أحمد بن حنبل ومحنة خلق القرآن:
قلنا سابقا أن مسألة خلق القرآن ظهرت أواخر العهد الأموي على يد الجعد بن درهم الذي قتل من أجلها. ولما تأسس مذهب الاعتزال كانت مسألة خلق القرآن إحدى عقائد المعتزلة، لكنهم لم يجرؤوا على نشرها. إلى أن جاء عصر المأمون، الذي كان يميل إلى الفلسفة والفكر الحر. فقرب المعتزلة وجعل علماءهم أصحاب مشورته وبطانته، واقتنع بالكثير من عقائدهم. ومنها مسألة خلق القرآن.
وإذا كان المعتزلة يرون أن القرآن مخلوق، فقد أمر المأمون بحمل العلماء والفقهاء على القول بذلك. فتحرك ولاته واستدعوا كل من عرف لديهم من الفقهاء والمحدثين والعلماء وعرضوا عليهم اعتناق فكرة خلق القرآن. لقد أرسل المأمون كتابا إلى والي بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره بامتحان الفقهاء والمحدثين، وأن يعرض عليهم الإيمان والقول بخلق القرآن وأن يحملهم على ذلك ويرغمهم عليه.
رسائل المأمون لامتحان الفقهاء والعلماء:
يقول المأمون في كتابه الأول، يشرح فيه سبب حمله الناس على القول بخلق القرآن: " أما بعد: فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم، والتشهير لطاعة الله فيهم... وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأخطار والآفات أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله وقصور أن يقدروا الله حق قدره ويعرفوا كنه معرفته ويفرقوا
وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء وللمؤمنين رحمة وهدى * (إنا جعلناه قرآنا عربيا...) * [ الزخرف: آية 3 ]: فكل ما جعله الله فقد خلقه. قال: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور...) * [ الأنعام: آية 1 ]. وقال عز وجل: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) * [ طه: آية 49 ]: فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها. وقال تعالى: * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * [ فصلت: آية 1 - 2 ]. وكل محكم مفصل فله محكم ومفصل والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه. ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل لقولهم ومكذب دعواهم يرد عليهم قولهم ونحلتهم، ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة. وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله والتقشف لغير دين الله إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سئ آرائهم تزينا بذلك عندهم وتصنعا للرئاسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم فقبلت بتزكيتهم لهم شهاداتهم ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم ونفل أديمهم وفساد نياتهم ويقينهم، وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب
فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة، ورؤوس الضلالة المنقوصون من التوحيد حظا والمخسوسون من الإيمان نصيبا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه والهائل على أعدائه من أهل دين الله. وحق على من يتهم في صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد إستكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد...
إلى أن يقول: فأجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه.
فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده. واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله... وكتب في شهر ربيع الأول (سنة 218 ه) (44).
وجاء في رسالته الثانية لنفس الوالي: "... وكان كل شئ دونه خلقا من خلقه وحدثا هو المحدث له وإن كان القرآن ناطقا به ودالا عليه وقاطعا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى في ادعائهم في عيسى بن مريم أنه
____________
(44) محمد ماهر حمادة، الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول، مؤسسة الرسالة، بيروت ط 2، 1981 م، الكتاب 2: ص 325، 326، 327.
* (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) * [ الأعراف: آية 189 ]. وقال: * (وجعلنا الليل لباسا والنهار معاشا) * [ النبأ: آية 10 ]. * (وجعلنا من الماء كل شئ حي) *: [ الأنبياء: آية 3 ]. فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها في مشيئة الصنعة، وأخبر أنه جاعله وحده فقال: * (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) * [ البروج: 22 ] وقال لنبيه محمد (ص) * (ولا تحرك به لسانك لتعجل به) * [ القيامة: آية 16 ]. وقال: * (وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * [ الأنبياء: آية 2 ]، وقال: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته) * [ الأنعام: آية 21 ]. وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم أنهم قالوا:
* (وما أنزل الله على بشر من شئ) * [ الأنعام: آية 91 ]. ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * [ الأنعام آية: 91 ] فسمى الله تعالى القرآن قرآنا وذكرا وإيمانا ونورا وهدى ومباركا وعربيا وقصصا...
فأقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمان بن إسحاق القاضي كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك وانصحهما من علمهما في القرآن وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شئ من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه
____________
(45) يقول محمد أبو زهرة: " والمعتزلة مع ذلك يعتقدون أن الحق الذي لا شك فيه هو ما يقرون.
