدينة نزور قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذهبت معه، فلمّا دخل بدأ بالمسجد، وسلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الموطأ عن إبن عمر كان يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيسلّم عليه، وعلى أبي بكر، وعمر.
وسئل نافع هل كان ابن عمر يسلّم على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال: رأيته مائة مرّة أو أكثر يسلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أبي بكر، وعمر.
وعن إبن عمر: أنّ سنّة السلام من قبل القبلة.
ونقل الدارقطني، عن علي عليه السلام أنه دخل المسجد فسلم على القبر. وروي عن آل الخطاب، وعن بعض الحفّاظ زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
____________
(1) كنز العمال (باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) المجلد 15، حديث 42584.
وكيف كان، فالروايات في استحباب زيارته وشفاعته لزوّاره، داخلة في قسم المتواتر، وعمل الصحابة، والتابعين، وأهل البيت أجمعين على ذلك.
قال عياض: زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنّة، أجمع عليها المسلمون. وروى غيره إجماع المسلمين قولاً وفعلاً على استحباب زيارته، وصريح بعضها(1) أن شدّ الرحال إليها لا مانع منه.
وفيما دل على استحباب التعظيم، وانّ حرمة الاموات كحرمة الأحياء، كفاية.
الفصل الثاني
في زيارة باقي القبور
قد مرّ في الأخبار الماضية زيارة الصحابة قبري الشيخين.
وروى بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها(2) .
ولعل السر ـ والله أعلم ـ أنه في مبدأ الأسلام كانت زيارة القبور وتذكار الموتى والقتلى، باعثاً على الجبن عن الجهاد، حتى إذا قوي الأسلام أمرهم بها. ونحو ذلك في خبر آخر.
وعن أبي هريرة، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم زار قبر أمّه، ولم يستغفر لها، قال: أمرت بالزيارة، ونهيت عن الأستغفار، فزوروا القبور، فأنّها تذكر الموت(3) .
وعن بريدة أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى المقابر، قال: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين))، رواه مسلم(4) .
وعن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البقيع آخر الليل، فيقول: السلام عليكم… (الخبر)، رواه مسلم(5) .
____________
(1) في النسخة المطبوعة: وصرّح بعضهم.
(2) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، المجلد الثاني، باب 36، حديث106؛ وسنن ابن ماجه (باب ما جاء في زيارة القبور)، باب 47، حديث 1571.
(3) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربّه في زيارة قبر أمّه، حديث 108.
(4) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 104.
(5) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 102.
وكيف كان فالأخبار متظافرة على زيارة القبور، ولا حاجة لنقل جميعها، وفيما ورد من أنّ حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً دلالة على ذلك، وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة لقبور الشهداء أوضح من الشمس في رابعة النهار.
الباب الثالث
في التبرك بالقبور ونحوها
إختلف العلماء من أهل السنة والجماعة في جواز التبرك بالقبور، فمنهم: من أجازه على كراهة.
قال النووي: لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر به. قال: ويكره مسّه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه، كما لو حضر في حياته.
وكلامه ظاهر في أنّ المس أبعد من التعظيم، وشبهة العبودية.
وذكر إبن عساكر في (تحفه)، عن ابن عمر أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويظهر من بعضهم ندبه وأستحبابه.
نقل عبدالله بن أحمد بن حنبل في كتاب العلل والسؤالات، قال: سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يتبرك بمسه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله تعالى، فقال: لا بأس به.
وعن إسماعيل أن إبن المنكدر (1) يصيبه الصمّات، فكان يقوم ويضع خدّه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعوتب في ذلك، فقال: يستشفى بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأستشفاء أعظم من التبرك.
ونقل عن إبن أبي الضيف، والمحب الطبري، جواز تقبيل قبور الصالحين، وظاهره الندب.
وفي رواية عن إبن حنبل أني لا أعرف التمسح بالقبر، أما المنبر فنعم، لما روي أن إبن عمر كان يفعله.
ونقل عن مالك التبرك بالمنبر.
____________
(1) محمد بن المنكدر القرشي التيمي أحد الأئمة التابعين، توفي سنة 130هـ / 748م.
وروي عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حينما أراد الخروج إلى العراق، جاء الى المنبر، وتمسّح به.
