لقد رجعت بنت رسول الله (ص) إلى بيتها، تذرف الدمع الغزير، تبكي مظلوميتها، والإجحاف الذي يتعرض له زوجها، فقريش قد قلبت لهما معا ظهر المجن. خلفاء الرسول الجدد يقولون لعلي بن أبي طالب بعد ما تقدم مطالبا بالإمامة، إن قريشا لا ترغب في أن تجمعوا النبوة والإمامة ؟ ! وإنها قد اختارت، وأحسنت الاختيار.
وبعد ما يئست بنت الرسول من تحصيل حقها وحق زوجها، خلدت إلى البكاء والنحيب، بكاء أزعج الحكام الجدد وضايقهم، لكنه لم يستمر طويلا، لأنها ستلحق بأبيها (ص)، وستطلب من زوجها أن تدفن ليلا، وألا يصلي عليها من تنكروا لحقها في " فدك " وحق زوجها في " الخلافة ". ماتت فاطمة بعد ما أعلنت للجميع بأنها غاضبة. على من انتزع ملكها (3). وأنها سلمت أمرها لله العادل: " فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون.. " (4).
____________
(2) يذهب بعض المحققين المعاصرين إلى أن تصديقهم للزهراء بامتلاك " فدك " وإعطائهم إياها كان سيحرجهم في عدم تصديقها بعد ذلك في قضية الخلافة والإمامة. لأنها كانت تؤمن بأن زوجها علي بن أبي طالب منصوص على إمامته من طرف أبيها (ص). لذلك جاء الرفض لكلا المطلبين. لكن الخلفاء الذين سيأتون بعد ذلك سيعيدونها لأبنائها وسيعترفون لها بحقها وذلك لأن المطالبة بفدك لم تعد مرتبطة بدعوى المطالبة بالإمامة.
(3) أخرج البخاري في صحيحه في الجزء الرابع من كتاب بدء الخلق في باب منقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قال: حدثنا أبو الوليد ابن عيينة عن عمر بن دينار عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني. فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما أذاها ". أنظر فاسألوا أهل الذكر، الدكتور محمد التيجاني السماوي، ص 187 - 188.
(4) مقطع من خطبة الزهراء الطويلة في مسجد رسول الله تخاطب القوم وتحاججهم وتبين خطأهم تقول: ".. أيها المسلمون أأغلب على إرثي ؟ يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه =
لكن الظروف والمستجدات لم تخدم هذه المعارضة. فبعيد وفاة الزهراء بقليل انطلقت موجة الردة، التي كادت تعصف بالكيان الإسلامي الجديد. فما كان من علي إلا أن دخل فيما دخل فيه الناس وأعلن هدنته للحكم الجديد، الذي سارع للقضاء على هذه الفتنة الدينية والسياسية.
حروب التأويل:
إن عليا وحزبه من الصحابة ومن تبعهم ووافقهم، لم ينسوا أبدا أنهم على حق. وإن النظام السياسي للإسلام ليس " الخلافة " وإنما الإمامة، إمامة علي وبنيه. لذلك لما أخرج الثوار - الذين قتلوا عثمان - الإمام علي بن أبي طالب وبايعوه بيعة عامة، كان الشعور السائد في الوسط الإسلامي آنذاك، أن المياه قد رجعت إلى مجاريها. وإن الإمامة التي أزيحت عن الحكم 24 سنة، قد أعيدت لمكانها. وبدأ حكم الإمام علي وسط عواصف هو جاء بدأت تهب من هنا وهناك، فطلحة والزبير اللذان بايعا الإمام، في المدينة، تسللا إلى مكة ليقنعا أم المؤمنين عائشة بالخروج معهما لحرب علي، وقتل قتلة عثمان.
فاستجابت لهما وقادت حرب الجمل التي حصدت ألوفا من أرواح المسلمين
____________
= وراء ظهوركم ؟ إذ يقول * (وورث سليمان داوود) *... وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها ؟ أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان ؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ أم أنت أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك.. ".
أنظر الإحتجاج للطبرسي مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ط 2 1983 م، ج 1، ص 102. وهذه الخطبة طويلة، وتثير الكثير من القضايا الحساسة في تاريخ الإسلام ، وقد تناولها بعض الباحثين بالدراسة والتحليل.
أما بني أمية الذين استفادوا كثيرا من خلافة عثمان، فقد شعروا بأنهم على وشك أن يخسروا كل شئ. لقد قتل عثمان لأنه وزع أموال المسلمين على بني أمية، والآن جاء الوقت لاسترجاعها منهم. والاقتصاص لكل المظالم التي اقترفتها أيديهم. وكان الإمام علي عازما على تطبيق العدل الإسلامي بحذافيره. وأول ما فعل أقال ولاة عثمان على الأقاليم، ووضع غيرهم.
لكن معاوية الأموي رفض الإقالة وأعلن العصيان على الإمام علي ولم يدخل في بيعته، بل أعلن خروجه للمطالبة بدم عثمان والقبض على قتلته.
وهو الذي لم ينجده لما طلب نجدته، بل ترك الثوار يجهزون عليه. لقد استفاد معاوية بن أبي سفيان من جهل أهل الشام الذين لم يكونوا يعرفون عن علي وأهل بيت الرسول شيئا. بل إن فهمهم للإسلام لم يكن بالمستوى الذي يميزون به بين الحق والباطل. وإذا كان الخليفتان الثاني والثالث قد أطلقا يده في حكم الشام. فإنه قد توج نفسه ملكا، وتصرف تصرف الملوك والأباطرة.