ومن قال مقالة المحدثين فقوله يؤدي إلى ما يضاهي قول النصارى في المسيح، وإلى الحكم بتعدد القدماء) *. ويقول أيضا: " ولعله مما جال بخاطر أولئك المعتزلة أن ترويج فكرة قدم القرآن أو القول بعدم خلقه التي تؤدي إلى القول بالقدم باعتباره كلام الله تعالى فكرة مسيحية، دست بين جماهير المسلمين فيما كان يدس فيهم من أفكار. وقد تلقاها الجمهور بالقبول لما فيها من تقديس للقرآن الكريم ". ويضيف قائلا: " ولقد قال الحافظ في رسالته التي تسمي النصارى - وهو معتزلي - أن الكائدين للإسلام يرتضون القول بعدم خلق القرآن، ويرحبون بمقالة الفقهاء والمحدثين، ويتمنون أن تروج عند العامة الذين يسيرون وراء أولئك المحدثين) *. أنظر المذاهب الإسلامية، ص 261 - 262.
وفي رسالة جوابية من المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم بعد أن نفذ أوامره وامتحن القضاة وأرسل له محضرا عن إجابتهم. تكلم المأمون فيما وصله من إسحاق وذكر عرضه بعض الفقهاء والعلماء على الامتحان وإمساك بعضهم عن الخوض في هذه المسألة. مثل بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي، فأمر المأمون واليه أن يستتيبهم وأن يعرضهم على السيف إن هم أبوا القول بخلق القرآن.
"... وأما أحمد بن يزيد المعروف بأبي العوام وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن فاعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه جاهل وأنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن يفعل كان السيف من وراء ذلك إن شاء الله. وأما أحمد بن حنبل وما تكتب عنه فاعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها واستدل على جهله وآفته بها (46).
لقد تعمدنا إيراد هذه النصوص على طولها وذلك لاعتبارها وثائق تاريخية يمكن الاعتماد عليها في تجلية الموقف بكل وضوح، فمن خلال الرسالة الأولى للمأمون يظهر أن حمله الفقهاء والمحدثين على القول بخلق القرآن هو انتشار مقولة كونه - أي القرآن - قديما. وهو يصف فئة ما تنشر هذه الفكرة ويصفهم بأنهم يضاهون قول النصارى بادعائهم أن عيسى قديم لأنه كلمة الله. وعليه تصبح دعوة المأمون هذه إنما هي دفاع عن عقائد الإسلام تجاه هذه الشرذمة.
والواقع أن المخاطبين لا يعدو أن يكونوا أهل الحديث خاصة الحشوية منهم.
وسيظهر ذلك بعد انفراج المحنة وانتصار هذه الفئة بالذات وغلوها في هذه المسألة، لدرجة اعتبار الكتابة والجلد الذي يكتب عليه القرآن أزليان.
____________
(46) المرجع السابق، ص 328، 329، 330، 331، 332 334.
وقد جاء الخطاب موجها لهذه الفئة شديد اللهجة متهما إياهم بالضلال والشرك والكفر وإنهم منحرفون عقائديا. فإما التوبة والرجوع إلى الحق، أي القول بخلق القرآن، وإما السيف ؟ !.
وإذا كانت الرسائل قد ذكرت بعضا من أسماء الممتحنين، فقد جاء ذكر أحمد بن حنبل من ضمنهم، حيث وصفته الرسالة بأنه جاهل، وأن المأمون سمع مقالته التي اعتذر بها. وفي الأخير أمر المأمون واليه أن يشخص إليه من أبى من المحدثين والفقهاء أن يعترف بخلق القرآن.
لقد اعترف مجموعة من المحدثين والعلماء بخلق القرآن سواء اعتقادا منهم بصحة ذلك، أو خوفا من السيف أو مصانعة كما ذهب ابن كثير لذلك، خوفا على مناصبهم أو مكانتهم العلمية. لأن وكما جاء في رسالة المأمون، فقد أمر واليه أن يمنع أي فقيه أو عالم من الإفتاء أو التحديث في المساجد أو امتهان القضاء، إذا لم يكن ممن يؤمن بخلق القرآن. وهذا القول لابن كثير فيه بعض من الصحة، والمأمون نفسه انتبه لذلك فهو يقول عن سعدويه الواسطي الذي اعترف بخلق القرآن: " قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث والتزين به والحرص على طلب الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة فيقول بالتقرب منها متى امتحن فيجلس للحديث (47).
ومن الذين اعترفوا بخلق القرآن نذكر المحدث الكبير وشيخ أحمد
____________
(47) نفسه، ص 333.
ولما جمع إبراهيم بن إسحاق كافة الفقهاء والمحدثين وقرأ عليهم كتاب المأمون أجابه أغلبهم، إلا أحمد بن حنبل وسجادة والقواريري، ومحمد بن نوح، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما أصبحوا أعاد امتحانهم، فاعترف سجادة بخلق القرآن فأطلقه. وبعد يوم آخر أجاب القواريري بأن القرآن مخلوق فأخلى سبيله. ولم يبق إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح. فكتب حاكم بغداد إلى المأمون بذلك فأمره بأن يشخص إليه أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح موثقين في الأغلال، ولما وصلا في طريقهما إلى قرب الأنبار، وفي أثناء الطريق جاءهم نعي المأمون (49).
