الصفحة 228
أبي هريرة؟! وكأنّه يخبرنا ـ والأمر ليس بخفيٍّ على أُولي الألباب ـ بأنّي أنا الذي علّمته، وأحفظته، وذاكرته، وساءَلته، كيما أتأكّد من عدم نسيانه وحسن إعداده.

وروى أحمد، عن القاسم بن محمّد، قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فجعل أبو هريرة يحدّث كعباً عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، وكعب يحدّث أبا هريرة عن الكتب(1) .

ولم يقتصر الأمر على كعب وأبي هريرة، بل تعدّاه إلى ما هو أسوأ من ذلك، فقد سرت الحالة إلى المتلقّين عن أبي هريرة، سواء كانت بقصد أم بدونه، فقد روى مسلم بن الحجّاج وابن عساكر من طريقه عن بسر بن سعيد، أنّه قال: اتّقوا الله وتحفّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويحدّثنا عن كعب، ثمّ يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (2) .

وحتّى يزداد الأمر وضوحاً فدونك أيّ كتاب من الكتب الرجالية والتراجم تجد روايته عن كعب(3) .

وهذه بعض النصوص المختارة على سبيل المثال لا الحصر من حديث أبي هريرة المطابقة لما في الكتاب المقدّس معنىً أو لفظاً كي تتّضح الصورة بشكل أفضل:

____________

(1) مسند أحمد ج 2 ص 275.

(2) تاريخ دمشق ج 67 ص 359، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 606، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 89 عن مسلم.

(3) انظر: نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين ـ لابن حجر ـ ص 81 وما بعدها.


الصفحة 229
1 ـ روى أحمد ومسلم والنسائي والبخاري في التاريخ وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيدي، فقال: خلق الله عزّ وجلّ التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدوابّ يوم الخميس، وخلق آدم (عليه السلام) بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة في ما بين العصر إلى الليل(1) .

ولو راجعت الأصحاح الأوّل من سفر التكوين لوجدت فيه نفس هذا المعنى سوى يوم السبت الذي أضافه أبو هريرة من جرابه، لأنّ المذكور في أوّل الأصحاح الثاني أنّ الله فرغ فيه من عمله الذي عمل واستراح، إلاّ أنّ أبا هريرة لم يرح ربّه في هذا اليوم وجعله يعمل فيه، لأنّ ذلك فيه موافقة لليهود وهذا ما لا يقبل منه، غير إنّه خفي عليه أنّ أيّام الخلق تصبح سبعة وليس ستّة.

2 ـ روى الشيخان، وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، قال: خلق الله آدم على صورته.

وفي لفظ: إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنّب الوجه، فإنّ الله خلق آدم على صورته (صورة وجهه) .

وفي لفظ: من قاتل فليتجنّب الوجه، فإنّ صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن.

____________

(1) مسند أحمد ج 2 ص 327، صحيح مسلم ج 8 ص 127، سنن النسائي الكبرى ج 6 ص 293 ح 11010، تاريخ البخاري الكبير ج 1 ص 413، مسند أبي يعلى ج 1 ص 513 ح 6132، العظمة ـ لأبي الشيخ ـ ص 290 ح 877 و 878، الأسماء والصفات ـ للبيهقي ـ ج 1 ص 58 و ج 2 ص 125، وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص 33 من قسم المسلسل.


الصفحة 230
وفي لفظ: لا يقولن أحدكم: قبّح الله وجهك ولا وجه من أشبه وجهك، فإنّ الله خلق آدم على صورته(1) .

والنصّ الموجود في الكتاب المقدّس: (فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه) الآية 27 من الأصحاح الأوّل من سفر التكوين.

(لأنّ الله على صورته عمل الإنسان) الآية 6 من الأصحاح التاسع من سفر التكوين.

ولا يخفى ما فيه من تشبيه الله تعالى بصورة الإنسان ووجهه، الملازم للجسمية، الملازمة للتركيب، الملازم للاحتياج، الملازم لعدم الألوهية، وهو محال.

3 ـ روى أحمد ومسلم والحميدي وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : سيحان وجيحان والنيل والفرات كلٌّ من أنهار الجنّة ـ وفي لفظ: ودجلة والفرات، وفي لفظ: أربعة من أنهار الجنّة... الحديث ـ(2) .

أمّا نصّ الكتاب المقدّس فهو: (وكان نهر يخرج من عدن ليسقي

____________

(1) صحيح البخاري ج 8 ص 91 ح 1 كتاب الاستئذان، صحيح مسلم ج 8 ص 32 و ص 149، مسند أحمد ج 2 ص 244 و 251 و 315 و 323 و 434 و 463 و 519، مسند الحميدي ج 2 ص 476 ح 1120 و 1121، منتخب عبد بن حميد ص 417 ح 1427، مصنّف عبد الرزاق ج 10 ص 384 ح 19435، السُنّة ـ لابن أبي عاصم ـ ص 228 ـ 230 ح 515 ـ 521، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ ص 36 ـ 37، الشريعة ـ للآجري ـ ص 319 ح 734 ـ 738، صحيفة همّام بن منبّه ص 205 ح 59.

