وانصروا أحمداً فإنّ من الله | رداءً عليه غير مدالِ |
وقوله:
زعمت قريش أنّ أحمد ساحر | كذبوا وربّ الراقصات إلى الحرم |
ما زلت أعرفه بصدق حديثه | وهو الأمين على الحرائب والحُرم |
وقوله يوصي ولده وإخوته وبني هاشم بنصرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) :
أُوصي بنصر النبيّ الخيرُ مشهده | عليّاً ابني وعمّ الخير عبّاسا |
وحمزة الأسد المخشي صولته | وجعفراً أن تذودا دونه الناسا |
وهاشماً كلّها أُوصي بنصرته | أن يأخذوا دون حرب القوم أمراسا |
كونوا فداءً لكم أُمّي وما ولدت | من دون أحمد عند الروع أتراسا |
وهذه الأشعار وردت في مصادر كثيرة، بل لا تجد مصنّفاً تناول أحداث تلك الفترة إلاّ وذكر كثيراً منها أو بعضها، كما وجمع شعره أبو هفّان المهزمي البصري المتوفّى 257 هـ في ديوان، وهو مطبوع أكثر من مرّة.
قال ابن شهرآشوب: إنّ أشعار أبي طالب الدالّة على إيمانه تزيد على ثلاثة آلاف بيت يكاشف فيها من يكاشف النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ويصحّح نبوّته(1) .
وبعد هذا، أترى لذي لبٍّ مقيلا عن القول بإيمان أبي طالب، ونصدّق قول أبي هريرة بأنّه مات كافراً، ألا ترى أنّ الحقّ أبلج والباطل لجلج، ومن لم يرض بذلك فهو أحمق من نعجة على حوض، وفي فيه الكثكث.
قال ابن أبي الحديد من أبيات له:
ولولا أبو طالب وابنه | لما مثل الدين شخصاً فقاما |
وما ضرّ مجد أبي طالب | جهول لغا أو بصير تعامى |
____________
(1) متشابهات القرآن ج 2 ص 65.
كما لا يضرّ إياة الصباح(1) | من ظنّ ضوء النهار الظلاما |
فوالله لو أفنى أحدنا عمره على أن يأتي ببعض من أقوال أبي طالب المنظومة والمنثورة، والتي تكشف عن غور إيمانه فضلا عن ظاهر اسلامه، لا أعني من جهة بلاغة وفصاحة وجزالة كلامه وعذوبته وطلاوته، فهو أمر يعسر على الفحول أن يأتوا ولو بأدنى منه ولا يستطيع أن يقوله إلاّ من قاله، بل من جهة تأدية المعنى والإفصاح عمّا يختلج في النفس في التعبير عن حالة الإيمان، لما استطاع إلاّ ببعض ما لا يمكننا الاستغناء عنه من عبارات استدلالية كلامية، ومصطلحات فلسفية جافّة هي بالمعادلات الرياضية أشبه، نحاول من خلالها الإفصاح عن إيماننا والمناظرة بها.
لله ما أشدّ ظلامتك يا أبا طالب؟! فسلامٌ عليك يوم ولدت ويوم متَّ ويوم تبعث حيّاً.
5 ـ روى الشيخان والأربعة والدارمي ومالك وأحمد، عن أبي هريرة، قال: صلّى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة العصر ـ وفي لفظ: الظهر، أو: العشاء، أو: إحدى صلاتي العشي ـ فسلّم في ركعتين فقام ذو اليدين وفي لفظ: ذو الشمالين ; وفي بعض المصادر جمع اللفظين ـ فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : كلّ ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الناس، فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتمّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما بقي من الصلاة ثمّ سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم(2) .
____________
(1) إياة الصباح: ضوؤه.
(2) صحيح البخاري ج 1 ص 206 ح 139، و ص 288 ح 103 و 104، و ج 2 ص 150 ح 250 ـ 253، صحيح مسلم ج 2 ص 86 ـ 87، سنن أبي داود ج 1 ص 263 ح 1008 و ص 265 ح 1014 و 1015، سنن الترمذي ج 2 ص 247 ح 399، سنن النسائي ج 3 ص 23 ـ 24، سنن ابن ماجة ج 1 ص 383 ح 1213 و 1214، سنن الدارمي ج 1 ص 251 ح 1499 و 1500، الموطّأ ص 80 ـ 81 ح 64 ـ 66، مسند أحمد ج 2 ص 234 و 271 و 284 و 423 وبألفاظ متقاربة.
