الصفحة 556
يقول صائب عبد الحميد: إن الجمود على ما يفهم من ظاهر اللفظ لأول وهلة يعد أكبر الخطأ، وليس هو شأن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم. ففي قوله تعالى * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * هل قال أحد أن الحبل هنا هو ما نفهمه من لفظ الحبل. فعلينا أن ننتظر حبلا بأوصاف خاصة يتدلى من جهة الفوق كما يريد الحشوية، لنعتصم به ؟ !.

إنهم أجمعوا هنا على تأويل الحبل بمعاني أخرى، فقالوا: هو الإسلام أو القرآن، أو الثقلان كتاب الله وعترة رسوله، اللذان ورد الأمر بالتمسك بهما.

إن من ينكر ضرورة التأويل في أمثال هذه الألفاظ فقد ارتكب جهلا وخطأ كبيرا.. وإن من ينكر تأويل السلف لآيات الصفات فقد افترى عليهم فرية كبيرة (42).

وعلى ذكر الصحابة وأهل البيت لا بأس من أن نختم كلامنا في هذه القضايا الشائكة. بكلام سيد العارفين وأمير الموحدين والمنزهين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي يقول في خطبة الأشباح: " الحمد لله الذي لا يفره المنع والجود، ولا يكديه الإعطاء والجود، إذ كل معط منتقص سواه، وكل مانع مذموم ما خلاه، وهو المنان بفوائد النعم..

الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شئ قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شئ بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال.

فانظر أيها السائل: فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضئ بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه. فإن ذلك منتهى حق الله عليك، واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيب، ولا تقدر عظمة الله (42) ابن تيمية في صورته الحقيقية، الغدير، بيروت ط 1 1995 م، ص 20.

الصفحة 557
سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين.

إلى أن يقول: " فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك، وكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: * (تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) * كذب العادلون بك. إذ شبهوك بأصناهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزأوك تجزئة المجسمات بخواطرهم. وقدروك على الخلقة المختلفة القوى، بقرائح عقولهم. وأشهد أن من ساواك بشئ من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك، وإنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول، فتكون في مهب فكرها مكيفا، ولا في رويات خواطرهم فتكون محدودا مصرفا (43).

***

____________

(43) نهج البلاغة، الخطبة 91، باختصار، تعرف بخطبة الأشباح. خطبها عليه السلام على منبر الكوفة وذلك أن رجلا أتاه فقال له: يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثلما نراه عيانا لنزداد له حبا وبه معرفة. فغضب ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله ثم قال: الخطبة.

الصفحة 558

التوحيد أو الشرك

التوحيد عقيدة الإسلام:

إتفق المسلمون بجميع طوائفهم على ضرورة التوحيد، لأن دعوة الأنبياء إنما جاءت لتؤكد التوحيد وتنفي الشرك والشريك مع الله سبحانه وتعالى.

الذي * (ليس كمثله شئ) * وله الأسماء الحسنى. وإذا كان علماء الإسلام قد فصلوا في مباحث التوحيد وعدوا مراتبه، فإن الخلاف قد نشأ في فهم بعض هذه المراتب. وعلى رأسها التوحيد في " العبادة "، الذي يعتبر اليوم أساس النزاع بين السلفية ومخالفيهم من أهل السنة والإمامية.

أما مراتب التوحيد التي ذكرها العلماء في مباحثهم فهي:

1 - التوحيد الذاتي: ومصداقه قوله تعالى: * (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) * سورة الإخلاص.

2 - التوحيد في الخالقية: والمقصود به أن الخالق والفاعل الحقيقي والأصيل هو الله سبحانه وتعالى. وأن الأسباب والمؤثرات الطبيعية إنما هي إرادته سبحانه. يقول عز من قائل: * (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) * (المؤمن آية 16).

3 - التوحيد في الربوبية: والمراد به أنه سبحانه هو المدبر الوحيد لهذا العالم، أما الأسباب والمخلوقات فتدبيرها غير مستقل عنه سبحانه بل بإذنه وأمره. يقول عز وجل: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) * (يونس آية 3).


الصفحة 559
أما ما جاء في بعض الآيات من نسب بعض التدابير للملائكة أو لغيرهم، مثل قوله تعالى: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) * أو قوله عز وجل * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات، الآية 5) وغير ذلك من الأمثلة حيث ينسب الفعل إلى غير الله. فإن هذا لا يعتبر تعارضا أو تناقضا لأن هذه الأمور " كالرازقية والتدبير والتوفي ". " قائمة بالله على نحو لا يكون لله فيها أي شريك فهو تعالى يقوم بالأصالة وعلى وجه " الاستقلال "، في حين أن غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو " التبعية " وفي ظل القدرة الإلهية.

وبما أن هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات وأن كل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقق في مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود، ينسب القرآن هذه الآثار إلى أسبابها الطبيعية... ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * (الأنفال، الآية 17) (44).

4 - التوحيد في التشريع: حيث الحاكمية التشريعية منحصرة فيه سبحانه، فهو الذي يشرع، يحلل أو يحرم. يقول سبحانه: * (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * (يوسف، الآية 40). وقال تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (المائدة، الآية 44).

5 - التوحيد في الطاعة: ويعني أن الله وحده تجب طاعته وامتثال أوامره.

