الصفحة 413
العالمية وتعرف على بعض إنتاجها الفكري سواء عن طريق الكتاب أو عن طريق الأساتذة الغير سعوديين والغير وهابيين الذين استقدمتهم الدولة للتدريس. كما أن عددا من قيادي الحركات الإسلامية من مصر وسورية قد زاروا البلاد والتقوا بهذا التيار.

لذلك جاء وصف الحكومة لهذه الحركة متهافتا ومتناقضا فقد وصفتهم بالمتطرفين وبالمهووسين دينيا. بل لقد أطلق عليهم إنهم مجموعة مجانين. لكن الحقيقة أن هذه الحركة كانت تنم عن تطور ملموس في الفكر الوهابي ونضج أتباعه، فالمنشورات التي وزعها جهيمان وأتباعه تضمنت تحليلا سياسيا للوضع داخل البلاد، واتهمت صراحة نظام الحكم بأنه غير إسلامي وأنه لا بد من تغييره. وتكلمت البيانات بتفصيل عن نظام الحكم في الإسلام والبيعة والمشروعية السياسية، وقد كان طموح الحركة كبيرا لولا الظروف الغامضة التي أحاطت بفشلها، كما يمكننا أن نسجل بأن لولا تدخل الفرق العسكرية الغربية المختصة، وخصوصا الفرنسية لما سهلت السيطرة على الحركة داخل الحرم، ولكان الوضع قد انفجر خصوصا مع تأكيد وجود امتدادات للحركة داخل الحرس الوطني.

وعليه تكون حادثة الحرم المكي إحدى نقاط الخلاف الدموية بين الدولة السعودية وبين أتباع الحركة الوهابية، على غرار حركة " الإخوان " التي قضى عليها الملك عبد العزيز، بفارق واحد متميز وهو الإفصاح عن تطور ونضج سياسي عرفه العقل الوهابي العام مع هذه الحادثة.

كما أن هذه الحادثة قد رسخت وعمقت الانفصال بين التيار الوهابي العام داخل الجامعات خصوصا، وبين المؤسسة الدينية التقليدية الموالية للحكومة.

هذا الانفصال الذي سيظل بمثابة برميل بارود ينتظر أية شرارة لينفجر من جديد. وبالفعل فقد أصاب هذا البرميل عدة شرارات قامت بتفجيره المرة تلو الأخرى. وسنذكر مثالين معاصرين يمثلان ذروة الاختلاف بين الحركة الوهابية

الصفحة 414
والدولة السعودية، المثال الأول صدور " مذكرة النصيحة التي بعث بها علماء الوهابية إلى الحكم ". والمثال الثاني هو قيام مجموعة من العلماء بدون استشارة الحكومة بإعلان تأسيس لجنة للحقوق الشرعية.

حرب الخليج الثانية وانكشاف الأوراق السرية:

لم تكن الحرب العراقية الإيرانية قد ساعدت التيار الوهابي السلفي على تجميع قوته والظهور بمظهر القوة فقط - خصوصا وقد ساهمت الحرب الطائفية والمذهبية ضد إيران والشيعة في إيجاد محور يجمع شتات هذا التيار - بل أدت هذه الحرب الضروس إلى بروزه كقوة فاعلة ومساهمة في الحرب إلى جانب الحكومة التي تدعم العراق ماليا وعسكريا. لذلك فقد سجل نشاط كبير ومحموم في الكتابة والنشر وإلقاء الخطب، كلها تصب في تكفير الشيعة وتحذير المسلمين من خطر الفرس والمجوس القادم والزاحف من إيران.

لدرجة أنك إذا سألت شيخا سلفيا من مسألة جزئية في الوضوء لأجابك إن الشيعة كفار مشركون ثم بعد ذلك يعرج إلى للإجابة على سؤالك إذا بقي متذكرا. وبما أن من مصلحة الحكومة إشعال نار هذه الحرب الطائفية لأنها تمثل حاجزا صلبا للوقوف أمام انتشار أفكار الثورة الإسلامية في إيران، فإن دعمها للتيار السلفي كان قويا، وأعطيت لأصحابه الحرية في إلقاء الخطب والمحاضرات والتحرك. كل ذلك دعم هذا التيار وقوى قواعده على الأرض.

إلا أن النكسة التي حلت بالحكومات الخليجية إثر غزو صدام حسين الكويت بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية. كانت لها نتائج وخيمة جدا وعلى جميع المستويات، فالإخوة الأحباء بالأمس تحولوا إلى أعداء، كل واحد يكيل للآخر التهم، ويتهمه بالفساد والعمالة وخدمة الأعداء.

ومن المضحك المبكي أن غزو الكويت قد ساعد على كشف الأوراق بشكل فاضح ومخزي ليس فقط أوراق السياسة ولكن أوراق المؤسسات

الصفحة 415
الدينية في الخليج وعلى رأسها المؤسسة السلفية. مما أحدث تناقضا وبلبلة كادت أن تعصف بالاستقرار الذي يقال أن الأنظمة والمجتمعات تنعم به هناك. لقد تحرك الإعلام الخليجي لكشف دعمه العسكري والمالي للعراق، هذا الدعم الذي ظل طي الكتمان طيلة ثماني سنوات من الحرب. كما كشفت عورات النظام العراقي وبدأ الكلام عن الاستبداد السياسي وعن الظلم وعن انتهاك حقوق الإنسان بشكل فضيع في العراق. لكن الإعلام العراقي لم يقف مكتوف الأيدي بل كشف ما عنده من ملفات سرية تخص الحكومات الخليجية وعلى رأسها المملكة السعودية.

لقد كانت هذه الحملات الإعلامية المضادة وما تضمنته من أخبار وحقائق أهم ما استفادت منه شعوب المنطقة. وإذا كان التيار السلفي حاضرا أثناء هذه المساجلات بل مساهما فيها فإن بعضا مما أصاب الحكومات قد أصابه سلبا وإيجابا. وظهر تناقضه بل كشف عن بعض عوراته، خصوصا فيما يتعلق بالحرب الطائفية والتي كان يقودها على أنها حرب الإيمان ضد الكفر، حرب العرب ضد الفرس المجوس الذين يسعون لغزو العالم الإسلامي ونشر عبادة النار والظلام والنور بين أفراده.

