مفهوم الحرب والجهاد عند البدو:
يصف فاسيليف حياة البدو في الجزيرة العربية قائلا: كان البدو، في ظل انعدام السلطة المركزية القوية، يقومون بالغزوات دوما. وكانت الماشية عرضة للنهب في الغالب، ويشمل النهب أدوات بيوت الشعر والأسلحة والألبسة والعبيد. وكانت سلع التجار تسلب منهم، كما تسلب من الحضر مختلف المحاصيل والأدوات الزراعية.
وكتب بوركهاردت يقول: " إن القبائل العربية في حالة حرب دائمة تقريبا فيما بينها، ونادرا ما يحدث أن تتمتع قبيلة ما بلحظة من السلام المشترك مع سائر جيرانها. إلا أن الحرب بين قبيلتين نادرا ما تستمر طويلا، فالصلح يعقد بسهولة ولكنه يخرق لأتفه الأسباب. وإن أسلوب خوض الحرب هو أسلوب الأنصار، فالمعارك الشاملة نادرة. والهدف الرئيسي لكلا الطرفين المتحاربين هو مباغتة العدو بهجوم غير متوقع ونهب مخيمة.
وكتب فولني عن غزوات البدو يقول: " لما كان الأعرابي نهابا أكثر مما هو محارب فهو لا يسعى إلى إراقة الدماء. وإنه يهاجم فقط من أجل النهب والسلب.
ويؤكد فاسيليف بأن الغزو يعتبر عملا نبيلا جدا، وكانت الرغبة في النهب تثير دوما حماس البدو. وكانت المشاركة في الغزوات طوعية، ولكن المحاربين
بنتيجة الغزوات يستطيع البدوي الفقير بعد غارة موفقة واحدة أن يصلح أحواله المالية بل ويمكن أن يغدو موسرا. وكانت الغزوات مصدرا لإثراء وجهاء القبائل. فإليهم يرد أكبر وأفضل جزء من الغنائم. ويتزعم الغزوات.
الشيوخ أو العقداء. وتفرد للشيخ حصة حتى إذا لم يشارك في الغزوات.
وليس من قبيل الصدفة إن غنائم الغزوات تعتبر من أهم مداخيل وجهاء البدو (19).
هذا الوصف المجمل والشامل لعلاقة البدو فيما بينهم، يمكنه أن يسلط الضوء. ويشرح لنا طبيعة الغزوات الوهابية على باقي القرى والقبائل في بلاد نجد وما حولها. فالبدوي نهاب بطبعه، يدفعه فقره وحاجته إلى السطو المباغت على العدو " القبيلة المجاورة "، وإذا ما نجحت مهمته رجع غنيا موسرا بعدما كان يتلظى بنار الفقر، كما أن هذا الغزو يضع البدوي في مقام الحماسة والشجاعة فيسجل له بعض الافتخار والانتصارات الشخصية. وقد كان لهذه القيم سوق رائجة في عالم البداوة والترحال.
أما المآسي والمظالم التي كانت تنجم عن هذا الغز والغزو المضاد فإنها كانت تغذي وتعمق الأحقاد والكراهية بين أبناء القبائل التي سيفرض عليها آخر المطاف أن تخوض حروبا دائمة مع جيرانها، فإما النصر والتفوق وبسط الهيمنة وإما إخلاء الساحة نهائيا بأن تتعرض القبيلة إلى هجوم مباغت يأتي على الأخضر واليابس فيها فيقتل جل رجالها ويتشرد الباقي بين القبائل الأخرى.
ونحن إذا رجعنا وتتبعنا غزوات الجيش الوهابي سنجدها لا تختلف كثيرا
____________
(19) تاريخ العربية السعودية، م س، ص 47 - 48.
فما كان لأهل الدرعية وأتباع الشيخ ابن عبد الوهاب مثلا أن يستمروا في غزواتهم الكثيرة لولا الخلفية الدينية الشرعية التي كان الشيخ يمدهم بها. فما يقومون به ليس غزوا بدويا ظالما، وإنما هو الجهاد في سبيل الله. لذلك أطلق الشيخ على أتباعه اسم " المسلمين " أو " الموحدين "، ووصف باقي القبائل وأعراب البادية بأنهم كفار ومشركون حلالوا الدم والمال. وقد أوهم الشيخ أتباعه بأنه يشبه الرسول (ص)، فقد بعثه الله لقوم يعبدون الأصنام والجن والملائكة ويتخذونهم شفعاء وآلهة. فدعاهم إلى التوحيد أولا، ثم لما تمكن من محاربتهم وهدم أصنامهم جهز الجيوش بمن معه من المؤمنين والمهاجرين وسلطهم على المشركين في غزوات متتالية. فقتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم وامتلك أموالهم. ووزعها على المحاربين المسلمين.
وهذا بالفعل ما قام به الشيخ وأقنع أتباعه بصحة المقارنة فانطلقت الفتوحات الإسلامية من جديد ليس من المدينة المنورة هذه المرة ولكن من الدرعية في بلاد نجد مسيلمة الكذاب.
لكن واقع هذه الغزوات وكما صوره لنا مؤرخو الوهابية أنفسهم، لا يترك مجالا للمقارنة بين غزوات الرسول (ص) وبين غزوات الشيخ الحنبلي وأتباعه من أعراب نجد. نرجع لاستنطاق النصوص لمعرفة حقيقة هذا الادعاء.
حقيقة الجهاد الوهابي:
ونبدأ أولا ببعض الوقائع الحربية في فجر الدعوة لنعرف حقيقة هذا الجهاد في سبيل الله وهل يمكن مقارنته بجهاد الرسول وصحابته في فجر الإسلام ! ؟.
