فلمّا خلت البلاد لآل مروان سلّطوا الحجّاج على الحجازيّين ثمّ على العراقيّين، فتلعّب بالهاشميّين، وأخاف الفاطميّين، وقتل شيعة علي، ومحا آثار بيت النبيّ، وجرى منه ما جرى على كميل بن زياد النخعي.
واتّصل البلاء مدّة ملك المروانية إلى الأيّام العبّاسية، حتّى إذا أراد الله أن يختم مدّتهم بأكثر آثامهم، ويجعل أعظم ذنوبهم في آخر أيّامهم، بعث على بقيّة الحقّ المهمل والدين المعطّل زيد بن علي، فخذله منافقو أهل العراق، وقتله أحزاب أهل الشام، وقتل معه من شيعته: نصر بن خزيمة الأسدي، ومعاوية بن إسحاق الأنصاري، وجماعة ممّن شايعه وتابعه، وحتّى من زوّجه وأدناه، وحتّى من كلّمه وأثناه، فلمّا انتهكوا ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الإثم العظيم، غضب الله عليهم وانتزع الملك منهم، فبعث عليه أبا مجرم لا أبا مسلم، فنظر ـ لا نظر الله إليه ـ إلى صلابة العلوية وإلى لين العبّاسية، فترك تقاه واتّبع هواه، وباع آخرته بدنياه، وافتتح عمله بقتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسلّط طواغيت خراسان وخوارج سجستان وأكراد أصفهان على آل أبي طالب، يقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، ويطلبهم في كلّ سهل وجبل، حتّى سلّط عليه أحبّ الناس إليه، فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذه بما أخذ الناس في بيعته، ولم ينفعه أن أسخط الله برضاه، وأن ركب ما يهواه، وحلّت من
وهذا قليل في جنب ما قتله هارون منهم، وفعله موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجّه على الحسين بن علي بفخّ موسى، وما اتّفق على علي ابن الأفطس الحسيني من هارون، وما جرى على أحمد بن علي الزيدي، وعلى القاسم بن علي الحسني من حبسه، وعلى علي بن غسّان الخزاعي حين أخذ من قبله، والجملة: إنّ هارون مات وقد قصّر شجرة النبوّة واقتلع غرس الإمامة.
وأنتم ـ أصلحكم الله ـ لستم أعظم نصيباً في الدين من الأعمش فقد أخافوه، ومن علي بن يقطين فقد اتّهموه.
فأمّا في الصدر الأوّل، فقد قتل زيد بن صوحان العبدي، وعوقب عثمان بن حنيف الأنصاري، وأُقصي جارية بن قدامة السعدي، وجندب ابن زهير الأزدي، وشريح بن هاني المرادي، ومالك بن كعب الأرحبي، ومعقل بن قيس الرياحي، والحارث بن الأعور الهمداني، وأبو الطفيل الكناني، وما فيهم إلاّ من خرّ على وجهه قتيلا، أو عاش في بيته ذليلا، يسمع شتمة الوصي فلا ينكر، ويرى قتلة الأوصياء وأولادهم فلا يغيّر، ولا يخفى عليكم حرج عامّتهم وحيرتهم، كجابر الجعفي، وكرُشيد الهجري، وكزرارة بن أعين، ليس إلاّ أنّهم ـ رحمهم الله ـ يتولّون أولياء الله ويتبّرأون من أعداء الله، وكفى به جرماً عندهم، وعيباً كبيراً بينهم.
ولو لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلّى بن خنيس قتيل داود بن علي، ولو لم يحبس منهم غير أبي تراب المروزي، لكان ذلك جرحاً لا يبرأ، ونائرةً لا تطفأ، وصدعاً لا يلتئم، وجرحاً لا يلتحم.