منها: إنّ ذا اليدين أو ذا الشمالين، وهو: عمير بن عبد عمرو، استشهد يوم بدر(1) ، أي قبل قدوم أبي هريرة وإسلامه بخمس سنين، فكيف رآه وسمع قوله؟! وظاهر لفظ الحديث يقتضي حضور أبي هريرة لقوله: صلّى بنا رسول الله، كما لا يخفى، وفي لفظ لمسلم أصرح من هذا، فقد قال: بينا أنا أُصلّي مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الظهر.
ومنها: تضارب متون الخبر فمرّة أنّه صلى الظهر، ومرّة العصر، وأُخرى إحدى صلاتي العشي، وتارة المغرب، كلّ هذا يفيدنا يقيناً بأنّ الخبر لا أصل له.
ومنها: كيف يصلّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاة الساهين؟!
ـ وهو القائل: ركعتان مقتصدتان خير من قيام ليلة والقلب ساه(2) .
ـ وهو القائل: من توضّأ فأسبغ الوضوء، ثمّ قام يصلّي صلاة يعلم ما يقول فيها حتّى يفرغ من صلاته كان كهيئة يوم ولدته أُمّه(3) .
ـ وهو القائل: إيّاكم وأن يتلعّب بكم الشيطان، لمّا قال له رجل: يا
____________
(1) الاستيعاب ج 2 ص 469 رقم 716.
(2) الزهد ـ لابن المبارك ـ ص 118 ح 288 و ص 329 ح 1147، العظمة ـ لأبي الشيخ الأصبهاني ـ ص 33 ح 45.
(3) مصنّف عبد الرزاق ج 1 ص 46 ح 142، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ج 17 ص 339 ح 937 نحوه، مستدرك الحاكم ج 2 ص 433 ح 3508 وصححه.
ـ وهو الذي يقول: جعلت قرّة عيني في الصلاة(2) .
ـ وهو الذي يقول: ما من إمرئ مسلم يحضر صلاة مكتوبة، فيتوضّأ عندها فيحسن الوضوء، ثمّ يصلّي الصلاة فيحسن الصلاة، إلاّ غفر الله له بها ما بينها وبين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه(3) .
أتراه (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر الناس بهذا وينسى نفسه؟! معاذ الله، إنْ هذا إلاّ افتراء عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ومنها: منافاة هذا الخبر لعصمة الأنبياء (عليهم السلام) من السهو والنسيان في العبادة، والتي نعتقد بها بحكم الضرورة لكونه مناف لحكمة البعثة، فإنّ الحكمة فيها إرشاد الخلق وتقريبهم إلى ما هو الأحبّ إلى الله تعالى والأصلح لهم، ومن المعلوم أنّ الإقبال على العبادة أحبّ الأُمور إلى الله تعالى وأصلحها للعبد، وأنّ السهو مناف للإقبال، فإذا لم يُقبِل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عبادة ربّه وينسى ركعتين فنحن أَولى بنسيان ثلاث ركعات، وإن شئت فقل يكفينا فرض واحد في اليوم بنعمة السهو والنسيان، وإكراماً لأبي هريرة ومداراةً لعشّاقه.
6 ـ روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد وبألفاظ متقاربة، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعو في القنوت ـ وفي لفظ: قال: لما رفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رأسه من الركعة الثانية ـ من صلاة الصبح قال: اللّهم أنج مسلمة بن هشام، اللّهم أنج الوليد بن الوليد،
____________
(1) مسند أحمد ج 10 ص 63.
(2) سنن النسائي ج 7 ص 61 ـ 62، مسند أحمد ج 3 ص 128 و 199 و 285.
(3) مسند أحمد ج 5 ص 260، جزء ابن الغطريف ص 61 ح 7.
وهذا ليس بتامٍّ أيضاً، لأنّ هذه الحادثة كانت في أوائل الهجرة، عندما حبست قريش المستضعفين عن الهجرة وعذّبتهم، فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو لهم في قنوته، وظاهر الحديث يقتضي حضور أبي هريرة، بحيث أنّه سمع ورأى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقنت ويدعو لهم بالنجاة، علماً بأنّ قدومه إلى المدينة متأخّر عن هذه الحادثة بنحو سبع سنين.