لقد تبين بعد اعتذار الحكومات الخليجية لإيران المسلمة، بأن التيار السلفي كان مسيرا لخدمة هذه الحرب مدفوعا لخوضها دعما للحرب الشاملة لإيقاف مد الثورة، ومما زاد في الطين بلة، العلم بأن هذا التخطيط لتحريك التيار السلفي ضد الثورة وضد الشيعة إنما خطط له في داخل الغرف المغلة للدوائر الاستعمارية الغربية، وإنما كان نصيب علماء السلف " الوهابية " التنفيذ العملي، كما كان يفعل الجندي العراقي عندما يرسل القذائف صوب أهله وإخوانه في العقيدة. في الجانب الآخر من الحدود، دون أن يكون له أدنى مبرر عقلي أو واقعي لهذا العمل سوى تنفيذ أوامر القيادة.

ومما يؤكد سذاجة التيار السلفي وتهافت أصحابه وخدمتهم لمخططات

الصفحة 416
الاستعمار بشكل مجاني واعتباطي. ما سمعته بأذني قبل أزمة الخليج الثانية وأثناءها. فقد سمعت شريطا مسجلا لأحد أقطاب ودعاة التيار السلفي وهو شخصية معروفة وذائعة الصيت، إنه أحمد القطان السلفي الكويتي الذي أطنب في شريطه وأتى بألف دليل ودليل، والحرب مستعرة بين العراق وإيران على أن الإيرانيين كفار معتدون يجب إعلان الجهاد في سبيل الله ضدهم، وقد تصفح الخطيب صحيح البخاري مسلم وجاء بكل حديث يدعم دعواه وقد كنت أسمعه وهو يصيح بصوته الجهوري إني أتحدى من يأتيني بدليل خلاف ما أقول. كما يؤكد على أن مصدره هو البخاري، وعليه كان إعلان الجهاد ضد الكفار الإيرانيين من العقائد المسلم بها لدى أقطاب هذا التيار (78).

لكن ومن غرائب الصدف وبعد اجتياح صدام حسين للكويت، فتحت الإذاعة السعودية ذات مساء وإذا بهم يقدمون محاضرة لهذا الداعية السلفي الذي كان يصطاف في السعودية هو وغيره من سلفيي الكويت وتركوا الشيعة يحاربون صدام في الكويت دفاعا عن أرض الكويت وممتلكات أصحابها.

أقول سمعت تلك المحاضرة الرنانة فأصبت بالذهول وشعرت بالغثيان.

القطان هذا الرجل السلفي الذي كان يدعم الهجوم العراقي على إيران ويعتبره

____________

(78) من التناقض العجيب الذي يتخبط فيه رجالات السلفية، هو موقفهم في البداية من الثورة الإسلامية قبل أن يتبلور لدى الحكومات في الخليج موقف موحد تجاه الثورة والدولة في إيران. فقد هدد الشيخ عبد العزيز وهو سلفي كبير ووالد وزير الزراعة الدكتور عبد الرحمان آل الشيخ - في مطلع الثمانينات بالتحالف مع إيران التي كانت قد أعلنت جمهوريتها الإسلامية للتو ووجه خطابا إلى الإمام الخميني أشاد فيه بدعوته للوحدة بين فرق المسلمين، لكن العائلة المالكة سارعت إلى احتواء هذا التوجه، ومارس رجال العائلة الذين يتمتعون بمراكز حكومية ضغوطا عليه للكف عن دعاواه، كما أن الحكومة حذرت العلماء الآخرين من اللقاء به مما اضطره إلى الاعتزال في بيته في الرياض حتى وافاه الأجل ". أنظر مجلة الجزيرة العربية، عدد فبراير 1991 م، ص 41.

الصفحة 417
جهادا في سبيل الله. يقول بأن صدام حسين كافر وأنه حصل في الكويت على منشورات مكتوب فيها بأن صدام حسين قد كتب فيها أوصافه وأسماءه وعدها لتصل تسع وتسعين مرة وأنه كتب فوق هذا العدد اسمه " صدام " لإتمام المائة وكأنه يصف نفسه كما وصف الحق سبحانه وتعالى ذاته بأن له تسعة وتسعين اسما.

ويستطرد هذا الداعية السلفي بأنه حصل على تلك الأوراق التي يدعي فيها صدام حسين الألوهية، وغير ذلك مما جاء في المحاضرة مما لا أذكره الآن بالتفصيل. والنتيجة أنه ختم محاضرته بالدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، جهاد صدام والعراقيين، وطبعا تم استحضار صحيح البخاري ومسلم للتدليل على أن كلام الشيخ هو الحقيقة والصواب. وهكذا هي الحقيقة لدى السلفيين تنزع لباسها في الصيف من شدة القيض وتلبسه في زمهرير الشتاء، وتتلون في باقي الفصول وتتماشى مع الظروف والأحداث.

طبعا من تسرب لنفسه شك بعدم صحة ما نقلناه ما عليه إلا أن يبحث عن أشرطة هذا الرجل خصوصا التي كانت موجهة لدعم الحرب العراقية الإيرانية.

وعليه أن يستمع إلى محاضرة الشيخ التي بثتها الإذاعة السعودية بعد الغزو، فلا شك أنها سجلت على أشرطة ووزعت.

إن إيرادنا لهذه القصة، سببه الإشارة إلى ما وقع فيه التيار السلفي من تخبط أثناء الغزو العراقي للكويت، هذا التخبط الذي سيبلغ مداه عندما ستقرر الحكومة السعودية استقدام القوات العسكرية الأمريكية والأوربية لتحرير الكويت من الجيش العراقي.

استقدام الجيوش الغربية يفجر الصراع:

قلنا سابقا ونحن نستعرض أسباب الخلاف بين الدولة السعودية والإخوان الأوائل بأن التعاون مع البريطانيين " الكفار "، كان أحد أهم الأسباب المفجرة

الصفحة 418
للصراع والاختلاف بينهم. وإذا كانت المؤسسة السلفية التقليدية قد أغمضت عينها بعد ذلك عن التعاون السياسي العسكري الواسع النطاق بين الدولة السعودية والغرب متمثلا في أمريكا القوة الاستعمارية الجديدة وكذا بريطانيا.

فإن استخدام جيوش هاته الدول وفسح المجال لها لتحط رحالها على أرض الجزيرة العربية قد فجر الصراع هذه المرة بشكل حاد وجدي لدرجة أن المراقبين قد راهنوا على المواجهة المباشرة.