وقال السبكي: منع التمسح بالقبر ليس مما قام الأجماع عليه. وأستدل بما رواه يحيى بن الحسن، عن عمر بن خالد، عن أبي نباته، عن كثير بن يزيد، عن المطلب بن عبدالله، قال: أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته وقال: ما تصنع؟! فقال: إني لم آت الحجر ولا اللبن، إنما جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وذكر رواية أحمد، قال: وكان الرجل أبا أيوب الأنصاري.
ونقل هذه الرواية أحمد، وزاد فيها: أنه قال: سمعت رسول الله يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا عليه إذا وليه غير أهله.
وعن أبي الدرداء أن بلالاً رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال له: ما هذه الجفوة يا بلال، أما لك أن تزورني؟! فانتبه حزينا خائفاً، فركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده، ويمرّغ وجهه عليه، إلى أن ذكر حضور الحسنين وبكاء أهل المدينة، وأذان بلال، قال: فما رئي أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك اليوم.
وذكر إبن حملة أن (بلالاً) وضع خديه على القبر، وأن ابن عمر كان يضع يده اليمنى عليه.
ونقل عن مالك، والزعفراني تحريمه، وهو الظاهر من كلام أنس بن مالك، حيث قال: ما كنا نعرفه.
وكيف كان كيف يدّعى المسّ والتبرك عبادة مع أنه أبعد من التعظيم، وقضية الذم على عبادة يعوق ويغوث ونسر، ليس من جهة التبرك، كما نصّ عليه المفسرون(1) ، حيث قالوا: تبركت الآباء فانتهى الأمر إلى عبادة الأبناء، فوقع الذم على الأبناء.
وتحقيق الحال: أنّ التقبيل على أنحاء:
منها: تقبيل المحبة، لأنّ من أحبّ شخصاً أحبّ مكانه، وثيابه، وداره، ومزاره، فلا يكون تقبيل الأعتاب، والجدران، والأبواب إلاّ كتقبيل بعض ثياب الأحباب، فهو من قبيل قوله:
____________
(1) في تفسير الآية (23) من سورة نوح.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تقبيل اليد، فنهى عن ذلك، إلاّ في تقبيل يد الزوجة للشهوة، ويد الولد للمحبة.
وعن علي عليه السلام انه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح خيبر: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت اليوم فيك مقالاً، لا تمر على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك، وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أنّك مني وأنا منك(1) .
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: قدم علينا أعرابي بعد دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على القبر، وحثا من ترابه على رأسه.
وعلى كل حال فالذي يظهر بعد تحقيق النظر أنّ التقبيل للمحبة من قبيل تقبيل الوالد لولده(2) ، والأرحام بعضهم لبعض فلو قبّل بعضهم جدران بعض، أو ثياب بعض، أو مكان بعض، حباً وإرادة، لا تعظيماً ولا عبادة، فليس فيه بأس.
وأما قصد التعظيم والأكرام، فليس فيه خروج عن ملة الأسلام، قصارى ما هناك أنه عدّه بعض العلماء من الآثام، فليس على الفاعل عن دليل في الرد عليه من سبيل. وأما من فعل مشرعاً فهو عاصٍ لربه، حتى يتوب عن ذنبه.
ولقد نقل عن بعض أمراء دار السلام بغداد أنه وشى بعض الوشاة على جماعة أنهم يقبّلون أعتاب الأولياء، فقال: سبحان الله في كل يومٍ تقبلون جلد الميتة ((يعني الفروة التي هو لا بسها))، ولا تقبّلون أعتاب أبواب الأولياء.
وعلى أي تقدير، فالغرض إنما هو نفي (التكفير). ونسبة فعل هؤلاء إلى فعل عبدة الأصنام خروج عن الأنصاف في هذا المقام، لأنّ الذاهبين إلى الجواز منا إنما أخذوا عن الدليل، لا لمجرد الأختراع والأبتداع، فأن اشتبهوا عذروا وأجروا.
فمن قبّل الحجر الاسود، والركن اليمانيّ، أو باقي الأركان، أو مسها، أو لزم المستجار، فقد تبرك بتلك الأحجار، لأنها بأمرٍ من العزيز الجبار، ولو أخطأ الأمر، كان
____________
(1) نهج البلاغة: 2/449.
(2) في النسخة المطبوعة: ((الوالدة لولدها)).
ومن طاف بين (المروتين)، عملاً بالكتاب وسنة سيد الثقلين، لم يكن عليه مؤاخذة في البين.