7 ـ وروى الطبراني والحاكم وأبو نعيم في المعرفة وابن عساكر، عن أبي هريرة (رض) ، قال: دخلت على رقيّة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امرأة عثمان (رض) وفي يدها مشط، فقالت: خرج من عندي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آنفاً رجّلت رأسه فقال: كيف تجدين أبا عبد الله؟ قلت: بخير، قال: أكرميه فإنّه من أشبه أصحابي بي خلقاً(2) .
قال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد واهي المتن، فإنّ رقيّة ماتت سنة ثلاث من الهجرة عند فتح بدر وأبو هريرة إنّما أسلم بعد فتح خيبر، والله أعلم وقد كتباه بإسناد آخر، وتعقّبه الذهبي في التلخيص بقوله: صحيح، منكر المتن، فإنّ رقيّة ماتت وقت بدر، وأبو هريرة أسلم وقت خيبر.
____________
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 116 ح 143 ومواضع أُخر، صحيح مسلم ج 2 ص 134 ـ 135، سنن أبي داود ج 2 ص 69 ح 1442، سنن النسائي ج 2 ص 201، سنن ابن ماجة ج 1 ص 394 ح 1244، سنن الدارمي ج 1 ص 267 ح 1598، مسند أحمد ج 2 ص 271 و 396 و 418، ومواضع أُخر.
(2) المعجم الكبير ج 1 ص 76 ح 99، معرفة الصحابة ج 1 ص 60 ح 230 و ج 3 ص 1716 ح 4333 و ج 6 ص 3198 ح 7353، تاريخ دمشق ج 39 ص 97، المستدرك ج 4 ص 52 ح 6854 و 6855.
قلت: ولن تجدوه إلى قيام الساعة! لأنّ أبا هريرة أخرجه من جرابه تزلّفاً لبني أُميّة ولم يروه أحد غيره، وكان الأَولى بالحاكم ـ والذي ما لقّب بالحاكم إلاّ لكثرة حفظه وسعة معرفته بالحديث ـ ألاّ يخرج هذا الحديث مع علمه بنكارته، والذي تشمّ منه رائحة الوضع وإن صحّ سنده عندهم، ليت الحاكم صرّح بأنّ بليّته أبو هريرة، ولكن من أين له هذه الجرأة؟!
8 ـ وروى البخاري ومسلم وأحمد وأبو عوانة وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: شهدنا خيبر ـ وفي لفظ مسلم: حنيناً ـ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لرجل ممّن معه يدّعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلمّا حضر القتال قاتل الرجل أشدّ القتال حتّى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهماً فنحر بها نفسه، فاشتدّ رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله صدّق الله حديثك انتحر فلان فقتل نفسه... الحديث(1) .
والكذب في هذا الحديث مركّب، لأنّ الرجل الذي قاتل أشدّ القتال وجرح هو قزمان الظفري والحادثة وقعت في معركة أُحد، حين كسر جفن سيفه، وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار، فمرّ به قتادة بن النعمان، فقال له: هنيئاً لك بالشهادة، قال: والله إنّي ما قاتلت على دين، وإنّما
____________
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 166 ح 259 وج 5 ص 277 ح 225، صحيح مسلم ج 1 ص 73، مسند أحمد ج 2 ص 309، مسند أبي عوانة ج 1 ص 51 ح 133، مصنّف عبد الرزاق ج 5 ص 269 ح 9573.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ أبا هريرة لم يشهد فتح خيبر، بل جاء بعدها كما هو معروف.
قال ابن حجر في فتح الباري: قوله ـ أي أبو هريرة ـ: شهدنا خيبر، أراد جيشها من المسلمين، لأنّ الثابت أنّه إنّما جاء بعد أن فتحت خيبر(2) .
وقال القسطلاني في إرشاد الساري: وأمّا قول أبي هريرة شهدنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خيبر فمحمول على المجاز، فالمراد جنسه من المسلمين، لأنّ الثابت أنّه إنّما جاء بعد أن فتحت خيبر(3) .
قلت: هل يصلح ابن حجر والقسطلاني وغيرهم بهذه التمحّلات الباردة مناكير أبي هريرة، وظاهر كلامه يقتضي الحضور وشهود الموقف؟!
9 ـ روى البخاري وغيره، عن أبي هريرة (رض) ، قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بخيبر بعدما افتتحوها فقلت: يا رسول الله! إسهم لي، فقال بعض بني ـ أبان بن ـ سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله، فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل، فقال ابن سعيد بن العاص: وا عجباً لوبر تدلّى علينا من قدوم ضأن(4) .