ولم يعر للدين الجديد الاهتمام المطلوب لنشره أو ترسيخه في نفوس الجماهير الشامية.
لقد أثمرت هذه السياسة الأموية ما كان مطلوبا منها، فجهز معاوية جيش الشام الذي كان حسب قوله " ولا يفرق أصحابه بين الناقة والبعير " وبدأت الحرب، حرب الدجل والخداع، حرب لا أخلاقية استخدم فيها معاوية كل الأساليب الغير مشروعة، لإجهاض نموذج الإمامة في السياسة، الذي بدأ الإمام علي يؤسس له، حيث أعاد إلى الأذهان والواقع كل الأحاديث التي رويت في فضله وفي أحقيته في الإمامة والخلافة، وأعطى الأدلة الواقعية على ذلك، من علمه وحلمه وحكمته، وقدرته على الحكم والفصل من أدق المسائل وأعقدها.
لقد انتهت " حروب التأويل " التي خاضها الإمام بمقتله في المحراب وهو
فاز الإمام علي بالشهادة، لكن الأمة خسرت الكثير، من العلم والمعرفة والحقيقة، كان عليه السلام يخاطب رعيته " اسألوني قبل أن تفقدوني " فكان البعض منهم يتقدم إليه سائلا عن النملة التي أنذرت قومها من جيش سليمان هل كانت ذكرا أم أنثى ؟ !.
كان علي يريد أن يغير (5)، أن يعيد الأمور، كل الأمور إلى نصابها، أن يعلم الأمة التأويل الحقيقي والواقعي للوحي، وأن يجسد المثال والقدوة للإنسان الكامل الذي دعت الأديان لصنعه وإخراجه إلى حيز الوجود الواقعي.
لكن رياح الأهواء والجهل، وقفت سدا منيعا أمام طموح الإمام. فلم يحقق من طموحه إلا النزر ؟ القليل، وإن كان قد استطاع أن يقف على منابر الكوفة معلنا للجميع أنه الإمام الذي اختاره الإسلام، وأنه وليس غيره، الخليفة الشرعي لرسول رب العالمين. يقول عليه السلام، "... لقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله - وأن رأسه لعلى صدري. ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غسله - صلى الله عليه وآله - والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم، يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه. فمن ذا أحق به مني حيا
____________
(5) قال عليه السلام في إحدى خطبه: " لو قد استوت قدماي من هذه المضاحض لغيرت أشياء " أنظر شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، منشورات الأعلمي، ج 4، ص 66.
وغير ذلك من الخطب والمواقف التي صرح فيها بأنه الوصي والخليفة الشرعي.
لقد جاءت تصريحاته وخطبه لتعيد إلى الأذهان من جديد مشكل خلافة الرسول الذي كان قد غض الطرف عنه بعد ما انشغل المسلمون في حروب الردة. فآمن الكثير من المسلمين بإمامته وأحقيته، وصرح بذلك بعض الصحابة الذين لم يكونوا يستطيعون إعلان ذلك. وعليه فلم تعد موالاة علي تقتصر على بني هاشم ولفيف من الصحابة. بل أصبحت الموالاة عامة، تشمل فئة عريضة من المجتمع الإسلامي، وخصوصا في الكوفة وأقاليم العراق. لأن الإمام كان قد نقل مركز الخلافة إلى هناك.
هذه الفئة التي ستصبح بعد ذلك تيارا متميزا، بعد ما استحوذ بنو أمية على الخلافة وحولوها إلى ملك عضوض.
إنطلاق حروب الاستئصال:
لقد كان انتصار معاوية واستلامه الخلافة من الحسن بن علي، الإعلان الرسمي لشن الحرب على أتباع علي بن أبي طالب ومناصريه، وكل من آمن بخلافته وإمامته. فقتل الإمام الحسن مسموما على يد معاوية. وتبعه قتل وتشريد كل من عرف بموالاته عليا وأهل بيته. قطعت الأيدي وسملت الأعين، وهدمت المنازل على أصحابها وأعلنت البراءة من أتباع علي ومحبيه، ومنعوا أرزاقهم من بيت مال المسلمين (7)، وقتلوا أينما وجدوا. لم يقتصر القتل على عامة الناس بل قتل معاوية بعضا من كبار الصحابة مثل حجر بن
____________
(6) شرح نهج البلاغة، الدكتور صبحي صالح، الخطبة 197، ص 311.
(7) جاء في العقد الفريد عن معاوية بن أبي سفيان قوله: " انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه ". وجاء فيه كذلك " من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره "، ابن عبد ربه، ج 4 ص 366.
تتبع معاوية أفعال الإمام علي وأقواله وتاريخه الجهادي، فأمر الرواة الكذبة بتحريف كل ما ورد في ذلك وظهر للوجود كم هائل من الأحاديث والروايات تشرع، تحلل وتحرم، وتزيف تاريخ الدعوة الإسلامية. وقد كان معاوية وبنو أمية من بعده كرماء أسخياء في دعم هذه الحركة، حركة التزوير الكبير للإسلام وتاريخ رجالاته.
أما الإمام علي فقد كان يعلم ما سيقع بعد موته من استيلاء بني أمية على الحكم، لأن الرسول (ص) كان قد أخبره بذلك قبل موته. يقول عليه السلام:
"... إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شئ أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته. ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه، ولا في البلاد شئ أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر !
فقد نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان
____________
(8) قتل معاوية ابن أبي سفيان حجر بن عدي وثلاثة عشر من أصحابه في مرج عذراء قرب دمشق وقد روي عن الرسول (ص): " سيقتل في عذراء سبعة نفر يغضب الله لهم وأهل السماء " وقد عاتبت أم المؤمنين عائشة معاوية على قتلهم فقال أنه قدر محتوم. ومن المحزن حقا والباعث على الأسى الكبير، إن حجر بن عدي كان أول من وطأت قدمه هذه المنطقة فاتحا في سبيل الله. وقد قال لما وصلها مكبلا في الحديد: " الحمد لله.. أما والله إني لأول مسلم نبحت عليه كلابها، ثم أنا اليوم أحمل مصفودا إليها ". قتل هذا الصحابي بسيف معاوية، وقبله قتل ابنه همام أمام عينيه لكن عزاءه كان فيما سمعه من رسول الله (ص):
" يا حجر تقتل في محبة علي صبرا، فإذا وصل رأسك إلى الأرض مادت وأنبعت عين ماء، فغسلت الرأس ". أنظر حجر بن عدي الثائر الشهيد، محمد فوزي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
ظلم بني أمية وعدل بني العباس ؟ !:
وبهذا الكلام يكون الإمام علي عليه السلام قد وصف عصر بني أمية بشكل مجمل وواقعي " فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان " ؟ !. لقد قتل معاوية الإمام الحسن، وقتل ابنه يزيد الإمام حسين في واقعة كربلاء. واستمر القتل في الشيعة وأئمتهم الواحد بعد الآخر، حتى قال قائلهم " إن القتل أصبح لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة "، وقولهم " ما منا إلا مقتول أو مسموم ".
وهكذا كان الحكم الأموي وبالا على الإسلام والشيعة، واكتوى بناره غيرهم، ففي وقعة الحرة بالمدينة المنورة قتل الآلاف من التابعين، وهتكت أعراض نساء المسلمين، لأنهم رفضوا بيعة يزيد، فكان جزاؤهم ما هو مسطور في كتب التاريخ.
إستمر السيف يحصد رقاب الشيعة طوال الحكم الأموي. وإن كانوا قد تنفسوا الصعداء مع بداية الحكم العباسي، إلا أن هذه الهدنة لم تدم طويلا، فالحكم العباسي الذي قام على تضحيات الشيعة ومعاناتهم، ورفع شعار " الحكم للرضا من آل محمد " سيتنكر للعلويين. لأن بني العباس قرروا الاستئثار بالملك والخلافة دونهم، وبدأت حرب الاستئصال من جديد، عمقتها الثورات الكثيرة التي تزعمها ثوار الشيعة من العلويين. الذين أصبحوا
____________
(9) نهج البلاغة، الخطبة 147. أنظر صبحي صالح ص 205.
كانت حرب معاوية للشيعة من أجل القضاء على فكرة الإمامة واستئصالها من التفكير الاجتماعي العام، لأنها تشكل خطرا على ما كان يسعى له من تأسيس ملك إمبراطوري. أما العباسيون فقد انطلقوا من فكرة الإمامة وأحقية بني هاشم في الحكم والخلافة. لكنهم انتكصوا في ظروف يشرحها التاريخ، وانقلبوا على أبناء عمومتهم، وانفردوا بالملك. وأصبح الجامع بين الأمويين والعباسيين هو الخوف من وصول أئمة أهل البيت للحكم، لأن وصولهم يقطع الطريق نهائيا على الأسرتين القرشيتين.
فالإمامة عند أهل البيت لا تكون بالاختيار أو المؤامرات والدسائس الأسروية والقبلية، وإنما بالنص والتعيين. لقد نص الرسول على علي بن أبي طالب وقال (ص) " الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا "، ونص الحسين على إمامة ابنه زين العابدين، الذي خلفه ابنه الباقر وهكذا إلى الإمام الثاني عشر.
وبنو أمية كانوا على علم بذلك وكذا بنو العباس. لذلك فقد شكل وجود هؤلاء الأئمة تحديا دائما لملوك الأسرتين.
فوجود الأئمة تشكيك في شرعية حكمهم، خصوصا وفئات من الناس تؤمن بذلك وتعتقده، وترفض الحكم القائم. وهذا الوجود الشخصي للأئمة جعل من الجرح لا يندمل أبدا، عمقت شرخه الثورات المتتالية للشيعة، وإن كان الأئمة لم يشاركوا فيها مباشرة.
لقد ضاق العباسيون - وقبلهم بنو أمية - من وجود الأئمة درعا، فراموا قتلهم بكل وسيلة، وإذا تجرأ بنو أمية فقتلوا بحد السيف بعض الأئمة، فإن بني العباس قد استخدموا وسائل أخرى، منها السجن مدى الحياة لبعض الأئمة ودس السم لهم بعد ذلك. والنتيجة أن الشيعة وأئمتهم قد عانوا الأمرين خلال الحكم العباسي كذلك، حتى قال: قائلهم يا ليت ظلم بني أمية دام لنا * وعدل بني العباس في النار
لذلك فقد واكب الصراع المسلح، صراع آخر فكري، فبنوا أمية وضعوا الأحاديث والتفسيرات التي تدعم الخلافة أولا، وتنفي فكرة الإمامة الشيعية ثانيا. كم هائل من الروايات والتعليقات وأقوال الصحابة والتابعين، كلها تصب في خانة التشكيك في عقيدة الإمامة. لكن عصر بني أمية تميز بالحسم العسكري واستخدام الإرهاب والقتل. فالحجاج بن يوسف الثقفي مجرم بني أمية لم يكن يناقش الشيعة في صحة عقيدتهم، بل كان يعرض على السيف مباشرة من وشي إليه به، أنه يوالي عليا أو من أصحاب أئمة أهل البيت.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأئمة بعد الإمام علي، لم يكفوا عن الدعوة لإمامتهم وعرض الأدلة على صحة مطلبهم من القرآن والسنة، ووقائع الدعوة الإسلامية في فجر الإسلام وعلى عهد الرسول. لذلك فقد تكون للشيعة مذهب متكامل ومنسق في الإمامة مدعوم بالأدلة النقلية والعقلية.