أما طاعة الأنبياء الواردة في الآيات فإنها بإذنه يقول. سبحانه * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (النساء، الآية 64). فإطاعة النبي وأولي الأمر، والوالدين وغيرهم إنما لأجل إذنه وأمره سبحانه ولو لاه لم تكن لتجز طاعتهم،

____________

(44) التوحيد والشرك، الشيخ جعفر السبحاني، مؤسسة الفكر الإسلامي، ط 2، ص 29، 1986 م.

الصفحة 560
والانقياد لأوامرهم. وعلى الجملة فهاهنا مطاع بالذات، وهو الله سبحانه، وغيره مطاع بالعرض وبأمره (45).

6 - التوحيد في الحاكمية، والمراد منه هو: أن جميع الناس سواسية، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات، بل الولاية لله المالك الخالق، فمن مارس الحكم في الحياة يجب أن يكون بإذنه، قال سبحانه: * (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) * (الأنعام، الآية 57) (46).

7 - التوحيد في العبادة: أي حصر كل أنواع العبادة في الله عز وجل فلا معبود سواه. وقد وقع الاختلاف هاهنا في تحديد بعض المظاهر، هل تعتبر عبادة أم لا، كالتكريم والاحترام وغير ذلك مما وقع الجدال حوله بين السلفية الوهابية وبين أهل السنة والإمامية. لقد اعتبر السلفيون إن ذلك شرك في العبادة، ومن ثم انطلقوا لتكفير غالبية المسلمين وتشريكهم والحكم عليهم بالتالي بالضلال واستباحة الدماء.

لذلك يقول الباحث السبحاني: " إن المفتاح الوحيد لرد شبه الوهابيين هو تحديد العبادة وتمييزها عن غيرها " (47) لأن الموحدين مجمعون على عدم جواز عبادة غير الله. لذلك لا بد من معرفة حقيقة بعض الأعمال والأفعال حتى لا يقع الخلط، وننسب غالبية المسلمين للشرك أو الكفر.

التوحيد عند السلفية:

ويضيف " إن الوهابية تعترف بنوعين من التوحيد وهما التوحيد الربوبي والتوحيد الألوهي ويفسرون الأول بالتوحيد في الخالقية، والثاني بالتوحيد في العبادة، وكلا الاصطلاحين خطأ. أما الأول فالمراد من الربوبية هو تدبير

____________

(45) المرجع السابق، ص 33.

(46) بحوث في الملل والنحل، م س، ج 4 ص 66.

(47) التوحيد والشرك، ص 35.

الصفحة 561
المربوب وإدارته، وأن وظيفة الرب الذي هو بمعنى الصاحب. إدارة مربوبه، كرب الدابة والدار والبستان بالنسبة إليها. فالتوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية، وإن كان ربما تنتهي الربوبية إلى الخالقية. وأما الثاني، أعني التوحيد في الألوهية فهو مبني على أن الإله بمعنى المعبود، ولكنه خطأ، بل هو ولفظ الجلالة بمعنى واحد، غير أن الأول كلي والثاني علم لواحد من مصاديق ذلك الكلي (48).

ويقول أبو حامد في إبطاله هذا التقسيم " لم يقل أحمد بن حنبل لأصحابه: إن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من يعرف توحيد الألوهية لا تعتبر معرفته لتوحيد الربوبية، لأن هذا كان يعرفه المشركون، وهذه عقيدة الإمام أحمد مدونة في مصنفات أتباعه، في مناقبه لابن الجوزي وفي غيره، ليس فيه هذا الهذيان. وكذا لم يقل أي واحد من أتباع التابعين لأصحابه، ولا أي صحابي من أصحاب النبي (ص) ورضي عنهم: إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، لأن هذا يعرفه المشركون، فلو اجتمع الثقلان مع ابن تيمية على إثبات هذا التقسيم عند أي واحد منهم لا يستطيعون، وإني أتحدى كل من له إلمام بالعلم أن ينقل لنا هذا التقسيم المخترع ولو برواية واهية " (49).

مفهوم العبادة:

جاء في المعاجم العربية تعاريف عدة لكلمة عبادة. فابن منظور يفسرها " بالخضوع والتذلل " أما الراغب في " المفردات " فيقول " العبودية: إظهار

____________

(48) بحوث في الملل والنحل، م س، ج 4، أنظر الهامش، ص 67.

(49) راجع براءة الأشعريين ج 1 ص 96. أنظر ردود على شبهات السلفية، م س، ص 240 - 241.

الصفحة 562
التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل "، ويعرفها الفيروزآبادي ب‍ (الطاعة). لكن جميع هذه التعارف ما هي إلا نوع من التعريف بالمعنى الأعم لأن الطاعة الخضوع وإظهار التذلل ليست - على وجه الإطلاق - عبادة، لأن خضوع الولد أمام والده، والتلميذ أمام أستاذه والجندي أمام قائده لا يعد عبادة مطلقا مهما بالغوا في الخضوع والتذلل (50). وهنا آيات متعددة تصف هذا الخضوع ولا تعتبره عبادة. مثل * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * (البقرة، الآية 34) فكان سجودهم له تعظيما وتكريما. ولم يكن عبادة له أو جعله شريكا لله.

وقوله تعالى في قصة يوسف: " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) * (يوسف، الآية 100).

