الإهـداء


أُهدي شطر ثواب هذا الكتاب
إلى شيخ الأُمّة ومعلمها
الشيخ السديد، والولي الرشيد، والإمام السعيد
أبو عبد الله المفيد


الصفحة 5

المـقـدّمـة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له شريك ولا مثيل، الأوّل الذي لا بداية له، والآخر الذي لا نهاية له، الموجود لا عن عدم، والكائن لا عن حدث، الذي تقدّس وسما عن إدراك الأفهام، وجلّ وعلا عن إحاطة العقول والأوهام، العالم علماً حضورياً لا يعزب عنه شيء، والقادر بقدرة هو هي وسعت كل شيء، والحيّ لنفسه بلا حياة حادثة، السميع البصير بلا أداة ولا آلة، بل الهويات المسموعة والمبصرة حاضرة عنده سبحانه، الذي لا يحويه مكان، ولا يحيطه زمان، المريد للطاعات والكاره للمعاصي، المتكلّم لا بلسان، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله، عادل لا يجور، وليس بظلاّم للعبيد، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، ولا قاهر لمشيئته، و (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) .

وصلى الله على محمّد عبده وسيّد رسله، وخاتم أنبيائه، وخيرته من خلقه، والمصطفى لرسالته، والأمين على وحيه، ابتعثه رحمة للعالمين، وارتضاه شفيعاً للمذنبين يوم الحساب والدين، المعصوم من كلّ سهو وذنب، والمنزّه عن كلّ خطأ وعيب، صغيراً كان أو كبيراً، في الصغر

الصفحة 6
والكبر، من غير سلب للاختيار، كي يحصل الوثوق والاطمئنان، وينتفي كلّ شكّ وريب.

وأنزل عليه كتاباً عزيزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتعهّد سبحانه بحفظه، احتجاجاً على عباده بتبليغ رسالته، فصدع بأمره، وصبر على ما أوذي في جنبه، وجاهد في سبيله، ونصح لأُمّته، ولم يدعهم هملا حتّى عيّن لهم الحجّة من بعده، وعبد الله حتّى أتاه اليقين، فسلامٌ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

وصلى الله على آله الأئمة الهداة، وسفن النجاة، أعلام الورى، ومصابيح الدجى، ورثة الأنبياء، وختام الأوصياء، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وجعلهم أحد الثقلين، حجّة على المسلمين.

اللّهم وصلّ على صحبه الذين أحسنوا صحبته، وسابقوا إلى دعوته، وأسرعوا إلى وفادته، وأبلوا البلاء الحسن في نصرته، وهاجروا في سبيل إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء من أجل تثبيت نبوّته، والذين بقوا على العهد، ثمّ لم يرتابوا، طاعة منهم لرسولك، اللّهم وأرضهم برضوانك.

اللّهم وصلّ على التابعين لهم بإحسان، الذين (يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) والذين تحرّوا وجهتهم واتّبعوا طريقهم، ومضوا على شاكلتهم، اللّهم أرضهم وجازهم خير جزائك ورضوانك.

قال تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) (1) .

____________

(1) سورة النساء 4: 112.


الصفحة 7
وقال تعالى: (إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم) (1) .

وقال تعالى: (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤُكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى) (2) .

وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : " من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتّى ينزع [ عنه ]، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتّى يخرج ممّا قال "(3) .

وقال (صلى الله عليه وسلم) : " من بهت مؤمناً أو مؤمنة حبسه الله في ردغة الخبال يوم القيامة حتّى يخرج ممّا قال وليس بخارج "(4) .

وروى الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في مسنده، عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله عزّ وجلّ على تلٍّ من نار حتّى يخرج ممّا قال فيه(5) .

من الواجب على كلّ باحث ومحقّق ومتكلّم ومؤرخ عندما يتناول بحثاً ما أو موضوعاً ما، أن يتعامل معه بموضوعية، فقبل كلّ شيء عليه أن

____________

(1) سورة النور 24: 15.

(2) سورة النجم 53: 23.

(3) رواه أحمد في مسنده ج 2 ص 70، وأبو داود في سننه ج 3 ص 304 ح 3597، والحاكم في المستدرك ج 2 ص 32 ح 2222 وصحّحه هو والذهبي.