لذلك ستنطلق مع الدولة العباسية الاستفادة من التراث الذي صنعه بنو أمية في صراعهم مع الشيعة، سيتم معالجة هذا التراث والزيادة عليه وتنقيحه وترتيب أبوابه، مواكبة للتطور العلمي الذي عرفته الفترة. فظهرت للوجود مذاهب عقائدية وفكرية، كان الغرض منها أولا وأخيرا، الوقوف في وجه الفكر الشيعي الإمامي ودحض حججه، والحؤول بينه وبين الانتشار والسيطرة على عقول الجماهير. وبذلك اكتملت وقائع الحرب بين الخلفاء والشيعة.
فالثوار يواجهون بالسيف والتنكيل والقتل. أما الأئمة الذين ظلوا بعيدين عن الحرب، يمارسون التدريس وتعليم شيعتهم عقائد الإمامة ومبادئ الإسلام
ما كاد القرن الرابع يلفظ أنفاسه الأخيرة، حتى كان لخصوم الشيعة الإمامية ترسانة من الأدلة والوقائع، احتضنتها مذاهب ومدارس، وتراث ضخم يخدم هذا الغرض. وهذا التراث الضخم لم يخدم في الواقع الحقيقة بل خدم الملك والسياسة، وساعد في توطيد حكم زائف محسوب على الإسلام حكم انتهكت فيه الكرامة الإنسانية، وحقوق الإنسان الطبيعية باسم الإسلام.
وكتب التاريخ ما زالت تقطر دما من فضائع اقترفها في حق الإنسانية حكام بني أمية وبني العباس، ولا يمكن لأرباب المدارس الفقهية المعينين من طرف السلطان أن يبرروا هذه الجرائم، مهما أوتوا من قوة الجدل واصطنعوا من حيل ومكر تشيب له الولدان، لأن الظلم، ظلم، حتى الحيوانات العجماء تعرفه وتفر منه. يسأل هارون الرشيد أحد ندمائه عن ابنه هل يحفظ القرآن فيجيب بالتأكيد، ولما يسأل الخليفة الابن، لا يجده يحفظ من كتاب الله شيئا، فيلتفت الخليفة إلى الأب ويقول له: قم وتقرب إلى الله بقتل ابنك، فترتعد فرائص الأب عند القيام. لكن أحد الحضور يستدرك الأمر ويطلب من الخليفة أن يعفي الأب من قتل ابنه ويكلف غيره للقيام بذلك. وفعلا يقتل الشاب.
هل هذا حكم الإسلام ؟ ! هل أمر الله بقتل من لم يحفظ كتابه ؟ !.
والغريب في الأمر، أن أحدا لم يعترض على الخليفة. أو ينبهه إلى أن ذلك ليس حكم الإسلام ؟ ! بل الرجل الوحيد الذي تدخل، فإنما رأفة بالأب الذي أمر بتنفيذ حكم الإعدام في ابنه..
إن نظام الخلافة الذي صنع له تراث ضخم من الأحاديث والتفسيرات والتأويلات، لا يمكن أن يكون هو النظام الذي كان الإسلام ينشده. فالإسلام دين الإنسانية والعدل. أما ما هو مسطر في كتب التاريخ من يوميات الخلافة
طبعا سيطلع علينا فقهاء المدارس السلطانية ووعاظ الملوك - وخصوصا الحنابلة والسلفيين منهم - بأن معاوية قد قتل الصحابة متأولا. وأن ملوك بني أمية أهلكوا الحرث والنسل وعبثوا بالأرواح والأعراض متأولين. وأن ملوك بني العباس فعلوا ذلك متأولين، وهم فوق ذلك مأجورون ؟، لأن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجرين وإذا أخطأ فله أجر واحد ؟.
أقول لو صح ذلك فإن كارل ماركس كان محقا ومصيبا عندما أعلن بأن " الدين أفيون الشعوب " ؟ !.
إن هذا التراث الذي سيستفيد منه دعاة السلفية في شن حربهم الشعواء على الشيعة الآن وقبل ذلك، لم يكن متراص الجوانب، قويا، يستطيع فعلا أن يسدد الضربات المؤلمة لمذهب الشيعة الإمامية الأصولي والفقهي. والسبب في ذلك يرجع إلى احتوائه على تناقضات كثيرة، فأحاديث الإمامة وفضل علي وأهل بيته، تملأ صفحات كثيرة من هذا التراث. أما المسائل الفقهية التي وقع الاختلاف حولها بين السلفية وأهل السنة من جهة، والشيعة الإمامية من جهة أخرى، فإن مصادر السلفية وأهل السنة بشكل عام، تزخر بالأدلة حول هذه القضايا الفقهية.