وكذا تذلل المؤمنين لبعضهم البعض. وعليه فلا يكون الخضوع ضعيفه وشديده عبادة إلا إذا دخل فيه عنصر قلبي خاص يميزه عن مماثلاته ومشابهاته، وهذا العنصر عبارة عن أحد الأمور التالية:

1 - الإعتقاد بألوهية المعبود.

2 - الإعتقاد بربوبيته.

3 - الإعتقاد باستقلاله في الفعل من دون أن يستعين بمعين أو يعتمد على معاضد (51).

ويتضح من ذلك أن مقوم العبادة ليس العمل أو الفعل الظاهري، ولكن الاعتقاد القلبي الباطني. فالمشركون على عهد الرسول وقبله كان منهم من يعتقد بألوهية معبوده كأحد الآلهة الصغيرة إلى جنب الإله الكبير. لذلك قال " المشركون للرسول كما حكى عنهم القرآن * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا

____________

(50) التوحيد والشرك، م س، ص 51.

(51) بحوث في الملل والنحل، ج 4، ص 68 - 69.

الصفحة 563
لشئ عجاب) * (سورة ص، الآية 5). ومنهم من كان يعتقد بأن معبوده له التدبير الفعلي المستقل، لذلك عبده وطلب منه ورجاه. ومنهم من كان يعلم بأن معبوده مخلوق لله، لكنه مستقل الفعل يمكنه أن يرزق أو يضر وينفع لذلك توجه له بالعبادة.

والذي يتأمل في الآيات التي نزلت في المشركين مثل قوله تعالى: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) * (الصافات، الآية 35) أو قوله سبحانه: * (الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون) * (الحجر، الآية 96). يعلم أن وصفهم بالمشركين يرجع لكونهم يعتقدون أن أصنامهم وأوثانهم آلهة من دون الله، لها وجود مستقل وتستحق العبادة والخضوع وتقديم الطاعات المختلفة. لأنها تضر وتنفع وترزق، وتملك الشفاعة. لذلك جاءت الآيات القرآنية لتنفي هذه الاعتقادات والإيمان الخاطئ في هذه المعبودات المختلفة. يقول تعالى مخاطبا المشركين: * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا) * (العنكبوت، الآية 17).

ويقول سبحانه: * (فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) * (الإسراء، الآية 56).

ويقول في نفي الشفاعة عن آلهتهم المزعومة: * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) * (مريم، الآية 87).

وهناك نوع آخر من الشرك ذكره القرآن وهو يصف أهل الكتاب. وهو الاعتقاد بأن الله قد فوض لبعض الرهبان أو الأحبار مهمة التشريع. فكان أتباعهم يتعبدون بهذه التشريعات ويعتمدونها في الحلال والحرام. قال تعالى:

* (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) * (التوبة، الآية 31) وجاء في الحديث إنهم لم يصوموا لهم ولا صلوا لهم ولكن أحلو لهم الحرام وحرموا لهم الحلال فاتبعوهم.


الصفحة 564
وهنا آية يمكنها أن تكون فيصل التفرقة بين ما كان عليه المشركون زمن الرسول وبين أي فعل أو عمل أو اعتقاد قد يصدر عن المسلمين اليوم ويصفه الوهابية بالشرك أو يجعلونهم ومشركي قريش سواء، كما نطق بذلك محمد بن عبد الوهاب النجدي.

كما توضح هذه الآية بجلاء حقيقة اعتقاد المشركين وما كانوا عليه من انحراف إيماني. يقول تعالى يصف المشركين بعد ما أدركوا حقيقة معبوداتهم وأصنامهم: * (تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) * (الشعراء، الآية 97 - 98).

وهذا التسوية لا تختص بتوجيه العبادة أو المشاركة فيها. ولكن باعتقادهم بأن لآلهتهم خصائص الألوهية إما كلها أو بعضا منها. كما ذكرنا قبل قليل.

وإلى هنا يكون مفهوم العبادة الذي يترتب عليه الشرك والإشراك قد اتضح للقارئ. فهل هناك من المسلمين اليوم من يعتقد في الأنبياء أو الأولياء والمشايخ. أنهم مساوون لله ؟ أو أنهم آلهة وأرباب من دون الله ؟ ! يملكون الضر والنفع والشفاعة، ويستقلون بالفعل والتأثير ؟ ! أو يدبرون هذا الكون إما بشكل كامل أو مشاركة مع الله ؟ !.

إن الملاك في تمييز التوحيد عن الشرك أمر واحد وهو الاعتقاد بالألوهية والربوبية، أو كون الفاعل مستقلا ومفوضا إليه الأمر (52). وإذن ما هي شبهات هؤلاء الوهابية، التي جعلتهم يتهمون المسلمين بالشرك. ويضعونهم مع مشركي العصر الجاهلي في خانة واحدة.

تعتبر القضايا مثل: الشفاعة والتوسل وزيارة القبور والدعاء عندها - وما يتفرع عن ذلك - من أهم المباحث التي انطلق منها السلفية لاتهام المسلمين بالشرك، فهم لما وضعوا للعبادة ملاكات جديدة غير الملاك الذي اتفق عليه المسلمون قاطبة، أدخلوا الكثير من مظاهر هذه القضايا ضمن دائرة الشرك،

____________

(52) المرجع السابق، ص 75.