(2) مسند أحمد ج 2 ص 261 و 289 و 440، صحيح مسلم ج 8 ص 149، مسند الحميدي ج 2 ص 491 ح 1163، مسند أبي يعلى ج 10 ص 327 ح 5921، المعجم الأوسط ج 7 ص 392 ح 7673، تاريخ المدينة ـ لابن شبّة ـ ج 1 ص 85، تاريخ بغداد ج 1 ص 54 ـ 55 و ج 8 ص 185.


الصفحة 231
الجنّة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيّد، هناك المقل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، هو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حِداقل، وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات) الآيات 10 ـ 14 من الأصحاح الثاني من سفر التكوين.

قلت: كان الله في عون نهري الأمازون والمسيسيبي إذ هما أغزر ماءً وأعظم طولا منها، والماء لله والأرض أرضه.

وأغرب منه ما رواه أبو الشيخ، عن أبي هريرة، قال: سمعت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يقول: إنّ النيل يخرج من الجنّة ولو التمستم فيه حين يمجّ لوجدتم فيه من ورقها(1) .

4 ـ روى الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: اختتن إبراهيم (عليه السلام) بعد ثمانين سنة واختتن بالقدوم ـ وفي لفظ: وهو ابن عشرين ومئة ـ(2) .

ونصّ الكتاب المقدّس هو: (وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غزلته) آية 24 من الأصحاح 17 سفر التكوين.

لا أدري ما سبب هذا التأخير والختان من سنن الأنبياء في الطهارة والنظافة؟!

5 ـ 10 ـ روى الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد

____________

(1) العظمة ص 316 ح 938.

(2) صحيح البخاري ج 4 ص 279 ح 158 و 159 كتاب الأنبياء و ج 8 ص 118 ح 69 الاستئذان، الأدب المفرد ص 332 ح 1280 و ص 334 ح 1286، صحيح مسلم ج 7 ص 97، مسند أحمد ج 2 ص 322 و 418 و 435، مسند أبي يعلى ج 10 ص 384 ح 5981.


الصفحة 232
وبألفاظ متقاربة، عن أبي هريرة ـ واللفط لمسلم، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ليس أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلاّ أن يتداركني الله منه برحمة(1) .

إضافة إلى نصوص أُخرى تفيد نفس المعنى من قبيل (السعيد من سعد في بطن أُمّه، والشقي من شقي في بطن أُمّه) وحديث محاجّة آدم لموسىعليهما السلام، وحديث (من لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه فأنا بريء منه) ، وحديث (إنّ الله منّ على قوم فألهمهم الخير فأدخلهم في رحمته، وابتلى قوماً فخذلهم وذمّهم على أفعالهم فلم يستطيعوا أن يرحلوا عمّا ابتلاهم به فعذّبهم وذلك عدله فيهم) ، وحديث (إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنّة، ثمّ يختم له بعمل أهل النار، وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار، ثمّ يختم عمله بعمل أهل الجنّة) ، وغيرها.

وهذه النصوص خرّجها أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد واكتفينا بتخريج أحدها كمثال فحسب.

ونصوص الكتاب المقدّس:

(إنّ البلية لا تخرج من التراب والشقاوة لا تنبت من الأرض، ولكنّ الإنسان مولود للمشقّة كما أنّ الجوارح لارتفاع الجناح) الآية 6 ـ 7 الأصحاح 5 سفر أيّوب.

(لأنّ أيّوب قال تبرّرت والله نزع حقّي عند محاكمتي أُكذّب. جرحي عديم الشفاء من دون ذنب، فأيّ إنسان كأيّوب يشرب الهزءَ كالماء، ويسير

____________

(1) صحيح مسلم ج 8 ص 139 ـ 141 من عدّة طرق، صحيح البخاري ج 7 ص 220 ح 34 و ج 8 ص 177 ح 54، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1405 ح 4201، مسند أحمد ج 2 ص 235 ومواضع أُخر، صحيفة همّام بن منبّه ص 669 ح 136.


الصفحة 233
متّحداً مع فاعلي الإثم وذاهباً مع أهل الشرّ، لأنّه قال: لا ينتفع الإنسان بكونه مرضيّاً عند الله) الآية 5 ـ 9 الأصحاح 34 سفر أيّوب.

(إن كان من جهة قوّة القوي يقول هانذا، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني، إن تبرّرت يحكم عليّ فمي، وإن كنت كاملا يستذنبني) الآية 19 ـ 20 الأصحاح 9 سفر أيّوب.

