وفي الموقف الثاني: إمّا أن يكون الخليفة ظالماً لأبي هريرة وغاصباً لأمواله وحقّه، وإمّا أن يكون أبو هريرة سارقاً لأموال المسلمين وغير أمين وكذب على الخليفة في ادّعائه حول كيفية جمعه لهذه الأموال، ولا بُدّ لنا من الركون إلى أحد الأمرين في كلّ موقف من الموقفين ضرورة.
ومن رأى أنّ طريق الجمع أَوْلى سواءً كان جمعاً إفرادياً بدلياً، أو شمولياً استغراقياً، فليجمع.
3 ـ عثمان بن عفّان.
وكذلك الحال بالنسبة لموقف الخليفة عثمان من أبي هريرة.
فقد روى الرامهرمزي بإسناده عن السائب بن يزيد أنّه قال: أرسلني عثمـان بن عفّـان إلى أبي هريـرة، فقـال: قل لـه يقول لك أمير المؤمنين: مـا هـذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لقد أكثرت، لتنتهينّ أو لألحقنّك بجبال دوس، وأت كعبـاً، فقل لـه: يقول لـك أمير المؤمنين عثمـان: مـا هـذا الحديث قد ملأت الدنيا حديثاً، لتنتهينّ أو لألقينّك بجبال القردة(1) .
وهذا الخبر الذي روي أيضاً عن عمر في بعض المصادر يثير أمامنا استفهاماً في غاية الأهميّة، وهو لِمَ قرن عثمان معه كعب الأحبار بالنهي؟
والأمر لا يخفى على اللبيب، فإنّ جرابَي أبي هريرة أو الخمسة ما ملأهما إلاّ من في كعب الأحبار، فهذا يقصُّ عليه إسرائيلياته، وذاك ينسبها إلى رسول الله، كما يفيدنا خُبراً أنّ الصحابة لم يكونوا غافلين عن هذه المسألة، ومن يستعرض أخبار كعب الأحبار وأبي هريرة يرى أنّ صحبتهما كانت متميّزة جداً.
____________
(1) المحدث الفاصل ص 554 رقم 746.
وهذه أُمّ المؤمنين عائشة أنكرت كثيراً من أقوال أبي هريرة وردّت كثيراً من أحاديثه وخالفتها، فمن ذلك:
ـ ما رواه الحاكم وصحّحه وأقرّه الذهبي وابن عساكر بإسناده عن عائشة أنّها دعت أبا هريرة، فقالت: يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنّك تحدّث بها عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) هل سمعت إلاّ ما سمعنا، وهل رأيت إلاّ ما رأينا؟!
قال: يا أُمّاه إنّه كان يشغلك عن رسول الله المرآة والمكحلة والتصنّع لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ... الحديث(1) .
ـ وروى مسلم وأبو داود وأحمد وابن حبّان وابن عساكر عن عروة أنّ عائشة حدّثته، قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟! جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدّث عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يُسمِعُني ذلك وكنت أُسَبِّحُ، فقام قبل أن أقضي سُبحتي، ولو أدركته لرددت عليه... الحديث(2) .
وفي لفظ لأبي داود عن عروة، قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة (رض) وهي تصلّي، فجعل يقول اسمعي يا ربّة الحجرة! مرّتين، فلمّا قضت صلاتها قالت: ألا تعجب إلى هذا وحديثه؟! وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليحدّث الحديث لو شاء العادّ أن يحصيه أحصاه(3) .
____________
(1) المستدرك ج 3 ص 582 ح 6160، تاريخ دمشق ج 67 ص 353.
(2) صحيح مسلم ج 7 ص 167، سنن أبي داود ج 3 ص 319 ح 3655، مسند أحمد ج 6 ص 118 و 157، صحيح ابن حبّان ج 1 ص 156، ح 100، تاريخ دمشق ج 67 ص 351.
(3) سنن أبي داود ج 3 ص 319 ح 3654.
وفي لفظ للسرخسي: إنّ عائشة قالت لابن أخيها: ألا تعجب من كثرة رواية هذا الرجل ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) حدّث بأحاديث لو عدّها عادّ لأحصاها(1) ؟!
ـ وروى حديثاً في المشي في الخفّ الواحد، فبلغ عائشة، فمشت في خفّ واحد، وقالت: لأُخالفنّ أبا هريرة(2) .