وطوائف المسلمين بأجمعهم لا يتبرك منهم أحد بقبر أو غيره، إلاّ أنه بزعم أنه مأمور من الله، ومن تبرّك قاصداً للعبادة، فهو خارج عن ربقة المسلمين.
ومن البين المعلوم أنه لو أمر (المولى) عبده بالتبرك بثياب عبده المقرب، أو مكانه، أو قبره، فأمتثل، كان مطيعاً لمولاه، لا للعبد الذي قرّبه وأدناه.
فأقسمت عليك بمن جمع بيننا في كلمة الأسلام، وألّف بين قلوبنا في هذه الأيام، أن تنفرد عن الأصحاب إذا ورد عليك (الكتاب)، وترى نفسك كأنّك الآن خلقت من تراب، وتبذل الجهد في تمييز الخطأ من الصواب، فأنّه ـ والله(1) ـ لا حاجة بنا إلاّ إليه، ولا إعتماد لنا إلاّ عليه.
وليس لنا مع الأنبياء والأولياء قرابة نسب، ولا لهم علينا ما نخاف منه الطلب، وإنما عظّمناهم لأمر الله، وأخذنا بأقوالهم عملاً بقول رسول الله، وما أبرّء نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي.
وكشف الحال على وجه يدفع ما قيل أو يقال: إنّ التواضع والتبرك والأكرام والأحترام لما هو معظّم عند الملك العلام من تعظيم الله، كما أن قرآنه وبيته، ومساجده لا نتسابها إليه، إحترام له تبارك وتعالى. فمن عظّم عيسى ومريم وعزير لعبوديتهم، وقرب منزلتهم، فهو معظّم لله.
كما أن من عظم بيت السلطان وعبيده وغلمانه وأتباعه من حيث التبعية، يكون معظماً للسلطان. وأما من (وجدها) قابلة للتعظيم، وأهلاً له من حيث ذاتها لا لأجل العبودية والتابعية، وإن كان غرضه التقريب زلفى، إنما يكون معظّما لها، لا للسلطان.
وإني منذ ثلاثين حجة أنظر في حال طوائف المسلمين، محقيهم ومبطليهم، فلم أجد أحداً يعظم كتاباً، أو نبيّاً، أو مكاناً، أو عبداً صالحاً من غير قصد قربة من الله، أو انتسابه إليه، فقد ظهر أن هذا كله من باب طاعة الله وتعظيمه.
وأمّا عبدة الأصنام والعباد الصالحين، فأنما أرادوا عبادتهم حق العبادة، كأن يصلّوا
____________
(1) في النسخة المطبوعة: فأنا وأنت.
وعلى كل من الأحتمالين على أني ذكرت مكرراً أنهم عاندوا الرسل، وكذبوهم، واستهزؤا بهم، وقالوا أيضا: لا طاقة لنا بعبادة الله، وإنما نعبد الأصنام لأنّ عبادتهم مقدورة لنا، وهم يقربونا إلى الله زلفى، ولقد نقلت روايةً مشتملةً على ذلك المعنى في مقام آخر. فالفرق بين الأمرين أوضح مما يرى رأي العين.
فبحق من شقّ لك السمع والبصر، وسلّطك على طوائف من الأعراب والحضر، أن توجّه ذهنك الوقّاد، وفكرك النقّاد، صافياً عن ملاحظة العصبية والعناد، وتجعل مناظرتنا كأنّها حين حلولنا في المقابر، وانصرفنا عن مرارة الدنيا، طالبين للنعيم الفاخر، وحضورنا يوم فصل القضاء بين يدي جبار الأرض والسماء، وكأنّ الملائكة بيننا شهود، وقد حضرنا في اليوم الموعود، وقد فارقنا الأموال والأولاد، وانقطعنا الى ربّ العباد.
اللهم إجمع بيننا بالحقّ، واعصمنا عن الميل إلى رضا الخلق.
الباب الرابع
في بناء قبور الأنبياء والأولياء وتعميرها
وتعلية بنائها وتشييد أركانها
لا يخفى على من أمعن النظر، وتتبّع الآثار والسير، أنّ الأزمنة مختلفة الأحوال بالنسبة إلى جميع الأقوال والأفعال، فربّ شيءٍ كان في قديم الزمان في أعلى مراتب الأستحسان، فانعكس وصار أدنى ما يكون أو كان.