علماً بأنّ ابن قوقل ـ واسمه النعمان ـ استشهد يوم أُحد، والذي قتله
____________
(1) فتح الباري ج 7 ص 599.
(2) فتح الباري ج 7 ص 601.
(3) إرشاد الساري ج 6 ص 600.
(4) صحيح البخاري ج 4 ص 42 ح 43، و ج 5 ص 287 ح 254 و 255، سنن أبي داود ج ص 73 ح 2724.
10 ـ روى البخاري وغيره، عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله عشرة رهط سريّة عيناً وأمّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري... الحديث(2) .
وهي الغزاة المسمّاة بغزوة أو وقعة الرجيع، واستشهد فيها عاصم بن ثابت الأنصاري، وأُسر خبيب ثمّ قتلوه وكان ذلك في سنة أربع من الهجرة أي قبل قدوم أبي هريرة بأربع سنين.
11 ـ روى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن جرير والبيهقي وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول لله (صلى الله عليه وسلم) في القدر فنزلت (يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر * إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر) (3) .
ولا يخفى أنّ هذه الآية نزلت في أوائل البعثة أي قبل إسلام أبي هريرة بكثير.
____________
(1) مغازي الواقدي ج 1 ص 258 وغيره من أصحاب السير.
(2) صحيح البخاري ج 4 ص 158 ح 144 و ج 5 ص 230 ح 123.
(3) مسند أحمد ج 2 ص 444 و 476، صحيح مسلم ج 8 ص 52، سنن الترمذي ج 4 ص 399، ح 2157، سنن ابن ماجة ج 1 ص 32 ح 83، تفسير الطبري ج 11 ص 568 ح 32833 و 32834، الاعتقاد ـ للبيهقي ـ ص 69.
وهذا الحديث أيضاً ليس بتامّ، لأنّ ظاهره يفيد بأنّ أبا هريرة كان حاضراً في هذه المشاهد التي ذكرها، علماً بأنّه قدم بعد فتح خيبر، ولا تنفع التمحّلات في تأويل قول أبي هريرة كما فعل القسطلاني بقوله: أي افتتح المسلمون خيبر وإلاّ فأبو هريرة لم يحضر فتح خيبر(2) .
13 ـ روى البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر الصدّيق في الحجّة التي أمّره عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس يوم النحر: لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان(3) .
وها هنا أمران يثبتان عدم تمامية قول أبي هريرة:
الأوّل: إنّ أبا هريرة لم يكن حاضراً يومئذ، لأنّه كان في البحرين مع
____________
(1) صحيح مسلم ج 1 ص 75، صحيح البخاري ج 5 ص 286 ح 251 و ج 8 ص 257 ح 81، سنن أبي داود ج 3 ص 68 ح 2711، سنن النسائي ج 7 ص 24، الموطأ ص 402 ح 25.
(2) إرشاد الساري ج 9 ص 280.
(3) صحيح مسلم ج 4 ص 106 كتاب الحج، صحيح البخاري ج 6 ص 124 ح 178 كتاب التفسير ومواضع أُخر.
الثاني: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث براءة مع أبي بكر إلى أهل مكّـة فسار بها ثلاثاً، ثمّ قال لعلي (عليه السلام) : إلحق فردّ عليَّ أبا بكر وبلّغها أنت، ففعل، فلمّا قدم أبو بكر على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بكى، وقال: يا رسول الله حدث منّي شيء؟
قال لا، ولكن أُمرت أن لا يبلّغه إلاّ أنا أو رجل منّي(1) .
وهذا هو الحقّ، فأين أبو هريرة من هذا حتّى يقول في بعض ألفاظه (حتّى صحل صوتي) أي حتّى بحّ صوته من المناداة. عجيب والله أمر هذا الرجل في نكارة ادّعاته!!
هذه بعض ادّعاءات أبي هريرة في حضور مواقف لم يكن موجوداً فيها، لا من حيث الزمان ولا المكان، واقتصرنا عليها على سبيل المثال لا الحصر، وإلاّ فبطون الكتب والمصنّفات مشحونة بأمثال هذه الأباطيل.