ـ وروى النسائي في " السنن الكبرى "، أنّ أبا هريرة كان يفتي الناس: إنّه مَنْ أصبح جنباً فلا يصوم ذلك اليوم، فبعثت إليه عائشة لا تحدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمثل هذا، فأشهد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنّه كان يصبح جنباً من أهله ثمّ يصوم، فقال ابن عباس حدّثنيه(3) .
ـ وروى أحمد وابن قتيبة وابن عساكر عن أبي حسّان الأعرج، قال: دخل رجلان من بني عامر على عائشة فأخبراها أنّ أبا هريرة يحدّث عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أنّـه قـال: الطيرة مـن الـدار والمـرأة والفرس ; فغضبت فطـارت شقّة منهـا في السمـاء وشقّة في الأرض، وقالت: والذي أنزل الفرقان على محمّـد مـا قالهـا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قطّ، إنّمـا قـال: كان أهـل الجاهلية يتطيّرون من ذلك.
وفي لفظ ابن قتيبة: فطارت شفقاً، ثمّ قالت: كذب والذي أنزل
____________
(1) أُصول السرخسي ج 1 ص 341.
(2) تأويل مختلف الحديث ص 32.
(3) السنن الكبرى ج 2 ص 177 ح 2927.
ـ وروى أنّ الكلب والمرأة والحمار، تقطع الصلاة، فقالت عائشة (رض) : ربّما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلّي وسط السرير وأنا على السرير معترضة بينه وبين القبلة(2) .
وفي لفظ البخاري ومسلم: فقالت شبّهتموني بالحمر والكلاب والله لقد رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلّي... الحديث إلاّ أنّهما قالا: ذكر عندها ما يقطع الصلاة، حفاظاً على كرامة أبي هريرة(3) .
وفي لفظ أبي عوانة: بلغ عائشة أنّ أُناساً يقولون: يقطع الصلاة...(4) .
وحديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم في نفس الباب الذي قبله.
ـ وقال ابن عبد البرّ: وردّت عائشة قول أبي هريرة: تقطع المرأة الصلاة، وقالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلّي وأنا معترضة بينه وبين القبلة(5) .
5 ـ أُمّ سلمة.
روى أبو هريرة حديث من أصبح جنباً فلا يصوم ـ وفي لفظ: فلا صيام له ـ، فكذّبته أُمّ سلمة وعائشة، وعندما جوبه بجوابهما، قال: هما أعلم، إنّما أنبأنيه الفضل بن العبّاس ; فأحال على ميّت(6) .
____________
(1) مسند أحمد ج 6 ص 240، تأويل مختلف الحديث ص 99، مجمع الزوائد ج 5 ص 104، تاريخ دمشق ج 67 ص 352.
(2) تأويل مختلف الحديث ص 33.
(3) صحيح البخاري ج 1 ص 218 ح 163، صحيح مسلم ج 2 ص 60.
(4) مسند أبي عوانة ج 1 ص 390 ح 1421.
(5) جامع بيان العلم ج 2 ص 104.
(6) صحيح مسلم ج 3 ص 137، صحيح البخاري ج 3 ص 68 ـ 69 ح 34، سنن النسائي الكبرى ج 2 ص 178 ح 2929 و 2930، وما بعدها، الموطأ ص 276 ـ 277 ح 12 وفيه: فقال له أبو هريرة: لا علم لي بذلك، إنّما أخبرنيه مخبر، صحيح ابن خزيمة ج 3 ص 250 ح 2011، مسند أبي عوانة ج 2 ص 200 ح 2843 و 2844، صحيح ابن حبّان ج 5 ص 201 ح 3477، مصنّف عبد الرزاق ج 4 ص 179 ح 7396.
روى ابن عساكر بإسناده عن عروة، قال: قال لي أبي الزبير بن العوّام: أدنني من هذا اليماني ـ أبا هريرة ـ فإنّه يكثر الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدّث، فجعل الزبير يقول: صدق، كذب، صدق، كذب، قال: قلت: يا أبه ما قولك صدق كذب؟!
قال: إمّا أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلا أشكّ، ولكن منها ما وضعه على مواضعه، ومنها ما لم يضعه على مواضعه(1) ، فهذا أحد أنواع التخليط الذي يضعّف صاحبه، وإن كنّا نشكّ في ذيل الخبر، فالظاهر أنّه أُلحق به، وإلاّ فالأَولى أن يقول: خلط.
7 ـ سعد بن أبي وقّاص.
روى ابن عساكر بإسناده عن الشعبي، قال: حدّث أبو هريرة فردّ عليه سعد، فتواثبا حتّى قامت الحجزة وارتجّت الأبواب بينهما.