الصفحة 565
واعتبروا فاعلها مشرك منحرف عن عقيدة التوحيد. سنلقي نظرة موجزة حول هذه القضايا، أما من أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى المصادر الكثيرة جدا في هذه المواضيع بالخصوص.

التوسل:

التوسل من وسلت إلى ربي وسيلة أعملت أتقرب به إليه، وتوسلت إلى فلان بكتاب أو قرابة، أي تقربت به إليه (53). وقال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير والجمع: الوسل والوسائل (54). وكل شئ يعتمده الإنسان للوصول إلى هدف يعتبر وسيلة.

وقد تعارف العقلاء بالفطرة أو التجربة على ركوب الوسائل المختلفة لتحقيق الغايات المتعددة، وهذه إحدى السنن الكونية الظاهرة، التي لا تخفى على أحد.

أما المقصود به في الشرع، " أن يقدم العبد إلى ربه شيئا ليكون وسيلة إلى الله تعالى لأن يتقبل دعاءه ويجيبه إلى ما دعاه (55). وقد وضع الشارع طرقا معينة للتوسل وشرعها واعتبر أي خروج عنها أو ابتداع طرق جديدة أمر مرفوض في الدين معاقب عليه في الآخرة.

وقد عرف السلف والخلف من المسلمين هذه الطرق واتبعوها ولم ينكر عليهم أحد، إلى أن ظهر ابن تيمية الحنبلي في القرن الثامن فناقش بعضا من هذه الطرق ورفضها، وعد من يسلكها مشركا. وقد تبعه الوهابيون من بعده، وأشاعوا الفتن وطعنوا في سلامة عقيدة المسلمين.

____________

(53) الخليل، ترتيب المعين مادة " وسل ".

(54) الجوهري، الصحاح، ج 5 مادة " وسل " أنظر التوسل لجعفر السبحاني، ص 17.

(55) التوسل، جعفر السبحاني، ص 18.

الصفحة 566

أما التوسلات المشروعة فهي:

1 - التوسل بأسماء الله وصفاته. ودليله قوله سبحانه * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) * (الأعراف، الآية 180).

وأخرج الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد فقال النبي: " لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى " (56). والأحاديث في ذلك كثيرة، وليس هناك خلاف في هذا التوسل بأسمائه وصفاته سبحانه.

2 - التوسل بالقرآن الكريم: وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. روى الإمام أحمد، عن عمران بن الحصين، أنه مر على رجل يقص، فقال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون سمعت رسول الله يقول:

" اقرأوا القرآن واسألوا الله تبارك وتعالى به قبل أن يجئ قوم يسألون به الناس " (57). وورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه يستحب في ليلة القدر أن يفتح القرآن فيقول: " اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار " (58).

3 - التوسل بالأعمال الصالحة، حيث يتقرب الإنسان إلى ربه بأحسن عمل عمله، وقد تظافرت الأحاديث عن الرسول في ذكر هذا التوسل، أهمها حديث النفر الذي انطبق عليهم الغار فاتفقوا على أن يدعو كل واحد منهم بأحسن عمل عمله، فلما فعلوا ذلك فرج الله عنهم ونجاهم. وقد رواه

____________

(56) الترمذي، الصحيح، ج 5، ص 515. الحديث رقم 3475. أنظر، م س، ص 22.

(57) المسند، ج 4، ص 445. أنظر، م س، ص 26.

(58) الإقبال لابن طاوس الحلي، ص 41.

الصفحة 567
البخاري في صحيحه وهو حديث مشهور (59).

4 - التوسل بدعاء الرسول: وهو من أعظم الوسائل وأخصها، لأن الرسول الأكرم مستجاب الدعوة مقبول عند ربه ومرسله. وقد أشار القرآن إلى هذه الخاصية. يقول سبحانه وتعالى: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * (النساء، الآية 64). والآيات القرآنية التي نزلت في الرسول (ص) وسيرته العطرة تشهد بأن للرسول (ص) مقاما كريما وعظيما. فهو ليس كأحد من الناس أو كأحد من المؤمنين، لأن الوهابية يساوون دعاءه بدعاء غيره من المؤمنين وهذا خطأ فاحش وسوء أدب في حقه عليه السلام، وجهل بتاريخ الرسالات، ومكانة الأنبياء.

لقد استجاب الله لدعاء نبيه نوح بهلاك قومه. وحكم أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا، فجاء الطوفان. وكذلك سائر الأنبياء وعلى رأسهم خاتمهم محمد بن عبد الله الذي قال الله في شأنه * (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *.

5 - التوسل بدعاء المؤمن: وقد جاء في القرآن إن الملائكة يستغفرون للمؤمنين. وكذا المؤمنون لبعضهم البعض، وفي الأحاديث حث على دعاء المؤمن لأخيه، بل إن ذلك من أسباب تعجيل الإجابة.

إلا أن الوهابية وإن كانوا يؤمنون بصحة التوسل بدعاء النبي فإنهم يشترطون حياته، فدعاؤه كان مجديا في حياته أما بعد موته فلا يصح دعاؤه ولا يجوز وهو طريق إلى الشرك. وهذا الاعتقاد مبني على موت الأنبياء وانقطاع صلتهم بالدنيا تماما. وهذا خلاف ما جاء به القرآن وما فهمه وعلمه علماء الصحابة والتابعين. وإذا كان الشهداء - بنص القرآن - أحياء في عالم البرزخ يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من الكرامة والنعيم فبالأولى أن يكون

____________

(59) الصحيح، ج 4، ص 173، كتاب الأنبياء.

