الصفحة 199

الفصل العاشر : الرجعة


قال الشيخ في « مطلب الرجعة » :

ومنها أنه ما قال أضلهم محمد بن بابويه القمي في عقائده في مبحث الايمان بالرجعة : فانهم عليهم الصلاة قالوا : « من لم يؤمن برجعتنا فليس منا » ، وإليه ذهب جميع علمائهم ، قالوا : إن النبي (صلى الله عليه وسلم)وعلياً (رضي الله عنه) والائمة الاثني عشر يحيون في آخر الزمان ويحشرون بعد خروج المهدي وبعد قتله الدجال ، ويحيا كل من الخلفاء الثلاثة وقتلة الائمة ، فيقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) الخلفاء حدّاً والقتلة قصاصاً ويصلبون الظالمين ويبتدئون بصلب أبي بكر وعمر على شجرة ، فمن قائل يقول : إن تلك تكون رطبة فتجف تلك الشجرة بعد أن صلبا عليها فيضل بذلك خلق

الصفحة 200
كثير من أهل الحق ويقولون ظلمناهم ، ومن قائل يقول : الشجرة تكون يابسة فتخضر بعد الصلب ويهتدي به جم غفير من محبيهما . قيل ذكروا في كتبهم أن تلك الشجرة نخلة وأنها تطول حتى يراها أهل المشرق والمغرب وأن الدنيا تبقى بعد ذلك خمسين ألف سنة ، وقيل : مائة وعشرين ألف سنة لكل إمام من الاثني عشر ، اثني عشر الف سنة ، وقال بعضهم : إلاّ المهدي فان له ثمانين ألف سنة ثم يرجع آدم ثم شيث ثم إدريس ثم نوح ثم بقية الانبياء إلى أن ينتهي إلى المهدي ، وأن الدنيا غير فانية وأن الاخرة غير آتية ، كذا نقل عنه والله أعلم...(1) .

قلت : يكفينا في إدانة الشيخ بنقله هذه الاساطير قوله : قيل ذكروا في كتبهم ، أو كذا نقل عنه... ، مما يدل على عدم تثبت الشيخ في نقل ما يستشهد به ، وأنه إنما يرجم بالغيب معتمداً على نقل تخرصات قوم لا يتصفون بالامانة والصدق .

ومقتضى هذه الرواية أن الشيعة لا يؤمنون بالقيامة ، وهذا من أقبح الافتراءات عليهم ، كيف ذلك وهم أتباع أهل البيت الذين

____________

(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 31 ـ 32 .

الصفحة 201
أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وهم الثقل الثاني الذي أمر النبي (صلى الله عليه وسلم)بالتمسك به بعد القرآن العزيز ، وإن وصف هذه الطائفة المؤمنة بمثل هذه الاوصاف البذيئة يتنافى مع قوله سبحانه وتعالى : (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاَْلْقَابِ بِئسَ الاْسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(1) .

ولو أن الشيخ وأمثاله قرأوا آراء علماء الشيعة حول الرجعة لادركوا بأنهم لا يلقون الكلام على عواهنه ـ كما يفعل هو وأمثاله ـ بل هم يستندون إلى الكتاب والسنة اللذان أكدا على قضية الرجعة ، كما سوف يتبين من الامثلة الاتية .

أ ـ في القرآن الكريم أمثلة وشواهد على أن رجعة الاموات قد حدثت في الاُمم السابقة لحكمة اقتضتها العناية الالهية ، ولتكون عبرة لاُولي الالباب حتى قيام الساعة على قدرة الله سبحانه وتعالى، ورداً على الجاهلين الذين ينكرون إمكانية حدوث ذلك .

فمن الشواهد القرآنية على الرجعة في الاُمم السابقة .

1 ـ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ

____________

(1) سورة الحجرات : 11 .

الصفحة 202
المَوتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (1) .

2 ـ قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنْ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (2) .

3 ـ قوله تعالى حكاية عن عيسى (عليه السلام) : (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) (3) .

4 ـ قوله تعالى حكاية عن عزير (عليه السلام) : (فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ) (4) .

5 ـ قوله تعالى : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي)(5) .

6 ـ قوله تعالى (فَقُلنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (6) .

ب ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه »(7) .

____________

(1) سورة البقرة : 243 .

(2) سورة البقرة : 55 ـ 56 .

(3) سورة آل عمران : 49 .

(4) سورة البقرة : 259 .

(5) سورة المائدة : 110 .

(6) سورة البقرة : 73 .

(7) مسند أحمد 3/84 ، 89 ، 2/27 ، 450 ، صحيح البخاري 9 / 126 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لتتبعن سنن من كان قبلكم ، صحيح مسلم 4 / 2054 كتاب العلم ، سنن إبن ماجة : كتاب الفتن .

الصفحة 203
والسنن هنا تشمل القوانين الطبيعية التي أجراها الله سبحانه وتعالى على الاُمم السابقة ومن بينها رجعة الاموات ، فما المانع من إجراء هذه السنة على أُمتنا أيضاً كما حدث لمن قبلهم ؟

هذا فيما يتعلق بما جرى في الاُمم السابقة ، إلا أن في القرآن الكريم أدلة أُخرى على إمكانية هذه الرجعة مرة أُخرى قبل قيام الساعة في عدد من الايات الشريفة ، منها قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّة فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) .

وقد اختلفت أقوال المفسرين من الطائفتين في مدلول هذه الاية ، فذهب أكثر مفسري أهل السنة إلى أنها إخبار عن يوم القيامة وبيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها .

قال الالوسي : إنها من الاُمور الواقعة بعد قيام القيامة وإن المراد بهذا الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق ، أي هو حشر بعد حشر(2) .

____________

(1) سورة النمل : 83 ـ 84 .

(2) روح المعاني 20/26 .

الصفحة 204
لكن المفسرين من أهل السنة ينطلقون من نظرتهم المذهبيه الخاصة التي لا تعترف بامكانية الرجعة ، لذا نجد تفسيرهم للاية لا يستوعب مدلولها بشكل كامل ، كما أن هناك آيات أُخرى تؤيد تفسير الشيعة في دلالة الاية وآيات أُخرى على الرجعة ، وسوف أقتطف آراء بعض المفسرين والعلماء الشيعة لمدلول الايات القرآنية على الرجعة حتى يمكن مقارنة آراء الفريقين حول الرجعة :

1 ـ قال ابن شهر آشوب : لا خلاف أن الله يحيي الجملة يوم القيامة ، فالفوج إنما يكون في غير القيامة(1) .

2 ـ قال السيد الطباطبائي : لو كان الحشر المراد ، الحشر إلى العذاب ، لزم ذكر هذه الغاية دفعاً للابهام ، كما في قوله تعالى (وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءَ اللهِ إلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا) مع أنه لم يذكر فيما بعد هذه الاية إلاّ العتاب والحكم الفصل دون العذاب .

والاية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلى شيء يلوح إلى هذا الحشر الخاص المذكور ، ويزيدها إطلاقاً قوله بعدها : (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا) فلم يقل : حتى إذا جاؤوا العذاب أو النار أو غيرها .

ويؤيد ذلك أيضاً وقوع الاية والايتين بعدها بعد نبأ دابة الارض ،

____________

(1) متشابه القرآن 2/97 .

الصفحة 205
وهي من أشراط الساعة ، وقبل قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) إلى آخر الايات الواصفة لوقائع يوم القيامة ، ولا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر مشروعه ووقوع عامة ما يقع فيه ، فان الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كلّ أُمة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين .

وقد تنبه لهذا الاشكال بعض من حمل الاية على الحشر يوم القيامة فقال : لعل تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور ووقوع الواقعة للايذان بأن كلاً مما تضمنه هذا وذاك من الاحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ، ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة .

وأنت خبير بأنه وجه مختلف غير مقنع ، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الاية في غير يوم القيامة بوضع الاية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الابهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه .

فقد بان أن الاية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة(1) .

____________

(1) الميزان في تفسير القرآن 15/397 .

الصفحة 206
3 ـ قوله تعالى (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَينِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلَى خُرُوج مِنْ سَبِيل) (1) .