وفي لفظ: حدّثنا أبو هريرة يوماً بحديث، فردّ عليه سعد حديثاً، فوقع بينهما كلام حتّى ارتجّت الأبواب بينهما(2) .
8 ـ ابن مسعود.
قال ابن عبد البرّ: أنكر ابن مسعود على أبي هريرة قوله: من غسّل
____________
(1) تاريخ دمشق ج 67 ص 356، وانظر: تاريخ ابن كثير ج 8 ص 88.
(2) تاريخ دمشق ج 67 ص 346، وانظر: سير أعلام النبلاء ج 2 ص 603.
9 ـ ابن عباس.
فقد ردّ عليه حديثه: من حمل جنازة فليتوضّأ، وقال: أيلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة(2) .
ـ ولمّا سمعه يروي " توضّأوا ممّا مسّته النار "، قال: أرأيت لو توضّأت بماء سخن أكنت تتوضّأ منه؟ أرأيت لو ادّهن أهلك بدهن فادهنت به شاربك أكنت تتوضّأ منه؟ قال له: يابن أخي إذا أتاك الحديث فلا تضرب له الأمثال(3) .
10 ـ عبد الله بن عمر.
فقد روى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يأمر بقتل الكلاب إلاّ كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية، فقيل لابن عمر: إنّ أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إنّ لأبي هريرة زرعاً ـ وفي لفظ: كان صاحب زرع، أو: حرث(4) ـ.
ولا يخفى أنّ قول ابن عمر: إنّ لأبي هريرة زرعاً، هو تكذيب لأبي هريرة وإنّه أضافه من جرابه معلّلاً ذلك بأنّه كان صاحب زرع.
ـ وروى النسائي عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أنّه احتلم ليلا في
____________
(1) جامع بيان العلم ج 2 ص 105.
(2) أُصول السرخسي ج 1 ص 340، المبسوط ج 13 ص 40، وانظر: الكامل ـ لابن عدي ـ ج 2 ص 456.
(3) أُصول السرخسي ج 1 ص 340، وأشار إليه الآمدي في الإحكام في أُصول الأحكام ج 2 ص 346.
(4) صحيح مسلم ج 5 ص 36 و 38، سنن الترمذي ج 4 ص 67 ح 1488، مسند أحمد ج 2 ص 4.
11 ـ رجل من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ـ روى أبو يعلى وابن عساكر عن بكر بن عبد الله، قال: حدّثنا رجل من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وكان أبو هريرة خالفه في ذلك ـ الميّت يعذّب ببكاء الحي ـ فقال: قال أبو هريرة: والله لئن انطلق رجل محارباً في سبيل الله، ثمّ قتل في قُطر من أقطار الأرض شهيداً، فعمدت امرأة سفهاً أو جهلا، فبكت عليه، ليُعذَّبنّ هذا الشهيد ببكاء هذه السفيهة عليه، فقال رجل: صدق رسول الله وكذب أبو هريرة، صدق رسول الله وكذب أبو هريرة.
وفي لفظ ابن عساكر: وكذب أبو هرّ(2) .
12 ـ ابن عمّه الحارث بن أبي ذئاب.
فقد أنكر عليه تضارب حديثيه (لا عدوى ولا طيرة) و (لا يورد ممرض على مصحّ) حتّى غضب أبو هريرة، فرطن بالحبشية(3) .
يظهر من هذا الحديث أنّ أبا هريرة وابن عمّه كانا من الأحباش أو
____________
(1) سنن النسائي الكبرى ج 2 ص 176 ـ 177 ح 2925 و 2926.
(2) سنن أبي يعلى ج 3 ص 165 ـ 166 ح 1592، تاريخ دمشق ج 67 ص 354، مجمع الزوائد ج 3 ص 16.
(3) صحيح مسلم ج 7 ص 31 كتاب السلام، الجمع بين الصحيحين ج 3 ص 77 ح 2256، فتح الباري ج 10 ص 297.
13 ـ رجل قرشي.
إنّ رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حُلّة يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة إنّك تكثر الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فهل سمعت يقول في حلّتي شيئاً؟ قال: والله إنّكم لتؤذونا ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب (ليبيّننّه للناس ولا يكتمونه) ما حدّثتكم بشيء، سمعنا أبا القاسم يقول: إنّ رجلا ممّن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حُلّة إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها حتّى تقوم الساعة، فوالله ما أدري لعلّه كان من قومك أو من رهطك(1) .