وحيث أنّ الشارع حكيم، وبالعباد رحيم، يراعي أحوالهم، ففي مبدأ الأسلام لما كان المعاش ضيّقاً، والأسعار متصاعدة في المآكل والملابس، حافظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة في أيامهم على المآكل الجشبة، والملابس الخشنة أو الخلقة، لئلا تنكسر قلوب الفقراء، ولتطيب نفوسهم، فأنهم إذا رأوا سيد الجميع لابساً رثّ اللباس، وآكلاً أدنى المأكول، إستقرت نفوسهم، وأطمئنت قلوبهم، وارتفعت كدورتهم.
ثم لمّا توسعت أحوال الناس، وقوي الأسلام، ورخصت الأسعار، استعمل الأكثر من الخلفاء أحسن الملبوس، وأكلوا أطيب المأكول، وهذا التعليل مستفاد من الأخبار أيضاً.
ولذلك نقول في أمر بناء (المساجد) و(الحضرات)، فأنهم كانوا لا يرفعون البناء، ولا يزينون الدور، لما بهم من القصور، فإذا كانت بيوت الله، وبيوت أنبيائه لم يرفع بناؤها طابت نفوس الفقراء، واطمئنّت قلوبهم.
وأما في مثل هذه الأيام ونحوها، حيث ارتفع بناء الدور، فلا وجه لجعل بيوت الله أخفض منها، ومن يرضى بتعلية بيوت الخلق على بيوت الخالق مع أنّ في تعليتها تعظيماً لشعائر الله، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه.
و(القباب) منها، لأنّها جعلت للعبادة، وليس في بناء القباب تجديد قبر، لأنّ القبر باق على حاله لم يجدد، وإنّما وضع أساس القبة بعيداً عنه، ليكون فيها علامة على (المزار) الذي ندب إلى زيارته العزيز الجبار، ولتكون ظلالاً للزائرين، فلا تدخل في باب التجديد أصلاً، وكذا صندوق الخشب، فأنه أجنبي عن القبر لا دخل له به.
وعن كلّ حال فأصل وضع البناء لهذه المقاصد الجليلة ليس فيه بأس أصلاً، ولو تركت العلامات ما أمكن التوصل الى زيارة أكثر الأموات لاندراس آثارهم، فوضع هذا للتمكن من إدراك فضيلة زيارة القبور، وكلما كان الشاهد أحكم، كانت دلالته على المشعر أدوم.
وأما قضية (الزينة) فقد روي عن علي عليه السلام أنّ بعض الصحابة أشاروا على عمر أن يأخذ زينة الكعبة ليقوي بها جيوش المسلمين، فقال له علي عليه السلام: إنّ الأموال قسّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفقراء، وكانت في ذلك اليوم الحليّ موجودة ولم يقسّمها، فلا تخالف وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: ((لولاك إفتضحنا))، وأبقى الحليّ على حالها.
والأصل في بناء (القباب) وتعميرها، ما رواه البناني (واعظ أهل الحجاز) عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين، عن أبيه علي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: والله لتقتلن في أرض العراق، وتدفن بها. فقلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها. فقال لي: يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنة، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده تحن إليكم، ويعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها، تقرباً الى الله تعالى، ومودةً منهم لرسوله. يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الأسلام، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
ونقل نحو ذلك أيضاً في حديثين معتبرين: نقل أحدهما الوزير السعيد بسند،
فبعد دلالة هذه الأخبار على تعمير (القباب)، واستمرار طريقة الأصحاب، مع أنها داخلة في المواضع المعدّة للطاعات، كالمساجد، والمدارس، والرباطات، مع أنّ فيها تعظيماً لشعائر الأسلام، وإرغاماً لمنكري دين النبي عليه الصلاة والسلام.
وبعد أن بيّنا أنّ الحكم والمصالح تختلف بأختلاف الأوقات، وذكرنا إعتضاد ذلك بالروايات، لم يبق بحث من جميع الجهات.
وعلى تقدير ثبوت الخطأ في هذا الباب، لا يلزم على المخطىء تكفير ولا عصيان، بل ربما يثاب، لأن الخالي من التقصير وإن إتصف بالقصور معذور كل العذر، بل هو مأجور.