قال الشيخ المفيد (قدس سره) : قال سبحانه مخبراً عمن يحشر من الظالمين أنه يقول يوم الحشر الاكبر : (رَبَّنَا أَمَتَّنا...) الاية ، وللعامة في هذه الاية تأويل مردود ، وهو أن قالوا : إن المعني بقوله : (رَبَّنا أَمَتَّنا اثْنَتَيْنِ...) أنه خلقهم أمواتاً بعد الحياة ، وهذا باطل لا يجري على لسان العرب ، لان الفعل لا يدخل إلاّ على ما كان بغير الصفة التي انطوى اللفظ على معناها ، ومن خلقه الله مواتاً لا يقال إنه أماته ، وإنما يدخل ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة ، كذلك لا يقال أحيا الله ميتاً إلاّ أن يكون قبل إحيائه ميتاً ، وهذا بيّن لمن تأمله .

وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله : (رَبَّنا...) الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمساءلة ، فتكون الاولى قبل الاقبار والثانية بعده .

وهذا أيضاً باطل من وجه آخر ، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف فيندم الانسان على ما فاته في حياته ، وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم المرّتين يدل على أنه لم يرد حياة المساءلة ، لكنه

____________

(1) سورة غافر : 11 .

الصفحة 207
أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم على تفريطهم ذلك فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك(1) .

4 ـ قوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) إلى قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كَاذِبِينَ) (2) .

روى جمع من علماء الشيعة أنها نزلت في الرجعة ، ولا يخفى أنها لا تستقيم في إنكار البعث ، لانهم ما كانوا يقسمون بالله ، بل كانوا يقسمون باللات والعزى ، ولان التبيّن إنما يكون في الدنيا لا في الاخرة(3) .

5 ـ قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعونَ) (4) .

قال ابن شهر آشوب : هذه الاية تدل على أن بين رجعة الاخرة والموت حياة أُخرى ، ولا ينكر ذلك لانه قد جرى مثله في الزمن

____________

(1) المسائل السروية : 33 .

(2) سورة النحل : 38 ـ 39 .

(3) تفسير القمي 1/385 ، تفسير العياشي 2/259 ، الاعتقادات : 63 .

(4) سورة البقرة : 28 .

الصفحة 208
الاول...(1) .

وقال الحر العاملي : وجه الاستدلال بهذه الاية أنه أَثبت الاحياء مرتين ، ثم قال بعدها (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، والمراد به القيامة قطعاً ، والعطف ـ خصوصاً بثم ـ ظاهر في المغايرة ، فالاحياء الثاني إما في الرجعة أو نظير لها ، وبالجملة ففيها دلالة على وقوع الاحياء قبل القيامة(2) .

____________

(1) متشابه القرآن 2/97 .

(2) الايقاظ من الهجعة 8/84 .

الصفحة 209

الفصل الحادي عشر : الشهادة الثالثة في الاذان


قال الشيخ في « مطلب زيادتهم في الاذان » :

ومنها : زيادتهم في هذه الازمنة في الاذان والاقامة وفي التشهد بعد الشهادتين أن علياً ولي الله ، وهذه بدعة مخالفة للدين لم يرد بها كتاب ولا سنة ولم يكن عليها إجماع ولا فيها قياس صحيح ومخالفة لاهل مذهبهم ، فردّها لا يحتاج إليه(1) .

أقول : ينبغي أولاً معرفة مشروعية الزيادة أو النقصان في الاذان أو عدمه ، ومن ثم التحقق من آراء الفريقين لمعرفة أيهما الذي قد زاد في الاذان ومدى مشروعية هذه الزيادة .

بدءاً نقول : إن الشيعة تعتبر ألفاظ الاذان مسألة توقيفية من الله سبحانه وتعالى ، وأن جبريل (عليه السلام) هو الذي علّم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الاذان

____________

(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 32 ـ 33 .

الصفحة 210
والاقامة ، وأنّ أي زيادة أو نقصان فيهما غير جائزة .

أما أهل السنة ، فيدّعون أن الاذان ليس توقيفياً ، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قد أراد أن يتخذ البوق أو النار أو الناقوس ، ثم أخبره أحد الصحابة برؤياه في الاذان فأقرّه النبي :

أخرج جمع من المحدثين من أهل السنة ، واللفظ لابي داود قال : حدثني أبو عبدالله بن زيد ، قال : لما أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة ، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده ، فقلت : يا عبدالله ، أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ فقلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ فقلت له : بلى ، قال : تقول : الله أكبر ، الله اكبر... فلما أصبحت أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته بما رأيت ، فقال : « إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فانه أندى صوتاً منك » ، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « فلله الحمد »...(1) .

وأخرج أبو داود ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من

____________

(1) سنن أبي داود 1/135 باب كيف الاذان .

الصفحة 211
الانصار ، قال : اهتم النبى (صلى الله عليه وسلم) للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القنع ـ يعني الشبور ـ وقال زياد : شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ، وقال : « هو من أمر اليهود » ، قال : فذكر له الناقوس ، فقال : « هو من أمر النصارى » ، فانصرف عبدالله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأُري الاذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الاذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً ، قال : ثم أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال له : « ما منعك أن تخبرني » ؟ فقال : سبقني عبدالله بن زيد فاستحييت... (1) .

وأخرج عن عبدالله بن عمر أنه قال : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون ، فيتحينون الصلاة ، وليس ينادي به أحد ، فتكلموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « يا بلال ، قم فناد بالصلاة »(2) .

____________

(1) المصدر السابق : باب بدء الاذان .

(2) صحيح البخاري 1/157 باب بدء الاذان ، صحيح مسلم 1/285 باب بدء الاذان .

الصفحة 212
كما أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : لما كثر الناس قال ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه ، فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً ، فأمر بلال أن يشفع الاذان وأن يوتر الاقامة(1) .

هذه أهم روايات بدء الاذان وصفته عند أهل السنة ، وفي المصادر الاُخرى ما يشبهها أيضاً(2) .

قال العلامة الحلي (قدس سره) : ـ بعد إيراد رواية محمد بن عبدالله بن زيد عن بدء الاذان ـ : وهذا الحديث مدفوع من وجوه :

ا ـ اختلاف الرواية فيه ، فان بعضهم روى أن عبدالله بن زيد لما أمره النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم بلال قال : إئذن لي حتى أؤذن مرة فأكون أول مؤذن في الاسلام ، فاذن له فأذن .

ب ـ شهادة المرء لنفسه غير مسموعة ، وهذا منصب جليل فلا يسمع قوله عن نفسه فيه .

ج ـ كيف يصح أن يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناقوس مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نسخ شريعة عيسى .

د ـ كيف أمر بالناقوس ثم رجع عنه ؟ ! إن كان الامر به مصلحة

____________

(1) صحيح البخاري 1/157 ـ 158 .

(2) انظر سنن ابن ماجه 1/232 كتاب الاذان باب بدء الاذان ، سنن الترمذي 1/358 ، سنن النسائي 2/20 ، وغيرها .

الصفحة 213
استحال نسخه قبل فعله ، وإلا استحال أمره به .

هـ ـ إن كان أمره بالناقوس بالوحي لم يكن له تغييره إلاّ بوحي مثله ، فان كان الاذان بوحي فهو المطلوب وإلاّ لزم الخطأ ، وإن لم يكن الامر بالناقوس بالوحي كان منافياً لقوله تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (1) .

و ـ كيف يصح استناد هذه العبادة الشريفة العامة البلوى المؤبدة الموضوعة علامة على أشرف العبادات وأهمها إلى منام من يجوز عليه الغلط ! والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يلق عليه ، ولا على أجلاء الصحابة ؟

ز ـ أهل البيت (عليهم السلام) أعرف بمواقع الوحي والتنزيل ، وقد نصوا على أنه بوحي .

قال الباقر (عليه السلام) : « لما أُسري برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذّن جبريل (عليه السلام) وأقام ، فتقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فصف الملائكة والنبيون خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) » .

ومثل هذا الذي تعبّد به الملائكة وغيرهم يستحيل إستناده إلى الاجتهاد الذي تجوزونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) .

____________

(1) سورة النجم : 3 .

(2) تذكرة الفقهاء 3/38 ـ 39 .