والذي يظهر من هذا الخبر أنّ أبا هريرة جعل من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موضع سخرية، وأنّ وضعه للأحاديث ونسبتها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شاع حتّى بين السفهاء بدليل طلب هذا السفيه القرشي المتبختر حديثاً بخصوص حُلّته، فما كان من أبي هريرة إلاّ أن رماه بخارق حارق.
15 ـ مروان بن الحكم.
وحتّى هذا الوزغ ابن الوزغ، اللعين ابن اللعين كما صحّ عن عائشة وغيرها أنكر على أبي هريرة حديثه بقوله له: إنّك قد والله أكثرت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الحديث فلا نسمع منك ما تقول، فهلمّ غيرك يعلم ما تقول: قال: قلت: هذا أبو سعيد الخدري، قال مروان: لقد ضاع حديث رسول
____________
(1) مسند أحمد ج 2 ص 413 و 497، مسند أبي عوانة ج 5 ص 244 ح 8568، تاريخ دمشق ج 67 ص 354، واللفظ له، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 88.
علماً بأنّه كانت له علاقة وطيدة بأبي هريرة إذ كان يستخلفه على المدينة مكانه إذا لم يكن حاضراً، كما هو معروف.
15 ـ أبو هريرة مع نفسه.
في ما رواه مسلم وأحمد وابن ماجة وغيرهم عن أبي رزين، قال: خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته، فقال: ألا إنّكم تحدّثون ـ وفي لفظ: تزعمون ـ أنّي أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتهتدوا وأضلّ، ألا وإنّي أشهد لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأُخرى حتّى يصلحها(2) .
وهذا يعطينا خُبراً أنّ أبا هريرة كان على علم بحاله ومبلغ وثاقته عند الناس وإلاّ لما واجههم بهذا الكلام.
وروى البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عنه أنّه قال: ما من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أحدٌ أكثر حديثاً عنه منّي إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنّه كان يكتب و[أنا] لا أكتب(3) .
____________
(1) تاريخ دمشق ج 13 ص 288.
(2) صحيح مسلم ج 6 ص 153 كتاب اللباس، ونحوه في سنن النسائي ج 8 ص 218، وسنن ابن ماجة ج 1 ص 130 ح 363 وفيه: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرّات، ومسند أحمد ج 2 ص 424 ومواضع أُخر.
(3) صحيح البخاري ج 1 ص 65 ح 54، مسند أحمد ج 2 ص 248، سنن الترمذي ج 5 ص 39 ح 2668 و ص 644 ح 3841، سنن النسائي الكبرى ج 3 ص 434 ح 5853، تاريخ دمشق ج 67 ص 342.
كما ذكر في حديثه هذا أنّه كان لا يكتب، إلاّ أنّه قال في خبر آخر رواه ابن عساكر بإسناده عن عبيد الله بن أبي جعفر عن زوج أُمّه أنّه قال لأبي هريرة: كيف حديث كنت حدّثتنيه في كذا وكذا؟ قال أبو هريرة: ما أذكر أنّي حدّثتك هذا، فانطلق إلى البيت فإنّي لا أُحدّث حديثاً إلاّ هو عندي مكتوب، فانطلقت معه، فأخرج صحيفة صغيرة فيها ذلك الحديث وحده(1) .
وفي هذا الخبر يتبيّن لنا أنّ أبا هريرة كان ينسى ولا يتذكّر بعض ما رواه وبذلك يكون قد كذّب نفسه مرّتين، مرّة في نسيانه وأُخرى في عدمه كما في حديث بسط ثوبه الذي ضمّه إلى صدره بطلب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتّى لا ينسى ما سمعه، وأنّه ما نسي بعد ذلك شيئاً(2) .
16 ـ إبراهيم النخعي الفقيه.
رأى عائشة ودخل عليها، وكان سعيد بن جبير يقول: تستفتوني وفيكم إبراهيم النخعي؟! حُمل عنه العلم وهو صبيّ.
روى أبو أُسامة وغيره عن الأعمش، قال: كان إبراهيم صيرفياً في الحديث [صحيح الحديث]، فكنت إذا سمعت الحديث من أحد من
____________
(1) تاريخ دمشق ج 67 ص 342.
(2) صحيح مسلم ج 7 ص 166، تاريخ دمشق ج 67 ص 329 ـ 334 ومن عدّة طرق.
وفي لفظ: دعني من أبي هريرة، إنّهم كانوا يتركون كثيراً من حديثه.
وفي لفظ: فلمّا أكثرت عليه قال لي: ما كانوا يأخذون بكلّ حديث أبي هريرة.