____________
(1) رواه أحمد بسند صحيح ورجاله ثقات في مسنده ج 1 ص 3 و ص 151 وج 3 ص 212 و 283، ومواضع أُخر، وفي فضائل الصحابة ج 2 ص 694 ح 946 و ص 795 ح 1090، والترمذي في سننه ج 5 ص 256 ح 3090، والنسائي في سننه الكبرى ج 5 ص 128 ـ 129 ح 8460 ـ 8462، وابن ماجة في سننه ج 1 ص 44 ح 119، والطبراني في الكبير ج 12 ص 77 ح 12593، وأبو يعلى في مسنده ج 1 ص 100 ح 104، ومواضع أُخر، والبزّار في مسنده ج 2 ص 308 ح 733، وابن حبّان في صحيحه ج 8 ص 222 ح 6610، وابن أبي عاصم في السُنّة ص 588 ـ 589 ح 1351، وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند ص 353 ح 146، وأبو عبيد في الأموال ص 215 ح 457، والطبري في تفسيره ج 6 ص 306 ح 16386 و 16389، 16392، والحاكم في المستدرك ج 3 ص 53 ح 4374، وغيرهم.
المناكير والغرائب في حديث أبي هريرة:
ثانياً: روايته لكثير من المناكير والغرائب المعارضة للكتاب والسُنّة الثابتة والعقل، منها:
1 ـ روى الشيخان والأربعة والدارمي ومالك وأحمد، وغيرهم، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأُعطيه، من يستغفرني فأغفر له(1) .
وهذا محال ضرورة، لأنّ النزول والصعود يستلزم الكون في جهة أو محـلّ، وهـذا يسـتلزم الجسـمية، والجسـم مـا يشتمل على الأبعـاد الثلاثـة ـ أعني الطول والعرض والعمق ـ أي حاصل ضرب هذه الثلاثة، وهذا يستوجب التركيب، وأيّ مركّب يحتاج إلى أجزائه، والمحتاج لا يكون واجباً للوجود، بل ممكنه، والممكن لا يكون ربّاً ولا إلهاً ضرورة.
وهذا الاستدلال هو بالمعادلات الرياضية أشبه لا تقوم أمامه تخرصّات المبطلين التافهة، ولا حجج المجسّمة والمشبّهة الباطلة، هذا مضافاً إلى أنّ النزول والصعود يلازم خلوّ المكان الذي نزل عنه والذي
____________
(1) صحيح البخاري ج 2 ص 121 ح 175 (التهجّد) ومواضع أُخر، صحيح مسلم ج 2 ص 175 ـ 176 (المسافرين) ، سنن أبي داود ج 2 ص 35 ح 315 و ج 5 ص 234 ح 4733، سنن الترمذي ج 2 ص 307 ح 446، سنن ابن ماجة ج 1 ص 435 ح 1366، سنن النسائي الكبرى ج 4 ص 420 ح 7768 و ج 6 ص 123 ـ 125 ح 10310 ـ 10321، سنن الدارمي ج 1 ص 248 ح 1481 و 1482 و 1487، الموطّأ ص 207 ح 30 (القرآن) ، مسند أحمد ج 2 ص 264، 267، 282، 419، 487، 504، وبألفاظ متقاربة وفي بعضها "يهبط" بدلا من "ينزل".
قال تعالى: (فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم) (1) ، وقال تعالى: (ليس كمثله شيء) (2) ، وقال تعالى: (وما قدروا الله حقّ قدره) (3) ، وقال تعالى: (هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) (4) .
قال سيّد الموحدين بعد رسول ربّ العالمين عليٌّ أمير المؤمنين: الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعمائه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركهُ بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعتٌ موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطرَ الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتّدَ بالصخور ميدان أرضه.
أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال فيم فقد ضمّنه، ومن قال علامَ فقـد أخلى منـه، كـائنٌ لا عـن حدث، موجود لا عـن عدم، مع كـلّ شيء
____________
(1) سورة البقرة 2: 115.
(2) سورة الشورى 42: 11.
(3) سورة الأنعام 6: 91.
(4) سورة الزخرف 43: 84.
وقال (عليه السلام) أيضاً: ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا إيّاه عنى من شبّهه، ولا حمده من أشار إليه وتوهّمه(2) .
وزاد تفشّي هذه العقيدة الفاسدة ـ أعني التجسيم ـ في القرن الثالث الهجري وحتّى القرن السادس بين أوساط أهل الحديث، خاصّة عند الحشوية والحنابلة إلى حدٍّ مبك أكثر ممّا هو مضحك.