الصفحة 214
وإنطلاقاً من هاتين النظرتين المختلفتين ، فان أهل السنة يجيزون التصرف في الاذان ـ وقد حدث ذلك فعلاً ـ أما الشيعة فينفون إمكانية التصرف في الاذان بالزيادة والنقصان ، لانه توقيفي كما قلنا .

وتبعاً لذلك فقد خضع الاذان عند أهل السنة للاجتهاد والرأي ، فزادوا فيه التثويب وهو قول المؤذن : ( الصلاة خير من النوم ) في أذان صلاة الفجر ، وأسقطوا منه : ( حي على خير العمل ) ، كما تعترف بذلك رواياتهم ، حتى أنهم يعترفون بأن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون عند الاذان ( حي على خير العمل ) بعد الحيعلتين ، وكانوا يخرجون من المسجد إذا سمعوا التثويب ويعتبرونه بدعة :

روى الترمذي عن مجاهد قال : دخلت مع عبدالله بن عمر مسجداً وقد أذَّن فيه ، ونحن نريد أن نصلي فيه ، فثوّب المؤذن ، فخرج عبدالله بن عمر من المسجد وقال : أخرج بنا من عند هذا المبتدع ، ولم يصل فيه ، قال : وإنما كره عبدالله التثويب الذي أحدثه الناس بعد .

وقد حاول البعض إلصاق بدعة التثويب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لتبرير هذه البدعة ، كماهي العادة عندهم دائماً :

روى الترمذي قال : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا أبو أحمد

الصفحة 215
الزبيري ، حدثنا أبو إسرائيل ، عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن بلال قال : قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « لا تثوبن في شيء من الصلوات إلاّ في صلاة الفجر » ، قال : وفي الباب عن أبي محذورة ، قال أبو عيسى ( الترمذي ) : حديث بلال لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسرائيل الملائي ، وأبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم بن عتيبة ، قال : إنما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة ، وأبو إسرائيل إسمه إسماعيل ابن أبي إسحاق ، وليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث(1) .

وقال أبو بكر بن العربي : وهو حديث معلول ، وقد شاهدتُ فنّاً من التثويب بمدينة السلام ، وهو أن يأتي المؤذن إلى دار الخليفة فيقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، حي على الصلاة ( مرتين ) حي على الفلاح ( مرتين ) ، ورأيت الناس في مساجدهم في بلاد ، إذا قامت الصلاة يخرج إلى باب المسجد من ينادي : الصلاة رحمكم الله ، وهذا كله تثويب مبتدع(2) .

أما فيما يتعلق بحذف أجزاء من الاذان ، فان الخليفة الثاني عمر

____________

(1) سنن الترمذي 1/381 ، وأخرجه ابن ماجة 1/237 ، والبيهقي 1/424 ، قال البيهقي : وهذا أيضاً مرسل ، فان عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق بلالاً . فالحديث ضعيف .

(2) عارضة الاحوذي 1/312 ـ 314 .

الصفحة 216
ابن الخطاب قد أمر بحذف : ( حي على خير العمل ) بعد الحيعلتين ، وقد اعترف القوشجي بذلك ، ولكنه اعتبره اجتهاداً من الخليفة ، فقال : ومنها أنه منع المتعتين ، فانه صعد المنبر وقال : أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن ، وهي : متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل... قال القوشجي تعليقاً على ذلك : إن ذلك ليس مما يوجب قدحاً فيه ، فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع...(1) .

فالقوشجي يعتبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مجتهداً كسائر المجتهدين ، هذا هو للاسف مذهب أهل السنة الذي يجوّز على النبي الخطأ والنسيان والاجتهاد وحتى ارتكاب الذنوب ، وبالتالي فان مخالفة أي مجتهد له ليس ببدعة ، بل هو إجتهاد في مقابل إجتهاد النبي ليس إلاّ .

لكن الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي (صلى الله عليه وسلم) المطلقة لا يجوّزون ذلك عليه ، ولا يجوّزون مخالفته بأي حال من الاحوال ، فعصمة النبي المطلقة قد نطق الكتاب بها في قوله تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (2) ، ولا يجوّزون مخالفته ، لقوله تعالى : (مَا آتَاكُمُ

____________

(1) شرح تجريد الاعتقاد : 374 .

(2) سورة النجم : 3 ـ 4 .

الصفحة 217
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1) .

وقد أحس أهل السنة بفداحة الامر ، فحاولوا أن يخرجوا من هذه الورطة بنسبة هذا التصرف في الاذان ـ كما في غيره ـ إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لصرف التهمة عن عمر بن الخطاب :

أخرج البيهقي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه ، ثنا أبو محمد بن حيان أبو الشيخ الاصفهاني ، ثنا محمد بن عبدالله بن رسته ، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، ثنا عبد الرحمن بن سعد المؤذن ، عن عبدالله بن محمد بن عمار ، وعمار وعمر ابني حفص بن عمر بن سعد ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال : أنه كان ينادي بالصبح فيقول : حي على خير العمل ، فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يجعل في مكانها : الصلاة خير من النوم وترك حي على خير العمل .

قال الشيخ : وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما علّم بلالاً وأبا محذورة ، ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق(2) .

أما بعض الصحابة والتابعين فقد استمرّوا على الحيعلة الثالثة ، فقد أخرج البيهقي أن ابن عمر كان يكبر في النداء ثلاثاً وشهد ثلاثاً وكان أحياناً إذا قال : حي على الفلاح ، قال على أثرها : حي على

____________

(1) سورة الحشر : 7 .

(2) السنن الكبرى 1/425 .

الصفحة 218
خير العمل(1) .

وأخرج عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن علي بن الحسين كان يقول في أذانه إذا قال حي على الفلاح ، قال : حي على خير العمل ، ويقول : هو الاذان الاول(2) .

وقال السهيلي : ونقل عن ابن عمر وعن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي على الفلاح : حي على خير العمل(3) .

هذا هو ما أحدثه أهل السنة في الاذان ، وجعلوه جزءاً منه ، أما الشيعة فيعتبرون الاذان توقيفياً ـ كما قلنا ـ والنداء الثالث ليس عندهم من أجزاء الاذان ، بل أن إعتباره جزءاً من الاذان يبطله عندهم .

وإنّما يأتون به من باب الاستحباب ، وذلك لورود الروايات الكثيرة في مصادر الفريقين من المقارنة بين اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واسم الامام علي (عليه السلام) ، ويكون كاستحباب الصلاة على النبي بعد الشهادة بالرسالة .

فلماذا يعاب على الشيعة ذلك ويتسامح مع غيرهم في ما هو أكبر ؟ !

____________

(1) السنن الكبرى 1/224 .

(2) المصدر السابق .

(3) السيرة الحلبية 2/98 .

الصفحة 219

الجمع بين الصلاتين

قال الشيخ في « مطلب الجمع بين الصلاتين » :

ومنها تجويزهم الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير عذر ، وقد روى الترمذي قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتى باباً من الكبائر » ، وقد ورد أن من أشراط الساعة تأخير الصلاة عن أوقاتها ، وما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) من الجمع بين العصرين والعشاءين فمؤول بتأخير الاولى إلى آخر وقتها وأداء الاُخرى في أول وقتها والله اعلم .

قيل : إن سبب جمعهم بين الظهرين والمغربين طول الدهر مع إختيار التأخير فيهما هو : أنهم ينتظرون القائم المختفي في السرداب ليقتدوا به فيؤخرون الظهر إلى العصر إلى قريب غروب الشمس ، فاذا يئسوا من الامام واصفرّت الشمس وصارت بين قرني الشيطان نقروا عند ذلك كنقر الديك فصلوا الصلاتين من غير خشوع ولا طمأنينة فرادى من غير جماعة... » (1) .

____________

(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 33 .

الصفحة 220
هذه أُسطورة أُخرى من أساطير الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي لا تنتهي أساطيره ، وكأنه يتحدّث عن أقوام بائدة ، أو عن سكان كوكب آخر يتعذر الوصول إليهم .