لقد وضعت الجيوش الغربية الجرارة التي بدأ أفرادها يجوبون مدن المملكة، التيار السلفي في وضع لا يحسد عليه أبدا، هؤلاء الذين يمسون ويصبحون على سب الكفار والمشركين من المسلمين ويعلنون القطيعة التامة مع الغرب الكافر. يجدون أنفسهم وقد أحيطوا بهذا الجيش الذي استقدمه " ألو الأمر " لكي يدافع عن دولة السلفيين من هجوم مرتقب قد يشنه العراق، ولا أعلم ماذا يطلق السلفيون على شعب العراق، هل ما زالوا يعتبرونهم كفارا ؟ لأن الأغلبية في الجنوب شيعية إمامية، أم مسلمين بغاة، لأن الحكومة سنية متعصبة ضد الشيعة وإن لم تكن سلفية بل بعثية لا تعير الدين أي اهتمام يذكر. مع العلم أن هجوم صدام حسين على الكويت جعله ينتقل في نظر السلفيين من الرئيس المؤمن الذي يدافع عن البوابة الشرقية للعالم العربي، إلى رئيس يدعي الألوهية ويجب إعلان الجهاد عليه وعلى بلده.

لقد كان موقف رجال الدين السلفيين عصيبا خصوصا عندما كان " المطاوعة " ورجال الدعوة منهم يصادفون النساء الأمريكيات يتجولن في سياراتهن أو على الأقدام وهن بالزي العسكري يحملن أسلحتهن ويستعدن للمعركة دفاعا عن أتباع السلف الصالح.

ومن الحكايات المضحكة التي تناقلها الناس في المنطقة الشرقية حيث تمركز الجيش الغربي. أن سلفيا من رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صادف في طريقه أمريكية سافرة بالزي العسكري فحاول إيقافها وأمرها

الصفحة 419
بأن تحتشم أي تغطي رأسها ووجهها فما كان من الأمريكية إلا أن ردت عليه مستهزئة، بأن عليه أن يرجع من حيث أتى لأنها هنا للدفاع عنه ولايقاف جيش صدام الذي إن دخل المنطقة فسوف يذهب بالنعيم والترف الذي ينعم فيه هؤلاء المطاوعة.

طبعا هذه حكاية في مقابل آلاف الحوادث التي وقعت والتي تدعو للبكاء من كثرة الضحك للمهازل التي وقعت هناك والتي لا يعلمها إلا القليل والتي أظهرت بوضوح المدى الذي وصل إليه الوعي الاجتماعي في بلد يتحكم في دينه وثقافته مجموعة من البدو لا يعرفون وهم على مشارف القرن الحادي والعشرين كيف يسير العالم من حولهم وكيف تدار عجلته ومدى التطور الحضاري الذي وصلته الأمم من حولهم. من هذه المهازل، سيارة الإنذار التي كانت تجوب الشوارع عندما يكون هناك خطر بإرسال العراق أحد صواريخه على المنطقة، ترى ماذا كان الشعب يفعل ؟ كان قسم منهم يركب السيارات ويتبع سيارة الإنذار، يتبعها أينما ذهبت، فترى طابورا وراء تلك السيارة، مما يبعث على السخرية والضحك.

لقد كانت حرب الخليج الثانية بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، والسكين الذي مزق الثوب عن عورة المؤسسة السلفية أمام العالم. فانكشفت هذه المؤسسة التي كان يتبجح رجالها بأن دولتهم " الوحيدة في العالم " التي يحكم الإسلام السلفي جميع مرافقها، وأنها من القوة والمنعة ما يثير حسد الشعوب والحكومات الإسلامية الأخرى.

وإذا كان الموقف تجاه استقدام القوات الأجنبية للدفاع عن الدولة قد أثار انقساما حادا داخل المؤسسة الدينية الرسمية وبين رجالها وأتباعها المشهورين (79)، فإن انقساما آخر سيسجل، بل إسفين سيدق في نعش

____________

(79) كان موقف الشيخ ناصر الدين الألباني وهو عالم سلفي متخصص بالحديث متشددا ضد التواجد الأجنبي في المملكة و " القصف الجوي ضد المسلمين المدنيين والمساجد في =

الصفحة 420
العلاقة بين الرجال التقليديين لهذه المؤسسة وبين التيار السلفي العام في الجامعات والشارع. وسيتجدد الاتهام بفقدان المؤسسة الدينية الرسمية استقلاليتها بحيث أضحت مجرد ختم تؤكد به قرارات الحكومات وسياستها. وعليه فإن هذا التيار المعارض سيغتنم فرصة انفجار الحرب في الخليج ليقدم احتجاجاته بقوة وليظهر على الساحة محدثا بعض المشاكل، مما أربك الحكومة وزاد من تخبطها.

لقد تعودت كل التيارات الفكرية والسياسية داخل المملكة ومن ضمنهم التيار السلفي، على وعود بتطوير الحياة السياسية داخل المملكة، كلما حل بالدولة مشكل ما يستدعي وحدة داخلية، وبالفعل استبقت الحكومة الأحداث وأعلنت عن الشروع في تأسيس مجلس للشورى. وأن الملك سيعين أفراده في القريب العاجل. لكن المراقبين للسياسة الداخلية السعودية يقولون بأن الإصلاحات السياسية تظل وعودا معلقة وموضوعة في الأرشيف، يتم استدعاؤها كلما دعت الضرورة. لكن شيئا عمليا لن يقع، لأن أي إصلاح سياسي سيكون على حساب الأسرة المالكة التي يستحوذ أفرادها على جل

____________

= العراق " ودعا إلى " الجهاد لتحرير الأراضي المقدسة في الحجاز من سيطرة القوات الأمريكية والأوربية " لكن أبو بكر الجزائري الواعظ (بالمسجد النبوي) والسلفي الكبير رد عليه بعنف في خطبة في مكة المكرمة واصفا إياه بأنه لا يرى الحقائق، وأنه أغمض عيونه عن أفعال صدام، كما أكد على دعمه لمواقف الحكومة السعودية وسياستها قائلا: إن النبي محمد عليه الصلاة والسلام قد استعان باليهود والنصارى في حروبه ضد المشركين وإن المملكة فعلت الشئ نفسه " أنظر مجلة الجزيرة، عدد فبراير 1991 م، ص 39.

وللقارئ أن يتصور مبلغ التهافت ! النبي يستعين باليهود والنصارى ضد المشركين ؟ وهل العراقيون مشركون ! ؟ الإيرانيون كفار ومجوس ! والعراقيون مشركون ! ولا بأس من استقدام الأمريكان والأوربيين لمحاربة الكفار والمشركين ولكن ما بال السوريين والمصريين والمغاربة الذين شاركوا في الحرب ضد صدام، لا شك أنهم ليسوا سلفيين على عقيدة محمد بن عبد الوهاب وعليه فالكل يدخل في خانة الكفار والمشركين. النتيجة أن الكل في خدمة " المسلمين السلفيين " الذين لا يحسنون الدفاع عن أنفسهم بل المضحك قول بعضهم الحمد لله الذي سخر لنا أمريكا ! !.