وبالجملة فليس هناك عقيدة أو فكرة يدعو لها الشيعة الإمامية إلا ولها مستند قوي، ليس في القرآن وما صح من السنة لديهم، بل ما صح من السنة لدى خصومهم. لذلك ترى المتشيعين من أبناء السلفية أو أهل السنة اليوم، لا يرجعون في الاستدلال على عقائد الشيعة التي اعتنقوها إلى مصادر الشيعة
وأمام هذا الواقع لا يجد السلفية اليوم كما وقع مع أجدادهم إلا الكذب، أو الانتصار بالسلطان والسيف في حربهم مع الشيعة الإمامية، أما ما يكتبونه من كتب ضد الشيعة، فهي بالإضافة إلى الكم الهائل من السباب والشتم والقدف الذي لا يمكن أن يعتبر ردا تفند به العقائد والنظريات الفكرية.
تحتوي على مجمل الانتقادات والاعتراضات التي قال بها فقهاء أهل السنة، وهذه الكتب لا شك أنها كتبت بمداد السياسة، وولدت في بطن الصراع الدموي التاريخي الطويل. فلم يذق أصحابها طعم الموضوعية، ولا ارتووا بماء المناهج العلمية. لقد كتبت كشهادات طعن وتجريح، قدمت للملوك دعما لشرعيتهم المهلهلة، وشهادات لأصحابها على موالاتهم للنظام، واستحقاقهم بعد ذلك للوزارات ومناصب القضاء والإقطاعات والمنح السخية.
لذلك نضم صوتنا للشيخ محمد رضا الحكيمي وهو مختص بتاريخ الفرق الإسلامية. عندما يقول: " إن الدراسة الموضوعية الهادفة تكلف الباحث الرجوع إلى الكتب المؤلفة بيد أعلام المذاهب وخبرائه المعروفين بالحدق والوثاقة. والاعتماد على كتب الخصوم الخارج عن أدب الجدل ورسم التحقيق، بيد أننا نرى كثيرا من الكتاب المعاصرين يعتمدون في تحليل عقائد الطوائف الإسلامية على " مقالات الإسلاميين " للشيخ الأشعري، و " الفرق بين الفرق " لعبد القادر البغدادي، و " الملل والنحل " للشهرستاني، وهؤلاء كلهم من أعلام الأشاعرة، ويرجع إليهم في الوقوف على التفكير الأشعري، وأما في غيره فلا يكون قولهم ونقلهم حجة في حقهم إلا إذا طابق الأصل " (10).
____________
(10) بداية الفرق نهاية الملوك، ص 105.
وعلى السلفيين اليوم أن يتبعوا منهج القرآن، عليهم أن يعرضوا أقوال وعقائد خصومهم الشيعة الإمامية. وأن يستقوها من مصادرهم المعتمدة والمتفق عليها بين خاصهم وعامهم، ثم بعد ذلك فليشمروا ساعدهم ولينقضوا عليها طعنا وتجريحا. ونحن لا نعتقد أنهم سيفعلون لأن ذلك سبيل إلى انفضاح كذبهم وتقولاتهم ؟ !. أما نحن فلم نغفل هذا المنهج القرآني، لقد حرصنا على الاستدلال بنصوص أخذناها من مصادرهم التي أعلنوا أنها معتمدهم، ووثقنا ذلك بمراجعه ليرجع إليه عند التحقيق، حتى لا يقال هذا محض افتراء وكذب، لأن من تعوذ الكذب قد يرى الناس كذلك.
إن الصراع المذهبي بين الشيعة وأهل السنة ظل منحصرا في الردود المكتوبة وداخل المدارس، إلا ما كان من حرب السلطان لثوار الشيعة الذين رفعوا السلاح، أو العناصر التي كانت تشكل خطرا دائما ولو بدون سلاح كالأئمة. لكن هذا الصراع لم تكن له تداعيات اجتماعية خطيرة إلا قليلا، وفي فترات تاريخية محددة.
لكن الصراع بين الشيعة الإمامية والسلفية لم يكن كذلك. لأنه وكما يظهر من وقائع التاريخ إن الحنابلة " السلفية " بعد ما استوى مذهبهم وكمل بناؤه. أخذوا على أنفسهم أن يحاربوا مناوئيهم، من الشيعة وغيرهم، ليس باللسان أو القلم ولكن باليد. وقد بسطنا القول في " أسلوب الدعوة " وكيف مارس الحنابلة دعوتهم لعقائدهم، وتعرضنا لذكر الفتن الدامية التي كانوا
أما صراعهم مع الشيعة الإمامية فقد كان متميزا ومريرا وكأنهم كما قيل، قد تولوا الحرب بدل بني أمية الذين انقرضت دولتهم، وبني العباس الذين أشرف ملكهم على الانهيار مع نهاية القرن الخامس، بالإضافة إلى باقي الطوائف التي تخالف الشيعة عامة والإمامية بالخصوص. وما ميز هذا الصراع الذي سنعرض لبعض وقائعه، أنه كان دمويا ووحشيا، قتلت فيه الأنفس وحرقت فيه الأموال والممتلكات. وبالطبع كان البادئ لإشعال هذه الفتن، هم الحنابلة سلف السلفية المعاصرين. ونحن عندما نعرض لهذا التراث الوقائعي، إنما لتتبع جذور الصراع الحالي، الذي لا شك أنه استمرار لما سبق كما أن السلفيين اليوم يستمدون الكثير من عناصر الصراع وأدواته من هذا التراث الوقائعي التاريخي. بالإضافة إلى رسم صورة أمام القارئ لوحشية هذا الصراع ودمويته الغير مبررة دينيا ولا إنسانيا ؟ !.