ولنا أن نسأل الشيخ : إذا كان الشيعة يربون على عشرات الملايين ، وهم منتشرون في كافة بقاع الارض ، فكيف يتاح لهم الوقوف على ذلك السرداب والاجتماع عنده وقت الصلاة كل يوم ؟ كيف يستطيع الشيعي الهندي مثلاً أن يجيء لينتظر على باب السرداب كل يوم وهو يبعد عنه آلاف الاميال ؟ أم أن ذلك مختص بأهل مدينة سامراء التي يوجد فيها السرداب ، وهل أن هؤلاء هم الشيعة كلهم ؟ ! !

على أي حال لا أرى حاجة للاسهاب في الكلام عن هذه الخرافة التي لا يقبلها إلاّ عقل مريض .

أما فيما يتعلق بموضوع الجمع بين الصلاتين ، فلو كان الشيخ على شيء ولو يسير من العلم لما خاض هذه المخاضة وفضح نفسه بعد أن وردت به الاثار الصحاح ، وركن إليه العلماء من أهل السنة واعترفوا بمشروعيته ، رغم أن معاندة الحق والتعصب المذهبي قد يدفع البعض إلى محاولة إيجاد تأويلات غير مقنعة لا تنهض أمام الحقائق الدامغة .

الصفحة 221
وسوف استعرض جملة من الروايات التي وردت في كتب أهل السنة وصحاحهم مع الاشارة إلى بعض تعليقات الشراح والعلماء عليها :

عن ابن عباس قال : صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، في غير خوف ولا سفر(1) .

وعن عبدالله بن شقيق قال :خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة ، الصلاة ، قال : فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني فقال : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنّة ؟ لا أُم لك ! ثم قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء . قال عبدالله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدّق مقالته (2) .

____________

(1) صحيح مسلم 1/489 ، 490 ، وفي حديث وكيع قال : قلت لابن عباس : لم فعل ذلك ؟ قال : كي لا يحرج أُمته ، وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أُمته ، وعن جابر بن يزيد عن ابن عباس : أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً ، الظهر والعصر والمغرب والعشاء .

(2) صحيح مسلم 1/491 ، 492 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، سنن النسائي 2/290 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، سنن أبي داود 2/6 ، مصنف عبد الرزاق 2/556 ، المعجم الكبير 10/269 ، المعجم الاوسط 3/176 ، الصغير 2/94 .

الصفحة 222
قال النووي : وأما حديث ابن عباس ، فلم يجمعوا على ترك العمل به ، بل لهم أقوال : منهم من تأوّله على أنه جمع بعذر المطر ، هذا مشهور عن جماعة من المتقدمين ، وهو ضعيف بالرواية الاُخرى : من غير خوف ولا مطر . ومنهم من تأوّله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلاّها ، وهذا أيضاً باطل ، لانه وإن كان فيه أدنى إحتمال في الظهر والعصر ، لا إحتمال فيه في المغرب والعشاء . ومنهم من تأوّله على تأخير الاولى إلى آخر وقتها فصلاّها فيه فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاّها فصارت صلاته صورة جمع ، وهذا أيضاً ضعيف أو باطل، لانه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطبواستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في ردّ التأويل . ومنهم من قال : هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه فما في معناه من الاعذار، هذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا ، وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث، ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة ، ولان المشقة

الصفحة 223
فيه أشد من المطر(1) .

ولكن الوجه الذي اختاره النووي ومن سبقه غير صحيح ، لان فعل ابن عباس لا يوحي بالمرض ، إذ كيف يتسنى لمريض أن يخطب منذ العصر وحتى ظهور النجوم ، فاذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جمع بسبب المرض فما عذر ابن عباس في الجمع ، ولا أدري ما وجه موافقة أبي هريرة في الدلالة على المرض ؟ !

وقد رد القسطلاني هذا العذر بقوله :

وحمله بعضهم على الجمع للمرض وقوّاه النووي رحمه الله تعالى بأن المشقة فيه أشد من المطر ... وتعقب بأنه مخالف لظاهر الحديث ، وتقييده به ترجيح بلا مرجح وتخصيص بلا مخصّص ، وقد أخذ آخرون بظاهر الحديث فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وبه قال أشهب والقفال الشاشي وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث ، وتأوله آخرون على الجمع الصوري بأن يكون آخر الظهر إلى آخر وقتها وعجّل العصر في أول وقتها ، وضعّف لمخالفته الظاهر(2) .

____________

(1) شرح صحيح مسلم 5/218 .

(2) إرشاد الساري 1/491 .

الصفحة 224
أما الترمذي ، فقد أورد هذه الروايات في جامعه وادعى في كتاب العلل أن هذا الحديث غير معمول به ، ولكن المباركفوري قال في مقدمة شرحه لصحيح الترمذي :

اعلم بارك الله بك أن الترمذي قال في كتاب العلل الذي في آخر جامعه : جميع ما في هذا الكتاب ـ يعني جامعه من الحديث ـ هو معمول به ، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين : حديث ابن عباس (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ولا سفر ، وحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : « من شرب الخمرة فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه » ، قال : وقد بينا علّة الحديثين جميعاً في الكتاب ، انتهى .

قلت : وقد تعصب الملاّ معين في كتابه دراسات اللبيب على كلام الترمذي هذا ، وقد أثبت أن هذين الحديثين كليهما معمول بهما ، والحق مع الملا معين عندي والله تعالى أعلم(1) .

أما استشهاد الشيخ برواية « من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتى باباً من الكبائر » فيدل على جهله المطبق بعلوم الحديث ، أو معاندته للحق ليس إلاّ ، لان الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث

____________

(1) مقدمة تحفة الاحوذي : 367 .

الصفحة 225
قال : أما حديث حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم)قال : « من جمع... » الحديث ، وحنش هذا هو أبو علي الرجبي وهو حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث(1) .

وقال ابن حجر في ترجمة حنش : قال البخاري : أحاديثه منكرة ولا يكتب حديثه ، وقال العقيلي : في حديثه « من جمع بين صلاتين... » لا يتابع عليه ولا يعرف إلاّ به ولا أصل له ، وقد صح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جمع بين الظهر والعصر...(2) .

أما إدعاء الشيخ أن الشيعة يؤخرون الصلاة ، فالحقيقة هي عكس ذلك ، ويشهد على ذلك :

ما أخرجه أئمة أهل السنة في صحاحهم ، فقد أخرج المحدثون ـ واللفظ للبخاري ـ عن أنس بن مالك قال : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قيل : الصلاة ! قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها ؟

وعن عثمان بن أبي رود أخي عبد العزيز ، قال : سمعت الزهري يقول : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة ، وهذه

____________

(1) جامع الترمذي 1/356 .

(2) تهذيب التهذيب 1/538 .

الصفحة 226
الصلاة قد ضُيّعت(1) !

وعن عثمان بن سعد قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ما أعرف شيئاً مما عهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اليوم ، فقال أبو رافع : يا أبا حمزة الصلاة ، فقال : أوليس قد علمت ما صنع الحجاج في الصلاة(2) .

فهذه الشهادات من صحابي عاش طويلاً حتى أدرك ما أحدث الامويون وولاتهم في الصلاة من التضييع والتأخير تثبت صحة عمل الشيعة في الجمع بين الصلاتين في أول وقتها ، وبخاصة صلاة العصر ، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يبكر بصلاة العصر ، لكن أهل السنة اختاروا تأخيرها إقتداء ببني أُمية ، ويدل على ذلك الرواية المتفق عليها الاتية :

عن أبي بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف قال : سمعت أبا أُمامة يقول : صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر ، فقلت : يا عم ما هذه الصلاة التي صليت ؟ قال : العصر ، وهذه صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي كنا نصلي معه(3) .

____________

(1) صحيح البخاري 1/141 باب تضييع الصلاة ، الترمذي 4/632 .

(2) مسند أحمد 3/208 و3/102 و185 .

(3) صحيح البخاري 1/144 ـ 145 ، صحيح مسلم 1/434 باب استحباب التبكير بالعصر .

الصفحة 227

أوقات الصلاة عند الشيعة

أما عن رأي الشيعة في الصلاة وأوقاتها ، ومسألة الجمع والتفريق بينها ، فسوف أكتفي بذكر أراء علمائهم بهذا الشأن :

قال الشيخ المفيد (قدس سره) : ولكلّ صلاة من الفرائض الخمس وقتان : أول وآخر ; فالاول لمن لا عذر له ، والثاني لاصحاب الاعذار ، ولا ينبغي لاحد أن يؤخر الصلاة عن أول وقتها وهو ذاكر لها غير ممنوع عنها ، فإن أخّرها ثم اخترم الوقت قبل أن يؤديها كان مضيّعاً لها ، فان بقي حتى يؤديها في آخر الوقت أو فيمابين الاول والاخر منه عفي عن ذنبه في تأخيرها إن شاء الله .