وبذلك تنتهي أولى فصول المحنة لدى ابن حنبل وغيره. إلا أن المأمون وهو يجود بنفسه أوصى أخاه المعتصم بأن يتابع مسيرة الامتحان وأن يحمل الناس على القول بخلق القرآن، فامتثل المعتصم للوصية واستمرت فصول المحنة كأشد ما تكون، واستدعي أحمد بن حنبل من السجن ومثل أمام المعتصم وابن أبي دؤاد المعتزلي ومجموعة من الفقهاء والعلماء وبدأ امتحانه. لكن أحمد لم يجب الخليفة فأعيد إلى السجن وبقي ثلاثة أيام كل يوم يؤتى به فيمتحن فيرجع دون أن يقر بخلق القرآن. يقول المؤرخون إن المعتصم لما يئس منه، أمر بضربه بالسياط فضربه ثمانية وثلاثين وقيل أقل من ذلك. وبعد ذلك أطلق المعتصم سراحه ووصله. وقد اختلف في سبب ذلك بين قائل بأن أحمد
____________
(48) العواصم والقواصم، ج 4 ص 246.
(49) أسد حيدر، م 2، ص 457.
ومنهم من ادعى أن العامة اجتمعوا على دار السلطان وشغبوا، فخاف المعتصم من الفتنة فأطلق سراحه. وهذا الادعاء بعيد عن الواقع لقوة الدولة في عهد المعتصم. وقد امتحن كبار العلماء ومن كانت لهم مكانة خاصة لدى العامة وقتل بعضهم.
وسنعرض فيما بعد لبعض من امتحنوا مع أحمد ولم يستجيبوا لدعوة الخليفة فتعرضوا للضرب والتنكيل والقتل. وهذا لم يتعرض إليه أحمد إلا قليلا. وإذا اعتمدنا رسالة الجاحظ التي خاطب فيها أهل الحديث وذكر المحنة، وأحمد بن حنبل، فسنرى أن الرواية تختلف اختلافا كبيرا جدا. يقول الجاحظ:
وقد كان صاحبكم هذا (الإمام أحمد) يقول: لا تقية إلا في دار الشرك، فلو كان ما أقر به من خلق القرآن، كان منه على وجه التقية، فلقد أعملها في دار الإسلام، وقد أكذب نفسه، وإن كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم، على أنه لم ير سيفا مشهورا، ولا ضرب ضربا كثيرا، ولا ضرب إلا بثلاثين سوطا مقطوعة الثمار، مشبعة الأطراف. حتى أفصح بالإقرار مرارا، ولا كان في مجلس ضيق ولا كانت حاله مؤيسة، ولا كان مثقلا بالحديد، ولا خلع قلبه بشدة الوعيد.
ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب، ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش (50).
____________
(50) قال ابن خلكان: " ودعي إلى القول بخلق القرآن أيام المعتصم وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب فقال أحمد: " أنا رجل علمت علما ولم أعلم فيه بهذا ". فأحضر له الفقهاء فناظروه فلم يجب. فضرب وحبس وهو مصر على الامتناع. وكان ضربه في العشر الأخيرة من شهر رمضان سنة 220 ه، وكانت مدة حبسه إلى أن خلي عنه ثمانية وعشرين يوما، وبقي إلى أن مات المعتصم. فلما ولي الواثق منعه من الخروج من داره إلى أن أخرجه المتوكل وخلع عليه ورفع المحنة في خلق القرآن ". أنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، =
وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علما ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر الفقهاء وناظره عبد الرحمان بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول أن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال إسحاق ابن إبراهيم: ولني يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال: شأنك به فقال إسحاق:
هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال ؟.
فقال أحمد: بل علمته من الرجال.
فقال إسحاق، شيئا بعد شئ أو جملة قال: علمته شيئا بعد شئ.
قال إسحاق: فبقي عليك شئ لم تعلمه ؟.
قال أحمد: بقي علي شئ لم أعلمه.
قال إسحاق: فهذا مما لم تعلمه، وعلمكه أمير المؤمنين.
قال أحمد: فإني أقول بقول أمير المؤمنين.
قال إسحاق: في خلق القرآن.
قال أحمد: في خلق القرآن، فأشهد عليه وخلع عليه وأطلقه إلى منزله.
هذا ما يستدل به على إجابة أحمد للمعتصم، من أقوال رجال هم أقرب الناس من عهده وأطلعهم على حوادثه (51).
لا شك أن القارئ قد لا حظ أن اسم ابن حنبل في رسالة المأمون كما في رسالة الجاحظ وما كتبه اليعقوبي، يظهره شخصية ليست ذات شأن خطير،
____________
= دار صادر، بيروت، ج 1 ص 64.
(51) أسد حيدر، ج 4 ص 459.