وفي لفظ: كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون.
ـ وعن سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: لم يكونوا يأخذون من حديث أبي هريرة إلاّ ما كان فى صفة جنّة أو نار ـ وفي لفظ: إلاّ ما كان من ذكر جنّة أو نار ـ.
وفي لفظ: قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئاً، ما كانوا يأخذون بكلّ حديث أبي هريرة إلاّ ما كان من حديث صفة جنّة أو نار، أو حثّ على عمل صالح، أو نهي عن شرّ جاء به القرآن(1) .
17 ـ الحسن البصري.
ردّ حديث أبي هريرة: (إنّ الشمس والقمر نوران مكوّران في النار يوم القيامة) ، وقال: ما ذنبهما(2) ؟!
18 ـ الإمام أبو حنيفة روى أبو يوسف، قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيء عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، يخالف قياسنا ما نصنع به؟
____________
(1) راجع تاريخ الثقات ـ للعجلي ـ ص 514 رقم 2061، تاريخ دمشق ج 67 ص 359 ـ 361، أصول السرخسي ج 1 ص 341، شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 68، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 608، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 89.
(2) تأويل مختلف الحديث ص 95.
فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟
فقال: ناهيك بهما!
فقلت: علي وعثمان.
قال: كذلك.
فلمّا رآني أعدّ الصحابة قال: والصحابة كلّهم عدول ما عدا رجالا، ثمّ عدّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك(1) .
ـ وكان أبو مطيع البلخي يقول:
قلت للإمام أبي حنيفة (رض) : أرأيت لو رأيت رأياً ورأى أبو بكر رأياً، أكنت تدع رأيك لرأيه؟
قال: نعم.
فقلت له: أرأيت لو رأيت رأياً ورأى عمر رأياً، أكنت تدع رأيك لرأيه؟
فقال: نعم، وكذلك كنت أدع رأيي لرأي عثمان وعلي وسائر الصحابة ما عدا أبا هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب(2) .
وتبع الحنفية إمامهم في ردّ حديث أبي هريرة إذا خالف قياسهم، كما في حديث المصراة وغيرها(3) .
19 ـ شعبة بن الحجّاج.
الذي كان سفيان الثوري يصفه بأمير المؤمنين بالحديث، كما عن
____________
(1) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 68.
(2) الميزان الكبرى ج 1 ص 45.
(3) فتح الباري ج 4 ص 459، إرشاد الساري ج 5 ص 132.
قال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يدلّس(2) .
ومن المعروف بأنّ التدليس أحد صفات الجرح، كما هو مبيّن في مظانه من علم الدارية وأُصول الحديث.
20 ـ الخليفة هارون الرشيد.
وحتّى هارون الرشيد البعيد عن الرواية والحديث كذّب أبا هريرة واتّهمه كما رواه المعافى بن زكريا وابن عساكر وغيرهم(3) .
21 ـ إبراهيم بن سيّار النظّام.
فقد طعن بأبي هريرة وقال: أكذبه عمر وعثمان وعلي وعائشة (رضوان الله عليهم) (4) .
22 ـ أبو جعفر الإسكافي قال: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية، ضربه عمر بالدرّة وقال: قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (5) .
هذه بعض أقوال وآراء عدد من الصحابة ممّن هم في طبقة أبي هريرة وممّن يليه في الطبقة من أعيان التابعين والعلماء استعرضناها واستشهدنا بها على ضعف أبي هريرة في الحديث، وأيّ متتبّع لو تناول أيّ
____________
(1) الجعديات ج 1 ص 9 ح 13 و 15.
(2) تاريخ دمشق ج 67 ص 359، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 608، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 89.
(3) الجليس الصالح الكافي ج 3 ص 105 ـ 106، تاريخ دمشق ج 67 ص 361.
(4) تأويل مختلف الحديث ص 32.
(5) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 67 ـ 68.
ولم يقتصر الأخذ بأقوالهما على خصوص من عاصرهما، بل تعدّاه إلى من يتقدّمهما في الطبقة، بل حتّى التابعين، بل حتّى من ولد قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسنتين أو ثلاث، فلو قال ابن معين فلان كذّاب أو ضعيف أو مخلّط، أو مدلّس، وما شابه ذلك من ألفاظ الجرح لانتهى حال هذا الراوي إلى السقوط ولا ينفعه اعتبار أي معتبر.