(4) المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ج 12 ص 297 ح 13435، المعجم الأوسط ج 6 ص 390 ح 6491 ورجاله رجال الصحيح غير محمّد بن منصور الطوسي، وهو ثقة، مسند الشاميّين ج 3 ص 358 ح 2460.

(5) مسند الإمام الرضا (عليه السلام) ص 41 ح 37.


الصفحة 8
يضع نصب عينيه مخافة الله عزّ وجلّ من أن يرمي بريئاً بما ليس فيه، أو ينسب إليه قولا أو رأياً لا يراه ولم يقله.

وعليه أن يسلك طريقة أهل العلم ويتأدّب بآدابهم متجنباً أُسلوب التهريج والسباب، والذمّ والتنابز بالألقاب، فهذا أُسلوب العاجزين الذين تعوزهم الحجّة والبرهان.

كما ويجب عليه أن يتحرّر من الجمود الفكري ويحاول التحري عن الحقيقة التي هي ضالّة كلّ منشد، وهـذا إنّمـا يتمّ بعـد تجاوز طريقة الآبـاء ـ في التقليد الأعمى المانع للاجتهاد وحريّة الآراء ـ الذين كانوا يتعاملون مع الكتاب والسُنّة والأثر وفق ما يحملون ويتبنّون من معتقدات وآراء، فهم يؤوِّلون ويفسّرون ويوجّهون ويسيّرون مفردات الكتاب والسُنّة وفقاً لما يذهبون أو يعتقدون، وليس العكس، بعبارة أُخرى تأسيس المذهب أوّلا ثمّ توظيف الكتاب والسنّة وفقاً لرؤية المذهب والمعتقد ثانياً.

وهنا الطامّة الكبرى، فلذلك تشعّبت وكثرت التأويلات والتفسيرات والأقوال والآراء، ورافق ذلك في نفس الوقت كثرة الطعن والتشهير والتضليل والتكفير، بل وصل الأمر إلى إباحة الدماء والأعراض بين طوائف وفرق المسلمين.

ولا يخفى على الباحث المتتبّع ملاحظة التأثيرات السياسية والمذهبية للحكّام والسلاطين على هذه المذاهب والفرق بما يحملون من نزعات أهوائية أو أغراض مستهدفة أو مبادئ وأفكار معيّنة، روعي فيها مرضاة هؤلاء الحكّام بما يخدم تدعيم سلطتهم وحكمهم، وكتب التاريخ والأثر طافحة بالشواهد على ذلك.

فلذا يجب على المفكّر والباحث والمجتهد أن يجعل الكتاب مرجعهُ

الصفحة 9
الأوّل ثمّ السُنّة الصحيحة قولا وفعلا وتقريراً، ثمّ يبدأ باعتماد الأُصول وتأسيس القواعد واستنباط الأحكام الشرعية، متّبعاً النهج العلمي السليم، متجرّداً من الرواسب الفكرية الموروثة، والنعرات الطائفية، غير متحيّز إلى فئة، جاعلا الوصول إلى الحقيقة هدفاً سامياً له، ولا سيما في ما يرتبط بالمسائل العقائدية والمذهبية، فعليه أن يبحث عن آراء وأقوال كلّ فرقة ونحلة في مصادرهم لا مصادر خصومهم، وأن يعتمد على آراء وأقوال عمدة أعلامهم وعلمائهم، لا آراء جهّالهم والشواذّ منهم، وعليه أن يجادل بأُسلوب علمي، مستعرضاً جميع الآراء، يقرع الحجّة بالحجّة والبرهان بالبرهان، ويحلّل ويستنتج، ثمّ يرجّح ما يراه صحيحاً من الآراء والأحكام اعتماداً على ما توصّل إليه من أدلّة صحيحة، ثمّ يصدر حكمه أو رأيه، قال تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) (1) .

هذا إذا كانت غايته النصح للإسلام والمسلمين وإظهار الحقيقة، أمّا إذا كان مبيّتاً لنيّات سيّئة مسبقة، مقلّداً أسلافه في التكفير والإشراك والتضليل وإباحة الدماء، فالكلام مع هؤلاء عسير.

قال تعالى: (إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلاّ كبرٌ ما هم ببالغيه) (2) ، والسلطان هو الحجّة سمّيت به لسيطرتها وتسلّطها على القلوب.

وإنّ من أهم المسائل التي تمّ تناولها بالبحث، هي: أيّ الفرق الإسلامية أولى بالحقّ من غيرها؟ وبالتالي فالمخالف لها هو ضالّ زائغ عن الحقّ، مباح الدم يجب محاربته.