ولا يجوز لاحد أن يصلي شيئاً من الفرائض قبل وقتها ، ولا يجوز له تأخيرها عن وقتها(1) .

وقال الشهيد (قدس سره) : وبالجملة كما علم من مذهب الامامية جواز الجمع بين الصلاتين مطلقاً ، عُلم منه إستحباب التفريق بينهما بشهادة النصوص والمصنفات بذلك (2) .

____________

(1) المقنعة : 94 باب أوقات الصلوات وعلامة كل وقت منها .

(2) ذكرى الشيعة : 119 .

الصفحة 228
يستحب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشاءين(1) .

وبعض علماء أهل السنة ومفسريهم متفقون مع الشيعة في أوقات الصلوات ، فمما قاله الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ الَّليْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (2) .

قال : فان فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة ـ وحكاه عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل ـ كان الغسق عبارة عن أول المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الاية ثلاثة أوقات : وقت الزوال ، ووقت أول المغرب ، ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مطلقاً ، إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز ، فوجب أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر وعند المطر وغيره ! !(3) .

نلاحظ أن الرازي بعد ما ينطق بالحق ، يعود فيخالف العقل والنقل

____________

(1) العروة الوثقى : كتاب الصلاة ، فصل أوقات اليومية ونوافلها ( مسأله 7 ) .

(2) سورة الاسراء : 78 .

(3) التفسير الكبير 21/26 ـ 27 .

الصفحة 229
تعصباً لمذهبه ومخالفة للشيعة ليس إلاّ ، رغم أنه لا يذكر الدليل الذي دل على عدم جواز الجمع في الحضر من غير عذر ، وإدعاؤه جواز الجمع لعذر السفر والمطر وغيره ، يرده الاحاديث الصحيحة التي أوردناها ، واعتراف غيره من العلماء ببطلان هذه الحجة ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله .

مسح الرجلين

قال الشيخ في « مطلب مسح الرجلين » :

ومنها إيجابهم المسح على الرجلين ومنعهم غسلها والمسح على الخفين ، وقد صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال الله فيه : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نَزَلَ إِلَيْهِمْ) برواية علي (رضي الله عنه) غسلهما والامر به وكذا عنه برواية عثمان وابن عباس وزيد بن عاصم ومعاوية بن مرة والمقداد بن معديكرب وأنس وعائشة وأبي هريرة وعبدالله بن عمر وعمرو بن عنبسة وغيرهم ، وقد صح عنه « ويل للاعقاب من النار » ، فمجموع ما ورد عنه في غسلهما فعلاً وقولاً يفيد العلم الضروري اليقيني ، ومن أنكر ذلك فقد أنكر المتواتر ، وحال منكره معلوم أقل مراتبه أن يكون فاسقاً ، بل تكون صلاته باطلة ، فيبعث يوم

الصفحة 230
القيامة بلا طهارة شرعية...(1) .

هذه واحدة من المسائل الفقهية التي اختلف فيها المسلمون أيضاً ، فجمهور أهل السنة يدعي وجوب غسل القدمين ـ مع خلاف بينهم ـ ويستندون في ذلك إلى بعض الادلة ، بينما يقول الشيعة بوجوب المسح ـ بلا خلاف بينهم ـ وعدم جواز الغسل ، ويستندون في ذلك أيضاً إلى بعض الادلة التي تؤيد وجهة نظرهم .

أما إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن الروايات قد جاءت عن أُولئك الصحابة بغسل القدمين فهو إدعاء غير صحيح ، لان الروايات قد جاءت عن كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء بالمسح على القدمين أيضاً ، وهي مسألة خلافية في الفروع ولا ينبغي التشنيع فيها ، لانها مسألة اجتهادية ، والاجتهاد في الفروع والخلاف بين أئمة أهل السنة أنفسهم معروف .

إن من الملاحظ أن أهل السنة مختلفون في هذا الباب رغم المحاولات التي يبذلونها لتصحيح وجهة نظرهم ـ تأييداً للمذهب ـ إلاّ أن الملاحظ أنهم كثيراً ما يترددون في القطع ، فيذهب البعض منهم إلى جواز المسح ، بينما يقول آخرون بوجوب أو استحباب

____________

(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 40 .

الصفحة 231
الجمع بين الغسل والمسح ، وحيرتهم في هذا الباب تضعف حجتهم أمام الشيعة .

وسوف أتناول أقوال بعض العلماء والشراح من أهل السنة وإستدلالاتهم في تفسير آية الوضوء أولاً ومحاولتهم الجمع بين القراءتين ( النصب والخفض ) ، وكذلك محاولتهم الجمع بين الروايات المتعارضة مع ذكر بعض آرائهم والتعليق عليها ، متوخياً الاختصار جهد الامكان وبالله التوفيق :

قال ابن حجر العسقلاني : تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ) عطفاً على ( وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ) ، فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين ، فحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة ، والثابت عنه خلافه ، وعن عكرمة والشعبي وقتادة ـ وهو قول الشيعة ـ وعن الحسن البصري : الواجب الغسل أو المسح ، وعن بعض أهل الظاهر : يجب الجمع بينهما ، وحجة الجمهور الاحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فانه بيان المراد ، وأجابوا عن الاية بأجوبة منها : أنه قري وأرجلكم بالنصب عطفاً على أيديكم ، وقيل معطوف على محل برؤوسكم ، كقوله : (يا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ) بالنصب ، وقيل : المسح في الاية محمول لمشروعية المسح على الخفين ، فحملوا قراءة الجر على مسح الخفين ، وقراءة

الصفحة 232
النصب على غسل الرجلين ، وقرر ذلك أبو بكر بن العربي تقريراً حسناً فقال ما ملخصه : بين القراءتين تعارض ظاهر ، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بها وجب ، وإلاّ عُمل بالقدر الممكن ، ولا يتأتى الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد ، في حالة واحدة لانه يؤدي إلى تكرار المسح ، لان الغسل يتضمن المسح والامر المطلق لا يقتضي التكرار ، فبقي أن يعمل بها في حالين توفيقاً بين القراءتين وعملاً بالقدر الممكن ، وقيل إنما عطفت على الرؤوس الممسوحة لانها مظنة لكثرة صب الماء عليها ، فلمنع الاسراف عطفت ، وليس المراد أنها تمسح حقيقةً ، ويدل على ذلك المراد قوله : ( إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ، لان المسح رخصة فلا يقيد بالغاية ، ولان المسح يطلق على الغسل الخفيف...(1) .

نلاحظ أن ابن حجر يعترف بأن القول بالمسح هو مذهب عدد كبير من الصحابة والتابعين ، لكن إدعاؤه أن المشهور عن ابن عباس خلاف المسح فهو خلاف للواقع ، لان المشهور عن ابن عباس هو القول بالمسح ، كما أننا نلاحظ أن ابن حجر يتهرب من الاستدلال بالاية إلى الركون إلى الروايات التي تؤيد وجهة نظره ، مع أن القرآن

____________

(1) فتح الباري 1/215 .

الصفحة 233
الكريم هو الاصل ، والسنة لا ينبغي أن تعارضه ، وادعاء أن الاية تعني المسح على الخفين لا دليل عليه .

أما إدعاء ابن العربي ـ فيما ينقل عنه ابن حجر ـ أن المسح رخصة ، فلا حجة له في ذلك .

ونقل القرطبي عن النحاس قوله : ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعاً ، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض ، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب ، والقراءتان بمنزلة آيتين...(1) .

إن هذا يفترض وجود فقهين في الباب أحدهما يوجب الغسل والاخر يوجب المسح تبعاً للقراءة التي يتبناها قارئ القرآن ، وهذا أمر غير صحيح ، وإن صح فالشيعة محقون بتمسكهم بالمسح ، لان قراءة الخفض تبيح لهم ذلك .