يوميات الصراع السلفي مع الشيعة الإمامية
مع حنابلة بغداد:
شهدت بغداد أطول الصراعات الحنبلية الإمامية، فقد انفجرت الفتن المذهبية، في النصف الأول من القرن الرابع. ففي سنة 349 ه " جرت وقعة هائلة ببغداد بين السنية والشيعية وتعطلت الصلوات في الجوامع سوى جامع براثا، الذي يأوي إليه الرافضة (11).
ويقول ابن كثير في حوادث سنة 354 ه ".. ثم تسلطت أهل السنة (الحنابلة) على الروافض، فكبسوا مسجدهم، مسجد براثا الذي هو عش الروافض، وقتلوا بعض من كان فيه من القومة " (12). والسبب حسب هذا المؤرخ السني هو قيام الشيعة بعمل مأتم يوم عاشوراء بمناسبة مقتل الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وتوالت الفتن، كل سنة تقريبا يهجم عوام الحنابلة على مناطق الشيعة ومساجدهم فيعيثون فسادا. وقد كان بعض ذوي السلطان يدعمونهم ويشجعونهم على ذلك. وفي سنة 362 وقعت فتنة عظيمة راح ضحيتها آلاف الشيعة ونهبت أموالهم. يقول ابن كثير: " وفيها أحرق الكرخ ببغداد، وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلا من العامة فمات، فثارت عليه
____________
(11) النجوم الزاهرة، ج 3، ص 323، والكامل في التاريخ، ج 8 ص 533 نقلا عن صراع الحرية، ص 14.
(12) البداية والنهاية، ج 11، ص 254. أنظر المرجع السابق، ص 15.
أنظر لهذه الهمجية اللاإنسانية واللادينية، لم يكتف هؤلاء الحنابلة أتباع السلف من قتل من قتل، هذا إن كان فعلا قد قتله عمدا، والقصاص الإسلامي يقضي بقتل القاتل. فما بال عشرين ألف قتيل ؟ ! ما ذنب هؤلاء ؟
لا بد أن هناك أطفالا ونساء وشيوخا طاعنين في السن ومرضى ! ! لم قتل هؤلاء ؟ ! وأي شرح يبيح ذلك ويشرعه ؟ ! اللهم إلا قانون الحقد الأعمى والجهل المركب ؟ ! تدعمه سياسة البغض، التي سنها بنو أمية، وعمل بها الملوك بعدهم.
مثال آخر لإهدار الدم الشيعي المسلم، فقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 363 ه يقول: " ثارت العامة من أهل السنة ينصرون سبكتكين، لأنه كان يتسنن، فخلع عليهم وجعل لهم العرفاء، والقواد، فثاروا بالشيعة، وحاربوهم، وسفكت بينهم الدماء، وأحرقت الكرخ حريقا ثانيا، وظهرت السنة عليهم (14). والسنة أو عامة السنة هنا هم حشوية الحنابلة الذين تعضدهم السياسة الغاشمة وتشجعهم على إثارة الفتن وقتل الأبرياء.
إن ما يسترعي الانتباه فعلا هو ما كان يفعله حشوية الحنابلة أثناء هذا الصراع، لأنه يعتبر أحد المفاتيح لحل لغز هذه الفتن وخلفياتها. يقول ابن كثير
____________
(13) البداية والنهاية، ج 11، ص 273، تاريخ ابن خلدون، ج 4، ص 446 - 447. أنظر المرجع السابق، ص 17.
(14) الكامل في التاريخ، ج 8، ص 637. أنظر المرجع السابق، ص 19.
إنه الصراع ضد الإمامة الذي انفجر مبكرا كما أسلفنا، ما زال يحرك الضغائن ويبعث على الحروب، حروب الاستئصال الذي بدأها بنو أمية !
ولست أدري كيف أباحوا لأنفسهم القول: " نقاتل أصحاب علي " ألم يعترف إمامهم أحمد بن حنبل بخلافة الإمام علي. وأعلن بأن لا يناكحوا ولا يكلموا من لا يقول بالتربيع وبخلافة الإمام ؟ فكيف بهؤلاء الحنابلة يرفضون قول إمامهم ؟ ! ويضربون به عرض الحائط ؟ !.
إن هذا الموقف يؤكد لنا بأن ما يسمى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ليس إلا مجموع آراء وعقائد وأهواء هؤلاء الحشوية، وأن ليس لأحمد إلا الاسم والشعار، زيادة في التحريف والتزوير !.
وفي سنة 389 ه: " وفيها أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، فيما يزعمونه، فقاتلهم جهلة آخرون من المنتسبين إلى السنة، فادعوا: أن في مثل هذا اليوم حصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر في الغار. فامتنعوا من ذلك " (16).
____________
(15) البداية والنهاية، ج 11، ص 275. أنظر المرجع السابق، ص 22.
(16) البداية والنهاية، ج 11 ص 325. يقول المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي: " واستمر أهل السنة يعملون هذا العيد المزعوم دهرا طويلا. وقد أظهروا فيه الزينة، ونصب القباب، وإيقاد النيران.. الخ "، أنظر صراع الحرية في عصر المفيد، ص 23.