الصفحة 568
الأنبياء كذلك، فهم أفضل من الشهداء، وهذا ما فهمه الصحابة. فدعاء النبي (ص) حيا كدعائه ميتا، وقد جاءت الأحاديث بهذا المعنى.

ففي صحيح البخاري في باب كيفية فرض الصلاة وملاقاة النبي - ليلة الإسراء - الأنبياء: من آدم وإدريس وموسى، وعيسى وإبراهيم تكلمه معهم سلام الله عليهم... وفي سنن النسائي وإحياء العلوم: قال رسول الله (ص) إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغون من أمتي السلام. وقال: أكثروا على من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال: إن الله تعالى قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق. وقوله: فنبي الله حي يرزق. ظاهر في العموم، لأن الإضافة تفيده فإذا كان الأنبياء والشهداء أحياء يرزقون.

ويشهدون الصلاة والسلام ممن يصلي عليهم من قريب أو بعيد، فكيف لا يشهدون نداء من يناديهم، واستغاثة من يستغيث بهم ؟. وقال رسول الله (ص) علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي. وفي إحياء العلوم: أن الله وكل ملكا يسمعني أقوال الخلائق (60).

ومما يؤكد ذلك ما رواه البيهقي وابن شيبة أن " الناس أصابهم قحط في خلافة عمر فجاء بلال بن الحارث إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله استق لأمتك فإنهم هلكوا. فأتاه الرسول في المنام وأخبره بأنهم يسقون " ووجه الاستدلال هنا ليس الرؤيا، ولكن طلب الاستسقاء من الرسول وهو ميت (61).

في الجوهر المنظم: ولا فرق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل أو

____________

(60) سعادة الدارين، لإبراهيم السمهودي، ص 183، بتوسط، صفحات من تاريخ الجزيرة، العربية، م س، ص 89.

(61) البراهين الجلية في رفع تشكيلات الوهابية، السيد محمد حسن الموسوي، مطبوعات النجاح بالقاهرة، ط 2 1977 م، ص 33 - 34.

الصفحة 569
التشفع أو الاستغاثة أو التوجه، لأن التوجه من الجاه، وهو علو المنزلة، وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى منه جاها، والاستغاثة طلب الغوث والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وإن كان أعلى منه فالتوجه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين غير ذلك ولا يقصد بهما أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه (62).

والذي يراجع سيرة السلف من الصحابة والتابعين يجدهم يتوسلون بدعائه عليه السلام في حياته وبعد مماته ولا يفرقون بين ذلك. قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه " مصباح الظلام " إن الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله (ص) بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي (ص)، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه ما وعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك، * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله...) * الآية، وقد ظلمت، وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك. انتهى (63).

وقال أبو عبد الله محمد بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب " باب زيارة قبر النبي (ص) " وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، وذكر كيفية السلام والدعاء.

منه: اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك مستغفرا، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك (ص)

____________

(62) شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، يوسف بن إسماعيل النبهاني، ضمن علماء المسلمين والوهابيون، ص 168.

(63) التوسل، ص 56.

الصفحة 570
وذكر دعاء طويلا (64).

وخلاصة الكلام أن الوهابية يمنعون من التوسل بالأنبياء حال وفاتهم لأنهم يعتقدون أن البرزخ مانع من الاتصال وهذا بخلاف القرآن والسنة وسيرة المسلمين سلف عن خلف، اللهم إلا ابن تيمية ومن تبعه. كما يقولون بأن الميت لا يسمع وقد انقطع عمله عن الدنيا ويستدلون ببعض الأحاديث والآيات لإثبات صحة هذه الشبهات. والذي يجب أن يعلم أنهم عندما ينتقون بضع أحاديث قد يدل ظاهرها أو فهمها الابتدائي بأنها تدعم مذهبهم، فإنهم يضربون كشحا عن مئات الأحاديث الصحيحة. التي تخالفهم، والتي يعتد بها مخالفوهم. بل إن الكثير من معتمداتهم الحديثية وجهت لها سهام الطعن والتضعيف. أما استدلالهم بالآيات فإنه يرجع إلى فهم خاطئ بخلاف علماء التفسير وأرباب العلم.

إن التوسل بذوات الأنبياء والصالحين. وبالأمكنة الفاضلة كالكعبة.

وبالأزمنة المباركة كشهر رمضان وليلة القدر. والتوسل إلى الله بجاه بعض الصالحين وحرمتهم أو الإقسام على الله تعالى بالمتوسل بهم، كلها توسلات باطلة وممنوعة عند الوهابية، لأنها إما شرك صريح أو طريق إليه. حججهم كما أسلفنا الفهم الخاطئ للعبادة ولمعنى الشرك المذكور في الآيات القرآنية الواصفة لحال المشركين أولا، ولأنهم رأوا بعض العامة يتوسعون في الكلام ويأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى ويطلبون من الصالحين أحياءا وأمواتا أشياءا جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى. ويقولون للولي إفعل لي كذا وكذا، وربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها، بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالا ومقامات ليسوا بأهل لها، ولم يوجد فيهم شئ منها. فإنما أراد هؤلاء المانعون للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعا للإبهام وسدا

____________

(64) المرجع نفسه، ص 58، نقلا عن وفاء الوفا للسمهودي، ج 4 ص 1362.