لقد أوذي كثير من العلماء في محنة القول بخلق القرآن، ولقي كثير منهم عنتا كثيرا. يقول صاحب النهج الأحمد: وقد يكون ما لقيه بعض العلماء أكثر مما لقيه الإمام أحمد بن حنبل، فالتاريخ يحدثنا أن قوما من العلماء امتحنوا بهذه المقالة فثبتوا على رأي أهل الحق، فأمر بإدخالهم السجن، ويحدثنا التاريخ أنهم بقوا في السجن حتى انتهى زمن المحنة كله ثم أطلق سراحهم، والتاريخ يحدثنا أن قوما آخرين ماتوا في السجن. والتاريخ يحدثنا أن إماما من هؤلاء الأئمة الأبرار دخل على الخليفة فامتحنه فتشدد في الاستمساك بالعروة الوثقى (؟) وأغلظ القول للخليفة ونال منه، فقتله الخليفة بيده...
كما يحدثنا الذهبي وغيره أن أبا نعيم الفضل بن دكني امتحن في هذه المحنة، وأنه وقف من الدعاة إليها موقفا عجيبا. وأنه قال حين سألوه عن رأيه:
والله إن عنقي لأهون من زري هذا، ثم قطع زره ورماه، وقال عنه أحمد: لقد قام في أمر الامتحان بما لم يقم به غيره (52).
ويحدثنا الذهبي وغيره أن أبا عمر الحارث بن مسكين أخذ في المحنة وحبس دهرا طويلا، ولم يخرج من السجن حتى مات القائمون بها وأفضى الأمر إلى المتوكل على الله فعرف له موقفه فأخرجه من السجن وولاه قضاء مصر (53).
لذلك من الخطأ أن تقترن محنة خلق القرآن باسم أحمد بن حنبل فقط، ويغض الطرف عن غيره، وقد أصاب مقدم كتاب " النهج الأحمد " عندما
____________
(52) مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي، النهج الأحمد في تراجم أصحاب أحمد، عالم الكتب بيروت، ط 2 1984 م، ج 1 ص 25.
(53) المرجع السابق، ج 1 ص 26.
لكن ما سبب شهرة الإمام أحمد دون غيره ممن امتحن ووقف مثل موقفه ؟.
الحقيقة أن شهرة أحمد قد ارتبطت أولا بانتصار المحدثين وأصحاب الأثر.
ولما تولى المتوكل الخلافة أوقف الامتحان، وأبعد المعتزلة من بطانته وقرب المحدثين وانتصر لهم وأغدق المال والجوائز على عدد كبير منهم، وأمر أن يجلس المحدثون في المساجد وينتصروا لمجمل عقائدهم، ليس فقط في مسألة خلق القرآن ولكن في الرؤية كذلك، والتي كانت المعتزلة تنكرها. (أي رؤية الله بالأبصار يوم القيامة)، لذلك فقد أدى الأمر إلى تكبير المضطهدين، ونشر تفكيرهم ومبالغة الناس في أقوالهم (55) فانطلقوا ينقضون عقائد الاعتزال، ويحاربون أصحابه بكل ما أوتوا من قوة ونفوذ، فانتشر القول بتكفير من قال بخلق القرآن واستحلال دمه. وبدأ عصر المعتزلة في الأفول شيئا فشيئا، ونجم المحدثين في الصعود والاشتهار، فالتف حولهم العامة ونصروهم واعتنقوا عقائدهم.
يقول أحمد أمين: إن السلطات الحكومية من عهد المتوكل قد تخلت عن نصرة المعتزلة وأغلب الناس يمالئون الحكومة أينما كانت ويخافون أن يعتنقوا مذهبا لا ترضاه فهربوا من الاعتزال إلى من يهاجم الاعتزال (56).
وإذا كان وضع أحمد في المحنة كما ذكرنا، لم تكن له خصوصية تفرده عن غيره وتميزه. فلا حقيقة لتلك المبالغات والأساطير التي حاكها الحنابلة حول محنة أحمد وخطورة شأنها. قال محمد بن إسحاق: سمعت أبي
____________
(54) نفسه، ص 27.
(55) المذاهب الإسلامية، ص 263.
(56) ظهر الإسلام، ج 4 ص 65.
ونختتم الكلام عن المحنة بقول محمد بن الحسن الثعالبي يقول:
فالمسألة (أي خلق القرآن) كانت سياسية أكثر منها دينية بدليل أن الخلاف الذي هولوا به في مسألة الكلام تبين أنه لفظي، إذ الصفات القائمة بذاته تعالى قديمة والمعتزلة لا يقرون بقيام الصفات بالقديم فرارا من تعدد القدماء، والحروف والأصوات التي ننطق بها نحن حادثة وإن تعصب بعض المنتسبين لابن حنبل، فقالوا بقدمها، بل قالوا: إن الجلد وغلاف المصحف أزليان وهو جهل وعناد ومثله لا يعد في آراء أهل العلم، فتبين أن لا خلاف إلا في إثبات قيام الصفات به تعالى...
ومن أعجب ما يراه الناظر المتبصر في هذه المسألة أن ابن حنبل وحزبه تحرجوا أن يقولوا، أن القرآن مخلوق، لأنه لم يرد على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح وأنعم وأكرم بالوقوف عند حد ما ورد. لكنهم أنفسهم لم يقفوا عند حد ما ورد، بل قالوا: إنه غير مخلوق، وأنه قديم. وكلا اللفظين لم يردا أيضا، فكان الاعتراض مشترك الإلزام، بل ورد في القرآن * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) *. ولعمري أنه لا فرق بين محدث ومخلوق، بل إن الذي يقول إنه قديم، وأنه غير مخلوق هو الذي بظاهر
____________
(57) طبقات الحنابلة، ص 7.