يقول ابن بشر: سار عبد العزيز غازيا بالمسلمين وقصد ناحية الجنوب فأغار
لقد دامت الحرب التي شنها الوهابيون على مدينة الرياض قرابة سبعة وعشرين عاما، كان الجيش الوهابي يهاجم هذه المدينة ويحاصرها ويهدم أسوارها ويقطع نخيلها ويحرق زروعها ويقتل كل من يوجد خارج أسوارها ساعة الغزو. لكن هذه المدينة صمدت بصمود رئيسها دهام بن دواس، وكان الغرض من هجوم الوهابيين هو السيطرة على هذه المدينة التي تقرب من الدرعية ليس إلا. فلا توجد نصوص تاريخية أخرى تفند رأينا هذا. ويثبت من خلالها الدعوة الدينية أو إرسال المبشرين إلى هذه المدينة لدعوتهم إلى التوحيد والإسلام. وإنما انطلقت الحروب والغزوات بغتة لكنها تميزت بإصرار منقطع النظير من طرف أمير الدرعية لامتلاك هذه المدينة مهما كلف ذلك من خسائر أو مظالم.
أنظر ما يقول ابن بشر في تاريخه يصف سيطرة الوهابيين أخيرا على الرياض وكيف تمت. لما سمع دهام بن دواس رئيس الرياض بقدوم عبد العزيز والجيش الوهابي غازيا الرياض للمرة الأخيرة، جمع عياله وأهله وقرر الهروب من المدينة وقبل أن يغادرها طلع على الناس من قصره وخاطبهم قائلا: " يا أهل الرياض إن هناك لي مدة سنين أحارب ابن سعود والآن سئمت من
____________
(20) عنوان المجد، ص 66.
ففر أهل الرياض في ساقته الرجال والنساء والأطفال لا يلوي أحد على أحد، هربوا على وجوههم إلى البرية في السهباء قاصدين " الخرج " وذلك في فصل الصيف، فهلك منهم خلق كثير جوعا وعطشا.
ذكر لي " يقول ابن بشر " إن الرجل من أهل الرياض يأخذ العرب ويجعل فيه ماء ويحمله على ظهره والعرب لا يمسك ماء والإبل عنده ولا يركبها وتركوها خاوية على عروشها الطعام واللحم في قدوره والسواني واقفة في المناحي وأبواب المنازل لم تغلق. وفي البلد من الأموال ما لا يحصى، فلما دخل عبد العزيز الرياض وجدها خالية من أهلها إلا قليلا فساروا في أثرهم يقتلون ويغنمون. ثم إن عبد العزيز جعل في البيوت ضباطا يحفظون ما فيها. وحاز جميع ما في البلد من الأموال والسلاح والطعام والأمتاع وغير ذلك وملك بيوتها ونخيلها إلا قليلا (21).
هذا نموذج آخر يصف أسلوب سيطرة " جيوش المسلمين " الوهابيين على المدن والقرى في نجد وكيف كانوا يدعون إلى التوحيد والإسلام في مدن خاوية على عروشها هرب منها أهلها خوفا من بطش " المسلمين " فابتلعتهم الصحراء وقتلهم العطش والجوع، لكنهم مع ذلك لم يسلم متأخرهم من سيف الغزاة ؟ !.
إذا كان هذا هو الجهاد في سبيل الله فليقدم لنا الوهابيون دليلا واحدا ولو من مصدر ضعيف على أن الرسول (ص) قام بمثل ذلك في غزواته. وإن كان عليه السلام نبيا ورسولا مبعوثا بالحقيقة ويحارب الكفار والمشركين حقيقة وليس ظنا، وقد كانوا بدؤوه بالحرب وقتلوا أصحابه.
وهو وإن كان قد حاربته مكة طويلا ووقفت في وجه دعوته فإنه لما فتحها لم يهرب أصحابها منها وهم أعداؤه وأعداء الوحي، ولم يعمل فيهم السيف
____________
(21) عنوان المجد، ص 60 - 61.
هذا من جهة ومن جهة أخرى بماذا يفسر هروب أهل الرياض قاطبة، النساء والأطفال حتى أدركهم الموت جوعا وعطشا في البرية ؟ لو كان الغزو في سبيل الله لبعث " المسلمون الجدد " من يؤمن الناس على أرواحهم ويدعوهم للإسلام والتوحيد. لكن الحقيقة أن أهل الرياض كانوا يعرفون شراسة الجيش الوهابي ووحشيته، ولا شك أن أخبار غزواتهم كانت تصلهم أولا بأول، كما خبروهم مباشرة في حرب دامت سبعة وعشرين عاما.
فالرعب والخوف هو الذي أخرج سكان الرياض عن بكرة أبيهم وتركوا متاعهم للغزاة.
ونحن هنا نتسائل واضعين علامة استفهام كبيرة. حول قول المؤرخ " فساروا في أثرهم يقتلون ويغنمون " ؟ هل القانون الإسلامي في الحرب يبيح قتل الهارب وتتبعه خصوصا إذا كانوا من الأطفال والنساء. هذا إذا سلمنا بأن أهل الرياض كانوا كفارا مرتدين ومشركين وهذا ما رفضه علماء أهل السنة قاطبة ولم يعترفوا به.
وأين هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عالم السلف ومجدد الدين، هل كان يفتي بقتل الهارب من الحرب، الأطفال والنساء، وقطع الأشجار وحرق الزروع ؟ !.
لقد تميزت الحروب الوهابية بالشراسة والدموية ولم تكن تحترم فيها لا القوانين الإسلامية المتعارف عليها، ولا غيرها من الأعراف الإنسانية. فليس هناك سوى الخضوع الفوري للغزاة وإما القتل والنهب والسلب وإذا كانت بعض القرى والقبائل استسلمت بسرعة وبخسائر قليلة فإنما يرجع ذلك إلى الرعب الذي كان ينشره " المسلمون الوهابيون " أثناء غزواتهم.