الصفحة 571
للذريعة...

وإذا كان الأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة، فما الحامل لكم على تكفير الأمة عالمهم وجاهلهم خاصهم وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقا ؟ بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة وتأمروهم سلوك الأدب في التوسل، مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على الإسناد المجازي مجازا عقليا كما يحمل على ذلك قول القائل: هذا الطعام أشبعني وهذا الماء أرواني وهذا الدواء نفعني، فإن ذلك كله عند أهل السنة محمول على المجاز العقلي. فإن الطعام لا يشبع والمشبع هو الله تعالى (65).

يقول الشيخ النبهاني: " والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، كما دلت عليه الأحاديث السابقة لأنا معاشر أهل السنة لا نعتقد تأثيرا ولا خلقا ولا إيجادا ولا إعداما ولا نفعا ولا ضرا إلا لله وحده لا شريك له... وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات ونحن نقول * (الله خالق كل شئ) *، * (والله خلقكم وما تعلمون) *، فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات هم الذين دخل الشرك في توحيدهم لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات. فهم الذين اعتقدوا تأثير غير الله تعالى، فكيف يدعون المحافظة على التوحيد وينسبون غيرهم إلى الإشراك * (سبحانك هذا بهتان عظيم) * (66).

الشفاعة:

أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن النبي (ص) أحد الشفعاء يوم القيامة

____________

(65) شواهد الحق، م س، ص 159.

(66) شواهد الحق، ص 158 - 159.

الصفحة 572
مستدلين على ذلك بقوله سبحانه * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (الضحى، الآية 5) والذي أعطي هو حق الشفاعة الذي يرضيه، وبقوله سبحانه: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (الإسراء، الآية 79) واتفق المفسرون على أن المقصود من المقام المحمود هو الشفاعة.

وقال القاضي عياض بن موسى (ت 544 ه‍). مذهب أهل السنة هو جواز الشفاعة عقلا ووجودها سمعا بصريح الآيات وبخبر الصادق وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها (67).

وقال الإمام أبو حفص النسفي (ت 538 ه‍): والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق الكبائر بالمستفيض من الأخبار. وقد أيد التفتازاني في " شرح العقائد النسفية " هذا الرأي وصدقه دون أي تردد أو توقف (68).

وقال ابن تيمية الحراني الدمشقي (ت 728 ه‍): للنبي (ص) في يوم القيامة ثلاث شفاعات إلى أن قال: وأما الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار وهذه الشفاعة له (ص) ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها ويشفع في من دخلها (69).

وقال محمد بن عبد الوهاب: (زعيم الحركة السلفية) وثبتت الشفاعة لنبينا محمد (ص) يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد. ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول: اللهم شفع نبينا محمد فينا يوم القيامة أو اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم إلى أن قال: إن الشفاعة حق في الآخرة، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته، بل وغيره من الشفعاء إلا أن رجاءها من

____________

(67) شرح صحيح مسلم للنووي، دار إحياء التراث العربي، ج 3 ص 35.

(68) العقائد النسفية، ص 148.

(69) مجموعة الرسائل الكبرى، ج 1 ص 403 - 404.

الصفحة 573
الله، فالمتعين على كل مسلم صرف وجهه إلى ربه. فإذا مات استشفع الله فيه نبيه (70). وإذا كان الكل قد أجمع على أن الشفاعة من أصول الإسلام فإن الخلاف بين أهل السنة وغيرهم وبين الوهابية سيختص ببعض معانيها وتطبيقاتها.

ذهبت الوهابية إلى أن: " الشفاعة للأنبياء والأولياء منقطعة في الدنيا، وإنما هي ثابتة لهم في الآخرة، فلو جعل العبد بينه وبين الله تعالى وسائط من عباده يسألهم الشفاعة كان ذلك شركا، وعبادة لغير الله تعالى، فاللازم أن يوجه العبد دعاءه إلى ربه ويقول: اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد (ص) ولا يجوز له أن يقول: يا محمد اشفع لي عند الله. محتجين بقوله تعالى * (وأن المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحدا) * وقوله سبحانه: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * وقوله جل شأنه: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * (71).

إن الإشكال الذي تستند إلى الوهابية والناجم عن الآيات الشريفة التي تحصر الإذن بالشفاعة بالله عز وجل ينتهي بتفسير آيات القرآن بعضها ببعض، بأن نعتبر أن الشفاعة لا تمنح إلا لمن أذن له الله وبما أن بعض الأنبياء حسب ما يؤكد القرآن الكريم قد شفعوا للآخرين فهذا يعني أن الله قد أذن لهم بهذه الشفاعة فمارسوها وحضوا أتباعهم على طلبها. وقد وردت الأحاديث العديدة المتواترة عن الرسول (ص) تؤكد شفاعته لأمته، وإيصائه للمسلمين بطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل (72).

من هذه الأحاديث قوله (ص): " خيرني ربي بين أن أدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ". رواه الترمذي وابن حنبل وابن ماجة.