____________

(1) سورة النحل 16: 125.

(2) سورة غافر 40: 56.


الصفحة 10

حرمة دم من نطق بالشهادتين.

إنّ الاعتقاد بتكفير وتضليل وإباحة دماء المسلمين من أشدّ المسائل خطورة وحرجاً في الدين، كيف يحقّ لهؤلاء هذا السلوك الخطير بعدما صحّ وتواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قوله: " أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على الله "، ثمّ قرأ: (إنّما أنت مذكّر لست عليهم بمصيطر) (1) .

وقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر: " لأُعطينّ هذه الراية رجلا يحبّ الله ورسوله، يفتح الله على يديه، قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها، قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت حتّى يفتح الله عليك، قال: فسار عليّ شيئاً، ثمّ وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أُقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، فإذا فعلـوا ذلك فقـد منعوا منك دمـاءهم وأموالهـم إلاّ بحقّهـا وحسـابهم على الله "(2) .

____________

(1) صحيح مسلم ج 1 ص 39 كتاب الإيمان واللفظ له، صحيح البخاري ج 9 ص 27 ح 7 الاستتابة ومواضع أُخر، سنن أبي داود ج 3 ص 44 ح 2640، سنن الترمذي ج 5 ص 5 ح 2606، سنن النسائي ج 7 ص 77، ومواضع أُخر، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1295 ح 3927 و 3928، سنن الدارمي ج 2 ص 151 ح 2444، مسند أحمد ج 2 ص 314 و 377 و ج 3 ص 300 ومواضع أُخر، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ج 6 ص 132 ح 5746، مسند أبي يعلى ج 4 ص 190 ح 2282، مسند البزّار ج 1 ص 98 ح 38.

(2) صحيح مسلم ج 7 ص 121، سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 111 ح 8405 ـ 8406 و ص 179 ح 8603، سنن سعيد بن منصور ج 2 ص 179 ح 2474، مصنّف ابن أبي شيبة ج 8 ص 522 ح 10، صحيح ابن حبّان ج 9 ص 43 ـ 44 ح 6895.


الصفحة 11
وعن المقداد بن عمرو أنّه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفّار فاقتتلنا فضرب إحدى يديّ بالسيف فقطعها، ثمّ لاذ منّي بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا تقتله، فقال: يا رسول الله إنّه قطع إحدى يديّ، ثمّ قال ذلك بعدما قطعها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال(1) .

أقوال وفتاوى علماء المسلمين بعدم جواز تكفير المسلم.

وهذه جملة من أقوال وآراء وفتاوى علماء المسلمين يصرّحون فيها بعدم جواز تكفير وتضليل المسلمين وأهل القبلة:

قال ابن تيميّة: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإنّ الله تعالى قال: (آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير) (2) ، وقد ثبت في الصحيح أنّ الله تعالى أجاب هذا الدعاء

____________

(1) صحيح البخاري ج 5 ص 201 ح 65 و ج 9 ص 3 ح 5، صحيح مسلم ج 1 ص 66 ـ 67، سنن أبي داود ج 3 ص 45 ح 2644، سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 174 ح 8591، مسند أحمد ج 6 ص 4 و 6، مسند البزار ج 6 ص 44 ح 2111، المعجم الكبير ج 20 ص 246 ـ 251 ح 583 ـ 594، مسند أبي عوانة ج 1 ص 66 ـ 67 ح 187 ـ 191.

(2) سورة البقرة 2: 285.


الصفحة 12
وغفر للمؤمنين.

والخوارج المارقون الذين أمر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتّفق على قتالهم أئمّة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم، ولم يكفّرهم علي بن أبي طالب وسعد ابن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتّى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنّهم كفّار، ولهذا لم يسبِ حريمهم ولم يغنم أموالهم.

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنصّ والإجماع لم يُكَفّروا مع أمر الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحقّ في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟

فلا يحلّ لإحدى هذه الطوائف أن تكفّر الأخرى ولا تستحلّ دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محقّقة، فكيف إذا كانت المكفّرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنّهم جميعاً جهّال بحقائق ما يختلفون فيه.

والأصل أنّ دماء المسلمين وأموالهم أو أعراضهم محرّمة من بعضهم على بعض لا تحلّ إلاّ بإذن الله ورسوله.

قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) لمّا خطبهم في حجّة الوداع: " إنّ دماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ".

وقال (صلى الله عليه وسلم) : " كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ".

وقال (صلى الله عليه وسلم) : " من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمّة الله ورسوله.... ".


الصفحة 13
وقال: " إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ".

هذه الأحاديث كلّها في الصحاح(1) .

ثمّ قال: فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلّي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاّ أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلاّ فلا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها(2) . انتهى كلام ابن تيميّة.

وقال ابن حزم الظاهري: وذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكفّر ولا يُفسّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فُتياً، وأنّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحقّ فإنّه مأجور على كلّ حال، إن أصاب الحقّ فأجران وإن أخطأ فأجر واحد.

وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود الظاهري رضي الله عن جميعهم، وهو قول كلّ من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم ما نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلا إلاّ ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك الصلاة متعمّداً حتّى خرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحجّ أو ترك صيام رمضان أو شرب الخمر(3) .

وقال ابن الهمام الحنفي: قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم (الخوارج) ، وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء. وذكر في المحيط أنّ بعض الفقهاء لا يكفّر أحداً من أهل البدع.

ثمّ قال: ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا،

____________

(1) مجموعة الرسائل والمسائل ـ لابن تيمية ـ ج 5 ص 378.

(2) مجموعة الرسائل ج 5 ص 380.

(3) الفصل في الملل والنحل ج 2 ص 267.


الصفحة 14
وابن المنذر أعرف بنقل مذاهب المجتهدين، وما ذكره محمّد بن الحسن من حديث كثير الحضرمي يدلّ على عدم تكفير الخوارج، وهو قول الحضرمي: دخلت مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة، فإذا نفر خمسة يشتمون عليّاً (رض) وفيهم رجل عليه برنس يقول: أُعاهد الله لأقتلنّه، فتعلّقت به وتفرّقت أصحابه عنه، فأتيت به عليّاً (رض) ، فقلت: إنّي سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنّك، فقال: ادن ويحك من أنت؟ فقال: أنا سوار المنقري، فقال علي (رض) : خلِّ عنه، فقلت: أُخلّي عنه وقد عاهد الله ليقتلنّك؟! قال: أفأقتله ولم يقتلني؟ قلت: فإنّه شتمك.

قال: فاشتمه إن شئت أو دعه.

ففي هذا دليل على أنّ ما لم يكن للخارجين منعة لا نقتلهم وأنّهم ليسوا كفّاراً لا بشتم علي ولا بقتله(1) .

وقال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام وغيره: قد رجع الشيخ أبو الحسن الأشعري قبل موته عن تكفير أحد من أهل القبلة.

وذكر الشيخ أبو طاهر القزويني في كتابه " سراج العقول ": لا ينبغي لمتديّن أن يكفّر أحداً من الفرق الخارجة عن طريق الاستقامة ما داموا مسلمين يتديّنون بأحكام أهل الإسلام(2) .

وكان الإمام المزني ينكر على من يبادر إلى تكفير أهل الأهواء والبدع، ويقول: إنّ المسائل التي يقعون فيها لطائف تدقّ عن النظر العقلي.

وكان أبو المحاسن الروياني وغيره من علماء بغداد قاطبة يقولون: لا

____________

(1) شرح فتح القدير ج 6 ص 100.

(2) اليواقيت والجواهر ج 2 ص 123.


الصفحة 15
يكفر أحد من أهل المذاهب الإسلامية، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا.

قال الشعراني: وقد رأيت سؤالا بخطّ الشيخ شهاب الدين الأذرعي صاحب القوت قدّمه إلى شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله وصورته: ما يقول سيّدنا ومولانا شيخ الإسلام في تكفير أهل الأهواء والبدع؟

فكتب إليه: إعلم يا أخي وفّقني الله وإيّاك أنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جدّاً، وكلّ من في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع، مع قولهم لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فإنّ التكفير أمرٌ هائل عظيم الخطر، ومن كفَّرَ إنساناً فكأنّه أخبر عن ذلك الإنسان بأنّ عاقبته في الآخرة العقوبة الدائمة أبد الآبدين، وأنّه في الدنيا مباح الدم والمال لا يمكَّن من نكاح مسلمة ولا تجري عليه أحكام أهل الإسلام في حياته ولا بعد مماته، والخطأ في قتل مسلم أرجح في الإثم من ترك قتل ألف كافر... إلى أن قال: فالأدب من كلّ مؤمن أن لا يكفِّر أحداً من أهل الأهواء والبدع، لا سيّما وغالب أهل الأهواء هم عوامّ مقلّدون لبعضهم بعضاً لا يعرفون دليلا يناقض اعتقادهم.