فيا أخي لا تعارض المسلمين فيما هم عليه إن لم تركن إلى ما ركنوا اليه، وأحملهم على المحامل الحسان، فأنّا هكذا أمرنا بحمل الأخوان، وفقنا الله وإياكم، وهدانا وهداكم، والله ولي التوفيق.
وحيث إنتهى ما أردنا ذكره، وأحببنا رسمه وسطره، على غاية من السرعة والأستعجال، وعدم التمكن لأستيفاء كثير مما يناسب هذا المجال، والإستقصاء لما في كتب الأخبار والاستدلال، أحببنا أن نضيف إلى ذلك:
كشف الجواب
عمّا تضمّنه ذلك الكتاب
من الأنكار على أكثر المسلمين في جميع الأقطار(1) .
أقول: إن أريد بدعوة غير الله والأستغاثة إسناد الأمر الى المخلوق على أنه الفاعل المختار الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار. والمسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة ومن قائلها، وما أظن أن أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذه الرأي، ولا سمعناه من أحد إلى يومنا هذا.
وإن أريد أنّ المدعو والمستغاث به له اختيار وتصرف في أمر الله تعالى، فيحكم على الله، فهذا أشد كفراً من الأول.
وإن أريد دعاؤه والأستغاثة به للدعاء والشفاعة، أو من التصرف في العبارة، كما تقول: يا رحمة الله، ويا بيت الله، ويا عبدالله، ولا تريد إلاّ نداء الله ودعاءه، واستغاثتة، فهذا من أعظم الطاعات، وفيه محافظة على الآداب من كل الجهات.
وكون الدعاء عبادة إنما يجري في قسم منه، وهوالطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الأشباه والنظائر. ولو جعلت كل دعاء عبادة، للزم أن دعاء (زيد) لأصلاح بعض الامور، أو دفع بعض المحذور، وطلب الأفعال، كلها من قبيل الكفر.
فالسؤال، والأزواج، والعبيد، والخدّام في طلب المآكل والملابس مربوبون، ومقابلوهم أرباب، فيكون ذلك مكفراً، وإن أقررت بالتخصيص خصّصناه بما ذكرناه.
وبيانه: أنّ لفظ ((الدعاء)) لا يراد به المعنى اللغوي، وإلاّ لكفر جميع الخلق، فالمراد دعاء العبودية والمربوبية، كمن دعا الأصنام أن الصالحين، مع إعتقاد ربوبيتهم، وقصد عبوديتهم، مكتفين بها عن عبادة الله، أو مشركين أولئك مع الله لقصد وصول النفع
____________
(1) ورد في النسخة المطبوعة: والله الملهم للسداد والصواب، فنقول: أما ما ذكرت من الإنكار على كثير من الناس الإستغاثة بغير الله ودعوة غير الله.
وأمّا ما ذكرته من (النذر لغير الله تعالى) و(الذبح لغير الله)، وهذا أيضاً إن أريد أنهم يذبحون مهلّين باسم غير الله، أو ينذرون تعبداً لغير الله. فذلك لم يصدر من أحد من المسلمين، وكل من فعل ذلك، فهم منه براء، سواء كان ذلك عبادةً لغير الله، أو كان لأجل أن يقرب إلى الله.
وأمّا لو كان من باب إهداء ثواب المذبوح والمنحور والمنذور إلى أولياء الله وعباده الصالحين، فهو من أعظم الطاعات، وأفضل القربات، وقد بيّنا ذلك في بعض المقامات.
قولك: إن ذلك حقيقة دين المشركين أعداء رسل رب العالمين، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، فأخبر الله عنهم بذلك في كتابه المبين، حيث يقول وهو أصدق القائلين (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)(1) فأخبر الله أنهم ما عبدوهم إلا ليقربوهم الى الله زلفى، وقال سبحانه وتعالى: (ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى)(2) .
فتأمل كيف أخبر الله سبحانه عنهم أنهم ما قصدوا بعبادتهم غير الله إلاّ التقرب الى الله والشفاعة عنده، وإلاّ فهم مقرّون أنّ الله هو المدبّر لأمر هذا العالم العلوي والسفلي، كما أخبر الله عنهم أنهم أقروا بذلك، قال الله تعالى: (قل من يرزقكم من السّماء والأرض أمّن يملك السّمع والبصر ومن يخرج الحّي من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله قل أفلا تتّقون)(3) .