____________

(70) الهدية السنية، الرسالة الثانية ص، 42 انظر الأقوال السابقة في الشفاعة، جعفر السبحاني، الشفاعة في الكتاب والسنة، صفحات 7 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 بتصرف.

(71) البراهين الجلية، م س، ص 19.

(72) صفحات من تاريخ الجزيرة العربية، م س،، ص 78 - 79.

الصفحة 574
وقوله عليه السلام: "... فقولوا إنا نشفع برسول الله " رواه ابن حنبل في (المسند 2 / 184). هذا ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة لغيره أيضا فيقول: " ادعوا الشهداء فليشفعوا لمن أرادوا " رواه ابن حنبل (1 / 5) (73).

إن الاستشفاع الذي عليه المسلمون خلفا عن سلف إنما هو على قسمين:

أحدهما، أن يقدموا النبي أو الولي الوجيه عند الله أمام طلب الحاجة، بأن يقسم على الله به وبحقه في الفضل والإيمان والطاعة لله، كما جاء في حديث ابن عمر في توسل آدم وما روي: من أن النبي (ص) علم الضرير التوجه إلى الله به (ص) وأن يطلب من الله أن يشفعه فيه، كما أسنده أحمد عن عثمان بن حنيف، وكذا ابن ماجة والترمذي وصححه، وكذا الحاكم في مستدركه والسيوطي في جامعه، وكما رواه البخاري من استسقاء عمر بالعباس وتوسله إلى الله به.

وثانيهما، أن من له حاجة إلى الله يطلب من النبي (ص) أن يسأل الله قضاءها ويرجو منه أن يشاركه في الدعاء إلى الله، ومسألة تلك الحاجة منه جل وعلا، يفعل ذلك السائل اعتمادا على وجاهة الشفيع عند الله وقربة من الله تعالى. وأن المسلم الذي يؤدي الشهادتين مخلصا هو الذي أذن الله لنبيه بالشفاعة له. كما دلت عليه روايات البخاري والترمذي وابن ماجة وكذا روايتا الحارث ابن قيس وأبي سعيد عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا هو ما عند المسلمين في التوسل والاستشفاع لا غيره، وقد جاء به الكتاب والسنة، ومن نسب غير ذلك إليهم فقد افترى عليهم، إما جهلا بما عليه المسلمون من توسلهم واستشفاعهم اعتمادا على الكتاب والسنة، وإما عنادا لرسول الله وأوليائه في بقاء كرامتهم في الإسلام ولياقتهم للاستشفاع بأحد القسمين المذكورين، وإما تمويها وتلبيسا على بعض العوام للاستعانة بهم

____________

(73) المرجع السابق، ص 79.

الصفحة 575
على ما حرمه الله من دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم (74).

وأما شبهتهم في المنع من النداء، فقالوا: إن النداء والخطاب للجمادات والغائبين والأموات من الشرك الأكبر الذي يباح به الدم والمال، ولا مستند لهم في ذلك، بل الأحاديث الصحيحة الصريحة في بطلان قولهم هذا، وزعموا أن النداء للأموات والغائبين والجمادات يسمى دعاء وإن الدعاء عبادة، بل الدعاء مخ العبادة، وحملوا كثيرا من الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الموحدين...

وهذا كله منهم تلبيس في الدين وتضليل لأكثر الموحدين، فإنه وإن كان النداء قد يسمى دعاء كما في قوله تعالى * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * لكن ليس كل نداء عبادة، ولو كان كل نداء عبادة لشمل ذلك نداء الأحياء والأموات. فيكون كل نداء ممنوعا مطلقا، وليس الأمر كذلك. وأنما النداء الذي يكون عبادة هو نداء من يعتقدون ألوهيته واستحقاقه العبادة، فيرغبون إليه ويخضعون بين يديه. فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله تعالى واعتقاد التأثير لغير الله تعالى، أما مجرد النداء لمن لا يعتقدون ألوهيته ولا تأثيره فإنه ليس عبادة، ولو كان لميت أو غائب أو جماد، وذلك وارد في كثير من الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة.

والأحاديث الواردة عن النبي (ص) في زيارة القبور في كثير منها النداء والخطاب للأموات كقوله: " السلام عليكم أهل القبور، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ". وهي أحاديث كثيرة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها، وقد تقدم أن السلف والخلف من أهل المذاهب الأربعة استحبوا للزائر أن يقول تجاه القبر الشريف يا رسول الله إني جئتك

____________

(74) البراهين الجلية، م س، ص 27 - 28.

الصفحة 576
مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي (75).

من خلال هذا العرض الموجز لمسألتي التوسل والشفاعة والجوانب المختلف فيها بين أهل السنة والإمامية وبين أتباع السلفية اليوم، يتبين بما لا مجال للشك فيه أن الوهابية كالخوارج سابقا، أخذوا كل الآيات التي نزلت في المشركين فطبقوا مضامينها على ما يفعله المسلمون اليوم فكان فهمهم لهذه الآيات بسيطا وظاهريا، كما أداروا ظهورهم لمئات الأحاديث الصحيحة التي تخالف ما يذهبون إليه، وعمدوا إلى تضعيفها والطعن في سندها، ولو صح لهم ذلك، فإنه يصح لخصومهم الطعن بدورهم في بعض الأحاديث التي يستند إليها هؤلاء الوهابية (السلفية)، وعليه فإن الحقيقة ستضيع لا محالة.