وكفاهم أنّ شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعاراً يهجون بها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحملت أشعارهم ودوّنت أخبارهم، ورواها الرواة، مثل الواقدي، ووهب بن منبّه التميمي، ومثل الكلبي، والشرقي بن القطامي، والهيثم بن عديّ، ودأب بن الكناني، وأنّ بعض شعراء الشيعة يتكلّم في ذكر مناقب الوصي، بل في ذكر معجزات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيقطع لسانه، ويمزّق ديوانه، كما فعل بعبد الله بن عمّار البرقي، وكما أُريد بالكميت بن زيد الأسدي، وكما نبش قبر منصور ابن الزبرقان النمري، وكما دُمّر على دعبل بن علي الخزاعي مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي، ومن علي بن الجهم الشامي، ليس إلاّ لغلوّهما في النصب واستيجابهما مقت الربّ.
حتّى إنّ هارون بن الخيزران وجعفر المتوكّل على الشيطان لا على
ونحن ـ أرشدكم الله ـ قد تمسّكنا بالعروة الوثقى، وآثرنا الدين على الدنيا، وليس يزيدنا بصيرة زيادة من زاد فينا، ولن يحلّ لنا عقيدة نقصان من نقص منّا، فإنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ، كلمة من الله ووصيّة من رسول الله، يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
ومع اليوم غد وبعد السبت أحد، قال عمّار بن ياسر (رض) يوم صفّين: لو ضربونا حتّى نبلغ سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل.
ولقد هُزِم جيش رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ ثمّ هَزَمْ، ولقد تأخر أمر الإسلام ثمّ تقدّم (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون) ، ولولا محنة المؤمنين وقلّتهم، ودولة الكافرين ومحنتهم لما امتلأت جهنّم حتّى تقول: (هل من مزيد) ، ولمّا قال الله تعالى: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، ولمّا تبيّن الجزوع من الصبور، ولا عرف الشكور من الكفور، ولمّا استحقّ المطيع الأجر، ولا احتقب العاصي الوزر، فإن أصابتنا نكبة فذلك ما تعوّدناه، وإن رجعت لنا دولة فذلك ما قد انتظرناه، وعندنا ـ بحمد الله تعالى ـ لكلّ حالة آلة، ولكلّ مقامة مقالة، فعند المحن الصبر وعند النعم الشكر، ولقد شتم أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر ألف شهر، فما شككنا في وصيّته، وكُذِّب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بضع عشرة سنة
إعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ بني أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن وأتباع الطاغوت والشيطان، جهدوا في دفن محاسن الوصي، واستأجروا مَن كذب في الأحاديث على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحولوا الجوار إلى بيت المقدس عن المدينة، والخلافة زعموا إلى دمشق عن الكوفة، وبذلوا في طمس هذا الأمر الأموال، وقلّدوا عليه الأعمال، واصطنعوا فيه الرجال، فما قدروا على دفن حديث من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا على تحريف آية من كتاب الله تعالى، ولا على دسّ أحد من أعداء الله في أولياء الله.
ولقد كان ينادى على رؤوسهم بفضائل العترة، ويبكت بعضهم بعضاً بالدليل والحجّة، لا تنفع في ذلك عيبة، ولا يمنع منه رغبة ولا رهبة، والحقّ عزيز وإن استذلّ أهله، وكثير وإن قلّ حزبه، والباطل وإن رصّع بالشبه قبيح، وذليل وإن غطّى وجهه بكلّ مليح.