وقال الطبري : اختلفت قراءة القراء في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكاراً منه المسح عليهما ، مع تظاهر الاخبار عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعموم مسحهما بالماء ، وخفضها بعضهم توجيهاً منه ذلك الى أن الفرض فيهما

____________

(1) الجامع لاحكام القرآن 6/92 .

الصفحة 234
المسح... وكانت القراءتان كلتاهما حسناً وصواباً ، فأَعجب القراءتين إِليَّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضاً لما وصفت من جمع المسح المعنيين الذين وصفت ، ولانه بعد قوله : ( وامْسَحُوا بِرؤُوسِكُمْ ) فالعطف به على الرؤوس مع قربه منه أولى من العطف به على الايدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله : ( وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ )(1) .

الملاحظ على كلام الطبري هو ترجيح المسح في كلتا القراءتين ( النصب والخفض ) مع اعترافه بتظاهر الاخبار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بعموم المسح .

وقال النووي : وأما الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فقد قرئت بالنصب والجر ، فالنصب صريح في الغسل ، ويكون معطوفه على الوجه واليدين ، وأما الجر فأجاب أصحابنا وغيرهم عنه بأجوبة أشهرها : أن الجر على مجاورة الرؤوس ، مع أن الارجل منصوبة ، هذا مشهور في لغة العرب ، وفيه أشعار كثيرة مشهورة ، وفيه من منثور كلامهم كثير ، من ذلك قولهم : هذا جحر ضب خرب ، بجر خرب على جواب ضب وهو مرفوع صفة لجحر(2) .

____________

(1) تفسير الطبري 6/72 .

(2) المجموع شرح المهذب 1/480 .

الصفحة 235
لكن إستدلال النووي ليس في محله ، وتكفي شهادة أحد علماء السنة الفطاحل ومفسريهم الكبار في إبطال دعوى النووي ، وهو قول الفخر الرازي :

حجة من قال المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبى بكر عنه بالجر ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب ، فنقول : أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الارجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الارجل !

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله : جحر ضب خرب ، وقوله : كبير أناس في بجاد مزمل ، قلنا : هذا باطل من وجوه :

الاول : أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يحتمل لاجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه عنه .

وثانيهما : أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الامن من الالتباس كما في قوله : جحر ضب خرب ، فان من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر ، وفي هذه الاية الامن من الالتباس غير حاصل .

وثالثها : أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف عطف ، وأما

الصفحة 236
مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب ، وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً : أنها توجب المسح ، وذلك لان قوله : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ) فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء ، فاذا عطفت الارجل على الرؤوس جاز في الارجل النصب عطفاً على محل الرؤوس ، والجر عطفاً على الظاهر ، وهذا مذهب مشهور للنحاة...(1) .

نلاحظ أن جميع محاولات علماء السنة تطويع النص القرآني وإخضاعه لقياسات لغوية مبنية على أقوال قالها أعرابي بوال على عقبيه لم تنجح ، واضطروا في النهاية إلى الاعتراف بأن الاية سواء قرئت بالخفض أو بالنصب فهي تدل على المسح .

أمام هذه الحقيقة الساطعة لم يجد القوم مهرباً إلاّ التمسك ببعض الروايات التي ظنوا أنها تنقذ الموقف ، وسوف نستعرض أهم الروايات التي يتمسك بها أهل السنة ، ونحاول مناقشتها ، محتجين عليهم بأقوال علمائهم أحياناً في تفنيد دعاواهم .

لا شك أن أقوى الروايات التي يستشهد بها أهل السنة على وجوب غسل القدمين هي الروايات التي جاءت في صحاح أهل السنة ـ وبخاصة صحيحي البخاري ومسلم ـ عن عبدالله بن عمرو ،

____________

(1) التفسير الكبير 11/161 .

الصفحة 237
وسأورد هذه الرواية كما أخرجها كل منهما .

1 ـ عن عبدالله بن عمرو ، قال : تخلف النبي (صلى الله عليه وسلم) عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : « ويل للاعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثاً »(1) .

وقد أخرج البيهقي الرواية أيضاً ، وقال علاء الدين المارديني في شرحه لها :

إستدل على ذلك بعدة أحاديث ، أولها : « ويل للاعقاب من النار » ، قلت : في الاستدلال بها نظر ، فان من يرى مسحهما يفرض في جميعها ، وظاهر الاية يدل على ذلك ، وهو قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فالوعيد لهما ترتب على ترك تعميم المسح ، وتدل على ذلك رواية مسلم ، فانتهى إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء ، فتبين بذلك أن العقب محل التطهير فلا يكتفى بما دونه ، فليس الوعيد على المسح ، بل على ترك التعميم... وهذا الكلام على أمر أبي هريرة وعائشة باسباغ الوضوء ، وكذا حديث عبدالله بن الحارث وعمرو

____________

(1) صحيح البخاري 1/52 باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين ، صحيح مسلم 1/214 باب وجوب غسل الرجلين بكمالها .

الصفحة 238
وأنس رضي الله عنهما(1) .

أقول : إذا كان أولئك الصحابة قد مسحوا على أرجلهم ، فممن تعلموا ذلك ؟ هل كانوا مخطئين في فهم آية الوضوء لقصورهم في العربية ، أم أنهم لم يكونوا قد شاهدوا وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم صحبتهم له ومرافقته في أسفاره وغزواته ؟ وإذا كان أُولئك الصحابة بتلك الدرجة من الجهل أو قلة الاهتمام بالسنة النبوية الفعلية فكيف يجوز لنا تقليدهم وأخذ أحكام ديننا منهم ؟ ! !

إن من الغريب أن يصل التعصب المذهبي ببعض الحفاظ والمحدثين إلى حد إخفاء الحقائق أو محاولة التعمية عليها عن طريق إيراد روايات ضعيفة مستدلين بها ـ تأييداً للمذهب ـ دون الاشارة إلى ضعف رواتها ، رغم أنهم يفعلون ذلك في موارد أُخرى .

وإليك بعض النماذج مما أخرجه البيهقي من تلك الروايات مع ذكر تعليق المارديني عليها :

1 ـ عن عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ أنه كان يقرأ ( وَأرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَيْنِ ) قال : رجع الامر إلى الغسل .

قال المارديني : في سنده قيس بن الربيع ، فسكت عنه البيهقي ،

____________

(1) الجوهر النقي بذيل السنن الكبرى 8/69 .

الصفحة 239
وقال في باب ( من زرع أرض غيره بغير إذنه ) : إنه ضعيف عند أهل العلم بالحديث .

2 ـ عمر بن قيس عن عطاء ، أنه كان يقرأها ( وَأَرْجُلَكُمْ ) نصباً .

قال المارديني : عمر بن قيس هو المكي ، سكت عنه أيضاً ، وقال في باب ( من بنى أو غرس بغير أرضه ) : ضعيف لا يحتج به .

3 ـ عن علي ، أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أُمرتم ، وروينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عنبسة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في الوضوء : ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله تعالى ، وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى أمر بغسلها .

قال المارديني : عن علي : اغسلوا القدمين ، من رواية الحارث ، فسكت عنه ، وحكى في باب ( أصل القسامة ) عن الشعبي : إنه كان كذاباً ! ! !

4 ـ عن ابن عباس قال : ما أجد في الكتاب إلاّ غسلتين ومسحتين ، ثم قال : إن صح يحتمل أنه كان يرى القراءة بالخفض وأنها تقتضي المسح ، ثم لما بلغه أنه (عليه السلام) توعد على ترك غسلهما أو ترك شيء منهما ذهب إلى وجوب غسلهما(1) .

نقول : إذا كان ابن عباس وهو حبر الاُمة وترجمان القرآن قد

____________

(1) السنن الكبرى مع الجوهر النقي 1/70 ـ 71 .

الصفحة 240
أعياه فهم الاية ، ولم يعرف طيلة هذا الوقت كيف يكون وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهنيئاً للمسلمين ! ! !