فقد رووا: إنّه تعالى ينزل على حمار في صورة غلام أمرد، في رجليه نعلان من ذهب، وعلى وجهه فراش من ذهب يتطاير.
وقال بعضهم: سألت معاذاً العنبري: ألهُ وجه؟ فقال: نعم، حتّى عددت جميع الأعضاء من أنف وصدر وبطن ; واستحييت أن أذكر الفرج، فأومأت بيدي إلى فرجي، فقال: نعم، فقلت: أذكرٌ أم أُنثى؟ فقال: ذكر.
ودخل إنسان على معاذ بن معاذ يوم عيد وبين يديه لحم في طبيخ سكباج، فسأله عن الباري تعالى في جملة ما سأله، فقال: هو والله مثل هذا الذي بين يدي، لحم ودم.
وذُكر أنّ ابن خزيمة ـ صاحب الصحيح الذي عَدّه بعضهم بمنزلة الصحيحين ـ أشكل عليه القول في أنّه: أذكر أم أُنثى، فقال له بعض أصحابه: إنّ هذا مذكور في القرآن، وهو قوله تعالى: (وليس الذكر كالأُنثى) (3) ، فقال: أفدت وأجدت ; وأودعه كتابه(4) .
____________
(1) نهج البلاغة ص 39 خطبة 1.
(2) نهج البلاغة ص 272 خطبة 186.
(3) سورة آل عمران 3: 36.
(4) راجع: شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 225 ـ 227، وغيرها من المصادر.
ومن أراد الاطّلاع على كثير من هذه الأقوال الباطلة والآراء الفاسدة، فما عليه إلاّ أن ينظر في كتاب " الشريعة " للآجري وكتاب " التوحيد " لابن خزيمة الذي تتبنّاه السلفية، فإنّه يرى العجب العجاب.
قال الفخر الرازي في تفسيره: واعلم أن محمّد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية (ليس كمثله شيء) في الكتاب الذي سمّاه بالتوحيد، وهو في الحقيقة كتاب شرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنّه كان رجلا مضطرب الكلام، قليل العلم، ناقص الفهم، فقال: نحن نثبت لله وجهاً ونقول: إنّ لوجه ربّنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أبصره... ولو كان مجرّد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إنّ لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً، لكان قد شبّه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب... وذكر في فصل من هذا الكتاب أنّ القرآن دلّ على وقوع التشبيه بين ذات الله تعالى وبين خلقه في
وأحيى ابن تيميّة هذه العقائد الفاسدة في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الهجري، فقد ذكر ابن بطوطة في رحلته تحت عنوان (الفقيه ذو اللوثة) : وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيميّة كبير الشام يتكلّم في الفنون إلاّ أنّ في عقله شيئاً، وكان أهل دمشق يعظّمونه أشدّ التعظيم ويعظهم على المنبر، وتكلّم مرّة بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر... ثمّ ذكر سجنه وأنّ أُمّه تعرّضت للملك الناصر وشكت إليه فأمر بإطلاقه، إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على المنبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه، وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته... ثمّ ذكر أنّ الملك الناصر أمر بسجن ابن تيميّة بالقلعة، فسجن حتّى مات في السجن(2) .
وأشارة إلى هذه الحادثة ابن حجر أيضاً(3) .
2 ـ روى الشيخان والأربعة والدارمي وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: إنّ الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارّون ـ وفي لفظ: تمارون ـ في الشمس ليس دونها حجاب؟ قالوا:
____________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 27 ص 101.
(2) رحلة ابن بطوطة ص 90.
(3) الدرر الكامنة ج 1 ص 93.