قال عبد الرحمن بن الحكم ـ وهو من أنفس بني أُميّة ـ:
سميّة أمسى نسلها عدد الحصا | وبنت رسول الله ليس لها نسلُ |
غيره:
لعن الله من يسبّ عليّاً | وحسيناً من سوقة وإمامِ |
وقال أبو دهبل الجمحي في حميّة سلطان بني أُميّة وولاية آل بني
تبيت السكارى من أُميّة نوّماً | وبالطفّ قتلى ما ينامُ حميمها |
وقال الكميت بن زيد ـ وهو جار خالد بن عبد الله القسري ـ:
فقل لبني أُميّة حيث حلّوا | وإن خفت المهنّد والقطيعا |
أجاع الله من أشبعتموه | وأشبع من بجوركم أُجيعا |
وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العبّاس على رؤوسهم بالحقّ وإن كرهوه، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه، قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون:
آل النبي ومن يحبّهم | يتطامنون مخافة القتلِ |
أمن النصارى واليهود وهم | من أُمّة التوحيد في الأزلِ |
وقال دعبل بن علي ـ وهو صنيعة بني العبّاس وشاعرهم ـ:
ألم تر أنّي مذ ثمانين حجّة | أروح وأغدو دائم الحسراتِ |
أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً | وأيديهم من فيئهم صفراتِ |
وقال علي بن العبّاس الرومي ـ وهو مولى المعتصم ـ:
تألّيت أن لا يبرح المرء منكم | يتل على خرّ الجبين فيعفجُ |
كذاك بنو العبّاس تصبر منكم | ويصبر للسيف الكمي المدجّجُ |
بكلّ أوان للنبيّ محمّد | قتيلٌ زكيٌّ بالدماءِ مضرّجُ |
وقال إبراهيم بن العبّاس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا لمّا مرّ به المأمون:
يمنّ عليكم بأموالكم | وتعطون من مئة واحدا؟! |
وكيف لا ينتقصون قوماً يقتلون بني عمّهم جوعاً وسغباً، ويملأون
يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والأنصاري، ويولّون أنباط السواد وزارتهم، وقلف العجم والطماطم(1) قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أُمّهم وفيء جدّهم، يشتهي العلوي الأكلة فيحرمها، ويقترح على الأيّام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز، وصدقات الحرمين والحجاز، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، وإلى زلزل الضارب، وبرصوصا الزامر، وإقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وجارى بغا التركي، والأفشين الأشروسي كفاية أُمّة ذات عدد.
والمتوكّل ـ زعموا ـ يتسرّى باثني عشر ألف سريّة، والسيّد من سادات أهل البيت يتعفّف بزنجية وسندية، وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة وعلى موائد المخانثة، وعلى طعمة الكلاّبين ورسوم القرّادين، وعلى مخارق، وعلويّة المغنّي، وعلى زدزد وعمر بن بانة الملهّي، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانق وحبّة، ويشترون العوّادة بالبدر، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر، والقوم الذين أُحلّ لهم الخمس وحرّمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبّة، يتكفّفون ضرّاً، ويهلكون فقراً، ويرهن أحدهم سيفه ويبيع ثوبه، وينظر إلى فيئه بعين مريضه، ويتشدّد على دهره بنفس ضعيفة، ليس له ذنب إلاّ أنّ جدّه النبيّ، وأباه الوصي، وأُمّه فاطمة، وجدّته خديجة، ومذهبه الإيمان، وإمامه القرآن(2) .
____________
(1) من بلسانهم عجمة فلا يفصح.
(2) رسائل أبي بكر الخوارزمي ص 118 وما بعدها.
لولا ما غلب على الناس من الجهل وحبّ التقليد لم نحتج إلى نقض ما احتجّت به العثمانية، فقد علم الناس كافّة، أنّ الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم، وعرف كلّ أحد أقدار شيوخهم وعلمائهم وأُمرائهم وظهور كلمتهم وقهر سلطانهم وارتفاع التقيّة عنهم، والكرامة والجائزة لمن روى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر، وما كان من تأكيد بني أُميّة لذلك، وما ولّده المحدّثون من الأحاديث، طلباً لما في أيديهم.
فكانوا لا يألون جهداً، في طول ما ملكوا، أن يخملوا ذكر علي وولده، ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم، ويحملوا الناس على شتمهم وسبّهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم، فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومستخف ذليل وخائف مترقّب.
حتّى إنّ الفقيه والمحدّث والقاصّ والمتكلّم ليُتقدّم إليه ويتوعّد بغاية الإيعاد وأشدّ العقوبة أن لا يذكر شيئاً من فضائلهم، ولا يرخّصوا لأحد أن يطيف بهم، حتّى بلغ من تقيّة المحدّث أنّه إذا ذكر حديثاً عن علي كنّى عن ذكره، فقال: قال رجل من قريش، وفعل رجل من قريش، ولا يذكر عليّاً ولا يتفوّه باسمه.