فما بالك إذاً بقول مثل علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطّاب، وأُمَّي المؤمنين، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص، الذين هم أعلى طبقة من أبي هريرة، ومن هم بطبقته كالعبادلة الثلاثة وغيرهم ممّن تقدّمت أقوالهم؟!
أترى قول يحيى بن معين وعلي بن المديني أهمّ وأوثق وأكثر اعتباراً من أقوال هؤلاء؟! لماذا يؤخذ بقول ابن معين وابن المديني ويترك قول علي بن أبي طالب وعمر بن الخطّاب؟! إن هذا إلاّ حوباً كبيراً، وعدم إنصاف في اعتبار الأقوال.
ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟!
اعتبار حديث أبي هريرة من جهة السماع:
وأمّا من جهة اعتبار المرويّ فسوف نتناوله حضوراً وتلقّياً مرّة، وغرابة ونكارة لكثير ممّا يرويه ومخالفته للكتاب والسُنّة والعقل أُخرى.
أوّلا: ادّعاء أبي هريرة حضور مواقف وأحداث لم يكن حاضراً فيها، ومثال ذلك:
1 ـ ما رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وأحمد، وأبو يعلى، وأبو عوانة، وابن حبّان، والطبراني في الأوسط، عن أبي هريرة، قال:
قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين أنزل الله عزّ وجلّ (أنذر عشيرتك الأقربين) قال: يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا عبّاس ابن عبد المطّلب لا أُغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمّة رسول الله لا أُغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمّد سليني ما شئتِ من مالي لا أُغني عنك من الله شيئاً(1) .
____________
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 53 ح 16 الوصايا و ج 6 ص 203 ح 264 التفسير، صحيح مسلم ج 1 ص 133 الإيمان، سنن الترمذي ج 5 ص 316 ح 3185، سنن النسائي ج 6 ص 248 ـ 250 الوصايا، سنن الدارمي ج 2 ص 210 ح 2728، مسند أحمد ج 2 ص 333 و 350 و 360 و 398 و 449 و 519، مسند أبي يعلى ج 11 ص 213 ح 6327، مسند أبي عوانة ج 1 ص 88 ـ 90 ح 268 ـ 270 و ح 272 و 274 ـ 275، صحيح ابن حبّان ج 8 ص 173 ح 6515، المعجم الأوسط ج 8 ص 284 ـ 285 ح 8511.
منها: إنّ نزول هذه الآية سبق إسلام أبي هريرة بـ 18 عاماً أو أكثر، وكان عمره في هذا الوقت نحو 10 سنوات، يكتنفه البؤس والجوع، منشغلا برعي الغنم والحُمر واللعب مع هرّته ـ كما حكاه الترمذي وابن سعد وابن عساكر وغيرهم(1) ـ في جبال دوس باليمن، والتي كنّي بها ولازمته هذه الكنية إلى أن مات ولم يعرف له اسم صحيح على التحقيق إلى اليوم، فمتى حضر ورأى قيام النبيّ وسمع خطابه لقريش؟! وما ألمّ بالإسلام إلاّ بعد غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة.
وشاركه برواية نحو هذا اللفظ ابن عبّاس، ولا يصحّ، لأنّه لم يكن ولد بعد.
وعائشة، والمشهور أنّها لم تكن ولدت بعد أو صغيرة السنّ، وكان عمرها نحو خمس سنين أو أكثر بقليل كما سنثبته لاحقاً إن شاء الله، وعلى كلّ حال فلا تصحّ روايتها لهذا الخبر الذي حدث في أوائل البعثة.
كما رواه أبو موسى الأشعري، ولا يصح أيضاً لأنّه لم يسلم إلاّ بعد غزوة خيبر سنة سبع.
ومنها: إنّه لا يمكن اعتبار قريش عشيرته الأقربين، بل الأبعدون، وإنّما هم بنو هاشم أو بنو عبد المطّلب، والذي يؤكّده ثالث الوجوه الآتي، والذي يتناسب مع سرّية الدعوة في ذلك الوقت:
ومنها: إنّ الرواية الصحيحية لهذا الحديث والمسمّى بحديث الدعوة أو الإنذار هو ما سنتلوه عليك.
____________
(1) سنن الترمذي ج 5 ص 644 ح 3840، طبقات ابن سعد ج 4 ص 245، تاريخ دمشق ج 67 ص 312 ـ 313، وانظر: سير أعلام النبلاء ج 2 ص 588.
____________
(1) حكاه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 ص 302.
(2) تهذيب التهذيب ج 12 ص 130.
(3) تهذيب التهذيب ج 3 ص 263.