مثال ذلك، إنهم كانوا يباغتون القرى والمدن في الصباح الباكر ويقومون
يقول ابن بشر: أتوا بلاد حرمة في الليل وهم هاجعون... فلما انفجر الصبح أمر عبد الله على صاحب بندق يثورها، فثوروا البنادق دفعة واحدة فارتجت البلد بأهلها وسقط بعض الحوامل، ففزعوا وإذا البلاد قد ضبطت عليهم وليس لهم قدرة ولا مخرج (22).
وهذه الطريقة في إرهاب سكان المدن والقرى لم تكن نادرة حتى يقال إنما هي بعض من أخطاء الغزو والفتوحات. ولكنه الأسلوب المفضل الذي سلكه رجال الغزو الجديد. وتاريخ غزوات الرسول يبرأ من هكذا غزو. اللهم إلا ما وقع في غزوات بني أمية مثل هجومهم على المدينة المنورة واستباحتها قتلا ونهبا وهتكا لأعراض النساء حتى ولدت بنات الصحابة والتابعين من الزنا، فيما سمي بوقعة الحرة. أو غزو معاوية بن أبي سفيان بعض المناطق الإسلامية عندما رفض بيعة الخليفة الشرعي، فقتل جنوده المسلمين الأبرياء وذبحوا الأطفال في حجور أمهاتهم ونهبوا وسلبوا.
ولكن الفرق بين بني أمية والجيش الوهابي أن بني أمية كانوا يفعلون ذلك في سبيل الملك والإمارة، فكانوا لا يتورعون عن ارتكاب المجازر والفظائع بحق العرب والمسلمين في سبيل هدفهم. وكانوا يعلنون ذلك صراحة، فلما دخل معاوية بن أبي سفيان العراق خاطب أهلها قائلا: " إنما حاربتكم لأتأمر عليكم ". وإذن فهي الحرب السياسية لتحصيل الملك والحكم واستعباد الجماهير العريضة المستضعفة.
أما الوهابيون فكانوا يدعون أن حربهم في سبيل الله ومن أجل الدعوة للتوحيد والإسلام. لكن سيرتهم في الحرب وواقع فتوحاتهم يكذب هذا المدعى، فالإسلام وشرائعه في الجهاد لا تقبل أبدا أسلوب هؤلاء الغزاة. ولا
____________
(22) نفسه، ص 67.
هذه الحرب ليست مقدسة:
إنطلاقا من الحقائق التي ذكرها الباحثون والرحالة حول طبيعة البدوي وأنه طماح للسلب والنهب سواء انطلق من شريعة أو دفعت به الحاجة والفاقة وحب الغنى إلى الهجوم على غيره من الغرباء والأعداء. والمقارنة بين حروب البدو قبل إعلان محمد بن عبد الوهاب دعوته وحروب أتباعه مع خصومهم من البدو بعد ذلك، يمكن أن نسجل مماثلة تامة في الأسلوب والنتائج. اللهم إلا دخول العنصر الديني وإقحامه في هذه الحرب الظالمة لتبريرها وإلباسها ثوب المشروعية لضمان استمراريتها. والتغطية على أنهار الدماء التي تراق أثناء ذلك.
وعليه يمكننا أن نجزم بكل صراحة واطمئنان تعضدنا وقائع الغزو الوهابي ويومياته. بأن الحرب الوهابية التي أعلنها ابن عبد الوهاب وأتباعه على قبائل نجد وقراها لم تكن حربا مقدسة وفي سبيل الله، لنشر التوحيد والإسلام بين المشركين والكفار. وإنما كانت حربا بدوية على شاكلة الحروب البدوية السابقة، أولا، ثم أخدت بعدا جديا بفضل أيديلوجية الشيخ الخاصة بالشرك والارتداد، ومحاولة نشر الإسلام من جديد. لتوضع في خدمة تأسيس دولة سياسية جديدة تطمح للسيطرة على مجمل أراضي شبه الجزيرة العربية.
وإلا فلم يحدثنا التاريخ الإسلامي أن الرسول (ص) وصحابته كانوا يهجمون على القرى والمدن، يقتلون الناس ويغنمون إبل القوم ومواشيهم ويحرقوا زروعهم ويقطعوا نخيلهم ثم يرجعوا من حيث أتوا لتقسيم الغنائم، الخمس منها لبيت المال، ويقسم الباقي للراجل سهم وللفارس سهمين. دون
يقول ابن بشر: " في رمضان صار سعود بن عبد العزيز بالجنود المنصورة من جميع نواحي نجد وبواديها وقصد الشمال وأغار على سوق الشيوخ وقتل منهم قتلى كثيرة وانهزم منهم أناس وغرقوا في الشط " ؟ !.
الهجوم على كربلاء ونهب ضريح الإمام الحسين (ع):
يقول: ثم دخلت (سنة 1216 ه) وفيها سار سعود بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك وقصد أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين. وذلك في ذي القعدة فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت. وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين. وأخذوا ما في القبة وما حولها وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرصوفة بالزمرد. واليواقيت والجواهر وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من أنواع الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك ما يعجز عنه الحصر ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الأموال وقتل من أهلها قريب ألفي رجل. ثم إن سعود ارتحل منها على الماء المعروف بالأبيض فجمع الغنائم وعزل أخماسها وقسم باقيها في المسلمين غنيمة للراجل سهم وللفارس سهمان ثم ارتحل قافلا إلى وطنه (23).
____________
(23) عنوان المجد، ص 121 - 122. ويقول الدكتور همايون همتي: وفي داخل المدينة ارتكبوا الكثير من الأعمال الوحشية من تدمير ونهب وفساد، فكانوا يقتلون كل من يصادفهم من دون أية رحمة ولا شفقة، ونهبوا جميع الدور. لم يغامرهم في هذه المذبحة أي عطف =
____________
= على الشيخ والشاب والصغير والكبير والمرأة والرجل، بحيث لم ينج أحد من قسوتهم البربرية "، أنظر، الوهابية نقد وتحليل، ص 148.