وقال الشعراني: ومن خطّه نقلت رحمه الله وهو كلام في غاية الجودة والنفاسة: وكان الإمام أحمد بن زاهر السرخسي(1) أخصّ أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري يقول: لمّا حضرت الوفاة أبا الحسن الأشعري في داري ببغداد أمر بجمع أصحابه، ثمّ قال: اشهدوا عليّ أنّني لا أُكفّر

____________

(1) كذا، والصحيح زاهر بن أحمد السرخسي.


الصفحة 16
أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم.

وقال شيخ الإسلام المخزومي: قد نصّ الإمام الشافعي على عدم تكفير أهل الأهواء في رسالته، فقال: لا أُكفّر أهل الأهواء بذنب.

وفي رواية عنه: ولا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب.

وفي رواية أُخرى عنه: ولا أُكفّر أهل التأويل المخالف للظاهر بذنب.

قال الإمام المخزومي رحمه الله: أراد الإمام الشافعي رحمه الله بأهل الأهواء أصحاب التأويل المحتمل كالمعتزلة والمرجئة، وأراد بأهل القبلة أهل التوحيد.

ثمّ قال الشعراني: فقد علمت يا أخي ممّا قرّرناه لك في هذا المبحث أنّ جميع العلماء المتديّنين أمسكوا عن القول بالتكفير لأحد من أهل القبلة بذنب ; فبهداهم اقتده(1) .

وقال ابن قدامة الحنبلي: (فصل) فأمّا أهل البدع فمن حكم بإسلامه فله الشفاعة لأنّه مسلم، فثبت له كالفاسق بالأفعال، ولأنّ عموم الأدلّة يقتضي ثبوتها لكلّ بشر فيدخل فيها(2) .

وقال سفيان الثوري: لا تحلّ عداوة موحّد وإن مال به الهوى عن الحقّ، لأنّه لا يهلك بذلك.

وقال الأوزاعي: والله لئن نُشرت لا أقول بتكفير أحد من أهل الشهادتين.

____________

(1) اليواقيت ج 2 ص 125 ـ 126.

(2) المغني ـ لابن قدامة ـ ج 5 ص 552.


الصفحة 17
وقال سفيان بن عيينة: لئنْ تأكل السباع لحمي أحبّ إليّ من أن ألقى الله تعالى بعداوة من يدين له بالوحدانية ولمحمّد (صلى الله عليه وسلم) بالنبوّة.

وقال ناصر الدين الألباني: لا نكفّر أحداً من أهل القبلة بأيّ ذنب صدر منه(1) .

وقال المفتي زين العابدين شابغدادي الباكستاني: إنّه لا يجوز تكفير المسلم من أهل القبلة بمعنى أنّ من قبل الشهادتين وقال: (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله) فهو مسلم، يحرم دمه وماله وعرضه على المسلمين(2) .

وقال الدكتور أحمد الكبيسي أبرز علماء أهل السنّة في العراق في خطبة أوّل صلاة جمعة أقيمت في جامع الإمام أبي حنيفة النعمان في الأعظمية بعد احتلال بغداد وفرار صدّام، وقد سمعته من بعض الفضائيات على ما يعلق في ذهني: والله من كفّر مسلماً فقد كفر.

عدم جواز تكفير من سبّ الصحابة.

قال ابن تيميّة: كما أنّ طائفة أُخرى زعموا أنّ من سبّ الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب، ورووا عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أنّه قال: " سبّ أصحابي ذنب لا يغتفر "، وهذا الحديث كذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتبهم المعتمدة وهو مخالف للقرآن، لأنّ الله تعالى قال: (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) (3) ، هذا في حقّ من لم يتب.

____________

(1) الفتاوى ـ للألباني ـ ص 270.

(2) فتاوى العلماء في تحريم تكفير المسلمين ص 16.

(3) سورة النساء 4: 48 و 116.


الصفحة 18
وقال في حقّ التائبين: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم) (1) .