أقول: إنّ لكلّ حقّ حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، إنّ عبدة غير الله قد اتخذوا آلهة دون الله تعالى أو مع الله وجعلوا لهم أنداداً وأمثالاً لله، قال الله تعالى: (أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم نفعاً ولا ضرّاً)(4) ، وقال: (فلا تجعلوا لله أنداداً)(5) ، وقال: (وجعلوا لله شركاء الجنّ)(6) ، وقال: (لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة)(7) ، وقال:
____________
(1) القرآن الكريم: 10/18 (سورة يونس).
(2) القرآن الكريم: 39/3 (سورة الزمر).
(3) القرآن الكريم: 10/31 (سورة يونس).
(4) القرآن الكريم: 5/76 (سورة المائدة).
(5) القرآن الكريم: 2/22 (سورة البقرة).
(6) القرآن الكريم: 6/100 (سورة الأنعام).
(7) القرآن الكريم: 5/73 (سورة المائدة).
ثم المذمة لم تكن على اعتقاد الشفاعة، أو التقرب زلفى، بل على العبادة بهذا القصد، والمراد بالعبادة أعمال خاصة كما بيّناه.
وقولك ((إن ذلك حقيقة دين المشركين، كقوم نوح وعاد وثمود)) كيف ذلك، وقد أخبر الله عنهم بقوله: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود) ، إلى قوله: (فردّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به)(4) وأخبر عن قوم (عاد) أنهم قالوا لهود: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك)(5) وعن قوم صالح أنهم قالوا له: (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا)(6) وعن قوم شعيب أنهم قالوا له: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا)(7) ، وعن قوم إبراهيم أنهم كذّبوا الرسل.
فهؤلاء الطوائف بصريح القرآن كذبوا الرسل، وردوا قولهم، وعاندوهم، فلو كانوا مقرّين لكانوا كفاراً لكفر العناد ككفر إبليس.
فيا أخي أقسمت عليك بمن خلقنا من تراب، ثم أودعنا الأصلاب أن تترك الجدال، وتتأمل في حقيقة الحال، كيف تشبّه أعمال المسلمين بأعمال عبدة الأصنام وغيرها مع أنهم أنكروا نبوّة الأنبياء، وردّوا عليهم بعد أن أمروهم، ولم يسمعوا لهم قولاً، ولا قبلوا لهم فعلاً.
ثم أنهم عبدوا طواغيتهم بالعبادة الحقيقية، لاعتقاد أنّ لهم تصرفاً في الأكوان، أو في إرضاء الملك الديان، وإلاّ لم يذمهم الرحمن، ولا أنكر عليهم كل فعل كان.
ثم تعللوا بأنا لا نقدر على عبادة الله سبحانه، فنعبدهم ونكتفي بعبادتهم وهم يقربونا، كما أوردنا بذلك بعض الروايات في بعض المقامات.
____________
(1) القرآن الكريم: 5/116 (سورة المائدة).
(2) القرآن الكريم: 6/19 (سورة الأنعام).
(3) القرآن الكريم: 5/17 (سورة المائدة).
(4) القرآن الكريم: 14/9 (سورة إبراهيم).
(5) القرآن الكريم: 11/53 (سورة هود).
(6) القرآن الكريم: 11/62 (سورة هود).
(7) القرآن الكريم: 11/78 (سورة هود).
وعلى كلّ حال لا يتأمل مسلم في أنّ العبادة الحقيقية من الصلاة والصيام وغيرهما لا تكون لغير الله، فأن كان التصديق عن الأولياء والذبح لهم والنذر لهم عبادة، فنحن عبيد آبائنا وأمهاتنا وأمواتنا الذين نتصدق عنهم، أو ننذر لهم، ونذبح لهم.
وإن كان طلب الدعاء منهم وندبتهم على الدعاء والشفاعة كفراً، فعلى الأسلام السلام، فانه ليس في الوجود أحد لا يلتمس الدعاء من إخوانه، أو يستغيث بهم في طلب نجاته، وإن دعاء المؤمن للمؤمن أسرع للأجابة لأنه دعاء بلسان لم يعص به.
فيا أخي، المقاصد متفاوتة، وإنّما الأعمال بالنيات ولكلّ امرىءٍ ما نوى (1)، فربّ كلمة ظاهرها الأسلام، تصير بالنية كلمة كفر، وبالعكس.