ثمّ رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، ووجّهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجي مارق، وناصب حانق، ونابت مستبهم، وناشئ معاند، ومنافق مكذّب، وعثماني حسود يعترض فيها ويطعن، ومعتزلي قد نفذ في الكلام وأبصر علم الاختلاف وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه، وتأوّل مشهور
وقد علمت أنّ معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيّام ملكهم، وذلك نحو ثمانين سنة، لم يدعوا جهداً في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه...
وقد تعلمون أنّ بعض الملوك ربّما أحدثوا قولا أو ديناً لهوىً، فيحملون الناس على ذلك، حتّى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجّاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأُبيّ بن كعب، وتوعّد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أُميّة وطغاة بني مروان بولد علي وشيعته، وإنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجّاج حتّى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها وكفّ المعلّمين عن تعليمها، حتّى لو قرئت عليهم قراءة عبد الله وأُبيّ ما عرفوها ولظنّوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان، لإلف العادة وطول الجهالة، لأنّه إذا استولت على الرعيّة الغلبة، وطالت عليهم أيّام التسلّط، وشاعت فيهم المخافة وشملتهم التقيّة، اتّفقوا على التخاذل والتناكب، فلا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم، وتنقص من ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتّى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسُنّة التي كانوا يعرفونها.
ولقد كان الحجّاج، ومن ولاّه كعبد الملك والوليد، ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أُميّة، على إخفاء محاسن علي وفضائله، وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأُبيّ، لأنّ تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم وفساد أمرهم
وأبى الله أن يزيد أمره وأمر ولده إلاّ استنارة وإشراقاً، وحبّهم إلاّ شغفاً وشدّة، وذكرهم إلاّ انتشاراً وكثرة، وحجّتهم إلاّ وضوحاً وقوّة، وفضلهم إلاّ ظهوراً، وشأنهم إلاّ علوّاً، وأقدارهم إلاّ إعظاماً، حتّى أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا به وبهم من الشرّ تحوّل خيراً.
فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدّمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون، ولا يلحقه الطالبون، ولولا أنّها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسُنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، وكان الأمر كما وصفناه(1) .
ذكر ما فعله المتوكّل بالشيعة:
وزاد الخطب فداحة زمان المتوكّل، فقد كان شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتمّاً بأُمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظنّ والتهمة لهم، واتّفق له أنّ عبيد الله يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم، فحسّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العبّاس قبله، وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره، فقد بعث برجل من أصحابه يقال له: الديزج، وكان يهوديّاً
____________
(1) نقض العثمانية ط ذيل العثمانية ص 282 ـ 286.
تالله إن كانت أُميّة قد أتت | قتل ابن بنت نبيّها مظلوما |
فلقد أتاه بنو أبيه مثلها | هذا لعمرك قبره مهدوما |
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا | في قتله فتّتبعوه رميما |
واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرّض للناس، ومنع الناس من البرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهنّ عواري حواسر.
وكان المتوكّل ينادم ويقربّ ويجالس جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي (عليه السلام) ، منهم: أبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بن أُميّة، وعلي بن الجهم، وكان ابن الجهم هذا مأبوناً، سمعه يوماً أبو العيناء يطعن على أمير المؤمنين، فقال له: أنا أدري لِمَ تطعن على أمير المؤمنين! فقال: أتعني قصّة بيعة أهلي من مصقلة بن هبيرة؟ قال: لا، أنت أوضع من ذلك، ولكنّه عليه السلام قتل الفاعل من قوم لوط والمفعول به، وأنت أسفلهما.
وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكّل والمغنّون
غار الفتى لابن عمّه | رأس الفتى في... أُمّه |
وسمعه يوماً يشتم فاطمة بنت رسول الله، فسأل أحد الفقهاء، فقال له: قد وجب عليه القتل إلاّ أنّ من قتل أباه لم يطل عمره، فقال المنتصر: لا أُبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول عمري، فقتله، فعاش بعده سبعة أشهر(1) .