فثبت بكتاب الله وسُنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنّ كلّ من تاب تاب الله عليه(2) . ونقل ابن عابدين بعد أن ذكر قول ابن المنذر وابن الهمام قول ابن أمير حاج الحلبي في " شرح منية المصلّي ": إنّ سابّ الشيخين ومنكر خلافتهما ممّا بناه على شبهة لا يكفّر(3) .

ويؤيّده ما رواه أبو داود، والنسائي من سبع طرق، وأحمد، والحاكم من طريقين، والبيهقي، والقاضي عياض، عن أبي برزة الأسلمي، قال: كنت عند أبي بكر (رض) فتغيّظ على رجل فاشتدّ عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إليّ فقال: ما الذي قلت آنفاً؟ قلت: إئذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله ما كانت لبشر بعد محمّد (صلى الله عليه وسلم) . قال: أبو داود: هذا لفظ يزيد.

قال أحمد بن حنبل: أي: لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلاّ بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس، وكان للنبيّ (صلى الله عليه وسلم) أن يقتل.

وفي لفظ: إنّ رجلا سبّ أبا بكر (رض) فقلت: ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: لا ليست هذه لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .

____________

(1) سورة الزمر 39: 53.

(2) مجموعة الرسائل ج 5 ص 384.

(3) حاشية ردّ المحتار ج 4 ص 450.


الصفحة 19
وفي لفظ: فقال: ليس هذا إلاّ لمن شتم النبيّ (صلى الله عليه وسلم) (1) .

وروى البيهقي بإسناده عن أبي هريرة (رض) قال: لا يقتل أحد بسبّ أحد إلاّ بسبّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) (2) .

وقال القاضي عياض بعد رواية حديث أبي برزة: قال القاضي أبو محمّد بن نصر: ولم يخالف عليه أحد، ثمّ قال: ومن ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة، وقد استشاره في قتل رجل سبّ عمر (رض) ، فكتب إليه عمر: إنّه لا يحلّ قتل امرئ مسلم بسبّ أحد من الناس إلاّ رجلا سبّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فمن سبّه فقد حلّ دمه(3) .

ويحقّ لنا أن نسأل من كفّر سابّ الصحابي واستباحَ دمه ما هو سرّ استثناء عليّ بن أبي طالب من هذه القاعدة وقد تواتر سبّه على منابر الشرق والغرب ثمانين سنة حتّى أصبح سبّه سُنّة بين العباد؟!

هذا ما وصل إلينا من أقوال وفتاوى أئمّة المسلمين على اختلاف مذاهبهم ونحلهم، والمتحصّل منها إجماعهم بالحكم على إيمان مطلق أهل التوحيد ونجاة جميع أهل القبلة، وعدم تكفير من سبّ الصحابة.

إلاّ أنّه شذّ عن هذا الإجماع خوارج القرن الأوّل، وخوارج القرن الثاني عشر (الوهّابية) أو ما يسمّى بـ (السلفية) ، وبعض مشايخ السوء من وعّاظ السلاطين، كالشيخ نوح الحنفي صاحب " الفتاوى الحامدية "، والآلوسي صاحب " روح المعاني "، فكفّروا المسلمين خصوصاً أتباع

____________

(1) سنن أبي داود ج 4 ص 127 ح 4363، سنن النسائي ج 7 ص 109 ـ 111، مسند أحمد ج 1 ص 9، مستدرك الحاكم ج 4 ص 394 ـ 395 ح 8045 و 8046، سنن البيهقي ج 7 ص 60، الشفا ج 2 ص 222.

(2) سنن البيهقي ج 7 ص 60.

(3) الشفا ج 2 ص 223.


الصفحة 20
مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .

أمّا بالنسبة للخوارج المتقدّمين فآراؤهم ومعتقداتهم في تكفير من خالفهم وإباحة دمائهم وأموالهم معروفة، وهي مبثوثة في أكثر مصادر الحديث وكتب التاريخ، وقد طلبوا الحقّ فأخطأوه، إذ استحوذ عليهم الخبيث، ومن ديار بني حنيفة ومسيلمة الكذّاب ظهر محمّد بن عبد الوهّاب بعقيدة جديدة يؤازره عليها محمّد بن سعود وأعراب نجد الجفاة الحفاة، متّبعين كلّ الوسائل المشبوهة في سبيل تحقيق عقيدتهم، وتنحصر أُصول عقيدتهم في أُمور خمسة:

1 ـ توحيد الألوهية والربوبية والإفراط في اعتبار موجبات الشرك.