(58) مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب، ص 432، نقلا عن الطبقات 1 / 17.
وإذا علمنا أن سيرة أحمد الخاصة في ملبسه ومأكله، كانت دون الشك سيرة رجل زاهد متقشف يتورع عن قبول جوائز الخليفة المتوكل ولا يقبلها بحال، وينهى أهله عن أخذ شئ منها. إذا علمنا ذلك، فلا شك أن حلقات الريادة تكون قد اكتملت في شخصه، وفي الواقع الموضوعي المحيط به، ومن ثم كان أحمد بن حنبل وكان تلامذته وأتباعه فلم يبق إلا أن يظهر لهذا المحدث مذهب في الفقه والأصول، صنع بعد وفاته من مواد فتاويه وآرائه وأقواله التي صحت عنه أو نسبت إليه.
قلنا إن أحمد بن حنبل لم يكن في زمانه وقبل المحنة متفردا عن باقي أقرانه خصوصا في علم الحديث وروايته، بل كان في زمانه من كبار المحدثين وعلماء الحديث من كانوا شيوخا له، ويعترف لهم هو بالمكانة العلمية والسبق العلمي. وقد قيل لأبي داود: أحمد أعلم أم علي بن المديني ؟ قال علي أعلم باختلاف الحديث من أحمد وقال أحمد بن حامد، سمعت رجاء بن جابر المرجي يقول: رأيت ابن حنبل وإسحاق، وابن المديني والشاذكوني، فما رأيت الحفظ من عبد الله يعني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 250 ه، والذي كان يسميه أحمد بالسيد. وقال فيه ابن أبي حاتم إنه إمام أهل زمانه (60).
____________
(59) الفكر السامي، ج 2 ص 20، 21.
(60) تاريخ بغداد، ج 10 ص 31.
وقال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن شيبة. فقال له ابن خداش:
يا أبا زرعة فأصحابنا البغداديون ؟ قال: دع أصحابك إنهم أصحاب مخاريق ما رأيت أحفظ من أبي بكر (62). وفي ترجمة عبد الله بن أحمد بن حنبل أن بعضهم قدمه على أبيه في الحفظ والسماع وعلل الحديث (63).
وقال ابن المديني غير مرة، والله لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله إني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمان (64).
وقال ابن المديني: أعلم الناس لقول الفقهاء السبعة الزهري ثم بعده مالك ثم بعده ابن مهدي (65). وقال أحمد في أبي الوليد الطيالسي: أبو الوليد اليوم شيخ الإسلام ما أقدم عليه من المحدثين أحدا. وقال أبو عمران الطرسوسي في أبي مسعود الرازي وما تحت أديم السماء أحفظ لأخبار رسول الله من أبي مسعود (66). وقال أبو الخصيب في البخاري، أنه أفقه وأبصر من ابن حنبل، وقال ابن عمر الخفاق: هو (أي البخاري) أعلم بالحديث من إسحاق وأحمد وغيرهما بعشرين درجة (67).
وقال صالح بن محمد: أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر ابن شيبة (68).
____________
(61) تذكرة الحفاظ، ج 2 ص 17.
(62) المرجع السابق، ص 19.
(63) تاريخ بغداد، ج 1 ص 125.
(64) تذكرة الحفاظ، ج 2 ص 19.
(65) نفس المرجع، ج 1 ص 303.
(66) طبقات الحنابلة، ج 1 ص 53.
(67) تهذيب التهذيب، ج 9 ص 67.
(68) تاريخ بغداد، ج 10 ص 70.
وأبو عبيد هذا من طبقة أحمد وأقرانه، فإن وفاته سنة 224 ه، وأما أبو إسحاق فهو المعروف بابن راهويه المتولد سنة 164 ه، والمتوفى سنة 238 ه.
وهو في سن أحمد ومن أقرانه، وسئل أحمد عنه فقال: من مثل إسحاق.
وقال النسائي: ابن راهويه أحد الأئمة، وقال ابن خزيمة، لو أن إسحاق بن إبراهيم كان في التابعين لأقروا له بحفظه وعلمه وفقهه. وقال محمد بن يحيى الذهبي إن إسحاق اجتمع بالرصافة من أعلام الحديث منهم أحمد بن حنبل، ويحيى ابن معين وغيرهما فكان صدر المجلس لإسحاق (69).
وقال إبراهيم بن أبي طالب سألت أبا قدامة عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، فقال: الشافعي أفهمهم إلا أنه قليل الحديث، وأحمد أورعهم، وإسحاق أحفظهم وأبو عبيد أعلمهم بلغات العرب (70). وقال أحمد بن حنبل: لا أعلم لإسحاق بالعراق نظيرا (71).