إن الوهابية يستندون حقيقة إلى المظاهر التي تلبس بها العوام عند ممارستهم للتوسل والشفاعة سواء بالرسول (ص) أو بباقي الأنبياء والصالحين. هذه المظاهر التي توحي بالشرك في العبادة، مما جعل أبناء الصحوة الإسلامية ينطلي عليهم هذا الفرق الدقيق فيهرعون زرافات للاعتقاد بمذاهب السلفية خوفا من الشرك وطلبا للتوحيد.

ولكنه التعبد والاعتقاد بالظواهر والمظاهر، وإغفال الأهم الذي هو الباطن والاعتقاد القلبي. فكم من منافق يلبس قصير الثياب ويرخي لحيته ويقف في الصفوف الأمامية عند الصلاة ويؤدي كل الحركات والأقوال المطلوبة، ويلهج بالإيمان والتقوى وهو ألد الخصام ومأواه جهنم وبئس المصير.

زيارة القبور وشد الرحال إليها:

أفتي ابن تيمية بتحريم شد الرحال لزيارة الصلحاء والأنبياء والأئمة مستدلا بما ورد من النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة (76).

____________

(75) شواهد الحق، م س، ص 172 - 173.

(76) بحوث في الملل والنحل، ج 4 ص 137.

الصفحة 577
وقالت الوهابية لا تجوز زيارة قبور الأئمة ولا تشد الرحال من الأماكن البعيدة لأجل زيارة قبر النبي (ص)، وأنها من الشرك وعبادة لغير الله تعالى (77).

أما أهل السنة والإمامية فاتفقوا على جواز زيارة القبور، ويظهر ذلك لمن راجع الكتب الفقهية الحديثية. ويكفي في ذلك ما أفتى به أئمة المذاهب الأربعة حيث جاء في كتاب " الفقه على المذاهب الربعة " ما يلي: " زيارة القبور مندوبة للاتعاض وتذكر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها.

وينبغي للزائر الانشغال بالدعاء والتضرع والاعتبار بالموتى، وقراءة القرآن للميت فإن ذلك ينفع الميت على الأصح، إلى أن قال: ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصا مقابر الصالحين، وأما زيارة قبر النبي (ص) فهي من أعظم القرب " (78).

ومن الروايات التي تحث على زيارة القبور قوله (ص): " قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ". رواه الخمسة إلا البخاري واللفظ للترمذي. ولا تنحصر الروايات الواردة في هذا المجال بهذا، بل هناك روايات متضافرة جمعها العلامة السمهودي في كتابه " وفاء الوفاء " (79).

أما الحديث الذي تشبث به ابن تيمية والوهابية فقد تعرض له العلماء بالشرح والتحليل وأوضحوا المقصود منه. فقد روي عن الرسول (ص) أنه قال:

" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي، والمسجد الأقصى " رواه البخاري عن أبي هريرة.

____________

(77) البراهين الجلية، ص 64.

(78) الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1 ص 424 - 425، آخر كتاب الصلاة. أنظر التوحيد والشرك، م س، ص 206.

(79) التوحيد والشرك، ص 207.

الصفحة 578
وهذا الحديث الذي تمسك به الوهابيون لا يدل على حرمة شد الرحال إلى زيارة القبور، والأماكن والمشاهد المشرفة، وذلك لأن الاستثناء الوارد في الحديث مفرغ قد حذف فيه المستثنى منه، فكما يمكن أن يكون تقدير المستثنى منه: " لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة " يمكن أن يكون تقديره:

" لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد ". ولكن المتعين هو الثاني لكون الاستثناء متصلا وهو يقتضي تقدير " المسجد " بعنوان مستثنى منه، لا غيره.

أضف إلى ذلك يقول الشيخ السبحاني: " أن الضرورة قاضية بجواز شد الرحال إلى طلب التجارة، وإلى طلب العلم، وإلى الجهاد، وزيارة العلماء والصلحاء، وإلى التداوي والنزهة، وأن المسلمين في مواسم الحج يشدون الرحال إلى عرفة والمزدلفة ومنى.. هذا مضمون الحديث ومعناه ومع ذلك لا يفهم من هذا الحديث وأشباهه حرمة السفر إلى باقي المساجد، بل هي ظاهرة في أفضلية هذه المساجد على ما عداها بحيث بلغ فضلها أن تستحق شد الرحال والسفر إليها للصلاة فيها. أما سائر المساجد فليس لها هذا الشأن.

كما أن النهي عن شد الرحال إلى سائر المساجد دون الثلاثة ليس نهيا إلزاميا بل هو للإرشاد إلى عدم ترتب ثواب وافر على التوجه إلى سائر المساجد.

ويدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يشد الرحال إلى غير المساجد المذكورة في الحديث كما في صحيح البخاري: ففي باب إتيان مسجد قباء راكبا وماشيا " عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكبا وماشيا " (80).

أما الدليل على زيارة قبر الرسول (ص) وقبور الصالحين وغيرهم، فنذكر منها:

روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال النبي (ص): من جاءني زائرا لا

____________

(80) صحيح البخاري، ج 2 ص 61، أنظر التوحيد والشرك، ص 208 - 209 بتصرف.