الصفحة 421
الناصب المهمة، سواء في عالم السياسة أو الاقتصاد. لذلك لا أمل في أي إصلاح سياسي في الأمد القريب على الأقل. كما أن الفئات المنادية بالإصلاح إنما تنشد هذا التغيير الذي يقلص من مسؤوليات أفراد العائلة السعودية ويفسح المجال أمام أبنا الشعب، وأصحاب الكفاءات لتولي بعض المناصب المهمة.

مذكرة النصيحة:

في خضم هذا الوضع المتفجر قامت مجموعة من علماء وأتباع التيار السلفي وخصوصا المتنورين منهم بتقديم " مذكرة النصيحة " (80). تحمل تواقيع أكثر من مائة من العلماء وأئمة الجمعة والدعاة وأساتذة الجامعات وقد رفعت المذكرة إلى الملك بعد أن اطلع عليها الشيخ بن باز والشيخ بن جبرين وعدد آخر من المشايخ السلفيين مثل الشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان بن فهد العودة والشيخ عبد الله الجلالي، الذين قاموا بتزكيتها بعد تعديل بعض فقراتها قبل أن يقوم الشيخ بن باز الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بتزكية المذكرة ومن ثم رفعها إلى الملك.

تقع المذكرة في 45 صفحة وتحتوي على عشرة موضوعات وهي على النحو التالي:

1 - دور العلماء والدعاة.

2 - الأنظمة واللوائح.

____________

(80) تعتبر هذه المذكرة الوثيقة الثانية التي أصدرها التيار السلفي مطالبا بالإصلاح. ففي شهر مايو 1991 رفع الشيخ بن باز " عريضة الإصلاح " وقع عليها أكثر من خمسمائة شخص وكانت هذه الخطوة بداية المعارضة العلنية والمفتوحة بين السلفيين والحكومة. لكن الحكومة استطاعت أن تحتوي الأمر بسرعة مما قلل من تداعياته الإعلامية عكس ما وقع مع " مذكرة النصيحة ".

الصفحة 422
3 - الإعلام.

4 - حقوق العباد.

5 - الوضع الإداري.

6 - المال والاقتصاد.

7 - العلاقات الخارجية.

8 - القضاء والمحاكم.

9 - المرافق الاجتماعية.

10 - الجيش (81).

انطلقت " مذكرة النصيحة " من الخطاب الذي وجهه الملك بمناسبة صدور " الأنظمة الثلاثة "، حيث أكد الملك على أن مصدر التشريع في المملكة هو الإسلام وأن علاقة المواطنين بولاة الأمر تحكمها تقاليد عريقة. وأن مجالس الملك وولي عهده مفتوحة لكل المواطنين لعرض مشاكلهم وما يعانون منه.

لذلك وامتثالا - تقول المذكرة - لأوامر الله بالتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق، واستجابة لما جاء في توجيهكم لأمتكم ؟ وأمرتم به من أنظمة، وانطلاقا من مسؤولية النصح لولاة الأمر نتقدم بهذه " النصيحة " التي تتضمن عرضا لبعض القضايا الملحة لواقع بلادنا في هذه المرحلة كما يضمن بها اقتراحات تهدف إلى تحقيق معالجة هذه القضايا وإصلاحها بما يكفل تحقيق ما يسعى إليه الجميع حاكما ومحكوما من خير ورشد لهذه البلاد وأهلها (82).

لقد اشتملت هذه النصيحة على مختارات من القضايا إذا عولجت علاجا صحيحا شرعيا من ولاة الأمر تيسر بعد ذلك معالجة سائر المسائل دونها في

____________

(81) مجلة الجزيرة العربية، العدد 21 أكتوبر 1992 ربيع الثاني 1413، دراسة لعبد الأمير موسى، بعنوان " مذكرة النصيحة "، ص 35.

(82) مذكرة النصيحة، م س، ص 36.

الصفحة 423
الأهمية والخطورة، وتضمنت عرضا ونصائح لسبل الاصلاح لهذه القضايا (83).

المذكرة تتنقد الوضع العام في البلد:

إن أول ملاحظة يمكن للقارئ أن يسجلها وهو يتصفح هذه المذكرة، هي تعريتها ووصفها لواقع هذا البلد الذي يملك إمبراطورية إعلامية تجعل الإنسان يؤمن بالظلام وحلكة الليل وهو في عز الظهر والشمس ساطعة، لكثرة الدجل والمكر وتشويه الحقائق. لكن هذه المذكرة جاءت لتحدث ثقبا في هذا البالون المنتفخ، ولو جاءت المذكرة من مصدر معارض غير السلفيين لقيل عنه إنه محض افتراء وكذب ومن مجموعة مغرضة حاقدة تحركها أياد أجنبية تحسد المملكة على الوضع الأمني والازدهار الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيش فيه. لكن الحقيقة هذه المرة خرجت مدوية من قلب النظام، وعبر حنجرته ولا أظن أحدا يشك في ولاء ابن باز للدولة السعودية وهو الذي اطلع على المذكرة وركاها، بل تكفل بإيصالها لأولي الأمر. من جهة أخرى: يلاحظ المتابعة والإحاطة بوضع البلد بشكل متميز مع تشريح الواقع، يظهر المدى الذي بلغه رجال هذا التيار من نضج ووعي بخلاف أسلافهم. كما أن المواضيع التي تعرضت لها المذكرة جاءت شاملة وكأنها برنامج إصلاحي حزبي متكامل. هذا البرنامج الذي لا يتهم الدولة بالقصور فقط بل يتضمن تعريضا بانحراف سياسة الدولة خصوصا الداخلية عن المطلوب.

العلماء والدعاة مهمشون:

تكلمت المذكرة عن دور العلماء والدعاة بشئ من التحسر والأسى وكيف أنهم مبعدون عن أداء واجبهم وأن مكانتهم الواقعية تكاد تنحو إلى

____________

(83) المذكرة، ص 37.

الصفحة 424
التهميش. مع أن المفروض أن " يكونوا في مقدمة أهل الحل والعقد والأمر والنهي وإليهم ترجع الأمة حكاما ومحكومين لبيان الحكم الشرعي لسائر أمور دينهم ودنياهم " (84) والحقيقة أن ما جاء في المذكرة بخصوص دور العلماء، إنما يعبر عن نجاح الدولة في تهميش المؤسسة الدينية بشكل عام. وذلك بشكل تدريجي يمكن أن يكون قد بدأ بعيد المواجهة الأولى مع الإخوان، وشعور الأسرة المالكة بخطورة رجال الدين على الملك.