يقول الباحث رايمون في تقرير له حول فاجعة كربلاء: " رأينا مؤخرا في المصير الرهيب الذي كان من نصيب ضريح الإمام الحسين مثالا مرعبا على قساوة تعصب الوهابيين. فمن المعروف أنه تجمعت في هذه المدينة ثروات لا تعد ولا تحصى وربما لا يوجد لها مثيل في كنوز الشاه الفارسي، لأنه كانت تتوارد على ضريح الحسين طوال عدة قرون هدايا من الفضة والذهب والأحجار الكريمة وعدد كبير من التحف النادرة... وحتى تيمورلنك صفح عن هذه الحضرة، وكان الجميع يعرفون إن نادر شاه قد نقل إلى ضريح الإمام الحسين وضريح الإمام علي قسما كبيرا من الغنائم الوافرة التي جلبها من حملته على الهند وقدم معه ثروته الشخصية وهاهي الثروات الهائلة التي تجمعت في الضريح الأول تثير شهية الوهابيين وجشعهم منذ أمد طويل.
فقد كانوا دوما يحلمون بنهب هذه المدينة وكانوا واثقين من نجاحهم لدرجة أن دائنيهم حددوا موعد تسديد الديون في ذلك اليوم السعيد الذي تتحقق فيه أحلامهم. وها قد حل هذا اليوم في الأخير وهو (20 نيسان - أبريل 1802 م) فقد هجم 12 ألف وهابي فجأة على ضريح الإمام الحسين وبعد أن استولوا على الغنائم الهائلة التي لم تحمل لهم مثلها أكبر الانتصارات تركوا ما تبقى للنار والسيف. وهلك العجزة والأطفال والنساء جميعا بسيوف هؤلاء البرابرة. وكانت قساوتهم لا تشبع ولا ترتوي فلم يتوقفوا عن القتل حتى سالت الدماء أنهارا.. وبنتيجة هذه الكارثة الدموية هلك أكثر من أربعة آلاف شخص...
ونقل الوهابيون ما نهبوه على أكثر من أربعة آلاف جمل.
وبعد النهب والقتل دمروا كذلك ضريح الإمام وحولوه إلى كومة من الأقذار والدماء.
وحطموا خصوصا المنابر والقباب لأنهم يعتقدون بأن الطابوق الذي بنيت منه مصبوب من ذهب، أنظر أرشيف السياسة الخارجية لروسيا (1803 الإضبارة 2235 ص 38 - 40) نقلا عن تاريخ العربية السعودية، لفاسيليف، ص 116 - 117.
(24) كشف الارتباب، ص 53 - 54.
الجيش الوهابي يقتل سدنة الكعبة:
وفي سنة (1342 ه) غزا الجيش الوهابي الحجاز والطائف التي: " دخلوها عنوة واعملوا في أهلها السيف فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى قتلوا منها ما يقرب من ألفين بينهم العلماء والصلحاء وأعملوا فها النهب وعملوا فيها من الفظائع ما تقشعر له الأبدان وتتفطر له القلوب نظير ما فعلوه في المرة الأولى. وممن قتلوا من المعروفين الشيخ عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بصورة فظيعة وقتلوا جملة بني شيبة سدنة الكعبة المكرمة كانوا مصطافين في الطائف وجاءت الأخبار بارتكابهم فظائع لا يليق ذكرها و " توجهوا إلى بندر الحديدة ونازلوا أهلها فأخذوها عنوة واستولوا على غالب البلد، وكان أهلها قد بلغهم مسير تلك الجنود فحملوا خفيف أموالهم في السفن وركب فيها أكثر الرجال فأخذ طامي ومن معه ما وجدوا فيها من المال والمتاع ودمروها وقتلوا من أهلها قتلى كثيرة وقبض عمال سعود أخماس الغنائم وساروا بها إلى الدرعية (25).
وعلى نفس المنوال استمرت الغزوات والفتوح في أطراف العراق والشام وداخل الجزيرة العربية، يقوم الجيش الوهابي بالهجوم بغتة فيقتل الرجال ويسلب المواشي والإبل والخيول وجميع الأموال التي يهرب عنها أصحابها.
أما النخيل فقد كان مصيره القطع والتصريم وقد صرموا في إحدى غزواتهم ألف نخلة.
ولما حاصروا الأحساء تركوا إبلهم وخيولهم تعيث فسادا في الزروع والنخيل وقطفوا الغلال وحملوها معهم وهذا بشهادة مؤرخهم ابن بشر. وفي بعض الأحيان كانوا يهجمون بغتة فينهبون ما جاؤوا من أجله، أي المواشي
____________
(25) نفسه، ص 55.
إذن أين هو صدى الدعوة إلى الإسلام والتوحيد في قتل سكان كربلاء واستباحة أموالهم ثم الخروج بها هربا إلى الدرعية واقتسامها كمغانم ؟ في الوقت الذي يكتب فيه الشيخ أحمد الكرمانشاهي الذي عاصر هذه الحملة وأرخ لها قائلا: " وعند الزوال عادوا إلى الدرعية من دون سبب ظاهر ".
وإذن غزوات الأعراب والبدو من أجل النهب والسلب ليس إلا. ولم نسمع شيئا عن التبشير للعقيدة الجديدة في البصرة وبلد الزبير (26)، حيث قتل الأبرياء في مساكنهم وسرقت مواشيهم وإبلهم وقطعت أشجارهم ؟ وأين هي الدعوة لمذهب السلف الخالي من البدع والشرك عند أطراف الشام حيث كانت الحوامل تسقط حملها من الهول والرعب. وهل الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك تعني قتل ألف حاج من اليمن وتخريب الطائف ونقل أموالها ومتاع أهلها خارجا وإرساله إلى الدرعية.