فكل عقيدة أو رأي أو عادة للشيعة سيوضع لها مقابلها المزيف ؟ إن يوم عاشوراء هو يوم مقتل الحسين بن علي على يد يزيد الأموي وهذه حقيقة تاريخية مجمع عليها، ويوم غدير خم، حادثة تاريخية مجمع على وقوعها وإن اختلف في تفسيرها. وعليه فإن الشيعة كانوا يعتمدون التاريخ الحقيقي، ويحتفلون بوقائع مسطورة ومجمع على صحتها ووجودها. لكن الحنابلة لما، أعيتهم الحيلة، ولم يستطيعوا القضاء على هذه الحقائق وعلى المؤمنين بها، التجأوا إلى الاختلاق ووضع وقائع وتواريخ مزيفة لا وجود لها لا في التاريخ ولا في الواقع ؟ !.
وفي هذا السياق نفسه يقول ابن كثير، حوادث سنة 389 ه " ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتما، يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة السنة. فادعوا إن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتما، كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره، كما يزار قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها.
وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه بعد قليل، لكن لنا تعليق على هذا المؤرخ الذي كان يعادي الشيعة، فهو يصف إظهارهم الحزن على مقتل الإمام حسين بدعة ! ولست أدري ما ذا كان على الشيعة أن يفعلوا عند حلول ذكرى هذه المناسبة كل سنة، هل يوزعوا الحلوى على الحشوية ويقيمون الحفلات والأفراح ؟ ! (18) أم كان عليهم نسيان هذه الحادثة والتغافل عنها ؟ ! وهذا ما كان يرغب فيه أتباع بني أمية وأذنابهم.
ونسأل " الحنابلة " لماذا الاحتفال بمقتل مصعب بن الزبير ؟ لقد كان عدوا لبني أمية فقتلوه، وبنو أمية أمراء هؤلاء الحشوية وسلفهم ؟ ! أم يحتفل به لأنه كان عدوا لأهل بيت الرسول (ص)، لدرجة أنه امتنع عن ذكر الرسول والصلاة عليه. بحجة أن له أهل يشمخون بأنوفهم عند ذكره في الصلاة أو خطب الجمعة ؟ !.
إنه الحقد الأعمى الذي يركب كل وسيلة، المهم الوقوف في وجه الشيعة وإغاضتهم ومنعهم من القيام بكل ما تمليه عليهم عقائدهم.
ونحن نسأل هل كان الشيعة يعارضون الحشوية أو غيرهم إذا ما قاموا بإحياء ذكرى موت أو قتل أي صحابي أو غيره من أئمتهم ؟ !. إن هذا لم يحصل إلى الآن ؟.
والذي يدعو على الحسرة ليس فقط مقارنة مقتل الإمام الحسين بمقتل رجل
____________
(17) البداية والنهاية، ج 11، ص 325 - 326.
(18) اتخذ بنو أمية، وكذلك بنو أيوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم، ويختضبون فيه، ويزورون القبور، وينبسطون في المطاعم، ولبسوا الجديد، وتزيوا واكتحلوا، وتبخروا، وأقاموا الولائم والضيافات، وأطعموا الحلاوات والطيبات، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم، وبقي فيهم بعد زواله عنهم، كل ذلك ليرغموا آناف شيعة علي بن أبي طالب، الذين يتخذون هذا اليوم يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي.
أنظر صراع الحرية في عصر المفيد، للعلامة السيد جعفر مرتضى العسكري، ص 95.
السلطة تشجع إراقة الدم الشيعي:
استمرت الفتن المذهبية والتعدي على شيعة الكرخ، وظهر دعم السلطان للحشوية واضحا مع المقتدر العباسي. ففي عام 408 ه تكررت الفتن وتفاقمت وقتل عدد من الفريقين، وعجز صاحب الشرطة عنهم وقاتلوه، فاضطروا إلى إشعال النار قريبا من الكرخ محل إقامة معظم الشيعة في بغداد فتوقفت الفتنة (19).
إن كتب التاريخ حافلة بذكر هذه الفتن، وقد ذكر المحقق العاملي ثلاثين فتنة وقعت خلال النصف الثاني من القرن الرابع وبداية القرن الخامس، وقعت ببغداد وكان فرسانها حشوية الحنابلة، وراح ضحيتها ألوف من الشيعة الإمامية. وسنذكر حادثة وقعت خارج بغداد لكنها في نفس الفترة، لأنها تلقي الضوء على العامل السياسي المحرك لهذه الفتن، وإن الحشوية كانوا مجرد أيادي غيبة يضرب بها الشيعة وتسفك دماؤهم، ليس في سبيل الله، ولكن في سبيل السلطان والشيطان.
قال ابن كثير: " في هذه السنة 407 ه قتلت الشيعة ببلاد إفريقية، ونهبت أموالهم، ولم يترك منهم إلا من لا يعرف " (20) وقال ابن الأثير: " في هذه السنة في المحرم قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية. وكان السبب في ذلك: إن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه، ويدعون له، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة، يسبون أبا بكر وعمر.
____________
(19) عن الكامل، ج 9، ص 304، أنظر المرجع السابق، ص 89.
(20) البداية النهاية، ج 12، ص 5، أنظر صراع الحرية في عصر المفيد، ص 33.
فانصرفت العامة من فورها إلى درب المخلى من القيروان، وهو مكان تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم طمعا في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة. وأغراهم عامل القيروان وحرضهم. وسبب ذلك: أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه: أن المعز بن باديس يريد عزله، فأراد فساده. فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع إفريقية.