(أنا مستذنبٌ فلماذا أتعب عبثاً، ولو اغتسلت في الثلج ونظّفت يديَّ بالأشنان، فإنّك في النقع تغمسني حتّى تكرهني ثيابي) الآية 29 ـ 31 الأصحاح 9 سفر أيّوب.

(قد كرهت نفسي حياتي، أسيّب شكواي، أتكلّم في مرارة نفسي، قائلا لله لا تستذنبني، فهمّني لماذا تخاصمني، أحسنٌ عندك أن تظلم أن ترذل عمل يديكَ وتشرق على مشورة الأشرار، ألك عينا بشر، أم كنظر الإنسان تنظر، أأيّامك كأيّام الإنسان أم سنوك كأيّام الرجل، حتّى تبحث عن إثمي وتفتّش على خطيئتي، في علمك أنّي لست مذنباً ولا منقذ من يدك) الآية 1 ـ 7 الأصحاح 10 سفر أيّوب.

(ربّ مُلك معجّل في أوّله، أمّا آخرته فلا تبارك، لا تقل إنّي أُجازي شرّاً، انتظر الربّ فيخلّصك معيار فبمعيار مكرهة الربّ، وموازين الغشّ غير صالحة من الربّ خطوات الرجل) الآية 21 ـ 24 الأصحاح 20 سفر الأمثال.

(إنّ الصدّيقين والحكماء وأعمالهم في يد الله، الإنسان لا يعلم حبّاً ولا بغضاً، الكلّ أمامهم، الكلّ على ما للكلّ، حادثة واحدة للصديق وللشرير للصالح وللطاهر وللنجس، للذابح وللذي لا يذبح، كالصالح الخاطئ، الحالف كالذي يخاف الحلف) الآية 1 ـ 2 الأصحاح 9 سفر

الصفحة 234
الجامعة.

(أنا الربّ وليس آخر، مصوّر النور وخالق الظلمة صانع السلام وخالق الشرّ، أنا الربّ صانع كلّ هذه) الآية 6 ـ 7 الأصحاح 45 سفر أشعياء.

(من ذا الذي يقول فيكون والرّب لم يأمر، من فم العلي ألا تخرج الشرور والخير) الآية 37 ـ 38 الأصحاح 3 مراثي أرميا.

كما توجد في الكتاب المقدّس نصوص تؤكّد على مدخلية الإنسان في فعله وتنقض هذه النصوص المتقدّمة لا تخفى على المتتبّع.

كذلك نقض أبو هريرة ما رواه من روايات الجبر وسلب حريّة الاختيار، وأنّ الله خالق الخير والشرّ، في ما رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عنه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ما من مولود يولد إلاّ يولد ـ وفي لفظ: كل مولود يولد ـ على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترّى فيها جدعاء ـ وفي لفظ: كما تنتجون الإبل فهل تجدون فيها جدعاء ـ حتّى تكونوا أنتم تجدعونها(1) ، وظاهر لفظ الحديث واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان كما لا يخفى.

____________

(1) صحيح البخاري ج 2 ص 208 ح 139 و ص 198 ـ 199 ح 113 ـ 114 ومواضع أُخر، صحيح مسلم ج 8 ص 52 ـ 53، سنن أبي داود ج 4 ص 229 ح 4714، سنن الترمذي ج 4 ص 389 ح 2138، وفيه: (يولد على الملّة) و (أو يشركانه) ، الموطّأ ص 230 ـ 231 ح 51 و 53، مسند أحمد ج 2 ص 233 و 275 و 315 و 346 و 393 و 410 و 435 و 481، مسند أبي يعلى ج 11 ص 197 ح 6306 و ص 282 ح 6394 و ص 473 ح 6593، مسند الحميدي ج 2 ص 473 ح 1113، صحيح ابن حبّان ج 1 ص 169 ـ 172 ح 128 ـ 133.


الصفحة 235
هذه بعض الموارد التي اخترناها من بين أحاديث أبي هريرة كصور وأمثلة، وإلاّ فبطون الصحاح والجوامع الحديثية والمسانيد طافحة بمثل هذه البواطل والمناكير والتي لا يسعنا القبول بها وتصديقها بأيّ حال من الأحوال، لما تقدّم من بيان، ولذلك توقّفنا في قبول كلّ ما يرويه أبو هريرة لا سيما في ما يتفرّد به، فالراوي عندنا راو سواء كان صحابياً أو لا، وهو بالتالي بشر يعتريه ما يعتري بني جنسه من سهو ونسيان وخطأ، بل حتّى الكذب، إلاّ من عصم الله.