نعم قد يكون للدعوة واقع عملي نقله مؤرخو الغزوات الوهابية بشكل عرضي وهم يتكلمون عن نشاط الشيخ ابن عبد الوهاب الذي لم يشارك في هذه الغزوات وإنما كان مرابطا في الدرعية يدرس الطلبة في المسجد ويلقنهم مبادئ التوحيد الجديد.
هذا المشهد الذي لا يمكن أن يتكرر في غير الدرعية مقر المهاجرين وطلبة العلم والمجاهدين.
____________
(26) يقول ابن بشر يصف هجمة الوهابيين على بلد الزبير: " وانزعج أهل الزبير انزعاجا عظيما وصعد النساء في رؤوس السطوح ووقع فيها الضجيج، وأسقط بعض الحوامل، فأقام محاصرهم نحو اثني عشرة يوما. حصد جميع زروعهم ورجع قافلا إلى وطنه ". ثم سار إلى البصرة ونزل عندها المسلمون على جنوبها ونهبوا فيه وقتلوا قتلى ". أنظر عنوان المجد، ص 132 و ص 142.
يمكن أن نستثني مكة والمدينة حيث لم يعملوا في أهلهما السيف كما فعلوه مع باقي القرى والمدن وذلك للاعتبارات الواقعية لهاتين المدينتين المقدستين. دون أن يعني ذلك أنهم لم يسفكوا الدم الحرام، بل بالعكس فقد قتل خلق كثير حول هاتين المدينتين، ولما حاصر الوهابيون مكة وطال حصارهم عدمت الأقوات بالكلية وأكل الناس الأدوية كبزر الخشخاش وزبيب الهوى والصمغ والنوى وبزر الحمر وشربوا الدم وأكلوا الجلود والسنانير والكلاب وكل حيوان (27). ولما استطاعوا أخيرا دخول مكة هدموا كل الأضرحة والقباب والمعالم التاريخية التي كان المسلمون قد حافظوا عليها منذ قرون.
أما الأعمال الدينية الجليلة التي قام بها الأمير السعودي، لما دخل مكة فهي جمعة الناس وتعليمهم أركان الإسلام ومبادءه وتعليمهم الصلاة والزكاة.
وأخبرهم بأن الخمر والزنا حرام كما شرح لهم التوحيد وأظهر لهم معالم الشرك ليجتنبوها (28).
____________
(27) نفسه، ص 28، ويؤكد ابن بشر ذلك فيقول: بيع فيها لحوم الحمير والجيف بأغلى ثمن.
وأكلت الكلاب وبلغ رطل الدهن ريالين ومات خلق كثير عندهم جوعان "، أ نظر عنوان المجد، ص 135.
(28) " لما دخل الأمير السعودي مكة وجمع أهلها خطب فيهم طويلا ومن جملة كلامه:
" أحمدوا الله الذي هداكم للإسلام وأنقذكم من الشرك وأنا أدعوكم أن تعبدوا الله =
والذي يطلع على ما كتبه مؤرخهم ابن بشر كوثيقة وشهادة حفظها التاريخ، سيجد أن: مجموعة من البدو يتزعمهم فقيه حنبلي - حكم على باقي المسلمين بالكفر والارتداد وأباح دماءهم وأموالهم - قد انطلقوا من نجد يجوبون القرى والمدن الآمنة في غزوات شرسة يقتلون الرجال والنساء والأطفال ويستحوذون على الممتلكات ويخربون المعالم المدنية، تحت شعار الجهاد في سبيل الله. ثم يرجعون من حيث أتوا يتقاسمون المغانم والأسلاب.
وقد ترك لنا ابن بشر تصويرا رائعا لحال الدرعية قبل بداية الغزو وبعده وكيف تحولت حال الفاتحين الجدد ومدينتهم من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش.
" كانوا في أضيق عيش وأشد حاجة وابتلوا ابتلاء شديدا فكانوا في الليل يأخذون الأجرة ويحترفون، وفي النهار يجلسون عند الشيخ في درس
____________
= وحده وتقلعوا عن الشرك الذي كنتم عليه وأطلب منكم أن تبايعوني على دين الله ورسوله وتوالون من ولاه وتعادون من عاداه في السراء والضراء والسمع والطاعة ثم جلس فبايعه الشريف عبد المعين ثم المفتي ثم القاضي ثم بقية الناس على طبقاتهم. ثم قال انتظروني بعد صلاة العصر بين الركن والمقام لأبين لكم الدين وشرائط الإسلام ثم انصرف.
فلما كان العصر اجتمعوا فصعد على ظهر زمزم ومعه المفتي فجعل يعلمه وهو يعلم الناس ويقول: إعلموا أيها الناس أن الأمير سعودا يقول لكم إن الخمر والزنا حرام (إلى آخر ما قال) مما لا يجهله أحد ثم قال لهم في غد اهدموا القبب والأصنام حتى لا يكون لكم معبود غير الله " أنظر المرجع السابق. لا أدري كيف يمكن فهم هذه المهزلة. في مكة القاضي والمفتي ويحج إليها آلاف المسلمين سنويا لأداء فريضة الحج وفيهم علماء أهل السنة وفقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم من المذاهب الإسلامية الأخرى والأمير السعودي القادم من نجد أرض البداوة والجهل يعلمهم أركان الإسلام ومبادئ التوحيد ويأمرهم بحمد الله لأنه أنقذهم من الشرك بفضل هذا الأمير ؟ !.