لذلك فقد ذهبت المذكرة بعيدا لتأكيد هذه الحقيقة. عندما يقول كاتبوها:

" ويندر أن يستشاروا - أي العلماء - في قرارات داخلية أو خارجية هامة تحتاج إلى أحكام الشريعة وقواعد الإسلام التفصيلية حتى تكون صحيحة مشروعة، وقد لا يستجاب لفتاويهم إذا تعارضت مع توجهات قائمة لهذه القطاعات والأجهزة بل قد لا يسمح بنشرها. وكل ذلك ينبئ وقد يؤدي إلى فصل الدين عن واقع حياة الناس وعزله عن التأثير في معاشهم وما قد يترتب على ذلك من أثر خطير يهدم الأصل الذي إنما قامت الدولة له من الدعوة للإسلام وتطبيق أحكامه (85).

وإذا أضفنا النقاط التي ذكرتها المذكرة مثل عدم استقلالية العلماء عند قيامهم بواجبهم الشرعي، والحساسية المفرطة تجاه النصح التوجيه، مما أدى إلى التضييق على الدعوة والدعاة. وظهور أساليب لم تكن معروفة في سلف هذه الدولة من فصل الدعاة أو عزلهم أو منعهم من القيام بواجبهم في كثير من الأحيان.

بالإضافة إلى قصر وسائل الإعلام في الموضوعات التي تنشر أو تكتب من طرف العلماء على المواعظ العامة والقضايا الجزئية وإحكام الرقابة على كل ما ينشر. كما أن رسالة المسجد أصبحت مقيدة بالوعظ العام، مع المنع من

____________

(84) مذكرة النصيحة، ص 37.

(85) المذكرة، ص 37 - 38.

الصفحة 425
التطرق إلى القضايا العامة التي تهم المسلمين. وعليه تكون الصورة قاتمة ومتشائمة لوضع المؤسسة الدينية ورجالها داخل الدولة. وهذه صدمة لا يتحملها من يعتقد بأن المؤسسة الدينية ورجالها يسيرون الوضع داخل المملكة ويتحكمون في مجريات الأمور. لذلك طالبت المذكرة " برفع كافة القيود والتعليمات التي تحد من نشاطات الدعاة والعلماء والسماح لهم بالتأليف والنشر والفتاوى والخطابة والمحاضرات وتسجيل الأشرطة وعقد الندوات والحلقات العلمية دون حاجة إلى ترخيص أو إذن رسمي من وزارة الإعلام أو الأوقاف أو غيرها من أجهزة الدولة (86).

كما طالبت المذكرة بتحقيق مزيد من الاستقلالية عن أجهزة الدولة. لكن المطلب المهم والخطير والذي سيثير الكثير من التساؤلات هو تأكيدهم على " عرض جميع الأنظمة والمعاهدات المراد سنها، قبل إقرارها على هيئة كبار العلماء للتأكد من مطابقتها لقواعد الشريعة وأحكامها، وهذا المطلب لا شك أنه سيؤدي إلى أسلمة " على الأقل بالمفهوم الوهابي للإسلام " الدولة وقراراتها الداخلية والخارجية، وهي إشارة إلى أن كثير من القرارات والمعاهدات التي سنتها الدولة وعملت بمقتضاها لا تتطابق مع الشرع.

وعليه فإن: " دستور الدولة القرآن والسنة " يبقى مجرد شعار إعلامي لا غير. لكن الطريف في هذه المطالب هو دعوتهم الحكومة إلى فتح المجال أمام الدعاة والعلماء من خارج المملكة لإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات الدينية والمؤتمرات والحلقات العلمية والمنتديات. وتسهيل إجراءات قدومهم بما يحقق التفاعل والتعاون بين علماء البلاد " وإخوانهم من العالم الإسلامي " (87).

لا شك أن هذا المطلب وجيه جدا لأنه دعوة للتعرف على فكر علماء الإسلام خارج المملكة. وقد ذكرت المذكرة " العالم الإسلامي "، فهل غير

____________

(86) المذكرة، ص 38.

(87) المذكرة، ص 38.

الصفحة 426
السلفيون رأيهم تجاه المسلمين الذين كانوا قبل ذلك كفارا ومشركين، الواقع إن معرفتهم بالعالم الخارجي سواء في الجامعات أو المؤتمرات وحتى في موسم الحج قد جعلت المتنورين منهم يراجعون أنفسهم ويعترفون بإسلام المسلمين.

رغم الاعتراضات التي تظل قائمة.

والمهم هو أن هذا التطور بادرة جيدة كما أن طلبهم بفسح المجال أمام علماء الإسلام لدخول المملكة يعني استقدام وعي جديد ومعرفة واطلاع بعيدا عما هو موجود داخل المملكة. ولا شك أن هذا المطلب ينذر بتغيرات عميقة داخل هذا التيار لا تكون بالضرورة في صالح الدولة.

كما تعرضت المذكرة في هذا الباب إلى عدة مقترحات لتشجيع الدعوة إلى الإسلام داخل البلد وأن تقوم السفارات خارج البلد بدور دعوي بالإضافة إلى زيادة الدعم للهيئات والمؤسسات الدينية الدعوية.

المذكرة تدعو للتحاكم إلى شرع الله:

بالنسبة لمسألة الأنظمة واللوائح، أكدت المذكرة على أن يتم التحاكم إلى شرع الله في كل مرافق الدولة وأن تلغى كل القوانين والإجراءات التي تخالف الشريعة. وبعد عرض مسهب لأنواع الأنظمة تعترض المذكرة على بعض القوانين التي جاءت بها كمثال لمخالفة الشرع. هذا المثال الذي يخص قانون قيام الشركات والذي قنن بعض الأشكال وجعلها شرعية، مع إلغائه أشكالا أخرى للتشارك وعدها غير قانونية، مع أن الحكم بجواز عمل أو حرمته إنما يصدر عن استنباط واجتهاد إسلامي " لذا فإن الرجوع إلى القانون الجنائي الفرنسي لأحكام العقوبات أو القانون المصري لأحكام الشركات مثلا والحكم بها بين الناس لا يجوز مطلقا سواء وافقت الشرع أو خالفته لأن الرجوع إليها تحكيم للطاغوت وإيمان به ويحصل به الضلال البعيد، والكفر

الصفحة 427
والفسق أو الظلم والعياذ بالله لمن فعل ذلك " (88).

تستمر هذه اللهجة الساخطة والقوية في تحليل بعض الأمثلة من الأحكام والقوانين التي تخالف الشريعة، وعليه فإن شعار " دستورنا القرآن والسنة " يصبح بلا معنى لأن التحاكم الواقعي والفعلي إنما هو للدساتير الأجنبية.