وأما قولك: فأنّ الذي يفعل عندنا في مشهد علي رضى الله عنه من دعوة، واستغاثة، ورجاء، وخوف، وخشية. انه ليس بعبادة، فأنهم ما قصدوا بدعوتهم (علياً) وغيره إلاّ ليشفع لهم عند الله.
فأن قلت: أولئك يدعون الأصنام، ونحن لا ندعو إلاّ الصالحين.
قلنا: وكذلك المشركون منهم يدعون الصالحين ويعبدونهم مع الله، كعيسى ومريم والملائكة.
فأن قلتم: إنّ الدعوة لا تسمّى عبادة.
قلنا: بل هي عبادة وأي عبادة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الدعاء هو العبادة. ويلي قوله تعالى: (ادعوني أستجب لكم)(2) .
وأصل دين الأسلام هو إخلاص العبادة بجميع انواعها من الذبح والدعوة، والنذر، والتوكل، والخشية، والرغبة، والأنابة، ولا يقبل الله من الأعمال إلاّ ما اجتمع فيه شرطان:
الأول: ألاّ يعبد إلا الله وحده.
الثاني: ألا يعبد إلاّ بما شرع على لسان رسوله، كما قال الله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً)(3) .
____________
(1) البخاري (بدء الوحي)، باب 1؛ وصحيح مسلم (كتاب الأمارة)، باب 155؛ والنسائي (كتاب الطهارة)، باب59؛ وابن ماجه (كتاب الزهد)، باب 26.
(2) القرآن الكريم: 40/60 (سورة غافر).
(3) القرآن الكريم: 18/110 (سورة الكهف).
أقول: إن كان المدار على الصور دون الحقائق، فسجود الملائكة لآدم، وسجود يعقوب ليوسف، قاض بأنهما عبدا غير الله.
وإن قلت: بأن تعلق ارادة الشرع دفعت المنع. فقد أوردنا من الأخبار وكلام الصحابة ما يفيد عدم المنع، من أمثال الصور التي ذكرت.
ثم بالله عليك أنصف، ما الفرق بين قول الصديق لصاحبه في السجن (أذكرني عند ربك)(1) وبين قولنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذكرني عند ربك)).
ثم كيف باستغاثة ولي موسى(2) ولم يحكم عليه بالكفر؟! ثم كيف باستطعام موسى والخضر أهل القرية(3) ؟ ثم كيف يقول أصحاب موسى (لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك)(4) ثم ما معنى قول الأسباط ليعقوب (إستغفر لنا ذنوبنا) فقال: (سوف أستغفر لكم ربّي)(5) ؟!
وعلى كل حال إن أريدت الحقائق في الأستغاثات والدعوات وغيرها، ففي ذلك خروج عن طريقة الأسلام، وإلاّ فلا بأس، وإلاّ للزم ألاّ يخرج من الكفر أحد من العالم، ولا يمكنك والله ولا يسعك إلاّ أن تقول إنّما يراد دعاء خاص، واستغاثة خاصة ونحو ذلك، فيرتفع المحذور.
وأما من قصد حقيقة العبادة مع غير الله، ليتقرب إلى الله زلفى، أو لغير ذلك، فهو خارج عن ربقة الأسلام.
وما ذكرتم من أنّا نفرّق بين الصالحين وغيرهم، فمعاذ الله أن نفرق بين من يعبد موسى أو محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، أو يناديهم ويدعوهم، أو يستغيث بهم أحياءً وأمواتاً، ويلجأ اليهم على أنّ لهم الأمر أو ليقربوه زلفى، وبين من يعبد فرعون، وهامان، وإبليس.
أين النفوس المقرونة بالأبدان التي تتغير من أدنى حوادث الزمان، ولا زالت مورداً للأمراض، ومحلاً للأغراض، لا تدفع شيئاً من حوادث الدهور، وليس لها في كل الأمور من أمر من رتبة المعبود. ومن لا يصلح لغيره الركوع والسجود، إنما هم عبيد زادت علينا
____________
(1) القرآن الكريم: 12/42 (سورة يوسف).
(2) إشارة إلى الآية (15) من سورة القصص: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) .
(3) إشارة إلى قوله تعالة في سورة الكهف، الآية 77: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما) .
(4) القرآن الكريم: 2/61 (سورة البقرة).
(5) القرآن الكريم: 12/97 (سورة يوسف).