ولقد رأيت الدرعية بعد ذلك في زمن سعود رحمه الله تعالى وما فيه أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة الذي لا يوجد مثله والخيل الجياد والنجايب العمانيات والملابس الفاخرة وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان ويكل عن حصره الجنان والبنان ولقد نظرت إلى موسمها يوما في مكان مرتفع وهو في الموضع المعروف بالباطن، بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود المعروفة بالطريق ومنازلها الشرقية المعروفة بالبجيري التي فيها أبناء الشيخ.
ورأيت موسم الرجال في جانب وموسم النساء في جانب. وموسم اللحم في جانب وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام والبيع والشراء والأخذ والإعطاء وغير ذلك وهو مد البصر (29).
وإذن فقد كان فاسيليف محقا في وصفه عندما كتب يقول: " كانت حملات الوهابيين تحت راية تجديد الدين تستهدف تحقيق مهمات دنيوية بحتة تتلخص في زيادة ثروات حكام الدرعية ووجهاء الجزيرة المرتبطين بها (وجهاء نجد بالدرجة الأولى). ويدل ما كتبه مؤرخو الجزيرة والرحالة الأوربيون على أن الغزو ظل هو الطريق الرئيسي لحصول الوجهاء والأعيان على الثروة. وكتب المؤرخ الوهابي ابن بشر يقول، بعد أن عدد الضرائب التي وردت إلى الدرعية: " وما ينقل إليها من الأخماس والغنائم أضعاف ذلك ".
كانت غزوات الوهابيين الأولى تنتهي بالاستيلاء على بضع عشرات من الإبل والأغنام ونهب الحقول أو بساتين النخيل. أما في سنوات أوج قوتهم فقد كانت غنائمهم تبلغ عشرات الآلاف من رؤوس الماشية المنهوبة.
وفي عام 1796 م بعد دحر قوات شريف مكة وقع في أيدي الوهابيين (30 ألف من الإبل و 200 ألف من الأغنام والماعز). ويقول ابن بشر أنه
____________
(29) عنوان المجد، ص 13.
وكما هو حال الغزوات البدوية كان النهب الوهابي يسفر عن تجريد القبائل المستضعفة ليس فقط من المنتوج الزائد بل وكذلك من قسم كبير من المنتوج الضروري، وغالبا ما يحكم على السواد الأعظم من السكان المنهوبين بالموت جوعا (30).
ستكثر إذن المغانم والأسلاب، كل ذلك على حساب الآلاف من المستضعفين والمظلومين فمنهم من قتل ومنهم من أصبح فقيرا معدما، لا يجد ما يقتات به، والكثير منهم فقد أبناءه وأسرته. وللقارئ أن يتصور حجم المأساة والظلم الذي حاق بسكان البوادي والقرى ومدن الجزيرة العربية في غفلة من سلطة مركزية قوية داخل الجزيرة لضعف أمراء الحجاز ومكة عن الوقوف أما الاجتياح البدوي الوهابي أو تحجيمه. في الوقت نفسه الذي كانت فيه الإستانة عاصمة الإمبراطورية العثمانية تعيش في ليل دامس من المؤمرات والخلافات السياسية. وفي محاولة لمعالجة الهجوم الأوربي الذي بدأ يلتهم أطراف الإمبراطورية ويخطط لاقتسام تركة الرجل المريض.
حكم قتال المشركين في الإسلام:
بقي أن نذكر ملاحظة هامة جدا بخصوص الغزوات الوهابية وفتحهم البلدان والقرى. هذه الملاحظة تخص حكم قتال المشركين والكفار فمن المعلوم أن المسلمين الأوائل كانوا في فتوحاتهم وحربهم ضد الكفار
____________
(30) المرجع السابق، ص 134 - 135.
سبي النساء والأطفال:
من خلال كتاب " عنوان المجد " الذي أرخ لغزواتهم لا توجد أي فكرة حول هذا الموضوع إلا النزر القليل عندما يذكر المؤلف فرار القبائل من مساكنهم وأن الأطفال والنساء كانوا يهيمون على أنفسهم في البرية فكان الكثير منهم يلقى حتفه. بالإضافة إلى وصفه حالة النساء من الرعب والهول وأن بعضهن يسقطن حملهن أثناء الغزو والمباغتة. لذلك لا بد من طرح السؤال التالي ؟.
هل كان الجيش الوهابي يسبي النساء والأطفال ؟ !.
يقول السيد محسن الأمين: " أما سبي ذراري المسلمين فهو مقتضى قواعد المذهب الوهابي الذي أساسه ومبناه ومحوره الذي يدور عليه، التسوية بين عبدة الأصنام وبين المسلمين في الإشراك بالعبادة. وقد صرح الصنعاني في تطهير الاعتقاد في عدة مواضع بما يدل على ذلك حيث قال: ومن فعل ذلك (أي الاستغاثة وما يجري مجراها) لمخلوق فهذا شرك في العبادة وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه وصار الفاعل عابدا لذلك المخلوق وإن أقر بالله وعبده فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دماءهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم. وقال في موضع آخر فمن رجع وأقر، حقن عليه دمه وماله وذراريه ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسول الله (ص) من المشركين.
وحكى الجبرتي في تاريخه في حوادث (سنة 1217 ه). أنهم أي الوهابية
وعن كتاب التوضيح لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنه قال: وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأن يتخذوهم عبيدا (31). وإذن فمقتضى المذهب الوهابي، أن حكم إباحة دماء الرجال يتبعه إباحة سبي النساء والأطفال واتخاذهم عبيدا لأنهن نساء المشركين وذراريهم. وهذا ما كان يفعله المسلمون الأوائل. فما دام الحكم قد صدر بكفر القبائل وشركهم وتحركت الجيوش لغزوهم، فلا بد من إمضاء الحكم الإسلامي فيهم كاملا.