الدولة بتطبيقها لقوانين غير إسلامية " تحرم بعض المباح أو تعلق فعله على إذنها وترخيصها " والنتيجة التي تخلص إليها المذكرة بعد الشرح وعرض الشواهد:

" إن معظم الأنظمة تتضمن أحكاما تشريعية منقولة عن مصادر قانونية عربية أو غربية في بلاد أخرى لا تحكم الشرع في شرائعها. فنظام الأوراق التجارية منقول عن نظام جنيف للأوراق التجارية ونظام الشركات نصت مذكرته التفسيرية على أنه مستمد من الصالح من أحكام أنظمة الدول الأخرى، نظام العمل والعمال منقول عن الاتفاقيات والأنظمة الدولية العمالية، ونظام مكافحة التزوير يتشابه في كثير من مواده وتعابيره مع القوانين الأوربية وعلى الأخص الألمانية والفرنسية...

ولذا فإن الأنظمة الحالية مستمدة في أغلبها من مصادر لا تحكم الشرع الإسلامي أصلا. وهذه المصادر لا يجوز الرجوع إليها بحال لمن آمن بالله تعالى ربا له الحكم والأمر وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا مشرعا، ولذا فإن كل ما نقل منها يعد تحكيما لغير الشرع ومخالفة صريحة له نظرا لعدم استناده إلى الأدلة الشرعية، وعدم استنباطه وإرجاعه إلى ما شرع الله تعالى بالاجتهاد الشرعي الصحيح (89).

وإذن فقد اكتشف السلفيون فجأة أنهم يعيشون في دولة علمانية كباقي الدول العربية الأخرى. وإنما كان وما يزال عملهم مقتصرا على الدعوة إلى إرخاء اللحى وتقصير الثياب حتى يلتقيا. وإشاعة الفتن المذهبية ونشر عقيدة

____________

(88) المذكرة، ص 39.

(89) المذكرة، ص 40.

الصفحة 428
التجسيم. أما أنهم يعيشون في دولة إسلامية كما يدعون فمحض سراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء ؟ !. لكن وللحقيقة نقول إن عرضهم للقضايا الاقتصادية ومجالات الحياة العامة بالتحليل والنقد يعتبر بادرة مهمة، ستوقظ الدولة السعودية من غفوتها لأنها ستكتشف إن ضباب السذاجة بدأ في الانجلاء عن أعين السلفيين، وإن المتنورين منهم يمكنهم أن يراقبوا حركات وسكنات الدولة. ولن تنطلي عليهم بعد اليوم الموجات الإعلامية التي تزيف الحقائق وتذري الرماد في العيون.

أما في ما يخص مسألة القضاء والمحاكم، فقد أكدت المذكرة على " حصر الحكم في القضاء بشرع الله " وتجنب الازدواجية في القضاء لأن ذلك أدى إلى عزل القضاء الشرعي عن النظر في كثير من القضايا المالية وغيرها من المعاملات. كما أن القضاء الشرعي يعاني من عدم الاستقلالية، مما جعل بعض جهات الدولة تلغي الكثير من الأحكام الصادرة عنه بحجة عدم الاختصاص خصوصا وزارة الداخلية التي ذكرتها المذكرة بكثير من الحذر والريبة. وفي الأخير أشارت المذكرة إلى افتقار المحاكم الشرعية إلى التجهيزات اللازمة لأداء واجبها بفاعلية.

مقترحات المذكرة:

أما المقترحات التي قدمها السلفيون لإصلاح هذا الميدان فكثيرة نذكر منها: تأكيدهم على منع الازدواجية وإرجاع جل القضايا إلى المحاكم الشرعية دون سواها. ضمان استقلالية القضاء برفع جميع القيود والأنظمة والتعليمات التي تقف دون تحقيق ذلك. كما طالب المذكرة برفع مستوى المجال القضائي وتطويره وذلك " بإيجاد دورات شرعية للقضاة دورية يقدمها علماء شرعيون ذو أصالة واجتهاد شرعي وأهل تجربة وأهلية من القضاة، وتتولى وزارة العدل بالتعاون مع الكليات الشرعية الإشراف عليها. وتعرض فيها أحكام الفقه ذات

الصفحة 429
العلاقة وأدب القضاء وتبين فيها قواعد الأحكام وأصول تنزيلها، وأدلة الأحكام الشرعية لدى المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة ومقارنة أدلتها.

وذلك بهدف رفع المستوى الفقهي للقضاة (90).

وهذا المطلب الأخير يؤكد ما قلناه سالفا من أن وراء المذكرة سلفيين متنورين. لأنهم يطالبون صراحة بالاطلاع على المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة، وهذا اعتراف بإسلام أصحابها كما أن هناك حاجة إلى ضرورة توسيع الأفق الفكري الإسلامي العام بدل التقوقع في إطار المذهب الحنبلي بصيغته الوهابية وما أضافه ابن تيمية.

بل يمكننا أن نجزم بأن النضج والتطور الذي عرفه العقل السلفي من خلال هذه المذكرة إنما سببه الانفتاح على الفكر الإسلامي العام الذي عرفه السلفيون داخل الأوساط الجامعية المنفتحة والمتنوعة. فلو رجعنا إلى زعماء السلفية التقليديين لوجدنا أن ناصر الدين الألباني مثلا يصف الفقه الحنفي بأنه " إنجيل محرف " كما أن الموقف العام من المذاهب الفقهية السنية هو رفضها وعدم اعتبار ما توصل إليه أصحابها من اجتهاد في الفروع والأصول.

ومن أهم ما جاء في المذكرة بخصوص القضاء هو الدعوة إلى إنشاء " محكمة دستورية شرعية يرجع إليها في القضايا الكلية وكل ما يضمن هيمنة الشرع وسيادته على الأمة والدولة (91)، ونعتقد إن هذه الفكرة مقتبسة من الإيرانيين الذين أسسوا هيئة من كبار العلماء والفقهاء مهمتها مراقبة القوانين والأنظمة التي تصدرها الهيئات التشريعية المختلفة في الدولة لضمان عدم مخالفتها للشريعة.

____________

(90) مذكرة النصيحة، ص 43.

(91) المذكرة، ص 43.

الصفحة 430

تحديد صلاحيات وزارة الداخلية:

" ولضمان وتمكين القضاء الشرعي من حراسة وحفظ حقوق الناس من التجاوزات على حقوق الإنسان الشرعية، يجب أن تبسط هيمنة القضاء الشرعي على رجال الشرطة والأمن ونواب الهيئات ومن في حكمهم، وذلك بأن تحصر قرارات إصدار أحكام بالسجن أو التوقيف لمدة تتجاوز يوما وليلة، وكذلك دخول المنازل أو القيام بعمل يترتب عليه إهدار حق من حقوق الإنسان المقررة شرعا من قبل أجهزة الضبط الجنائي أو رجال الهيئة أو غيرهم من المتنفذين، على صدور حكم بها من قاضي شرعي بذلك، وأن يمنع مطلقا كل ذلك إلا بحكم القضاء الشرعي (92).