أما الدارقطني فيورد رواية في باب ( وجوب غسل القدمين والعقبين ) يقول فيها : عن رفاعة بن رافع قال : كان رفاعة ومالك بن رافع أخوين من أهل بدر ، قال بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، أو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس ونحن حوله ، إذ دخل عليه رجل فاستقبل القبلة وصلى ، فلما قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعلى القوم ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « وعليك ، ارجع فصلِّ فانك لم تصلِّ » ، فجعل الرجل يصلي ونحن نرمق صلاته لا ندري ما يعيب فيها ، فلما صلى جاء فسلم على النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى القوم فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : « وعليك ، ارجع فصل فانك لم تصل » ، قال همام : فلا أدري أمره بذلك مرتين أو ثلاثاً ، فقال الرجل : ما ألوتُ فلا أدري ما عبت علي من صلاتي ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ، ثم يكبر الله ويثني عليه... » فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال : « لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك »(1) !

____________

(1) سنن الدارقطني 1/95 ـ 96 .

الصفحة 241
قلت : فالعجب كل العجب من الدارقطني ، كيف يستدل بهذه الرواية على وجوب غسل الرجلين والنص الصريح فيها قوله (صلى الله عليه وسلم) : « ويمسح برأسه ورجليه... » ؟ ! ! أليس ذلك دليلاً دامغاً على وجوب المسح ، وأن النبي قد أكد أنه لا تتم صلاة أحد حتى يفعل ذلك ؟

من أين جاء الغسل

عند ما نستعرض الروايات التي تقول بغسل القدمين ، نلاحظ أنها في معظمها تنتهي أسانيدها إلى بعض الصحابة والتابعين المعروفين بولائهم لبني أُمية ، مما يؤكد أن بدعة غسل الرجلين هي من إختراع بني أُمية وولاتهم الذين كانوا يشجعونها ويحملون الناس عليها في محاولة لمحق السنة النبوية الشريفة وتغيير أحكام القرآن ، وإليك بعض الادلة على ذلك :

1 ـ عن موسى بن أنس قال : خطب الحجاج بن يوسف الناس فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم ، فاغسلوا ظاهرهما وباطنهما وعراقيبهما فان ذلك أقرب إلى جنتكم ; فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين(1) .

____________

(1) المصنف 1/18 .

الصفحة 242
وأورد البيهقي الرواية وزاد عليها : قرأها جرّاً ، فانما أنكر أنس بن مالك القراءة دون الغسل...(1) .

أقول : من المعلوم أن الحجاج بن يوسف الثقفي هو أحد ولاة بني أُمية الطغاة ، ومن أكبر مروّجي سياساتهم ، وتصرفه يدل على محاولته على حمل الناس على غسل الرجلين مخالفة للكتاب والسنة ، وقد حاول البعض توجيه الرواية بأن أنس بن مالك قد اعترض على قراءة الحجاج بالنصب لان أنساً كان يقرأها بالخفض ولم يكن اعتراضه على الغسل ، وفساد هذا الرأي ظاهر تماماً ، فضلاً عن أن القراءة بالخفض ـ التي كان يراها أنس ـ إنما تدل على المسح أيضاً .

وأعجب من ذلك هو إدعاء البعض أنَّ أنس بن مالك وغيره من الصحابة مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) وابن عباس (رضي الله عنه) كانوا يمسحون ثم رجعوا عنه إلى الغسل ! فاذا كان هؤلاء الصحابه الثلاثة بالذات ـ وهم أكثر الصحابة لصوقاً بالنبي ـ لا يعرفون وضوء النبي (صلى الله عليه وسلم)وظلوا فترة طويلة يمسحون ، فمن الذي يعرف وضوء النبي إذاً ؟ ! وإذا كان أنس قد اعترض على الحجاج فهذا يعني أنه قد فعل ذلك في أواخر عمره ، فمتى رجع عن القول بالمسح إذاً ؟ !

____________

(1) السنن الكبرى 1/71 .

الصفحة 243
ومعلوم قطعاً أن المغيرة بن شعبة هو أيضاً أحد ولاة بني أُمية الطغاة ، وهو أول من امتثل لامر معاوية بسب أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنبر ، مع قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : « من سب علياً فقد سبني »(1) .

وبذلك يتبين أن غسل القدمين ما هو إلا بدعة أُموية في مقابل السنة النبوية الصحيحة ، وكم لها من مثيلات مذكورة في كتب أهل السنة ، كبدعة ترك معاوية للتلبية بغضاً لامير المؤمنين (عليه السلام) ، وترك الجهر بالبسملة وغيرها من الاُمور التي يستطيع الباحث أن يجدها في أُمهات كتب أهل السنة .

فعلى هذا نجد إن جميع روايات الغسل قد وضعت في مقابل الروايات التي تؤكد على المسح دون شك .

الجمعة والجماعة

قال الشيخ في « مطلب تركهم الجمعة والجماعة » :

ومنها : ترك الجمعة والجماعة ، وكذلك اليهود فانهم لا يصلون إلاّ فرادى ، ومنها تركهم قول آمين وراء الامام في الصلاة فانهم لا يقولون آمين يزعمون

____________

(1) المستدرك على الصحيحين وصححه ووافقه الذهبي ، وفي رواية « من سب علياً فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى » .

الصفحة 244
أن الصلاة تبطل به ، ومنها تركهم تحية السلام فيما بينهم وإذا سلموا فعلوا بعكس السنة ، ومنها خروجهم من الصلاة بالفعل وتركهم السلام في الصلاة فانهم يخرجون من الصلاة من غير سلام بل يرفعون أيديهم ويضربون بها على ركبهم كأذناب الخيل الشُّمس ، ومنها شدة عدوانهم للمسلمين... حتى أنهم يعدونهم أنجاساً...(1) .

هذه الادعاءات الباطلة تكذبها الوقائع ومصنفات علماء الشيعة في هذا الباب ، أما أن الشيعة يتركون بعض الاُمور المتعارف عليها عند أهل السنة فلعلّة سوف نبينها في هذه المباحث إن شاء الله ، ولنبدأ بمسألة الجمعة والجماعة .

قال العلامة الحلي (قدس سره) : الجماعة مشروعة في الصلوات المفروضة اليومية بغير خلاف بين العلماء كافة ، وهي من جملة شعائر الاسلام وعلاماته ، والاصل فيه قوله تعالى (وَإِذا كُنْتَ فيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) (2) وداوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إقامتها حضراً وسفراً ، وكذا أئمته وخلفاؤه ، ولم يزل المسلمون يواظبون عليها بلا خلاف .

____________

(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 44 .

(2) سورة النساء : 102 .

الصفحة 245
وفي الجماعة فضل كثير ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة » وفي رواية « بخمس وعشرين » .

ومن طريق الخاصة : قول الصادق (عليه السلام) : « الصلاة في جماعة تفضل على صلاة الفذ بأربع وعشرين درجة تكون خمساً وعشرين صلاة » .

وقال (عليه السلام) : « إن أُناساً كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبطأوا عن الصلاة في المسجد ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « ليوشك قوم يَدَعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم فتحرق عليهم بيوتهم »... ولا ينبغي لاحد ترك الجماعة وإن صلاها بنسائه أو عبيده أو إمائه أو أولاده إذا لم يحضر المسجد(1) .

وفيما يتعلق بصلاة الجمعة قال السيد محمد بن علي الموسوي : أجمع العلماء كافة على وجوب صلاة الجمعة ، والاصل فيه : الكتاب والسنة ، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (2) .

____________

(1) تذكرة الفقهاء 4/227 في فضل الجماعة .

(2) سورة الجمعة : 9 .

الصفحة 246
أجمع المفسرون على أن المراد بالذكر هنا الخطبة وصلاة الجمعة ، تسمية للشيء باسم أشرف أجزائه ، والامر للوجوب كما قرر في الاُصول ، وهو هنا للتكرار باتفاق العلماء ، والتعليق بالنداء مبني على الغالب ، وفي الاية مع الامر الدال على الوجوب ضروب من التأكيد وأنواع الحث بما لا يقتضي تفصيله المقام ، ولا يخفى على من تأمله من أُولي الافهام .

وأما الاخبار فمستفيضة جداً ، بل تكاد تكون متواترة ، فمن ذلك صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : « إن الله عزوجل فرض في كل سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة ، منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها إلاّ خمسة : المريض ، والمملوك ، والمسافر ، والمرأة ، والصبي ... »(1) .