وهذا باطل أيضاً بحكم الضرورة، لأنّ الرؤية نوع من الإشارة بالعين نحو المرئي، والله منزّه عن الإشارة، والرؤية لا تتحقّق إلاّ بانعكاس الأشعّة بين المرئي والعين، وهذا يستلزم الجسمية، والمصحّح للرؤية هو المقابلة أو في حكمها، وهذا يستلزم الكون في جهة، والرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها، الأمر الذي يستلزم أن تكون الذات محدودة متناهية متحيّزة في جهة، وخلوّ باقي الجهات منه تعالى وهو محال، وإمّا أن تقع على بعض
____________
(1) صحيح البخاري ج 2 ص 2 ح 193 و ج 8 ص 211 ح 156 ومواضع أُخر، صحيح مسلم ج 1 ص 112 ـ 116، سنن أبي داود ج 5 ص 233 ح 4730، سنن الترمذي ج 4 ص 594 ح 2554 و ص 596 ح 2557، سنن ابن ماجة ج 1 ص 63 ح 178، سنن النسائي الكبرى ج 6 ص 457 ح 11488 و ص 504 ح 11637، سنن الدارمي ج 2 ص 223 ح 2797، مسند أحمد ج 2 ص 275 و 293 و 369 و 379 ومواضع أُخر.
وعجب والله قوله: (فيأتيهم في غير الصورة التي يعرفون) ، وكأنّهم على معرفة به ورأوا صورته قبل هذا الحين، فأنكروه عندما أتاهم بغير صورته المعهودة، نعوذ بالله من هذا القول الفاسد.
ولشناعة هذه المقالة جاء أبو الحسن الأشعري وريث جدّه التاسع في الذكاء والنباهة، فأجرى عليها تلميعاً وتزويقاً طفيفاً بقوله: وأنّ له سبحانه وجهاً بلا كيف...، وأنّ له سبحانه يدين بلا كيف...، وأنّ له عيناً بلا كيف...، وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر(1) .
ولكن القول بالبلكفة والتذرّع بها لا يرجع إلى معنىً صحيح محصّل، ولا يساعد في الخروج عن القول بالتشبيه، ويبقى الأمر على حاله وإن أُبهمت الصورة والكيفية فاليد يد، والعين عين، وإن اختلت لونها وحجمها وشكلها.
وأهمّ ما استدلّ به الأشعري في إثبات قوله بالرؤية عقلا، قوله: وليس في جواز الرؤية إثبات حدث، لأنّ المرئي لم يكن مرئياً لأنّه محدَث، ولو كان مرئياً لذلك للزمه أن يُرى كلّ محدَث وذلك باطل عندهم(2) .
وقال: ليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه الباري تعالى ولا تجنيسه ولا قلبه عن حقيقته، لأنّا نرى السواد والبياض فلا يتجانسان ولا يشتبهان
____________
(1) الإبانة ص 44 و 47.
(2) اللمع ص 61.
فلمّا لم يكن في إثبات الرؤية شيء ممّا لا يجوز على الباري لم تكن الرؤية مستحيلة، وإذا لم تكن مستحيلة كانت جائزة على الله(1) .
ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الوهن، لأنّ الحدث ليس شرطاً مصحّحاً للرؤية بذاته، وإنّما هو شرط لازم منضّماً إلى شروط أُخرى.
ولتفاهة هذا الاستدلال عدل أئمّة الأشاعرة إلى تقرير هذا الدليل بالصيغة التالية، وهو أهمّ ما لديهم.
قال صاحب المواقف: والعمدة مسلك الوجود، وهو طريقة الشيخ (الأشعري) والقاضي (الباقلاّني) وأكثر أئمّتنا.
وتحريره ملخصّاً: إنّ الرؤية مشتركة بين الجواهر والأعراض ضرورة ووفاقاً، فلا بدّ لصحّة رؤيتها من علّة مشتركة، وهي إمّا الوجود أو الحدث، والثاني لا يصلح للعليّة، لأنّه أمر عدمي فتعيّن الوجود، وهو مشترك بين الواجب والممكن، فتصحّ رؤية الواجب(2) .
ولا يخفى ما في هذا التقرير من ضعف، لأنّ الوجود على إطلاقه لا يمكن اعتباره مصحّحاً للرؤية، وإنّما الوجود المقيّد بعدّة قيود، وإلاّ للزم رؤية الأفكار والمعتقدات والأُمور النفسية والروحية، وهي موجودة قطعاً، ولكن لا يمكن رؤيتها ضرورة، فهل يعقل لو أنّ أحد الأشاعرة أُصيب بصداع، أو ارتفعت حرارة بدنه يمكن له أن يرى وجع رأسه أو سخونة جسمه وفقاً لدليلهم هذا، إنّه الهذيان بعينه.
وأهمّ ما استدلّ به سمعاً هو قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة *
____________
(1) اللمع ص 62.
(2) أربعين الرازي ج 1 ص 268، المواقف ص 302، شرح المقاصد ج 4 ص 188.