وهذا المطلب يتعارض صراحة مع ما تقوم به وزارة الداخلية من أعمال منافية لحقوق الإنسان، كما يتضمن إشارة إلى ما وقع لبعض الدعاة الذين تعرضوا للتفتيش وبقوا في الحجز مدة طويلة دون أن تعرض قضيتهم على المحاكم الشرعية.

الدفاع عن حقوق الإنسان وصيانتها:

ليست هذه هي المرة الوحيدة التي ستتعرض المذكرة لبعض حقوق الإنسان، بل إن فصلا كاملا ستخصصه المذكرة للكلام عن " الكرامة والحقوق الإنسانية "، وبيان موقف الشريعة من الحقوق الإنسانية. وأن الوضع الحالي لهذه الحقوق داخل المملكة يعرف انتهاكات خطيرة، فبعض موظفي الدولة والقضاة وأساتذة الجامعة يتعرضون للفصل أو تجمد رواتبهم أو ينقلون إلى مناطق نائية دون محاكمة والسبب يكون في أمرهم بالمعروف أو نهيهم عن المنكر. كما أن العديد من الدعاة والخطباء يمنعون من المساجد. بل قد يحتجزون دون محاكمة ومنهم من يمنع من السفر وتسحب جوازاتهم.

____________

(92) المرجع نفسه، ص 43.

الصفحة 431
أما الأجهزة الأمنية فإنها تقوم كما تقول المذكرة: " بالتجسس والتصنت وتفتيش المنازل وفتح الرسائل والتعدي أحيانا بالضرب والعدوان وتعذيب المتهم، مخالفة في ذلك النصوص الشرعية القطعية من الكتاب والسنة، المحرمة لهذه الأفعال (93). وبالجملة فإن وضع حقوق الإنسان الذي تصفه المذكرة يؤكد ويدعم التقارير التي تصدرها الهيئات العالمية لحقوق الإنسان والتي تخص المملكة. كما يشهد بصحة ما تقوله وتكتبه المعارضة الوطنية والشيعية بالخصوص.

تقول المذكرة: " إن الدولة التي ترفع لواء العقيدة الإسلامية وتطبيق شريعة الإسلام يلزمها الرجوع إلى شرع الله وحده لإقرار حقوق الناس فلا يسعها أن تقرر حقوقا للمواطنين أو الوافدين بها استنباطا من التشريعات الوضعية، ولا أن تجعل حقوق العمال نابعة من قواعد الاشتراكية، ولا أن تقرر وتمنع حقوق المرأة أو الأسرة اتباعا للفكر الرأسمالي الليبرالي أو العادات والتقاليد الجائرة المخالفة للشرع (94)، بل الواجب في كل ذلك الرجوع إلى شرع الإسلام وحده وتحكيمه وانقاذ كل ما قرره من حقوق للعباد (95).

مقترحات لتحسين الوضع الحقوقي:

وبعد عرض لواقع حقوق الإنسان في المملكة وأمثلة للخروقات القائمة، تقدم المذكرة عدة مقترحات لتحسين الوضع الحقوقي الإنساني، بل إنها تؤسس بالفعل لمشروع نظام حقوقي ثم عرضه في أربعة عشر نقطة نذكر منها:

____________

(93) مذكرة النصيحة، ص 45.

(94) هناك قوانين مجحفة بحق المرأة مثل منعها من سياقه السيارة، أو الزواج بغير السعودي، وكذا العمل والسفر، وغير ذلك مما لا أساس له في شريعة الإسلام.

(95) المذكرة، ص 44.

الصفحة 432
1 - إلغاء كافة التعليمات والأوامر، والأحكام في الأنظمة وفي لائحة الادعاء والتحقيق ولائحة التوقيف على الأخص، التي تجيز التعدي على حقوق الأفراد من منع من السفر، ومن تصنت أو تجسس على الرسائل والمكالمات أو تفتيش البيوت هدف إفادة التحقيق، والحظر التام لارتكاب هذه الأعمال إلا في الأحوال المخصوصة التي أجازها الشرع بالدليل الصحيح وبعد صدور حكم قضائي شرعي.

2 - المنع المطلق لكل تصرف ينجم عنه تعذيب المتهمين أو استخدام وسائل محرمة تنتهك فيها كرامة الإنسان لانتزاع المعلومات منهم قسرا أو إجبارهم على الاعتراف من قبل أفراد شرطة الأمن أو الضبط الجنائي.

3 - التعميم على كافة الإدارات الحكومية والأجهزة الأمنية وأجهزة الضبط الجنائي المتعددة بالامتناع عن سجن أو إيقاف أي شخص مدة فوق يوم وليلة، أو تفتيشه أو دخول بيته أو منعه من السفر إلا بناء على أمر وإذن قاض شرعي في ذلك.

4 - تكوين لجنة عليا مستقلة عن الأجهزة الحكومية للحقوق الشرعية ترتبط برئيس مجلس الوزراء مباشرة، يكون أعضاؤها من عدد من القضاة والعلماء والمفكرين المتميزين في دراسات وفقه الحقوق الشرعية. ويناط بهذه اللجنة الإشراف على ضمان عدم انتهاك حقوق الأفراد الشرعية من قبل الأجهزة الأمنية أو الحكومية، والمراجعة الشاملة للتعليمات والأنظمة أو التصرفات التي نجم عنها انتهاك للحقوق الشرعية المشروعة والرفع عن كل مخالفة شرعية في ذلك لإلغائها أو إحالتها إلى القضاء الشرعي المختص.

وهذا مطلب مهم جدا لأنه سيقلص من صلاحيات وزارة الداخلية ومن سلطة المخابرات بالتحديد لأنها، هي موضوع انتهاك حقوق الإنسان. هذه الحقوق التي سيتمكن الفقهاء والمفكرون من تحديدها. وكذا تجريم المتهم، أو إعلان براءته. فلا شك أن منطلقات رجال الفكر والفقه تختلف عن منطلقات

الصفحة 433
رجال الأمن أصحاب المهام التنفيذية فقط.

5 - إزالة الأنظمة والتعليمات التي تمنع الأفراد وتشترط الترخيص لهم قبل ممارسة حقوقهم المشروعة التي أباحها الشرع من نكاح أو سفر أو تعبير عن رأي، أو تكوين الجمعيات الدعوية أو نشاط النشر والتأليف والتوزيع وقصر المنع من ممارسة هذه الحقوق أو العقوبة عليها عند الاقتضاء على حكم القضاء الشرعي.