وقتل العالم والأديب الكبير ابن السكِّيت على التشيّع، وقد ألزمه تعليم ولده، فقال له يوماً: أيّهما أحبُّ إليك إبناي هذان: المعتزّ والمؤيّد، أو الحسن والحسين؟ فقال له: والله إنّ قنبراً خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك، فقال المتوكّل للأتراك: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات، ووقع ابن السكِّيت في ما يحذر منه لأنّه القائل:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه | وليس يصاب المرء من عثرة الرجل |
فعثرته في القول تذهب رأسه | وعثرته في الرجل تبرا على مهل(2) |
____________
(1) راجع: مقاتل الطالبيين ص 478 ـ 479، تاريخ الطبري ج 5 ص 312، تاريخ ابن الأثير ج 6 ص 108 ـ 109، تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 38، الفخري في الآداب السلطانية ص 234، شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 123، سير أعلام النبلاء ج 12 ص 35.
(2) سير أعلام النبلاء ج 12 ص 18، وفيات الأعيان ج 6 ص 399 ـ 400.
القتل العام للشيعة في إفريقية:
وفي سنة 407 هـ في المحرّم قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية، وأُحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصّنوا به، فحصرهم العامّة، وضيّقوا عليهم، فاشتدّ عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتّى قُتِلوا عن آخِرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلّهم، وكانت الشيعة تسمّى بالمغرب المشارقة، وأكثر الشعراء ذكر هذه الحادثة فمِنْ مسرور ومِن باك حزين(2) .
وفي هذه السنة أيضاً في ربيع الأوّل، اتّصلت الفتنة بين الشيعة والسُنّة بواسط، ونهبت محالّ الشيعة والزيدية بواسط، واحترقت، وهرب وجوه الشيعة والعلويّين، فقصدوا علي بن مزيد واستنصروه(3) .
ذكر ما فعله السلطان محمود الغزنوي بالشيعة:
وفي سنة 408 أسرف السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي في قتل
____________
(1) تهذيب التهذيب ج 10 ص 430.
(2) تاريخ ابن الأثير ج 8 ص 114، تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 149، تاريخ ابن كثير ج 12 ص 5.
(3) المنتظم ج 9 ص 151، تاريخ ابن الأثير ج 8 ص 114 ـ 115.
قـال مؤلّف كتاب " بعض فضائح الروافض " الذي انتهى من تأليفه عـام 555 هـ وهـو يشـيد بأعمال محمود بن سبكتكين الغزنوي:
" ومـا وقـع فـي عهـد السـلطان محمـود الغـازي علـى علمـاء الرافضـة مـن قتـل وصـلب وتسـويد وجوههـم، وتكسير منابرهـم، ومنع مجالسهـم، وكلّمـا جيء بمجمـوعـة منهـم شـدّت أيديهـم بعمائمهـم إلى أعناقهـم، تلـك الأيـدي التـي طالمـا أسبلوهـا فـي الصـلاة(2) ، وكبّـروا
____________
(1) المنتظم ج 9 ص 155، تاريخ ابن الأثير ج 8 ص 121، تاريخ ابن كثير ج 12 ص 6 ـ 7، وغيرها من المصادر.
(2) ليت هذا المؤلّف علم أنّ التكتّف سُنّة وليس فريضة عند القائل بها، فضلا عمّن لا يرى ذلك، بل يرى الإرسال، فقد حكى ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير، والحسن البصري والنخعي أنّه يرسل يديه ولا يضع إحداهما على الأُخرى، وحكاه القاضي أبو الطيّب أيضاً عن ابن سيرين، وقال الليث بن سعد: يرسلهما فإن طال ذلك عليه وضع اليمنى على اليسرى للاستراحة، وقال الأوزاعي: هو مخير بين الوضع والإرسال، وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال وهو الأشهر وعليه جميع أهل المغرب من أصحابه أو جمهورهم، واحتجّ لهم بحديث المسيء صلاته، بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) علّمه الصلاة ولم يذكر وضع اليمنى على اليسرى، كما في المجموع شرح المهذب ج 3 ص 311 ـ 312، المدوّنة الكبرى ج 1 ص 76، المبسوط ـ للسرخسي ـ ج 1 ص 23 ـ 24، رحمة الأُمّة ص 30.