إلا إذا كان هناك إستثناء مثلا كون النساء " الحريم " والأطفال ليسوا مشركين. وهذا لم يقل به منظرو الوهابية أو السلفية الأوائل. طبعا نقل عن بعضهم أنهم لا يرون سبي النساء والصبيان. وهذا تناقض ومن أغرب الأحكام في اجتهادات البدو، فالرجال كفار مشركون دمهم حلال، وأموالهم حلال جائزة الأخذ كغنائم الجهاد. ولكن الأطفال والنساء لا يشملهم هذا الحكم. ولست أدري أين كان يذهب أطفال والنساء المئات من الرجال الذين قتلوا في الغزوات وخصوصا تلك الغزوات التي قتل فيها معظم الرجال " المشركون " ؟ ! هل كان الوهابيون يتركونهم في العراء لا يمسونهم بسوء فكانوا يجدون طريقهم إلى القرى المجاورة خصوصا إذا أفلحوا في الوصول إليها ولم يموتوا جوعا وعطشا ؟ ! أم أن الجيش الوهابي كان يسوقهم إلى الدرعية ويخلي سبيلهم ؟ ! أم ترى ماذا كان يفعل بهم ؟ !.
كما قلت سابقا الأخبار عن وضع " الحريم " والأطفال خلال فترة الجهاد الوهابي غير متوفرة وأكاد أشك وتنتابني الريبة في صحة الكتب الوهابية التي أرخت لهذه الغزوات، ك " عنوان المجد ". فليس هناك أي مانع من تنقيته وتنظيفه من جميع الأخبار المتعلقة " بالحريم " والأسباب كثيرة جدا لدى
____________
(31) كشف الارتياب، ص 141 - 142.
فلا شك أن موضوع " الحريم " يعتبر حساسا جدا لدى المسلمين قاطبة والبدو بشكل خاص، لذلك كان التكتم على أخباره من الضرورات المهمة.
وإلا هل يعقل أن يخوض الجيش الوهابي مئات الغزات ويقتل آلاف الرجال دون أن يتعرض للنساء والأطفال، هذا الجيش الذي كان يعتقد بأن أعداءه مشركون وكفار كل شئ لديهم حلال الأرواح والأموال ؟ ! إلا إذا كان أفراد هذا الجيش قد بلغوا من الورع والتقوى مبلغا كبيرا، بالإضافة إلى معرفتهم بحكم الحرمة وعدم جواز التعرض للنساء والأطفال. وهذا لا نملك الجرأة لتأييده، لأن غالبية الجيس الوهابي الفاتح كانت متكونة من الأعراب وبدوان نجد، من هم أبعد عن الحضارة والعلم. ولن يقبل أحدهم أن يقارن نفسه بما كان عليه السلف من الورع والتقوى بل سيقولون أنى لنا ما كان عليه السلف فقد كانوا خير القرون اعتقادا وعملا.
لكن قسما من هؤلاء السلف وعلى رأسهم صحابة هم عند الوهابية أمراء للمؤمنين لما دخلوا المدينة المنورة لم يتورعوا عن نساء الصحابة وبنات التابعين، بل فسقوا فيهم وهتكوا أعراضهن وولدت الكثيرات منهن سفاحا ؟ ! وهؤلاء السلف لم يكونوا فاتحين ولم يعتقدوا في أهل المدينة أنهم كفارا أو مشركين.
وإنما رفضوا بيعة يزيد بن معاوية الفاسق وأخرجوا واليه من المدينة فكان مصيرهم ما دونه التاريخ.
لكن التاريخ الوهابي لا يذكر شيئا عن وضع الحريم في الغزوات الإسلامية والتوحيدية الجديدة وكأن القرى والمدن المفتوحة أو إن صح التعبير " المنهوبة " كانت خلوا من النساء والأطفال. طبعا نحن لم نعتمد على مصادر غير الوهابيين لنتمكن من معالجة هذه القضية بموضوعية، وإن كانت بعض المصادر المحايدة قد ذكرت المصير الفظيع الذي عرفه الكثير من النساء اللائي جلبن إلى بيوت الوهابيين وقصورهم.
ولكن هناك إشارة ذكرها ابن بشر يمكن أن تثير النقاش وتفتح الباب واسعا أمام التكهنات والآراء المختلفة. وذلك عند ذكره مماليك الأمير الوهابي سعود بن عبد العزيز فقد ذكر أن " مماليكه الذكور أكثر من خمسمائة مملوك " (33).
وعندما أراد ذكر الإماء ظهر خلط وخبط أظنه متعمد للتحريف لكن الناشر استدرك ذلك في الهامش قائلا: هنا خلل ولعله ألف ومائتان الذكور والإناث. والذكور خمسمائة (34).
وإذا فقد كان عدد الإماء في قصره سبع مائة جارية. وهذا رقم لا أعتقد أن السلطان عبد الحميد كان قصره يحتويه، وذلك لتغير الظروف الواقعية ونحن الآن في القرن الثالث عشر الهجري وقد تراجعت تجارة الرقيق إلى أبعد
____________
(32) تنبعث هذه الحساسية من كون علماء أهل السنة لم يقتنعوا بأن سكان الجزيرة العربية كانوا مشركين أو كفار وإن ما فهمه ابن عبد الوهاب من التوحيد ليس هو الحقيقة وعليه فإذا كان الوهابيون يسبون النساء ويأخذهم مغانم وملك يمين، فإن فروجهن لا تحل لهؤلاء لأنهن مسلمات. ولا يصح الدخول بهن ومن فعل ذلك فإنه يكون زانيا ومعتديا وأطفال هؤلاء المسلمات المقتول أزواجهن أو آبائهن ليسوا أبناء شرعيين. وعليه يطرح سؤال عريض حول صحة أخبار السبايا في الغزوات الوهابية لأنه لو كان حصل بالفعل فإن الكثير من أبناء " السلف في الجزيرة ستحوم حولهم الشبهات المتعلقة بأصولهم وهل هي شرعية. ونحن نعتقد أن الشيخ ربما قد يكون انتبه لهذا المشكل العويص لذلك منع من سبي النساء اللهم إلا ما كان يقع هنا وهناك بشكل عشوائي وغير منظم مما يقع عادة أثناء الغزوات والحروب ؟ !.