من خلال آراء العلماء والمحدثين في بعضهم البعض ورأيهم في بعض الأئمة وكذا أحمد بن حنبل. نرى أن شخصية ابن حنبل لم تكن ذات شأن كبير بالمقارنة مع أقرانه من مشايخ وعلماء الحديث. فهناك من هو أعلم منه وأفهم وكذا أحفظ منه للحديث ومعرفة بعلله وكذا جمعه وفقهه. ونحن ليس غرضنا التقليل من شأن الرجل أو الحط من مكانته العلمية، ولكن بيان حقيقة هذه المكانة العلمية. لأن الاختلاف حولها سينفجر في الأوساط العلمية عندما سيحاول أصحابه تأسيس مذهب فقهي وأصولي، ومحاولة نسبته إليه. فكان الخلاف يدور بين العلماء وأصحابه أولا حول مكانة أحمد الفقهية، حيث
____________
(69) تاريخ بغداد، ج 6 ص 353.
(70) تهذيب التهذيب، ج 8 ص 316.
(71) تذكرة الحفاظ، ج 2 ص 20، بتوسط أسد حيدر، ص 506 - 507 - 508 بتصرف.
كما وأثيرت الشكوك الكثيرة حول الآراء والأفكار والفتاوى التي نسبها أصحاب أحمد له، وجعلوها لبنات مذهبه، فقد شكك المحققون وما يزالون في صحة هذه النسبة. ولم يكن هذا التشكيك نابعا من عداء مذهبي لأحمد بن حنبل. فأغلب من طرح تلك الشكوك واعتمدها يلتقي مع أحمد في الكثير من العقائد والأصول، وإنما جاء تشكيكهم كبحث علمي أثارته بعض العقائد المنسوبة لأحمد. وكذا الاختلاف الكبير في فقهه الذي دونه أصحابه.
لقد انحصرت تلك الشكوك في مسألتين رئيسيتين:
الأولى: إن أحمد بن حنبل ليس فقيها.
الثانية: عدم صحة كل ما نسب إليه من تراث فقهي. وعقائدي، وذلك لتناقضه، وتضارب الأفكار والآراء فيه تضاربا واختلافا كبيرا.
أحمد بن حنبل ليس فقيها:
لم يعتبر كثير من العلماء والفقهاء والمؤرخين أحمد بن حنبل فقيها، وليس ذلك لكونهم يعادون الرجل أو يقللون من مكانته العلمية، ولكن الحقيقة التي عرفها أغلبهم، إن أحمد بن حنبل طلب الحديث وجمعه ورواه، وكان مشهورا بروايته والتحديث به. كما ألف فيها كتبا. وهذا لا خلاف فيه بينهم.
أما كونه من الفقهاء وأن له مذهبا فقهيا خاصا به كما يذهب أصحابه، فهذا ما لم يوافقوا عليه.
يقول الثعالبي، لم يعتبر ابن جرير الطبري في الخلافيات مذهب ابن حنبل، وكان يقول إنما هو رجل حديث لا رجل فقه، وامتحن في ذلك. وقد أهمل مذهبه كثير ممن صنفوا في الخلافيات كالطحاوي والدبوسي والنسفي في منظومته. والعلاء السمرقندي والفراهي (المتوفى سنة 640) الحنفي أحد علماء
إذا من خلال هذا النص نرى أن جملة من العلماء لم يعترفوا لأحمد بالإمامة في الفقه، وأغلبهم ممن جاء بعده مثل الطحاوي والدبوسي والنسفي والعلاء السمرقندي والفراهي وكذا الغزالي وابن قتيبة. وعدم اعتراف هؤلاء العلماء بكونه فقيها، فيه إشارة واضحة ليس لكون أحمد فعلا لم يشتهر بالفقه، ولكن إشارة إلى أن المذهب الحنبلي الذي سيعترف به المتأخرون. لم يكن له في عهد هؤلاء الأعلام شأن يذكر، كما هو الوضع بالنسبة لباقي المذاهب الفقهية الثلاثة الأخرى.
نحن نعلم أن أصحاب أحمد وعلى رأسهم الخلال (73) باشروا في تأسيس
____________
(72) الفكر السامي، ص 25، 26.
(73) جمع الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد وفتاويه وكلامه في العلل والرجال والفقه والفروع حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرة ورحل إلى النواحي في تحصيله.
وكتب عن نحو من مائة نفس من أصحاب الإمام. ثم كتب كثيرا من ذلك عن أصحاب أصحابه وبعضه عن رجل عن آخر عن آخر عن الإمام أحمد. ثم أخذ في ترتيب ذلك وتهذيبه وتبويبه. وعمل كتاب " العلم " وكتاب " العلل " وكتاب " السنة " كل أحد من الثلاثة في ثلاث مجلدات ". أنظر العواصم والقواصم، م 4 ص 252، 253. =
ولما لم يعجبهم قوله هذا فقد وثبوا عليه ورموه بمحاربهم، ثم قذفوا داره بالحجارة إلى أن تدخلت الشرطة واضطر الرجل حفاظا على نفسه أن يعتذر لهم. وعندما مات الطبري منع الاحتفال به ودفن في داره ليلا (75). والطبري
____________
= وإذا كان الحشوية قد كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورووا الأحاديث الموضوعة عليه، فحدث ولا حرج كم أضيف لأحمد من كلام وأقوال في العقائد خصوصا، وهو منها برئ وقد كان الرجل يجد شرفا في ذلك أن يقول سألت أبا عبد الله وأجابني بكذا، لما عرفه أحمد من الشهرة.