وليته علم أنّ التكتّف هو من جملة محدثات عمر التي أحدثها، وذلك عندما قدم عليه بعض الأسرى الفرس فحيّوه بتكتيف أيديهم وانحناءة من رؤوسهم، فقال: ما هذا؟ فقيل له: هذه تحيّة يحيّون بها عظماءَهم، فقال: الله أولى أن يحيّى بها، اجعلوها في الصلاة.
والذي يدلّ على عدم مشروعيتها اختلاف أئمّة المذاهب والفقهاء بكيفيّتها، فأبو حنيفة يراها تحت السرّة، ومالك يرى الإرسال، والشافعي يقول على الصدر، واختلفت عن أحمد روايتان، وقال ابن المنذر: لم يثبت عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في ذلك شيء، كما في المجموع ج 3 ص 313، والمبسوط ج 1 ص 24، ورحمة الأُمّة ص 30.
علماً بأنّ كلا منهم يدّعي أنّه أخذ عن رسول الله، والمقطوع به أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفعل صورة واحدة من هذه الصور، وما روي من أخبار من أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عليّاً (عليه السلام) كان يضع اليمنى على اليسرى لا تثبت أمام البحث العلمي.
____________
(1) ليت هذا المؤلّف علم أنّ الذي ثبت من السُنّة وعمل الصحابة اختلاف العدد في التكبير على الجنازة المحمول على مراتب الفضل في الميّت أو الصلاة نفسها، فقد كانوا يكبّرون على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعاً وستّاً وخمساً، وقد خصّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حمزة (عليه السلام) بسبعين تكبيرة، وأنّ أوّل من جمع الناس على أربع تكبيرات هو عمر بن الخطّاب، وأنّها من محدثاته، كما في شرح معاني الآثار ـ للطحاوي ـ ج 1 ص 496 ـ 497، مصنّف عبد الرزاق ج 3 ص 479 ـ 480 ح 6395، مصنّف ابن أبي شيبة ج 3 ص 186 ح 30، سنن البيهقي ج 4 ص 37، أوائل العسكري ص 113، المحلّى ـ لابن حزم ـ ج 5 ص 124 مسألة 573، وفيه أيضاً: يكبّر الإمام والمأمومون بتكبير الإمام على الجنازة خمس تكبيرات لا أكثر، فإنّ كبّروا أربعاً فحسن، تاريخ السيوطي ص 160.
بل روي عن زيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان، وعلي، وعبد الله بن معقل، وعلقمة بن قيس، ومعاذ بن جبل، وابن مسعود وغيرهم التكبير خمساً وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكبّر خمساً، كما في صحيح مسلم ج 3 ص 56 كتاب الجنائز، وسنن أبي داود ج 3 ص 207 ح 3197، وسنن الترمذي ج 3 ص 343 ح 1023، وقال: حديث زيد بن أرقم حديث حسن صحيح، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا، من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وغيرهم، رأوا التكبير على الجنازة خمساً، وقال أحمد وإسحاق: إذا كبّر الإمام على الجنازة خمساً، فإنّه يتّبع الإمام، وسنن النسائي ج 4 ص 72، وسنن ابن ماجة ج 1 ص 482 ـ 483 ح 1505 و 1506، ومسند أحمد ج 4 ص 367 ـ 368، 370، 371، 372، و ج 5 ص 406، وسنن الدارقطني ج 2 ص 51 ـ 52 ح 1803 ـ 1807، مصنّف عبد الرزاق ج 3 ص 481 ح 6400 و 6403، ومصنّف ابن أبي شيبة ج 3 ص 186 ح 1 ـ 8، باب 90 من كتاب الجنائز، وشرح معاني الآثار ـ للطحاوي ـ ج 1 ص 496 ـ 497، وبعد هذا أترى موجباً للتعليق من الأيدي أو قطعها.
____________
(1) ما ذنب الشيعة إذا لم يجدوا بُداً من البخوع للقرآن الكريم وهو يهتف: (الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) إلى قوله تعالى: (فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره) ، ألا يدري هذا المؤلّف أنّ تحقّق المرّتين أو الثلاث يقتضي تكرّر وقوع الطلاق، كما يقتضي تخلّل الرجعة بينهما أو نكاح؟! قال الإمام الجصّاص في أحكام القرآن ج 1 ص 516: والدليل على أنّ المقصد فيه الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلّق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة، أنّه قال: (الطلاق مرّتان) ، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يطلّقها مرّتين كذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرّتين، حتّى يفرّق الدفع، فحينئذ يطلَّقْ عليه.
وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة، لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذا كان هذا الحكم ثابتاً في المرّة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكره للمرّتين إنّما هو بإيقاعه مرّتين ونهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة.
ومن جهة أُخرى أنّه لو كان اللفظ محتملا للأمرين لكان الواجب حمله على إثبات الحكم في إيجاب الفائدتين، فيكون اللفظ مستوعباً للمعنيين، وقوله تعالى: (الطلاق مرّتان) وإن كان ظاهره الخبر فإنّ معناه الأمر، كقوله تعالى: (والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء) (والوالدات يُرضعن أولادهنّ) وما جرى في هذا المجرى ممّا هو صيغة الخبر ومعناه الأمر، والدليل على أنّه أمر وليس بخبر، أنّه لو كان خبراً لوجد مخبره على ما أخبر به، لأنّ أخبار الله لا تنفكّ من وجود مخبراتها... إلى أن قال: فثبت بذلك أنّ من جمع اثنتين أو ثلاثاً في كلمة فهو مطلّق لغير السُنّة، فانتظمت هذه الآية الدلالة على معان، منها: أنّ مسنون الطلاق التعريف بين أعداد الثلاث إذا أراد أن يطلّق ثلاثاً... إلى آخره.
أما يعلم هذا المؤلف أنّ طلاق الثلاث من مبتدعات عمر، وأنّ الطلاق كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وسنتين ـ سنين ـ من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة، حتّى قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم؟!
وفي لفظ: إنّ أبا الصهباء قال لابن عبّاس: أتعلم أنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر (رض) وثلاث في إمارة عمر (رض) ؟! قال ابن عبّاس: نعم، كما في صحيح مسلم ج 4 ص 183 ـ 184، كتاب الطلاق، سنن أبي داود ج 2 ص 268 ح 2199 و 2200، سنن النسائي ج 6 ص 145، مسند أحمد ج 1 ص 314، مسند أبي عوانة ج 3 ص 152 ـ 153 ح 4531 ـ 4536 ومن عدّة طرق.
وقال الإمام العراقي في طرح التثريب ج 7 ص 93: وممّن ذهب إلى أنّ جمع الطلقات الثلاث بدعة: مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والليث، وبه قال داود وأكثر أهل الظاهر.
فعدم الاعتداد بطلاق الثلاث على نحو الجمع عند الشيعة مأخوذ من الكتاب والسُنّة، ولذا عدلت بعض البلدان الإسلامية في عصرنا عن الأخذ به، وذلك لما فيه من الآثار الاجتماعية والأُسرية والنفسية السيّئة.
وكان هذا السلطان مائلا إلى الأثر إلاّ أنّه من الكرّامية كما عن الذهبي.
وذكر إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني في كتابه الذي سمّاه " مغيث الخلق في اختيار الأحقّ "، أنّ السلطان محموداً المذكور كان على مذهب أبي حنيفة (رض) وكان مولعاً بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه، وهو يسمع، وكان يستفسر الأحاديث، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي (رض) فوقع في خلده حكّة، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر فوقع الاتّفاق على أن يصلّوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي (رض) ، وعلى مذهب أبي حنيفة (رض) لينظر فيه السلطان، ويتفكّر ويختار ما هو أحسنهما، فصلّى القفّال المروزي بطهارة
____________
(1) بعض مثالب النواصب المشهور بكتاب النقض: ص 42.
فقال السلطان: لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلتك، لأنّ مثل هذه الصلاة لا يجوّزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفّال بإحضار كتب أبي حنيفة، وأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفّال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة، وتمسّك بمذهب الشافعي (رض) . إنتهى كلام إمام الحرمين(1) .