2 ـ تشبيه الله سبحانه بخلقه، من تجسيم ورؤية ونزول وغيرها.

3 ـ الجبر ونفي الاختيار.

4 ـ عدم احترام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقيّة الأنبياء والأولياء والصالحين.

5 ـ تكفير جميع المسلمين، وعدّهم مشركين وأنّهم هم المسلمون، وبالتالي استباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، معتمدين على ظواهر الكتاب، وما تشابه من آياته الكريمة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم، ومتى كان أعراب نجد الأجلاف من الراسخين في العلم؟! ومتى كان حكم الله في كرب النخل؟!

قال ابن عابدين: قوله (ويكفّرون أصحاب نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) ) علمت أنّ هذا غير شرط في مسمّى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيّدنا علي (رض) ، وإلاّ فيكفي في اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهّاب الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنّهم اعتقدوا أنّهم هم المسلمون وأنّ من خالف

الصفحة 21
اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السُنّة وقتل علمائهم حتّى كسر الله تعالى شوكتهم وخرّب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومئتين وألف(1) .

ولكن بعد الهياط والمياط(2) جاءهم من طلى أستاهم بالزيت، وبعثهم من جديد، حيث وجدوا تمرة الغراب.

من هم السلفية؟

ولطالما تذرّعوا بالدعوة السلفية واتّباع السلف الصالح، ولم أعلم حتّى الآن من يعنون بالسلف الصالح، والظاهر أنّها دعوة حقّ أُريد بها باطل.

فالمعروف بين الجمهور أنّ السلف الصالح هم الأشاعرة والماتريدية أُصولا، والمذاهب الأربعـة ـ أعني الأحناف، والمالكية، والشوافع، والحنابلة ـ فروعاً، وآراؤهم وفتاواهم معروفة ومدوّنة في مصادرهم وليس فيها ما يوافق آراء الوهّابية والسلفية.

وكذا بقيّة المذاهب المنقرضة كمذهب الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وداود الظاهري، وابن جرير الطبري، وغيرهم.

وحتّى الصحابة والتابعون فإنّ رواياتهم وآثارهم منقولة ومدوّنة، ولا نرى فيها أثراً لما يدّعيه الوهّابية أو السلفية، نعم هناك منهم من ادّعى بأنّهم على مذهب أحمد بن حنبل، إلاّ أنّه ليس بصحيح، لأنّ الحنابلة أنكروا ذلك وردّوا عليهم، منهم:

____________

(1) حاشية ردّ المحتار ج 4 ص 449.

(2) الشدّة والأذى.


الصفحة 22
الشيخ سليمان بن عبد الوهّاب الحنبلي، أخو محمّد بن عبد الوهّاب، له كتاب " الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية " وهو مطبوع.

والشيخ عبد القدّومي النابلسي في " رحلته ".

والشيخ عفيف الدين عبد الله بن داود الحنبلي، له كتاب " الصواعق والرعود ".

والعلاّمة محمّد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي، له كتاب " تهكّم المقلّدين بمن ادّعى تجديد الدين ".

والشيخ حسن الشطّي، له رسالة في الردّ عليهم.

وعبد المحسن الأشيقري الحنبلي، له مؤلف في الردّ على الوهابية.

والشيخ مصطفى بن أحمد بن حسن الشطّي الحنبلي، له كتاب " النقول الشرعية في الردّ على الوهّابية ".

فضلا عن عشرات الردود من بقيّة علماء المذاهب الأُخرى.

علماً بأنّ علماء الكلام والملل والنحل حدّدوا بأنّ أُصول الفرق الإسلامية تعود إلى أربع فرق، وهي: 1 ـ المعتزلة، 2 ـ الخوارج، 3 ـ المرجئة أو الصفاتية، 4 ـ الشيعة.