(74) مجلة " رسالة الإسلام "، ج 3، السنة الثالثة، ص: 155، 156.
(75) إسلام بلا مذاهب، ص 431. يقول ياقوت الحموي في معجمه عن ابن جرير الطبري:
" هو المحدث الفقيه المقرئ، كان أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله. كان حافظا لكتاب الله عز وجل، عارفا بالقرآن، بصيرا بالمعاني، فقيها بأحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، حتى قال فيه أبو حامد الإسفرايني الفقيه: " لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا ". رجل هذه منزلته، ما ذا كانت خاتمته ؟ لقد دفن ليلا خوفا من العامة، لأنه كان يتهم بالتشيع. كانت الحنابلة لا تترك أحدا يسمع عليه، ولا ذنب له إلا أنه عندما ألف كتابه " إختلاف الفقهاء " لم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فأساء ذلك الحنابلة فرموه بالرفض وأهاجوا عليه العامة يوم وفاته. وعدوا عليه هذه واحدة. أما الثانية فهي كما ذكر " كرن " في مقدمته لكتاب " إختلاف الفقهاء " واتجاهات المفسرين لجولد سيهر، إذ يقول هذا: =
لقد كان اعتراض الطبري وجيها، لم يجد معه الحنابلة جوابا سوى إرهابه والشغب عليه، حتى تدخلت الشرطة. لذلك نجد أن ابن خزيمة وهو أحد أئمة الحديث يقول عنه: ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة (76).
وإذا كان الطبري أعلم من على الأرض في عصره، فلا نظن أنه خفي عليه أمر أحمد، والحقيقة إذن أن أحمد لم يكن فقيها كما سيدعي أصحابه، لصناعة مذهب فقهي له. وإنما كان محدثا يجيب برواية الحديث والآية إذا سئل.
يقول المحقق جعفر السبحاني بعدما ذكر أن أحمد كان محدثا كبيرا ولم
____________
= في الأقاليم التي تسود فيها آراء السنة ويعترف بها مذهبا رسميا تعتمد على جماهير الشعب الساذجة في محاربة الأقليات من أهل العقل مستغلة لهم في مناهضة هؤلاء الذين يحدثون الضوضاء حول تعاليم أهل السنة، وفي غالب الأحيان تصاحب حركات الجماهير القسوة والغلظة وأحيانا يأتون بأعمال وحشية تذهب فيها أرواح الناس، فأية مسألة في تفسيره القرآن لا تجعل خاصة العلماء فقط فرقا، بل تجعل الشعب الجاهل كذلك شيعا وأحزابا، تتشاجر في الطرقات. وقد فهم الحنابلة المتعصبون هذه الغريزة في الجماهير التي لا تحسن النظر، وعرفوا كيف يثيرونها ضد الثائرين من أهل البدع الدينية، ويجعلون من ذلك نزاعا يمس العقيدة. وقد كانت من نتيجة حملاتهم هذه، الفتنة التي وقعت في بغداد. يقول ابن الأثير: " في هذه السنة توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد، ودفن ليلا بداره، لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا، وادعوا عليه الرفض، ثم ادعوا عليه الإلحاد، وكان علي بن عيسى يقول: " والله لو سئل هؤلاء عن الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه ". أنظر النهج الأحمد، ج 1 ص 38.
(76) النهج الأحمد، ج 1 ص 39، عن العبر للذهبي، ج 2 ص 146.
والمعروف من الإمام أحمد غير ذلك فإن اجتهاده كان أشبه باجتهاد الإخباريين والمحدثين الذين يفتون بنص الحديث ويتوقفون في غير مورده (77).
ومهما يكن فقد تداولت الأجيال هذه التهمة - كون أحمد ليس فقيها - وحاول الحنابلة جهدهم تفنيدها والدفاع عن فقاهة إمامهم. ومما يجعل الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة لهم، أن هذا الكلام لا يقول به أعداؤهم أو ممن هم خارج دائرة أهل السنة والجماعة، وإنما قال به علماء وفقهاء هذا الفريق، وانتشر بين الطلبة والمدرسين. يقول ابن عقيل وهو فقيه حنبلي: جاء بعد عصر الإمام أحمد ابن حنبل: " عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجهال إنهم يقولون:
أحمد ليس فقيه، لكنه محدث. قال وهذا غاية الجهل، لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وربما زاد على كبارهم... قلت: ما أحسبهم يظنونه محدثا وبس، بل يتخيلونه من بابة محدثي زماننا، والله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث ومالك والشافعي، وأبي يوسف (78).