واجتمع جماعة إلى قصر المنصور قريب القيروان فتحصنوا به، فحصرهم العامة، وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون، والناس يقتلونهم، حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم (21).
وبعد، ما ذا يقول المفكرون الإسلاميون الذين يلهجون بتسامح الإسلام.
وأن الأقليات الدينية من يهود ونصارى قد عاشت في وئام وحفظ في المجتمع الإسلامي ؟ ! وإذا كان صحيحا، فإن من يقول: " إن عزير ابن الله " ومن يقول " إن الله ثالث ثلاثة " لا يؤمن برسالة محمد بن عبد الله (ص) كان يعيش في أمن وأمان على روحه وماله، أما من كان يشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فقد كان يقتل في المساجد والطرقات، ويكبس في بيته ويحرق بالنار ؟ ! لكنها السياسة كما قلنا سابقا، وسواء أكان الحنابلة أم غيرهم أداة التنفيذ، فإن الضحية واحدة هم الشيعة.
فترحم هذا الأمير على أبي بكر وعمر، يعتبر ضوءا أخضر لسفك دماء الأبرياء علما أنه وكما قال ابن الأثير " فسأل عنهم، فقيل هؤلاء رافضة
____________
(21) صراع الحرية في عصر المفيد، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، ص 33 - 34، نقلا عن الكامل في التاريخ، ج 9 ص 294 - 295. وراجع تاريخ ابن الوردي، ج 1 ص 460 ، لكن الناشر قد وضع نقاطا في موضع بعض الكلمات، لحاجة في نفسه قضاها.
وهل سب أبي بكر وعمر يبيح القتل ونهب الأموال. لقد كان معاوية وملوك بني أمية يلعنون الإمام علي وهو الصحابي الجليل، ثمانون سنة والخطباء يختمون خطبهم بلعن أبي تراب، ابن عم الرسول وزوج ابنته الطاهرة. وأبي الحسن والحسين ريحانتي رسول الله ؟ ! لكن أحدا من علماء السلف لم يحرك ساكنا، ولم نسمع عن صدور فتوى تبيح دم معاوية وملوك بني أمية، أو الخطباء الذين كانوا يلعنون ليل نهار الإمام علي وهم بالآلاف.
بل إن مجتمعات في بلاد الشام كانت تتعبد بلعن أبي تراب عليه السلام كما مر معنا بخصوص مدينة حران وموطن الحنابلة ومنشأ ابن تيمية ؟ !.
تبرير المجازر الدموية:
إن مسألة سب الصحابة التي اتخذها الحشوية مطية لقتل الشيعة، إنما كانت إحدى أكبر المغالطات في تاريخ الإسلام وما زالت إلى اليوم. وسنعرض لها بعد قليل إن شاء الله لإيضاح مكنون سرها وفض بكارة لغزها (22).
____________
(22) يقول المحقق العاملي: " إن الاتهام الذي كان يوجه إلى الشيعة والروافض بأنهم يسبون الصحابة، قد نشأ على ما يظهر من الأحراج الذي كان يصيب فريقا من الناس، حيث طرق القضايا الحساسة، بصورة صريحة، وحرة، فلا يجد ذلك الفريق من نفسه القدرة على مواجهة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل. فكان أن التجأ إلى ركوب موجة تحريض العامة، وأثارتهم عاطفيا، ثم التوسل بأسلوب العنف والقهر، كوسيلة أفضل للتخلص من آثار ذلك العجز الذي يعاني منه فريق يفقد شجاعة مواجهة الواقع، والإقرار بالحق، والاستسلام له. أنظر صراع الحرية، ص 76.
" بسبب جماعة منهم سبوا أبا بكر وعمر في المدينة "، ولعمري إن الفرق كبير جدا بين العبارتين، فعبارة المؤرخ تعني إن أحدا من حاشية المعز قال هؤلاء يسبون أبا بكر وعمر. ولم يحدد المؤرخ من القائل، بل قال: " قيل " على وزن زعم، و " قيل " تحتمل الصدق والكذب. كما تشير إلى أن الذي قال: كان عدوا للشيعة ولسكان هذا الحي في القيروان.
الدكتور يحصر الأسباب في هجوم العامة على الشيعة لأنهم سبوا أبا بكر وعمر. أما ابن الأثير فيوضح الأسباب الحقيقية وراء هذه الهجمة الهمجية، وهي أسباب سياسية، وأطماع في النهب والسلب ليس إلا ؟ !.
أما حصر هذه الأسباب في سب الصحابة فإنه تبرير ضمني لمجزرة دموية، ستبقى عارا على جبين التاريخ الإسلامي ؟ !. لقد شبعنا وأتخمنا ومللنا سياسة التبرير التي سلكها فقهاء السلطان قديما، ويسلكها اليوم من يجتر تراث هؤلاء ويؤمن به ! !.
برروا الظلم في السياسة، في الاقتصاد، في الاجتماع، وفي الدين، ويقفون بعد ذلك ليقولوا نريد أن ننهض ؟ ! نريد أن نخرج من التخلف الحضاري، لنواكب مسيرة الأمم في التمدن والرقي ؟ !. إن منهج التبرير الذي ورثه الخلف عن السلف، ليس إلا طريق الكذب وتزوير الحقائق، وهل سنتمكن من
____________
(23) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني، الدكتور عبد المجيد أبو الفتوح بدوي، عالم
المعرفة، جدة، ص 90.