والحقّ أنّه لم يكن متديّناً ولا يهمّه من أمر الدين إلاّ ما يحقّق أغراضه السلطوية والسياسية والدنيوية، فقد ذكر المؤرّخون أنّه كان مولعاً بحبّ الغلمان، وشرب المسكر(2) ، وأنّ أفواج البغايا كنّ يرافقن جيشه حيثما سار(3) ، وأنّه كان يتوّصل إلى أخذ الأموال بكلّ طريق، فمن ذلك أنّه بلغه
____________
(1) وفيات الأعيان ج 5 ص 180، سير أعلام النبلاء ج 17 ص 486.
(2) آثار الوزراء ص 150، دستور الوزراء ص 138، مجمع الأنساب ص 64.
(3) الجماهر في الجواهر ص 359.
فقال: لست بقرمطي، ولي مال يؤخذ منه ما يراد وأُعفى من هذا الاسم، فأخذ منه مالا وكتب معه كتاباً بصحّة اعتقاده(1) .
ذكر ما تعرّضت له محلة الكرخ وضريحي الإمامين الجوادين عليهما السلام:
وفي سنة 443 هوجمت محالّ الشيعة في الكرخ وقتل خلق كثير ونُهب مشهد الإمامين موسى بن جعفر ومحمّد الجوادعليهما السلام، واحترق ضريحاهما والجوار والقبّتان الساج اللتان عليهما، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من القبور، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله، وحفر قبراهماعليهما السلام لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر فجاء الحفر إلى جانبه(2) .
وفي سنة 448 ـ 449 زادت أحوال الشيعة سوءاً بعد دخول السلاجقة بغداد بقيادة طغرل بك ممّا جرى عليهم من قتل ونهب وحرق لمحالّ الكرخ، وتوسّعت الفتنة حتّى وصلت إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيّه الذي كان يجلس عليه ونهبت داره فهاجر إلى النجف، كما احترقت دار الكتب التي أوقفها الوزير سابور بن أردشير، وهذه المكتبة يصفها ياقوت الحموي بأنّها لم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة، واحترقت في
____________
(1) تاريخ ابن الأثير ج 8 ص 190.
(2) تاريخ ابن الأثير ج 8 ص 302، تاريخ ابن كثير ج 12 ص 56 ـ 57.
النصر على مصر:
وفي سنة 566 ـ 567، قام صلاح الدين التكريتي الكردي الأصل بإبادة الشيعة في مصر وقبض على سائر من بقي من الأُمراء الفاطميّين وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة، فأصبح في البلد من البكاء والعويل ما يذهل، بعد أن أكرموه وخلعوا عليه واستوزروه، فجازاهم بهذا الفعل الشنيع، وتحكّم أصحابه في البلد بأيديهم وأخرج إقطاعات سائر المصريّين لأصحابه وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله فقدموا من الشام عليه وفرّق ممتلكات المصريّين طعمة عليهم، وقبض على (العاضد) ومنع عنه سائر موارده، وصار العاضد معتقلا، وأبطل عن الأذان (حيّ على خير العمل) ، وأزال شعار الدولة، وعزل القضاة الشيعة، وخطب للخليفة العباسي، وحبس بقايا العلويّين في مصر، وفرّق بين الرجال والنساء، حتّى ينقطع نسلهم، وأعاد اتّخاذ يوم قتل الحسين (عليه السلام) عيداً ـ الذي كان قد سنّه بنو أُميّة والحجّاج ـ وتتبّع بقايا الشيعة، وخاصّة في جنوب مصر، وأفناهم قتلا وإبادة حتّى بقروا بطون النساء الحوامل وقتل ما فيها.
وفي سنة 572 قصد الإسماعيلية ونهبها وخرّبها وأحرقها وأكثر من القتل في أهلها، ولم تقف مظالم صلاح الدين عند هذا الحدّ، بل وصل الأمر إلى إبادة وإتلاف دور الكتب والعلم والتراث، فقد كانت الدولة
____________
(1) راجع: أحداث سنة 448 و 449 في المنتظم ج 9، وتاريخ ابن الأثير ج 8، وتاريخ ابن كثير ج 12، ومعجم البلدان ج 1 ص 634، ولسان الميزان ج 5 ص 135.