أما نحن فلا نعتقد أن القسم بالله سيفيد الحنابلة في إثبات إمامة صاحبهم في الفقه، لأن القسم قد يكون كاذبا كما يكون صادقا. وهذه مسألة علمية لها واقعها الموضوعي، وهو تراث أحمد الفقهي وحصيلته العلمية. ولأن أصحاب
____________
(77) بحوث في الملل والنحل، ج 1 ص 313.
(78) العواصم والقواصم، ج 4 ص 242، 244.
إذا كانت هذه الشبهة لازمة لأحمد وسيرته العلمية وليس في مقدور الحنابلة أن يزحزحوها عنه بالطرق العلمية الموضوعية. فإن التراث الفقهي المنسوب له والذي تشكل منه مذهبه، سيعمق الأزمة من جديد. حيث عرض المحققون الكثير من الشبهات حول نسبة هذا الفقه لأحمد بن حنبل. وكثرت الاعتراضات قديما وحديثا حول هذا الكم الهائل من الآراء والاختيارات الفقهية والأصولية المضمنة فيما سمي " المذهب الحنبلي ". وهذه الشكوك الجديدة والمختلفة عضدت ودعمت فكرة أن الإمام أحمد بن حنبل إنما كان محدثا مشهورا ولم يكن فقيها أو مجتهدا بالمعنى الاصطلاحي لكلمة فقه واجتهاد.
أما مذهبه الفقهي فإن مؤرخي الفكر الإسلامي العام عندما يتعرضون لمذهبه الفقهي فإنهم يتكلمون عن مجموعة فقهية منسوبة للإمام أحمد. وهذا التعبير لا تجده دارجا في وصفهم لباقي المذاهب الفقهية الأخرى (79). يقول الشيخ أبو زهرة: " ومهما يكن حكم العلماء على أحمد من حيث كونه فقيها فإن بين أيدينا مجموعة فقهية تنسب إليه. وروايات مختلفة ومتعددة ذات سند مرفوع تحكى عنه، وقد تلقاها العلماء بالقبول. وإن كان بعضهم منذ القدم قد أثار حولها غبارا وإن لم يحجبها، ولم يطمسها، فإن العين عند الدراسة تواجهه في كشف الحقيقة من ورائه (80).
____________
(79) ممن ذكر مثل هذه العبارة الشيخ أبو زهرة، وقد أكثر من إيرادها وهو يناقش فقه أحمد، وإن كان قد انتهى إلى القول بأن هذه المجموعة الفقهية المنسوبة لأحمد قد انتهى العلماء والمتأخرون بقبولها. وكأن الموضوع قد انتهى وطويت المشكلة بمجرد قبول المتأخرين لها.
والحقيقة أن الدراسة لتاريخ المذاهب الإسلامية عامة، الفقهية والأصولية، يفجر الكثير من الإشكاليات المغضوض عنها طرفا.
(80) أبو زهرة، أحمد بن حنبل: حياته وعصره، ص 155.
المذهب الفقهي والأصولي المنسوب لأحمد بن حنبل
في الفقه:
أجمع المؤرخون على أن أحمد بن حنبل لم يصنف كتابا في الفقه يعد أصلا يؤخذ منه مذهبه، فلم يكتب إلا الحديث، وقد ذكر العلماء أن له بعض كتابات في موضوعات فقهية، منها المناسك الكبير، والمناسك الصغير، ورسالة صغيرة في الصلاة، كتبها إلى إمام صلى هو وراءه فأساء في صلاته.
وهذه الكتابة هي أبواب قد توافر فيها الأثر، وليس فيها رأي أو قياس أو استنباط فقهي، بل اتباع لعلم، وفهم لنصوص، فرسالته في الصلاة، والمناسك الكبير والصغير، هي كتب حديث، وإن كانت في موضوعات مما تناولها الفقه بالبسط والشرح والتوضيح، ولكنها كأكثر العبادات أعمال نصوص صريحة، أو اتباع عمل مروي.
وإذا كان أحمد لم يدون في الفقه كتابا ولم ينشر آراءه، ولم يملها على تلاميذه، كما كان يفعل أبو حنيفة، فإن الاعتماد في نقل فقهه كان على عمل تلامذته فقط، وهنا نجد كما نوهنا، الغبار يثار حول ذلك النقل من نواح عدة:
أولها: إن أحمد كان طول حياته يكره أن تنقل عنه الفتاوى أو تدون، أو
تنشر باسمه كما أشرنا من قبل، ويروى في هذا أن أحمد بن الحسين بن
حسان قال: " قال رجل لأبي عبد الله أريد أن أكتب هذه المسائل، فإني أخاف
النسيان، فقال أحمد بن حنبل لا تكتب، فإني أكره أن أكتب رأيي، وأحس
مرة بإنسان يكتب، ومعه ألواح في كمه، فقال: لا تكتب رأيا لعلي أقول