هذا ما يقوله علماء الشيعة عن صلاة الجمعة والجماعة ، وأود الاشارة إلى إدعاء الشيخ ابن عبد الوهاب بأن الشيعة يعادون أهل السنة ويتنجسون منهم ، هذا الادعاء الباطل الذي يستهدف تشويه صورة الشيعة أمام المسلمين ، ويكفي في رد هذا الادعاء الباطل أن استشهد بما أورده السيد محمد بن علي الموسوي بهذا الشأن ، قال :

____________

(1) مدارك الاحكام 4/5 ـ 6 .

الصفحة 247
فائدة : يستحب حضور جماعة أهل الخلاف استحباباً مؤكداً ، فروى ابن بابويه في الصحيح عن زيد الشحام عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال له : « يا زيد خالقوا الناس باخلاقهم صلّوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ، وإن استطعتم أن تكونوا الائمة والمؤذنين فافعلوا ، فانكم إذا فعلتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية ، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية ، فعل الله بجعفر ، ما كان أسوأ ما يؤدب أصحابه » .

وفي الصحيح عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال : « من صلى معهم في الصف الاول كان كمن صلى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)في الصف الاول » .

فالشيعة الذين هم تلامذة أهل البيت (عليهم السلام) أولى بأن يتمسكوا بوصية إمامهم فيحضرون الصلوات مع إخوانهم وإن كانوا مخالفين لهم حفاظاً على وحدة الصف الاسلامي وكيداً لاعداء الاسلام والمسلمين كأمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يريد الفتنة وتفريق المسلمين وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم .

الصفحة 248

قول آمين

أمّا في هذا المورد فرأينا يخالف رأي إخواننا أهل السنة ، إذ أن الشيعة يعتبرون قول آمين مبطلاً للصلاة .

قال الشيخ علي بن الحسين الكركي (قدس سره) : وكذا تبطل لو قال آمين آخر الحمد على المشهور ، لرواية الحلبي عن الصادق (عليه السلام) أنه سأله : أقول آمين إذا فرغت من فاتحة الكتاب ؟ قال : « لا » ، ولقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : «إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الادميين » ، وآمين من كلام الادميين ، إذ ليست بقرآن ولا ذكر ولا دعاء ، وإنما هي إسم للدعاء ، أعني : استجب ، والاسم مغاير لمسماه الوضعي ، وعلى هذا فلا فرق في البطلان بين أن يقولها في آخر الحمد أو غير ذلك كالقنوت وغيره من حالات الصلاة ، ولا بين أن يقولها سراً أو جهراً(1) .

تحية السلام

أما إدعاء الشيخ أن الشيعة يتركون تحية السلام فيما بينهم ، فمن

____________

(1) جامع المقاصد 2/248 ـ 249 كتاب الصلاة باب القراءة .

الصفحة 249
أسقط الافتراءات ، ولا أدري كيف يكون السلام بعكس السنة ! إذ لم يوضح الشيخ هذا النوع المبتكر من السلام .

وعلى أي حال فان الشيعة ليسوا من سكان الكواكب الاُخرى ، ولا هم من الاُمم البائدة حتى يتعذر الوصول إليهم ، فهم موجودون في كل مكان ويمكن معرفة عدم صحة إدعاءات الشيخ من ملاحظة سلامهم على إخوانهم المسلمين وتحيتهم بتحية الاسلام .

أما خروجهم من الصلاة وتركهم السلام ، فهو أيضاً من المفتريات الداحضة كما تشهد على ذلك مصنفات الشيعة في الفقه والحديث ، فمن ذلك :

1 ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « إفتتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم » .

2 ـ عن علي بن أسباط ، عنهم (عليهم السلام) قال : قال : ـ فيما وعظ الله به عيسى (عليه السلام) ـ « يا عيسى ، أنا ربك ورب آبائك » ـ وذكر الحديث بطوله إلى أن قال : ـ « ثم أُوصيك يابن مريم البكر البتول بسيّد المرسلين وحبيبي ، فهو أحمد » ـ إلى أن قال : ـ « يُسمّي عند الطعام ، ويفشي السلام ، ويصلي والناس نيام ، له كل يوم خمس صلوات متواليات ، ينادي إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار ، ويفتتح بالتكبير ، ويختتم بالسلام » .

الصفحة 250
3 ـ عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون ، قال : « تحليل الصلاة التسليم »(1) .

أما الفقهاء من الفريقين ـ السنة والشيعة ـ فقد اختلفوا في أن التسليم هل هو واجب أو مستحب ، تبعاً لدلالة الادلة المتوفرة لديهم .

وقد نقل العلامة الحلي (قدس سره) بعض هذه الاختلافات في باب التسليم بقوله :

اختلف علماؤنا في وجوبه ، فقال المرتضى وجماعة من علمائنا به ، وبه قال الشافعي والثوري ، لقوله (عليه السلام) : « مفتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم » ، ولانه ذكر في أحد طرفي الصلاة فكان واجباً كالتكبير .

وقال الشيخان ومن تبعهما : بالاستحباب ، وبه قال أبو حنيفة ، وهو الاقوى عندي عملاً بالاصل ، ولان الحدث المتخلل بين الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينه غير مبطل للصلاة لقول الباقر (عليه السلام) وقد سئل عن رجل يصلي ثم يجلس فيحدث قبل أن يسلم ، قال : « تمت صلاته » ، ولان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعلمه المسيء في صلاته ، ولان التسليمة الثانية

____________

(1) وسائل الشيعة 6/418 أبواب التسليم .

الصفحة 251
ليست واجبة فكذا الاُولى ، ونمنع الحديث والحصر ، ونمنع كونه طرفاً ،بل الصلاة على النبي وآله عليهم السلام .

إذا ثبت هذا ، فقال أبو حنيفة : الخروج من الصلاة واجب ، وإذا خرج بما ينافي الصلاة عن عمل أو حدث أو غير ذلك كطلوع الشمس أو وجدان المتيمم الماء أجزأه(1) .

رفع اليدين فوق الرأس

أما قول الشيخ بأن الشيعة يرفعون أيديهم ويضربون بها ـ بعد الفراغ من الصلاة ـ فلان الشيخ جاهل بالسنة النبوية ، لان في كتب أهل السنة وصحاحهم ما يثبت أن ذلك سنة نبوية شريفة ، والشيعة يرفعون أيديهم ، ثم يكبرون الله ثلاثاً ـ بعد التسليم والخروج من الصلاة ـ عملاً بهذه السنة الشريفة ، وكما علمهم أئمتهم المطهرون ، وفي ذلك جملة من الاخبار ، أذكر منها هذه الرواية :

عن المفضل بن عمر قال : قلت لابي عبدالله (عليه السلام) : لاي علة يكبّر المصلي بعد التسليم ثلاثاً ، يرفع بها يديه ؟ فقال : « لان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لما فتح مكة صلى بأصحابه الظهر عند الحجر الاسود، فلما سلّم رفع

____________

(1) تذكرة الفقهاء 3/242 ـ 243 .

الصفحة 252
يديه وكبر ثلاثاً وقال : لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وغلب الاحزاب وحده فله الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير » ثم أقبل على أصحابه فقال : « لا تدعوا هذا التكبير وهذا القول في دبر كل صلاة مكتوبة ، فان من فعل ذلك بعد التسليم وقال هذا كان قد أدى ما يجب عليه من شكر الله تعالى على تقوية الاسلام وجنده »(1) .

ولو أن الشيخ كان على شيء من العلم لادرك أن كتب أهل السنة وصحاحهم تشتمل على ذلك أيضاً ، فمنها :

1 ـ عن ابن عباس ، قال : كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بالتكبير .

2 ـ أبا معبد أن ابن عباس أخبره أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنه قال : قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته(2) .

فاذا كان التكبير بعد التسليم سنة يستحب الاتيان بها ، وقد أكد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها ، فما ذنب الشيعة إذا تمسكوا بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

____________

(1) وسائل الشيعة 6/452 ـ 453 .

(2) صحيح مسلم 1/410 كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب الذكر بعد الصلاة .

الصفحة 253
وتركه الاخرون رغبة عنه ؟ أفينبغي أن يتخلى الشيعة عن السنة النبوية الشريفة إِرضاءً للشيخ وغيره من أعداء السنة النبوية حتى يكفوا ألسنتهم عنهم ؟ !