(33) عنوان المجد، م س، ص.
(34) المرجع السابق.
أرجع لأؤكد على أن موضوع " الحريم " قد اكتنفه الكثير من الغموض أثناء الفتوحات الوهابية انطلاقا من النظرية أو الحكم الشرعي الذي أباح دماء الرجال وأموالهم فقط على حد ادعائهم، وعفى عن النساء والأطفال. مع أن الكل، رجال ونساء وأطفالا، كانوا في حكم الكفار والمشركين ؟ !.
لكن من كتب عن الفتوحات الوهابية من أهل السنة والجماعة ذكر صراحة سبيهم للنساء، يقول مفتي الشافعية في مكة المكرمة: " وقتلوا من الخلائق ما لا يحصون واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم " (35).
يبقى كما قلنا سالفا فموضوع " النساء والأطفال " يثير الكثير من التساؤلات ولا نود الخوض في تفاصيله أكثر مما فعلنا لأنه لا يعتبر موضوعنا الرئيسي.
علماء أهل السنة يكفرون الوهابية:
طبعا لم يقف المجتمع الإسلامي في شبه الجزيرة وعلى رأسه علماء المذاهب الأربعة مكتوفي الأيدي أمام هذا الغزو الوهابي " السلفي "، بل واجهوه بالسيف والقلم، حيث انطلقت موجات متتالية من الردود تفند مذهب الشيخ الوهابي وتنقصه، وتحكم بانحرافه وضلاله وصولا إلى تكفيره وتكفير أصحابه والحكم عليهم بالقتل. وقد أرسل ابن عبد الوهاب بعض رجاله إلى مكة
____________
(35) السيد أحمد بن زيني دحلان، فتنة الوهابية، ص 3.
لذلك كان حكام الحجاز من الشرفاء عندما يردون هجوما وهابيا ويقتلون بعض رجاله ويعلقون رؤوسهم في مداخل مكة على اعتبار أنها رؤوس " خوارج " وهي الصفة التي أطلقها علماء أهل السنة على هؤلاء الوهابية، وأكثروا من الاستشهاد بالأحاديث للتدليل على أنها تشملهم وتخصهم، وسنذكر بعضا من أدلتهم.
توالت الردود الفكرية لتعرض مفهوم التوحيد لدى أهل السنة، والرد على المفهوم الجديد الذي يقول به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي أخذ بعضا منه من شيخه ابن تيمية، وكانت أولى الردود القوية ما كتبه أخو الشيخ سليمان بن عبد الوهاب. وقوة هذا الرد تكمن أساسا في أن الشيخ سليمان كان حنبليا مثل أخيه، كلاهما ينطلق من موروث الحنابلة الفكري وله معرفة واسعة بكتب ابن تيمية وابن القيم الجوزية كذلك. لذلك جاء الرد قويا وصريحا في أن الوهابية قد أساؤوا فهم تراث ابن تيمية، بل إنهم تقولوا عليه وأولوا كلامه بما يخدم أغراضهم ويدعم أهواءهم. وإن كلام الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لا يمكن ركوبه للوصول إلى ما وصل إليه الوهابيون من تكفير عامة المسلمين وحربهم وإباحة دمائهم وأموالهم وذراريهم.
____________
(36) نفسه، ص 11.
الشيخ سليمان يرد على أخيه محمد بن عبد الواهب:
كان أول إعتراض قدمه الشيخ سليمان على أخيه هو عدم إعترافه باجتهاده وأنه لم يحقق شروط الاجتهاد وإنما كان مدعيا ومخالفا لما عليه سيرة المذهب الحنبلي. وما قرره ابن القيم في أعلام الموقعين من أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم يجتمع فيه شروط الاجتهاد ومن جميع العلوم ". وبعد أن يعرض الشيخ سليمان شروط الاجتهاد وما اتفق عليه العلماء قاطبة في هذا الباب. يقول: " لو ذهبنا نحكي من حكى الإجماع لطال وفي هذا كفاية للمسترشد وإنما ذكرت هذه المقدمة لتكون قاعدة يرجع إليها فيما نذكره فإن اليوم ابتلى الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما ولا يبالي من خالفه، وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ومن خالفه فهو عنده كافر. هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال أهل الاجتهاد ولا والله عشر واحدة، ومع هذا فراج كلامه على كثير من الجهال (37).
وإذن فالشيخ لم يكن مجتهدا حتى يتسنى له الاستنباط أو تحمل آراؤه على محمل الاجتهاد، وأنما التف حوله بعض الجهال من البدو الذين لم يكونوا يعلمون شيئا. لذلك لما ناظر علماء الحرمين تلامذة الشيخ الوهابي أفحموهم وحكموا عليهم بالضلال وحبسوهم.
أما بخصوص تكفير عامة المسلمين وأهل نجد بالخصوص لأنهم ارتدوا إلى الشرك وعبدوا القبور والأولياء والملائكة والجن فإن الشيخ سليمان وهو نجدي كذلك ويعرف ظروف البلد وعقائد أهلها لا يرى أن ما يقوم به الناس هناك من طلب الشفاعة واحترام القبور والحج إليها شركا، أو ردة عن الإسلام. كما يفند ادعاء أخيه وأتباعه من أن أهل نجد قد نبذوا أصول التوحيد ومبادئ الإسلام.
____________
(37) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، سليمان بن عبد الوهاب النجدي، ص 7.