ولا ندري أيّ عنوان من هذه العناوين ينطوي تحته لواء السلفية؟ نعم، نرى لهـم اهتمـامـاً واضحـاً بآراء ومصـنّفـات ابن خزيمة النيسابوري ـ صاحب كتاب " التوحيد " والذي يسمّيه الرازي كتاب الشرك لما فيه من تجسيم وتشبيه الخالق بالمخلوقين ـ، وعثمان بن سعيد الدارمي ـ صاحب كتابي " الردّ على الجهمية " و" النقض على بشر المريسي " ـ، وكان ابن تيمية يوصي بكتابي الدارمي هذين أشدّ الوصية ويعظمهما جداً، ولذا تصدّى له أغلب فقهاء عصره وأفتوا بابتداعه وضلاله، وحوكم على ذلك وسجن أكثر

الصفحة 23
من مـرّة حتّى مات في السجن، ثمّ تلميذه وتوْلبه ابن القيّم الجوزية، فإذا كانوا يقصدون بالسلف الصالح هؤلاء؟ فلا خير ولا فلاح بهذا السلف.

قال العلاّمة شرف الدين أحمد بن يحيى المنيري: لا يوجد في كتب علماء أهل السُنّة والجماعة عبارة (السلفية) و (مذهب السلفية) ، ومثل هذه الأسماء ابتدعت من طرق الوهّابيّين واللامذهبيّين(1) .

وتحت عنوان (التمذهب بالسلفية بدعة لم تكن من قبل) ، قال محمّد سعيد رمضان البوطي وهو من كبار علماء الشام في كتابه " السلفية مرحلـة زمنيـة مباركـة لا مذهب إسلامي ": إذا عرف المسلم نفسـه بأنّه ينتمي إلى ذلك المذهب الذي يسمّى اليـوم بـالسلفية فـلا ريب أنّـه مبتدع(2) .

وقال: إنّ من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة (السلف) فنصوغ منها مصطلحاً جديداً طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي ألا وهو (السلفية) فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة معينة من المسلمين تتّخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده مفهوماً معيناً، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك، جماعة إسلامية جديدة في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر، تمتاز عن بقيّة المسلمين بأفكارها وميولها، بل تختلف عنهم حتّى بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقية كما هو الواقع اليوم فعلا.

بل إنّنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إنّ اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها بدعة طارئة في الدين لم يعرفها السلف الصالح

____________

(1) الإيمان والإسلام ص 78 ط/ إسطنبول 1986.

(2) السلفية مرحلة زمنية ص 236.


الصفحة 24
لهذه الأمّة، ولا الخلف الملتزم بنهجه(1) .

وقال: ولم نعلم أنّ في أهل هذه القرون الغابرة كلّها من قد استبدل بهذا المنهج الذي كان ولا يزال فيصل ما بين أهل الهداية والضلال، التمذهب بمذهب يسمّى السلفية بحيث يكون الانتماء إليه هو عنوان الدخول في ساحة أهل الهداية والرشاد، وعدم الانتماء إليه هو عنوان الجنوح إلى الزيغ والضلالة والابتداع.

ولقد أصغينا طويلا ونقّبنا كثيراً فلم نسمع بهذا المذهب في عصر من عصور الإسلام الغابرة، ولم يأتِ من يحدّثنا بأنّ المسلمين في عصر ما قد انقسموا إلى فئة تسمّي نفسها السلفية وتحدد شخصيتها المذهبية هذه بآراء محدّدة تنادي بها وأخلاقية معينة تصطبغ بها، وإلى فئة أخرى تسمّى من وجهة نظر الأولى بدعية أو ضلالية أو خَلفية أو نحو ذلك، كلّ الذي سمعناه وعرفناه أنّ ميزان استقامة المسلمين على الحقّ أو جنوحهم عنه إنّما مردّه إلى اتّباع المنهج المذكور.

وهكذا، فقد مرّ التاريخ الإسلامي بقرونه الأربعة عشر دون أن نسمع عن أيّ من علماء وأئمّة هذه القرون أنّ برهان استقامة المسلمين على الرشد يتمثل في انتسابهم إلى مذهب يسمّى بالسلفية، فإن هم لم ينتموا إليه ويصطبغوا بميزاته وضوابطه، فأولئك هم البدعيّون الضالّون.

إذاً فمتى ظهرت هذه المذهبيّة التي نراها بأُمِّ أعيننا اليوم والتي تستثير الخصومات والجدل في كثير من أصقاع العالم الإسلامي، بل تستثير التنافس والهرج في كثير من بقاع أوربا حيث يقبل كثيرٌ من الأوروبّيّين على

____________

(1) السلفية مرحلة زمنية ص 13.