وإنّي لأعجب ممّن يتعبّد بالصحيحين ويرى قدسيّتهما ويؤمن بصحّة كلّ ما جاء فيهما، كيف يسعه قبول مثل هذه الأخبار المعلّلة، وسوف أُفرد تصنيفاً إن شاء الله في علل الصحيحين، سنداً ومتناً، وبيان الأسباب الغامضة والخفية القادحة في صحّة كثير من أحاديثهما ولو كان ظاهرها السلامة، كالإرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو إدارج متن، في متن أو وهم واهم بمعناه الضيّق، أو ككذب الراوي وفسقه، وغفلته، وسوء حفظه، ونحوه من أسباب تضعيف الحديث، كالتدليس والنسخ على رأي الترمذي الذي سمّاه علّة بمعناه الأوسع.

ومثال المعلول سنداً، ما رواه البخاري ومسلم، بالإسناد عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، قال: البيّعان بالخيار...

وعلّته إنّما هو عن عبد الله بن دينار وليس عمرو بن دينار، ولا يخفى ما يترتّب على ذلك من عدم إمكان اللقيا أو الرواية عنه ونحوه وإن صحّ المتن أو كان الراوي ثقة.

ومثال المعلول متناً، ما رواه مسلم، من رواية الوليد بن مسلم: حدّثنا

الصفحة 236
الأوزاعي، عن قتادة، أنّه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنّه حدّثه، ثمّ ذكر اللفظ المصرّح بنفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد.

ولهذا الحديث تسع علل: مخالفة الحفّاظ والأكثرين، الانقطاع، تدليس التسوية من الوليد، الكتابة، جهالة الكاتب، الاضطراب في لفظه، الادراج، ثبوت ما يخالفه عن أنس، ومخالفته لما رواه عدد التواتر.

وقول ابن الجوزي: إنّ الأئمّة اتّفقوا على صحّته، فيه نظر، فهذا الشافعي والدارقطني والبيهقي وابن عبد البرّ، لا يقولون بصحّته كما عن السيوطي(1) .

ومثال آخر للمعلول متناً، ما رواه مسلم في الفضائل، من قول أبي سفيان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يا نبي الله ثلاث أعطنيهنّ.

قال: نعم قال: عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوّجكها.

قال: نعم.

قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك.

قال: نعم.

قال: وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفار، كما كنت أُقاتل المسلمين.

قال: نعم.

ولا يخفى ما في هذا الحديث من علل، وأهمّها نكارته، وإلاّ كيف يطلب أبو سفيان من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تزويجه أُمّ حبيبة والنبيّ كان قد تزوّجها

____________

(1) تدريب الراوي ج 1 ص 257.


الصفحة 237
قبل إسلام أبي سفيان بسنين؟! وذلك بعد عودتها من هجرتها من الحبشة وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش الذي تنصّر ومات بالحبشة.

وأهمّ مَنْ صنّف في علل الحديث عموماً علي بن المديني، وابن أبي حاتم، والخلاّل، والدارقطني، الذي تعرّض لبعض أحاديث الصحيحين، ومن المتأخّرين الحافظ ابن حجر العسقلاني وأسماه " الزهر المطلول في معرفة المعلول ".

ولم يتكلّم في علل الحديث عموماً إلاّ القليل من أهل الفنّ، كابن المديني وأحمد والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني، لأنّه من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقّها، ويتطلّب خبرة واسعة في ممارسة الحديث والتعامل مع المتون والأسانيد ودراية تامّة بمعرفة طبقات الرواة.

وقد بدأتُ فعلا قبل فترة بداية بسيطة، إلاّ أنّي توقفت وعاودت الكرّة مرّة أُخرى وثالثة قبل سنتين تقريباً، وقد أنجزت قسماً من كتابَي الإيمان من الصحيحين، غير إنّي توقّفت عن إتمام العمل، ولا يظنّنّ أحد أنّ هذا التوقّف أو العرقلة من بركات الصحيحين، فالأمر ليس بهذه الصورة، بل لأنّه يحتاج إلى جهد وتفرّغ وشيء من الهدوء والاستقرار، وأنّى لي بهذا مع مصاعب الغربة والابتعاد عن الأوطان وكثرة القلق وعدم الاطمئنان، مع انشغالنا في أغلب الأوقات بمزاولة أسباب المعاش، نسأل الله تعالى أن يهيئ لنا أسباب إنجازه إنّه سميع مجيب.


الصفحة 238

وقفة مع حديث أُمّ المؤمنين عائشة:

وهذه أُمّ المؤمنين عائشة (رض) ادّعت أنّ عمرها عندما تزوّج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ستّ سنين وابتنى بها بعد مهاجره (صلى الله عليه وآله وسلم) بستّة عشر شهراً وهي ابنة تسع، حتّى اتّخذ أعداء الإسلام ذلك من المطاعن التي طعنوا بها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام، ولكنّ هذه الدعوى لا يمكن التسليم بها، لأنّ عائشة كانت تصغر أُختها أسماء بعشر سنين كما ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية(1) ، وكانت ولادة أُختها أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة وماتت سنة 73 هـ، وقد بلغت المئة كما في " معرفة الصحابة " لأبي نعيم(2) ، و " أُسد الغابة "(3) ، و " الإصابة "(4) ، وعليه فيكون عمرها عند الهجرة سبعة عشر عاماً أو أكثر خلافاً لما هو مشهور، ولَرُبّ مشهور لا أصل له.

ويؤيّد ذلك روايتها لكثير من الأحداث التي حصلت في أوّل البعثة كإسلام أبويها، ومبعث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وغير ذلك.

ـ كما واشتهر عنها وعن غيرها أنّها لم تتزوّج قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكنّ هذه الدعوى كسابقتها لا يمكن التسليم بها، وذلك لأنّ أبا بكر قد زوّجها من جبير بن مطعم ثمّ خلعها منه، وفي لفظ ابن سعد: فاستسلّها منهم فطلّقها.

____________

(1) البداية والنهاية ج 8 ص 276.

(2) معرفة الصحابة ج 6 ص 3253.

(3) أُسد الغابة ج 6 ص 9.

(4) الإصابة ج 7 ص 488.


الصفحة 239
رواه الطبراني، وابن سعد، وابن الجوزي(1) .

وفي ذيل بعض هذه الأخبار وغيرها أنّها كانت ابنة ستّ أوسبع أو تسع، ولمّا ثبت لنا أنّها كانت ابنة ثمانية عشر عند زواجها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يظهر لنا جليّاً أمر مهمّ آخر وهو الشكّ في ادّعائها بأنّه لم يتزوّج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكراً غيرها، ويحقّ لنا أن نسأل ما الذي يمنع جبير ابن مطعم من ممارسة حقّه الطبيعي ويكون هو أبو عذرتها، وصاحب ليلتها الشيباء، وهي بعمر السابعة عشر في أقلّ الاحتمالات؟! مجرّد سؤال؟!

ـ وجاءتنا أُمّ المؤمنين بنبأ يصكّ المسامع حين قالت: فخرت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقية، في ما رواه النسائي، والطبراني، وابن أبي عاصم، والهيثمي، والمتّقي(2) .

وإذا أضفنا إلى ذلك ثلاثمئة وستّين كرسيّاً، على كلّ كرسي حُلّة بألف دينار كانت للصدّيق كما في " عمدة التحقيق "(3) ، وأنت جدّ عليم بأنّ ألف ألف أوقية تعني أربعين مليون درهم من الفضّة أو أربعة ملايين ديناراً ذهبياً عيار 24، ولا يخفى ماذا يعني هذا الرقم من الدراهم أو الدنانير آنذاك، مضافاً إلى ثلاثمئة وستّين ألف دينار ثمن الحلل، فضلا عن ثمن الكراسي.

هذا، مع غضّ النظر عمّا يستلزم ذلك من فراش ورياش، وغرف وإيوانات، وخدم وحشم، وخيل وأنعام، وغِلال وضياع، ولو قارنت هذا

____________

(1) المعجم الكبير ج 23 ص 26 ح 62، طبقات ابن سعد ج 8 ص 47، المنتظم ج 4 ص 120.

(2) سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 358 ـ 359 ح 9138، المعجم الكبير ج 23 ص 174 ح 272، السُنّة ج 2 ص 564 ح 1238، مجمع الزوائد ج 4 ص 317، كنز العمّال ج 16 ص 561 ح 45874 عن الرامهرمزي في " الأمثال "، وابن أبي عاصم.

(3) عمدة التحقيق ص 102.


الصفحة 240
بنقود هذه الأيّام مع حساب مبدأ القيمة الحالية للعملة، لبلغ عدّة مليارات من العملة الصعبة، وهذا ما لم يتأتّ لأحد من ملوك ذلك العصر من النعامنة والغساسنة وغيرهم، بل إن ثروة قريش بأجمعها لا تكاد تبلغ عشر العشر من أموال الصدّيق هذه، فقد ذكر أرباب السير أنّه لم يبق بمكّة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعداً إلاّ بعث به في عير قريش التي أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) التعرّض لها، وكانت سبباً في معركة بدر الكبرى، حتّى إنّ المرأة لتبعث بالشيء التافه، فكان يقال: إنّ فيها لخمسين ألف دينار، وقالوا: أقلّ، وإن كان ليقال إنّ أكثر ما فيها من المال لآل سعيد بن العاص ـ أبي أحيحة ـ إمّا مال لهم، أو مال مع قوم قراض على النصف، فكانت عامّة العير لهم، ويقال كان لبني مخزوم فيها مئتا بعير، وخمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهب، وكان يقال: للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألف مثقال، وكان لأُميّة بن خلف ألفا مثقال، ولبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال، كما في مغازي الواقدي(1) ، وشرح الزرقاني على المواهب(2) .

ليت أُمّ المؤمنين أخبرتنا أيضاً من أين جمع أبوها هذه الثروة؟! هل ورثها من أبي قحافة الذي كان يمتهن صيد القماري والدباسي(3) ؟! أم من المناداة على مائدة عبد الله بن جدعان بقوت بطنه؟! والذي يقول فيه أُميّة ابن أبي الصلت:


لهُ داع بمكّة مُشمعلٌّوآخر فوق دارته ينادي(4)

____________

(1) المغازي ج 1 ص 27.

(2) شرح المواهب ج 2 ص 263 مختصراً.

(3) انظر: الصوارم المهرقة ص 324.

(4) المنمّق ـ لابن حبيب ـ ص 372، الأغاني ج 8 ص 342، مسامرة الأوائل ص 88.


الصفحة 241
أم من عمل أبيها في الجاهلية معلّماً وفي الإسلام خيّاطاً(1) ؟ أم من عمله في حَلبْ الأغنام(2) ؟! أم من عمله بزّازاً(3) ؟! ولم يكن في عمله هذا صاحب حانوت أو متجر، بل كان يحمل الأثواب على رقبته ويتنقّل في الأسواق والأزقّة ليبيعها(4) .

ولسنا هنا في معرض الحطّ من قيمة هذه المهن وانتقاص أصحابها، فعمل المؤمن في حدّ ذاته عبادة، كما ورد في الصحيح، خصوصاً إذا كان يقوت منه عياله ويوسّع عليهم، ويبرّ أرحامه ويخدم مجتمعه، ويكفّ نفسه عن الحاجة إلى اللئام، ولكنّنا نقول: إنّ هذه المهن والأعمال لا يمكن أن يتأتّى منها تلكم الأموال الطائلة، ليت أُمّ المؤمنين ذكرت لنا رقماً معقولا، أو اقتصرت على ألف واحدة، حتّى يمكن تصديقها.

ـ وادّعت أُمّ المؤمنين أنّها لم تفقد جسد رسول الله عند مسراه، وأنّ الله عزّ وجلّ أسرى بروحه(5) ، علماً بأنّها لم تكن في حينها متزوّجة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى تحسّ بفقده من جنبها أو عدمه، مخالفةً بذلك إجماع الأُمّة من أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسري بجسده وروحه.

نعم، شاركها معاوية في هذا بقوله: إنّها كانت رؤيا صادقة، كما في

____________

(1) الصوارم المهرقة ص 324 نقلا عن البخاري.

(2) طبقات ابن سعد ج 3 ص 138، تاريخ دمشق ج 30 ص 322 ـ 324، وصفة الصفوة ج 1 ص 109.

(3) المعارف ـ لابن قتيبة ـ ص 319، الأعلاق النفيسة ـ لابن رستة ـ ص 215.

(4) طبقات ابن سعد ج 3 ص 137، تاريخ دمشق ج 30 ص 321، صفة الصفوة ـ لابن الجوزي ـ ج 1 ص 108 ـ 109.

(5) تفسير ابن جرير ج 8 ص 16 ح 22033، سيرة ابن إسحاق ص 295، أنساب الأشراف ج 1 ص 300، تفسير الماوردي ج 3 ص 225، تفسير البغوي ج 3 ص 76، الكشّاف ج 2 ص 437، الدرّ المنثور ج 5 ص 227.


الصفحة 242
المصادر المتقدّمة، علماً بأنّه كان يومئذ كافراً.

ـ وجاءتنا أُمّ المؤمنين بخبر تقشعرّ له الأبدان، ويأخذ سامعه الأفكل، فقد روى الزهري أنّ عروة بن الزبير حدّثه، قال: حدّثتني عائشة، قالت: كنت عند رسول الله إذ أقبل العبّاس وعليّ، فقال: يا عائشة، إنّ هذين يموتان على غير ملّتي ـ أو قال: ديني ـ.

وروى عبد الرزّاق، عن معمر، قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة، عن عائشة في علي (عليه السلام) ، فسألته عنهما يوماً، فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما! الله أعلم بهما إنّي لأتّهمهما في بني هاشم.

قال: فأمّا الحديث الأول، فقد ذكرناه، وأمّا الحديث الثاني فهو أنّ عروة زعم أنّ عائشة حدّثته، قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل العبّاس وعلي، فقال: يا عائشة إن سرّكِ أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا، فنظرت، فإذا العبّاس وعلي بن أبي طالب(1) .

لا ها الله، لم يا أُمّاه يموتان على غير ملّة محمّد؟! وما الذي فعلاه حتّى أوجب أن يكونا من أهل النار؟! لم هذا الضغن الذي غلى في صدركِ كمرجل القين لعلي(2) ؟! لم سجدت لله شكراً عندما أتاك نعيُه وتمثّلت قائلة:


فألقت عصاها واستقرّ بها النوىكما قرّ عيناً بالإياب المسافر(3)

ألفراره من الزحف يوم أُحد وحنين؟! أم لتثبيطه عزائم المسلمين من

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 63 ـ 64.

(2) نهج البلاغة ص 218 خطبة 156.

(3) طبقات ابن سعد ج 3 ص 29، تاريخ الطبري ج 3 ص 59، مقاتل الطالبيّين ص 55، تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 259 وغيرها من المصادر.


الصفحة 243
خيل وخيلاء قريش يوم بدر؟! أم لضلوعه في تنفير ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغية قتله ليلة العقبة؟! أم لانقلابه على عقبيه ما إن مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!

ألم يكن من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا؟! ألم يعبّر عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإيمان كلّه يوم الخندق بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه؟! ألم يُبَشّر بالجنّة كما صحّ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!

إذاً فمن هو الذي كان حبّه وبغضه فيصلا بين الإيمان والنفاق كما صحّ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟! ومن ومن.... إلى ألف من؟!(1) .

ـ وذكر عند عائشة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أوصى إلى عليّ، فقالت: من قاله؟! لقد رأيت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وإنّي لمسندته إلى صدري، فدعا بالطست فانحنث فمات فما شعرت فكيف أوصى إلى عليّ(2) ؟!

ولا أدري كيف يمكن تصديق هذا الحديث الذي يقتضي أن يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفاً لكتاب الله وعاصياً له، وقد خاطبه بقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة) (3) ، كأنّها لم تسمعه يقول: ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده(4) .

فكيف يأمر الناس بالوصية ويتركها هو؟! وحتّى لو لم يترك شيئاً من

____________

(1) هذه كلّها آثار ثابتة متواترة من طرقنا وطرق غيرنا.

(2) صحيح البخاري واللفظ له ج 6 ص 37 ح 442، كتاب المغازي و ج 4 ص 47 ح 4 كتاب الوصايا، صحيح مسلم ج 5 ص 75 كتاب الوصايا، سنن النسائي ج 6 ص 241، سنن ابن ماجة ج 1 ص 519 ح 1626.

(3) سورة البقرة 2: 180.

(4) صحيح البخاري ج 4 ص 46 ح 1، صحيح مسلم ج 5 ص 70.


الصفحة 244
حطام الدنيا، ألم يترك وراءه دين الله القويم؟! أتراه يترك أُمّته هملا؟! إنّ هذا إلاّ اختلاق.

ـ وقالت أُمّ المؤمنين: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مات بين سحري ونحري ـ وفي لفظ: بين حاقنتي وذاقنتي(1) ـ، كأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ـ وحاشاه ـ عاشقاً تافهاً من عشّاق ألف ليلة وليلة، غلبه الوجد والهيام، أو كان زير نساء عزّ عليه فراق خليلاته، فلفظ أنفاسه بين سحرها ونحرها، وبقية نسائه ونساء بني هاشم ورجالهم وغيرهم من الصحابة يتفرّجون على المشهد، كأنّه نسي الإسلام وأهله ولا همّ له إلاّ سحر ونحر عائشة.

غير إنّ الذي أخبرنا به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وابن عبّاس وأُمّ سلمة وعمر بن الخطّاب، وغيرهم، غير ما ذكرته عائشة، وهو أنّ نفسه الزكية قد فاظت وهو في حجر علي (عليه السلام) وأوصاه، وكان أقرب الناس به عهداً، وهذا هو الذي يليق بوقار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقداسة النبوّة وعظمة الرسالة(2) .

الرقص والغناء في المسجد النبوي:

ـ ومن روايات أُمّ المؤمنين في الرقص واللهو، والعزف والغناء في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ما أخرجه البخاري ومسلم، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: رأيت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يسترني بردائه وأنا أنظر إلى

____________

(1) صحيح البخاري ج 6 ص 31 وما بعدها، ما جاء في وفاة النبيّ.

(2) سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 154 ح 8539 و 8540، المعجم الكبير ج 1 ص 230 ح 629، وج 12 ص 110 ح 12708، المعجم الأوسط ج 3 ص 274، ح 2929، طبقات ابن سعد ج 2 ص 187 و ص 201 ـ 202، مصنّف ابن أبي شيبة ج 7 ص 494 ح 3 باب 18، مستدرك الحاكم ج 3 ص 149 ح 4671 وصحّحه وأقرّه الذهبي، نهج البلاغة ص 311 خطبة 197.


الصفحة 245
الحبشة يلعبون في المسجد، حتّى أكون أنا الذي أسأمه، فاقدروا قَدْر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو!

وفي حديث عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أنّ أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيّام منى تُدَفِّفان، وتضربان، والنبيّ (صلى الله عليه وسلم) متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر.

وقالت عائشة: رأيت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : أمناً يا بني أرفدة ; يعني من الأمن ـ وفي لفظ: إذ دخل عمر بن الخطّاب فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها ـ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : دعهم يا عمر.

وفي حديث عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، نحوه، وفيه: تغنّيان وتضربان، وفيه: وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السنّ.

وفي حديث أبي الطاهر، عن ابن وهب: والله لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله يسترني بردائه، لكي أنظر إلى لعبهم، ثمّ يقوم من أجلي حتّى أكون أنا التي انصرف.

وأخرجاه من حديث أبي الأسود محمّد بن عبد الرحمن الأسدي، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل عليّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: دعهما، فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا.

وفي لفظ للترمذي والنسائي من حديث يزيد بن رومان، عن عروة عن، عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان،

الصفحة 246
فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإذا حبشية تزفن والصبيان حولها، فقال: يا عائشة تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي ـ ذقني ـ على منكب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعتِ؟ أما شبعتِ؟ قالت: فجعلت أقول: لا ; لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر، قال: فارفضّ الناس عنها، قالت: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إنّي لأنظر إلى شياطين الإنس والجنّ قد فرّوا من عمر، قالت: فرجعت.

وفي لفظ للنسائي، قالت: دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي: يا حميراء أوَتحبّين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم، فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خدّه، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيباً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : حسبك.

وفي لفظ، قالت: خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والحبشة يلعبون، وأنا أطّلع من خوخة لي، فدنا منّي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فوضعت يدي على منكبه، وجعلت أنظر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : خذن بنات أرفدة، فما زلت وهم يلعبون ويزفنون حتّى كنت أنا التي انتهيت.

وعن السائب بن يزيد: إنّ امرأةً جاءت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا عائشة تعرفين هذه؟ قالت: لا يا نبي الله، قال: هذه قينة بني فلان، تحبّين أن تغنّيكِ؟ فغنّتها.

وأخرج مسلم ذكر الحبشة من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فوضعت رأسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتّى كنت أنا التي انصرفت عن النظر إليهم.

ومن حديث أبي عاصم عبيد بن عمير الليثي، عن عائشة، أنّها قالت

الصفحة 247
للعّابين: وددت أنّي أراهم، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقمت على الباب أنظر بين أُذنيه وعاتقه وهم يلعبون في المسجد، قال عطاء: فرسٌ أو حبش؟ قال: وقال ابن أبي عتيق: حبش(1) .

والله لا ينقضي عجبي كلّما قرأت هذا الحديث أو تصفّحته أو تذكّرته، وأنا أتصوّر ما نقلته أُمّ المؤمنين عن صورة ما يجري في ثاني أقدس وأطهر بقعة على وجه البسيطة، وكأنّه مسرحٌ غنائيٌّ أو ناد ليليٍّ يجري فيه الزفن ـ الرقص ـ والغناء، والعزف وضرب الدفوف.

وعلى هذا فمن باب التأسّي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولنا به أُسوة حسنة، فهل يجوز لنا أن نعمّر مساجدنا بالعزف والغناء والرقص والألعاب البهلوانية؟! وهل يحقّ لنا أن نستدعي فرقة حسب الله، أو إحدى فرق الروك مصحوبة بآلاتها الموسيقية الوترية والهوائية والخشبية وغيرها، أو إحدى فرق رقص الباليه، ولا يفوتنا أن نستمع إلى مواويل المغنّين ونشاهد رقصة شرقية وندقّ على الخشب؟!

واعجب من انتهاك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنت تراه كأحد هواة سماع الأغاني والطرب والعزف ومشاهدة الرقص، مع أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ على تحريمه(2) ، ونصّ الكتاب على تحريمه كقوله تعالى: (ومن الناس من

____________

(1) صحيح البخاري ج 2 ص 54 ـ 55 ح 2 و 4، و ص 69 ح 34، كتاب العيدين، و ج 5 ص 23 ح 37، كتاب المناقب، و ج 7 ص 49 ـ 50 ح 120 كتاب النكاح، صحيح مسلم ج 3 ص 21 ـ 23 كتاب العيدين، الجمع بين الصحيحين للحميدي ج 4 ص 52 ـ 54 ح 3168 ممّا اتّفقا عليه، سنن الترمذي ج 5 ص 580 ح 3691، سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 307 ـ 310 ح 8951 ـ 8960.

(2) سنن ابن ماجة ج 2 ص 733 ح 2168، سنن الترمذي ج 3 ص 579 ح 1282، الأدب المفرد ـ للبخاري ـ ص 216 ح 805 ـ 809 باب الغناء واللهو، المعجم الكبير ج 19 ص 343 ح 794، مسند أبي يعلى ج 1 ص 402 ح 527، سنن البيهقي ج 10 ص 221.