وفي هذا البند إشارة إلى مشكل يعاني منه المواطنون كافة داخل المملكة باستثناء أعضاء الأسرة المالكة وهو تحريم الزواج من النساء العربيات من غير الخليجيات إذ لا يسمح القانون بإدخالهم إلى الدولة إلا بعد إجراءات طويلة وعريضة أهمها إيصال رشوة " مبلغ مهم من المال " إلى أحد الأمراء كي يحصل المرء على تسريح بدخول المرأة لذلك تجد الكثير من المواطنين السعوديين يتزوجون من سوريات أو لبنانيات أو مصريات أو من شمال إفريقيا ويتركون زوجاتهم في أوطانهن الأصلية ويكتفون بزيارتهن بين الحين والآخر.

ولست أدري من أين استمد النظام السعودي هذا القانون، فالأنظمة القانونية المنظمة للعلاقة الزوجية عند الغربيين " الكفار "، لا تمنع من التحاق الزوج أو الزوجة ببعضهما البعض في أي موطن يختار أحدهما الإقامة فيه بحكم عمله أو غير ذلك. لكن الدولة التي تتخذ القرآن دستورا لها تمنع من التحاق الزوجة بموطن إقامة زوجها.

والذي يجب أن يعلم وقد علمه جل المتنورين والسلفيين وغيرهم هو أن قصور الأمراء تعج بالنساء العربيات والمسلمات وغيرهن من كل بلد عربي أو إسلامي وكذا جنسيات متعددة. إما على شكل زوجات شرعيات أو خادمات أو وصائف وجواري، ويظهر ذلك جليا عندما يعرف في بعض المناسبات إن أم الأمير الفلاني لبنانية أو سورية أو مصرية أو غير ذلك.

وأخيرا ينتهي فصل الحقوق الإنسانية بمطلب مثالي لا يمكن تحقيقه في أي

الصفحة 434
دولة عربية أو إسلامية وهو " تقديم دورات شرعية لرجال الأمن والمحققين والمباشرة لأعمال الاحتجاز لتعليمهم الأحكام الشرعية في مسائل التحقيق والأدلة والبينات وحقوق المسلم وأصول التعاون بين المتهمين (96).

والسبب في إستحالة تحقق مثل هكذا مطلب هو حرص وزارات الداخلية في العالم الإسلامي على استخدام نوعيات من الأفراد أهم ما يجب أن يتصفوا به، بساطة وضعف إلتزامهم بالدين والأخلاق (الأخلاق الفاضلة بالمفهوم الإسلامي التقوي). كما أن أصحاب المهام الأمنية الخطيرة كمواجهة ما يسمونه الحركات الأصولية المتطرفة، يتلقون تدريباتهم في الخارج على يد أجهزة المخابرات العالمية - الغربية بالخصوص -. كما أن هناك تعاونا وثيقا بين هذه الأجهزة في العالم الإسلامي ونظيراتها في أوربا وأمريكا. ويا حبذا لو تعومل المختلفة في أوربا وأمريكا مع مواطنيها ؟ !.

لقد حاولت قد المستطاع أن أقرب القارئ من مجمل مضمون المذكرة السلفية، لأن الوضع لا يسمح بإيرادها كاملة، كما تعمدت نقل الكثير من نصوصها. وذلك لإعطاء القارئ فكرة جلية عن مدى التطور الذي عرفه قطاع من التيار السلفي العام، ليس فقط في قدرته على متابعة ما يقع داخل المملكة ولكن في قدرته على وضع الحلول وشرحها ووضعها في برنامج منظم ومتكامل، وإذا بحثنا عن السبب وراء هذا التطور ! يكفي أن نعرف أن من بين مائة وسبعة من العلماء والفقهاء والخطباء والأساتذة الذين وقعوا على هذه المذكرة وساندوها ثلاثة وأربعون دكتورا في مختلف الاختصاصات.

لهذا كنا نؤكد قبل قليل بأن وراء المذكرة نخبة سلفية متنورة وبعيدة عن طريقة وعقلية السلفيين القدامى ومن بينهم ما يسمونهم " كبار العلماء " فابن باز مثلا زعيم هؤلاء الكبار وموضع ثقة الحكومة لم يكتب هذه المذكرة، وإنما

____________

(96) المرجع السابق، ص 45.

الصفحة 435
لم يجد فيها ما يخالف الواقع فزكاها وتقبلها بقبول حسن ووعد بإيصالها إلى المسؤولين. وهذا لا يعني أن ابن باز لا يعرف الوضع الحقيقي الذي تعيشه البلد قبل انفجار أزمة الخليج الثانية واستقدام الجنود الغربيين إلى المملكة.

ولكنه وحسب ما نقل عنه " يعلم بما تفعله الحكومة مما يخالف الدين، لكنه يعتقد أن مسؤوليته الراهنة هي الصمت تجاهها حتى لا يوفر لها الفرصة التي تبحث عنها لتحجيم قوة المتدينين (97).

لكن التيار السلفي المتنور وجدها فرصة مؤاتية للصراخ والتنديد وعرض المطالب، بدل الصمت، وبذلك انقسم السلفيون عامة إلى قسمين تتجاذبهم الانتقادات والصراعات، خصوصا لما علم بصدور المذكرة وتحركت الحكومة لاحتواء الموقف واستنجدت بأعضاء المؤسسة الدينية للرد على المذكرة وعلى أصحابها، وإذا كان ابن باز قد أرسل رسالة إلى الموقعين على المذكرة يؤيد ما يذهبون إليه. فإن الحكومة ستدفعه ومعه هيئة كبار العماء للرد على " مذكرة النصيحة "، وهذا لعمري مبلغ التهافت والخنوع وفقدان الاستقلالية لدى رجال يرفعون شعار التوحيد والعبودية لله وإن لا خضوع ولا طاعة إلا لله.

ومع ذلك يرمون بأنفسهم في هوة سحيقة لا قرار لها.

تهافت المواقف السلفية:

لقد اجتمع مجلس هيئة كبار العلماء بالطائف في ربيع الأول سنة 1413 ه‍ وأصدر بيانا يشجب فيه هذه المذكرة المرفوعة إلى " خادم الحرمين الشريفين ". يقول البيان: " وبعد تأمل مذكرة النصيحة ومناقشتها رأى المجلس إصدار هذا البيان الذي يستنكر به ما اشتملت عليه هذه المذكرة من الباطل وما هو خلاف الواقع وطريقة إعدادها ونشرها، وقد عمل معدوا هذه المذكرة.

____________

(97) مجلة الجزيرة، عدد فبراير 1991 م، دراسة لتوفيق الشيخ، ص 38.