فأن أمرنا بتقبيل بنائهم، أو تعظيم أبنائهم، أو التماس دعائهم، فعلنا إمتثالاً لأمر ربنا، كما صنعنا ذلك في أحجار الكعبة وأركانها. وإن نهانا تركنا، إذ لا خوف إلاّ من الله، ولا رجاء إلاّ له.
وأما قولك: إنه قد ورد في الحديث عن الصادق الصدوق، قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فأنّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))(1) .
وفي الحديث الثاني، قال: إفترقت اليهود والنصارى عن اثنين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة عن ثلاثة وسبعين فرقة، كلها في النار إلاّ واحدة. وسئل عن الواحدة، فقال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي(2) (انتهى).
أقول: اللهم إني رضيت بسنّة الخلفاء الراشدين حكماً، وما عليه أصحاب محمّد متمسكاً وملتزماً، فأحلّ ما أحلوه، وأفعل ما فعلوه. وهذه أقوالهم وسيرتهم في هذه الرسالة أوضحتها، فلا أزيغ عنها، ولا أبعد مسافةً منها، فتتبع ما رويت من أخبارهم، وما نقلت من آثارهم، رزقني الله وإياكم حلاوة الأنصاف، وجنّبنا مرارة الجدال والأعتساف.
وأما قولك: ((فلا تغتر بالكثرة وهذا الثابت عن نبيك، والله يقول: (وقليل من عبادي الشّكور)(3) وقال: ((إن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله)(4) . وفي الحديث: إنّ بعث الجنة من الألف واحد، فأنت اختر لنفسك، والمهدي من هاده الله))، إنتهى.
أقول: يا أخي، الوصية مشتركة بيني وبينك، فالذي عليّ ألاّ تأخذني حميّة الآباء والأجداد، وحب الطريقة المأنوسة بين العباد، بل أنظر بعين البصيرة وإخلاص السريرة.
وأما أنت فأني أخشى عليك من حب الانفراد، حتى لا تكون كبعض الآحاد، فأن الأصابع لم تزل ممدودة إلى من ركب جادة غير معهودة، وقد ورد في المثل: (خالف تعرف).
____________
(1) سنن الترمذي: 5/2676، وسنن أبي داود: 4/4607، وسنن ابن ماجه: 1/42.
(2) كنز العمال: 1/1060.
(3) القرآن الكريم: 34/13 (سورة سبأ).
(4) القرآن الكريم: 6/116 (سورة الأنعام).
ثم إني ـ والله ـ أخشى عليك من جهة أنك كنت خالي البال، بعيد عن هذه المحال فوردت عليك شبهات لم تستطع ردّها، وخيالات لم تبلغ حدّها، فكان الحال كما قال: (صادف قلباً خالياً فتمكّنا)(1) .
وأما اليوم، فليس لك عند الله عذر، فقد علمت بالأخبار، وسمعت بطريقة الخلفاء الأبرار، فأجدّ نظرك، واستعمل فكرك، واخلع عن نفسك ربقة التقليد، واطلب من ربك التأييد والتسديد.
ثم ما ذكرت إنّما يدل على أنّ الحقّ مع القليل من المكلفين لا من المسلمين، فأن أكثر أهل الأرض كفار من يهود، ونصارى، ومشركين، وجاحدين، وغيرهم، حتى أنّ نسبة اقليم المسلمين إلى سائر الأقاليم أقلّ قليل.
فنحن نقول بأنّ من أطاع أكثر الخلق ضال، لأنّ أكثر الناس من أهل الكفر والضلال، وان الشكور قليل، وان بعث أهل الجنة من الألف واحد، ولو استندت في هذا الى حديث الفرق، فوحدة الفرقة لا تنافي زيادة أفرادها على ألف فرقة.
والحق أنه لا ملازمة بين القلّة والكثرة، وبين الحق والباطل، فكم من قليل هدي إلى الصواب، وكثير حلّ عليه المؤاخذة والعقاب، وكم قد إنعكس الأمر في هذا الباب، والمدار على طلب العصمة والنجاة من رب الأرباب، ولا حول ولاقوة إلاّ بالله العليّ العظيم.
تمت علي يد أقل العباد عملاً، وأكثرهم زللاً محمد قاسم ابن شيخ محمد بن حمزة الدلبزي في سنة ألف ومائتين وعشرة.
____________
(1) إشارة إلى قول القائل: