المؤلّف الامام الحصني
قال صاحب شَذَرَات الذَّهَب (الجزء التاسع: الصفحات 273 ـ 275)، في وفيات عام (829هـ): وفيها الشيخ تقي الدين الدِّين أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز بن سعيد بن داود بن قاسم بن علي بن علوي بن ناشي بن جوهر بن علي بن أبي القاسم بن سالم بن عبدالله بن عمر بن موسى بن يحيى بن علي الاصغر بن محمد التّقي(1) بن حسن العسكري(2) بن علي [الهادي] بن محمد
____________
(1) كذا الصواب، وفي المطبوع: المتّقي.
(2) لفظة «العسكري» سقطت من «ط».
الحِصْني ـ نسبة إلى الحِصْن قرية من قرى حوران(1) ـ ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي(2) .
ولد سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وتفقه بالشّريشي، والزُّهري، وابن الجابي، والصَّرْخَدي، والغَزّي، وابن غَنُّوم. وأخذ عن الصَّدر اليَاسُوفي، ثم انحرف عن طريقته. وحطّ على ابن تَيْمِيَّة(3) ، وبالغ في ذلك، وتلقى ذلك عنه الطلبة بدمشق، وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة.
وكان يميل إلى التقشف ويبالغ في الامر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وللناس فيه اعتقاد زائد.
ولخّص «المهمات» في مجلد، وكتب على «التنبيه».
قال القاضي تقي الدِّين الاسدي: كان خفيف الرّوح، منبسطاً، له نوادر، ويخرج إلى النُّزَه، ويبعث الطلبة على ذلك.
____________
(1) قال ياقوت في «معجم البلدان» (2/265): «حصن مَقْدِيَة»: هو من أعمال أذرعات من أعمال دمشق.
(2) ترجمته في «إنباء الغمر» لابن حجر العسقلاني 8/110 وفيه «محمد بن عبدالله» و«طبقات الشافعية» لابن قاضي شبهة (4/97 ـ 99) و«الضوء اللامع» للسخاوي (11/81) و«درر العقود الفريدة» للمقريزي (1/190 ـ 191)، وترجم له أيضاً: ابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب، والرضيّ الغزّي في بهجة الناظرين، وله ترجمة في الفتاوى السهمية في ابن تيميّة.
(3) لفظة «تيمية» سقطت من «آ».
وله في الزُّهد والتَّقلُّل من الدّنيا حكايات تضاهي ما نُقِلَ عن الاقدمين، وكان يتعصب للاشاعرة، وأصيب في سَمْعِهِ وبصره فضعف.
وشرع في عِمَارَة رِبَاط داخل باب الصغير، فساعده الناس بأموالهم وأنفسهم، ثم شرع في عِمَارَة خان السَّبيل ففرغ في مدة قريبة.
وكان قد جمع تآليف كثيرة قبل الفتنة، وكتب بخطّه كثيراً في الفقه والزُّهد.
وقال السخاوي: شَرَح «التنبيه»(2) و«المنهاج»(3) وشرح «مسلم» في ثلاث مجلدات، ولخّص «المهمات»(4) في مجلدين، وخرّجَ أحاديث «الاِحياء» مجلد(5) وشرح «النواوية» مجلد(6) ، و«أهوال القيامة»(7) مجلد، وجمع «سير
____________
(1) أي قبل دخول القرن التاسع الهجري.
(2) التنبيه لابي إسحاق الشيرازي، في الفقه الشافعي، والشرح (5) مجلدات.
(3) المنهاج للنووي، والشرح في (5) مجلدات.
(4) المهمات للاسنوي.
(5) قلت: لم أعثر على ذكر لكتابه المذكور عند السخاوي في «الضوء اللامع» ولكن ذكره ابن قاضي شهبة في «طبقاته» في معرض حديثه عن مؤلّفاته ولعلّ المؤلّف قد نقل عنه وعزا النقل للسخاوي. والله أعلم. (6) أي الاربعين النووية.
(7) في بعض المصادر: أهوال القبور.
وتوفي بخلوته بجامع المزَّاز بالشاغور، بعد مغرب ليلة الاربعاء خامس عشر جمادى الاخرة وصُلِّي عليه بالمصلى، صلَّى عليه ابن أخيه، ثم صُلِّي عليه ثانياً عند جامع كريم الدِّين، ودفن بالقُبيبات في أطراف العمارة على جادة الطريق عند والدته.
وحضر جنازته عَالَمٌ لا يحصيهم إلاّ الله، مع بعد المسافة وعدم علم أكثر الناس بوفاته، وازدحموا على حمله للتبرك به، وختم عند قبره ختمات كثيرة، وصلّى عليه أُمَمٌ ممن فاتته الصلاة على قبره، ورؤيت له منامات صالحة في حياته وبعد موته.
انتهى
____________
(1) في «ط»: «مظان» وما جاء في «آ» موافق لما عند ابن قاضي شهبة والسخاوي، وفي اسم الكتاب اختلاف.
(2) كتابنا هذا.
وفي كتاب البدر الطالع (1/166):
السيد أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز ـ بمهملتين وآخره زاي ـ العَلَوي الحسيني الحصني ثم الدمشقي الشافعي المعروف بالتقي الحصني (ولد) سنة 752هـ.
وأخذ العلم عن جماعة من أهل عصره وبرع، وقصده الطلبة وصنف التصانيف كشرح التنبيه في خمس مجلدات، وشرح أربعين النووي في مجلد. وشرح مختصر أبي شجاع في مجلد. وشرح الاسماء الحسنى في مجلد، وتلخيص مهمّات الاسنوي في مجلدين، وقواعد الفقه في مجلدين. وله في التصوّف مصنّفات و(مات) ليلة الاربعاء منتصف جمادى الاخرة سنة 829هـ.
وقال خير الدين الزركلي الوهابي في الاعلام (2/99):
الامام تقي الدين أبي بكر الحصنيّ الدمشقي (ت 829هـ):
تقي الدين الحصني: (752 ـ 829هـ: 1351 ـ 1426م).
أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز بن معلّى الحسيني الحصني، تقي الدين: فقيه ورع من أهل دمشق. ووفاته بها. نسبته إلى الحصن (من قرى حوران) وإليه تنسب «زاوية الحصني» بناها رباطاً في محلة الشاغور بدمشق، وله تصانيف كثيرة منها: كفاية الاخبار ـ ط، شرح به الغاية في فقه الشافعية، ودفع شبه من شبه وتمرّد ونسب ذلك إلى الامام أحمد ـ ط، وتخريج أحاديث الاحياء، وتنبيه السالك على مظان المهالك. ست مجلدات، وقمع النفوس.
سبب تأليف الكتاب وموضوعه، ونسخته
قال العلامة التقي محبّ السنة والذاب عنها بكل ما استطاع في هذا العصر الشيخ محمد زاهد الكوثري: في ظهر الاصل المقابل به بخط الحافظ محمد بن طولون:
(فائدة) سبب تكلّم المؤلّف رحمه الله تعالى في ابن تيمية وأتباعه ما نقل له عن الشيخ العلامة ناصر الدين التنكزي: أَنه اجتمع ببعض من ينتسب للحنابلة قال: فرأيته يقول بمسألة التناسخ، ولا يقطع لاطفال المسلمين بالجنة وسمع منه هذا القول شخص آخر.
ونُقل للشيخ المؤلف أيضاً: أنّ شخصاً قال عند هذا المبتدع المشار إليه «يا جاه محمد».
فقال: لا تقل «يا جاه محمد»!
وكذا نقل له عن شخص آخر قال ذلك عنده، فقال: لا تقل «يا جاه محمد»،
وسمع هذا الكلام أيضاً ابن أخ الشيخ المؤلف، فاجتمع مع عمه فتذاكرا ما وقع فيه الجاهل المشار إليه، ثم قال: يا عمّ، لو تكلّمت في ذلك، فقال: أَنا مشغول بنفسي.
فقال: ما يخلّصك هذا عند الله عزّوجلّ، كيف يتعرّض هذا الجاهل للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحطّ مرتبته ومراتب النبيين ويتكلّم في الله بما لا يليق بجلاله، وغير ذلك مما هو زندقة؟؟! لا يخلّصك هذا عند الله مع تمكّنك من ردع هذا الزائغ عن تنزيه الله، وتعظيم رسوله عليه الصلاة والسلام.
فقال المؤلّف رحمه الله تعالى: ائتوني بشيء من كلام هذا الرجل، أنظر فيه، فإذا تكلّمتُ تكلمتُ على بصيرة.
فأتي بأشياء من كلامه، فلمّا رأى كلامه، تكلّم بما تكلّم(رحمه الله)(1) :
قال شيخنا النعيمي ومن خطه نقلت: نقلتها من خطّ شيخنا شهاب الدين بن قرا، تلميذ المؤلّف ملخصاً لها:
انتهى ما وجدته بخط ابن طولون(2) في ظهر الاصل المذكور.
____________
(1) ولاحظ ما سيذكره المؤلّف عن سبب التأليف، في مقدمة الكتاب.
(2) فابن طولون هذا حافظ جليل له من المؤلّفات ما يقرب من ستمائة مؤلّف وتوفي سنة 953 سنة تسعمائة وثلاث وخمسين.
وشيخه عبدالقادر النعيمي له مؤلّفات جليلة وقد ترجم في الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة.
وابن قرا: هو الشهاب الخوارزمي المحدث، مترجم في الضوء اللامع.
قاله صاحب الاصل.
وله مؤلّفات ممتعة: كشرحه على صحيح مسلم في ثلاث مجلدات وشرحه على التنبيه في خمس مجلدات، وشرح على المنهاج كذلك، وطبع حديثاً شرحه على مختصر أبي شجاع في مجلدين، وكان من مفاخر الشافعية في عصره زهداً وعلماً وسيرة، وسنستوفي ترجمته إن شاء الله تعالى عند قيامنا بشرحه.
انتهى كلام الامام الكوثري.
كلمة لادارة المطبعة
للطبعة الاولى عام (1350هـ)
من عجائب الصدف أننا ما كدنا ننتهي من طبع آخر ملزمة من الكتاب البديع
(غوث العباد ببيان الرشاد) لحضرة صاحب الفضيلة ملك البيان وحامل لواء البرهان الاستاذ الشيخ مصطفى أبو سيف الحمامي أحد العلماء وخطيب المسجد الزينبي.
حتى ساق الله تعالى إلينا نسخة خطية جليلة من كتاب «دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الامام أحمد» للامام الهمام أبي بكر تقي الدين الحصني(رضي الله عنه).
عُني حضرة صاحب الفضيلة المرشد الجليل والعلامة النبيل الشيخ سلامة العزّامي النقشبندي باستنساخها ونقلها من نسخة أخرى خطية ليس في القطر المصري سواها ـ على ما نعلم ـ هي لحضرة صاحب الفضيلة البحاثة المعروف والجهبذ الشهير الشيخ محمد زاهد الكوثري.
فرأينا أن يكون الجمع مع النسخة الفرعية والمقابلة في التصحيح على النسخة الاصلية ليخرج الكتاب كما نحب له من الصحة والاتقان.
وإنا نقدمه، بيد الفرح والسرور، إلى إخواننا في جميع أنحاء العالم الاسلامي، راجين أن يكون ذلك خدمة لهم ولديننا الحنيف الذي يعنينا ويهمّنا كثيراً أن نعيش ونموت في خدمته.
وربنا المسؤول ـ وهو أكرم الاكرمين ـ أن يحقق لنا هذه الامنية الغالية.
إدارة مطبعة دار إحياء الكتب العربية
القاهرة 1350هـ.
هذه النسخة:
اعتمدنا في تحقيق الكتاب على النسخة المطبوعة في دار إحياء الكتاب العربي، لاصحابها عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، في القاهرة عام (1350هـ) عن نسخة الامام المحقق العلامة الكوثري، مع تعليقاته الثمينة.
وقد اطلعنا على وجود نسخة للكتاب مخطوطة في مكتبة جستربتي بمدينة دبلن الايرلندية برقم (4) في المجموعة (3406) كتبت عام (830) أي بعام واحد بعد وفاة المؤلّف جاء ذكرها في مقال (ذخائر التراث العربي) المنشور في مجلة (المورد) البغدادية، العدد الاول السنة الاُولى.
وقد قمنا بتصحيح المطبوعة، وعرضها على المصادر التي اعتمدها المؤلّف، مثل كتاب (دفع شُبَه التشبيه) لابن الجوزيّ الحنبلي.
الذي نقل عنه المؤلّف قسماً كبيراً من عباراته واعتمدنا النسخة المطبوعة حديثاً في دار الامام النووي ـ في الاردن ـ عمّان، بضبط فضيلة الشيخ حازم نايف أبو عزان، وتحقيق وتقديم العلامة المحدّث السيد حسن السقاف.
وكذلك تصويب العبارات التي وقع الخطأ في طباعتها، ومنها عبارة الصلاة البتراء التي وقعت في الكتاب، بعد ذكر الرسول، حيث أثبتناها مع ذكر (آله) حذراً من ذلك البتر، واتّباعاً للسنّة المطهّرة التي علّمتنا الصلاة والسلام على نبيّنا الاكرم، بذكر آله معه في ذلك التكريم.
ثم وضعنا عناوين لما جاء في الكتاب مستخدمين المعقوفات لتمييزها عما جاء من العناوين في الاصل المطبوع.
وقدّمنا الكتاب بتقديم احتوى على التعريف بالمؤلّف، حسب المصادر التي ترجمت لحياته.
والتعريف بالكتاب وذكر سبب تأليفه وبيان موضوعه، وعن نسخته هذه.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين لقراءته والتزوّد مما أثبته المؤلّف فيه من حقائق، وأن يجزيه وإيانا على العمل الصالح، ويغفر لنا سيّئات أعمالنا آمين.
ونحمد الله على إحسانه وإفضاله، ونسأله الرضا عنا بجلاله وإكرامه، إنّه ذوالجلال والاكرام.
وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالمين.
[مقدّمة المؤلّف وسبب التأليف]
السابقين واللاحقين، وسلّم ومجّد وكرّم.
سبحان من بيده الضرّ والنفع، والوصل والقطع، والتفرقة والجمع، والعطاء والمنع، وفّق من أحبّ لتنزيهه، فحمى موضع نظره منه، وكذا السمع، وخذل من أبغض، فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألِفه من رديء الطبع، فهبّ على الاوّل نسيمُ إسعاده، وعلى الثاني ريحُ إبعاده، لصدع قلبه بتمويه العدّو، فياله من صَدْعِ.
تقدّس وتمجّد بعزّ كبريائه وجلاله، وتفرّد بأوصاف عظمته وكماله، كما عمّ بجودهوإفضاله ونَواله. تقدّسوتبارك عن مشابهة العبيد،وتنزّه عن صفات الحدوث.
فمن شبّه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد، ومن عطّل ما ثبت له من صفاته
ونال خِلَع الرضوان في دار الامان من نزّه، مع تزايد الكرامات ولديه مزيد.
فشتّان بين من هو راتع في رياض السلامة، ونُزُل الكرامة، في دار المقامة، وبين المطرود المبعود(2) ، وقد حقّ عليه الوعيد.
وبعدُ: فإنّ سبب وضعي لهذه الاحرف اليسيرة، ما دهمني من الحَيْرة من أقوام أخباث السريرة ; يُظهرون الانتماء الى مذهب السيّد الجليل الامام أحمد ; وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد.
والعجب أنّهم يُعظّمونه في الملا، ويتكاتمون إضلاله مع بقيّة الائمة !
وهم أكفر مّمن تمرّد وجحد، ويضلّون عقول العوامّ وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني، وإظهار التعبّد والتقشّف، وقراءة الاحاديث، ويعتنون بالمُسنَد.
كلّ ذلك خُزَعْبَلات منهم وتمويه.
وقد انكشف أمرهم حتّى لبعض العوامّ، وبهذه الاحرف يظهر الامر ـ إن شاء الله تعالى ـ لكلّ أحد، إلاّ لمن أراد عزّ وجلّ إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد.
ومن قال بنفي ذلك ـ أي بنفي خلود العذاب وسرمديّته، وهو ابن تيميّة وأتباعه ـ فد تجرّأ على كلام الغفور، قال تعالى (والّذّين كَفَرُوا لَهمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا
____________
(1) كان ينبغي أن يقول: «حائد»، ولعلّه اختار ذلك مراعاة للسجع. انتهى. مصحّحه.
(2) اسم المفعول «مُبَعد»، فيقال فيه كما قيل فيما قبله. انتهى. مصحِّحه.
وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى: (يُرِيدونَ أن يخرجوا مِن النّار وما هُمْ بخارجين منها ولهم عذابٌ مُقيم)(2) .
والايات في ذلك كثيرة عموماً وخصوصاً.
ومنها قوله تعالى: (رَبّنا اصرفْ عَنّا عَذَاب جَهنم إنّ عذابها كان غراما)(3) والغرام المستمّر الذي لا ينقطع، فلو انقطع قدر نَفَس لا يسمى غراماً.
ومن ذلك قوله تعالى: (وجاء رَبُّك)(4) .
قال الامام أحمد: معناه جاء أمر ربك. قال القاضي أبو يعلى: قال الامام أحمد: المراد به قدرته وأمره، وقد بيّنه في قوله تعالى: (أو يأتي أمر رَبِّكَ)(5) .
يُشير إلى حمل المُطلق على المُقيَّد، وهو كثير في القرآن والسنّة والاجماع وفي كلام علماء الاُمة، لانّه لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى.
ومثله حديث النزول.
ومّمن صرّح بذلك الامام الاوزاعي والامام مالك ; لانّ الانتقال والحركة من
____________
(1) سورة فاطر: 36.
(2) سورة المائدة: 37.
(3) سورة الفرقان: 65. (4) سورة الفجر: 22.
(5) سورة النحل: 33.
ومن ذلك قوله تعالى (إستوى على العرش)(1) .
فإذا سأل العامّي عن ذلك فيقال له: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول(2) ، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة(3) .
وسنوضّح ذلك إن شاء الله تعالى.
وإنّـما أجاب الامام ربيعة بذلك، وتبعه تلميذه مالك ; لانّ الاستواء الذي يفهمه العوامّ من صفات الحدث، وهو سبحانه وتعالى ـ نزّه نفسه عن ذلك بقوله تعالى (ليس كمثله شيء)(4) ، فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذَرّة جاء الكفر بالقرآن.
قال الائمة: وإنّما قيل: السؤال بِدعة ; لانّ كثيراً مّمن يُنسب الى الفقه والعلم، لا
____________
(1) سورة الاعراف: 54.
(2) في (دفع شبه التشبيه) لابن الجوزي: والكيف غير معقول.
وعلّق محقّقه: أن «الكيف مجهول» غلط لانه يثبت لله تعالى كيفاً مجهولاً إلى آخر ما قال.
ولعل المراد بقولهم «الكيف؟» هو السؤال عن كيفية الاستواء؟ الذي يزعم الحشوية والمجسّمة بثبوته لله، حسب ظاهره وبلا تأويل !
وهو الذي تهرّبوا منه بالبلكفّة، أي بقولهم: بلا كيف! فليلاحظ.
(3) قاله ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص110.
(4) سورة الشورى: 11.
فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلاّ الله سبحانه، والقرآن والسُنّة طافحان بتنزيهه عزّ وجلّ.
ومن أسمائه القُدّوس، وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه.
وكذا في قوله تعالى:(قُلْ هُو الله أحد...الى آخره)(1) لما فيها من نفي الجنسيّة والبعضيّة، وغير ذلك مّما فيه مبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى.
وكان الامام أحمد (رضي الله عنه) يقول: أمِرّوا الاحاديث كما جاءت(2) .
وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والاثرم، ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي، وكان من المحقّقين، وكذلك أبو الحسن التميمي، وأبو محمد رزق الله بن عبدالوهاب، وغيرهم من أساطين الائمة في مذهب الامام أحمد(3) .
وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء.
فقال تحت السياط: «فكيف أقول ما لم يقل».
وقال في آية الاستواء: «هو كما أراد».
فمن قال عنه: إنّه من صفات الذات، أو صفات الفعل، أو إنّه قال: إنّ ظاهره مراد، فقد افترى عليه، وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه مّما فيه إلحاقه ـ عزّ وجلّ ـ
____________
(1) سورة الاخلاص: 1.
(2) سنن الترمذي 4/692، لاحظ دفع شبه التشبيه ص111.
(3) نفس المصدر والموضع.
[القائلون بالتجسيم من أئمة الحنابلة !]
ومنهم ابن حامد(1) والقاضي تلميذه(2) وابن الزاغوني(3) ، وهؤلاء مّمن ينتمي الى الامام، ويتبعهم على ذلك الجهلة بالامام أحمد وبما هو معتمده مّما ذكرت بعضه، وبالغوا في الافتراء ; إمّا لجهلهم، وإمّا لضغينة في قلوبهم، كالمغيرة بن سعيد وأبي محمّد عبدالله الكرامي ; لانهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم.
____________
(1) الحسن بن حامد البغدادي الورّاق (توفي 403) كان من أكبر مصنفي الحنابلة وشيخهم، له شرح اُصول الدين، ردّ عليه ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ج17.
(2) هو القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن الفرّاء الحنبلي (توفي 458) هو صاحب كتاب الصفات نقل ابن الاثير في الكامل 10/52 قول التميمي فيه: لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار. وقال في حوادث عام (429) فيها أنكر العلماء على ابن الفرّاء ما ضمنه كتابه من الصفات المشعرة بأنه يعتقد التجسيم.
وقال في حوادث (458) اتى في كتابه بكل عجيبة وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض.
وقد طبع هذا الكتاب بعض الوهابيّة الموحّدين! في هذا العصر !
(3) علي بن عبيدالله بن نصر الحنبلي (توفي 527) صاحب كتاب الايضاح، وهو من كتب التجسيم.
ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء 19/607.
قال ابن حامد في قوله تعالى:(ويبقى وجه ربّكَ)(2) ، وفي قوله تعالى: (كُلُّ شيء هالك إلاّ وجههُ)(3) : «نُثبت لله وجهاً، ولا نثبت له رأساً»، وقال غيره: «يموت إلاّ وجهه».
وذكروا أشياء يَقْشَعِرُّ الجسد من ذكر بعضها.
قال أبو الفرج بن الجوزي(4) : رأيت من تكلّم من أصحابنا في الاُصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف، وهم ثلاثة: ابن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، صنّفوا كُتباً شانوا بها المذهب.
وقد رأيتهم نزلوا الى مرتبة العوامّ، فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ.
فسمعوا أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً ويدين وأصابع وكفّاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفَخِذاً وساقين ورِجلين.
وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.
____________
(1) في ص ؟؟.
(2) سورة الرحمن: 27.
(3) سورة القصص: 88.
(4) دفع شبه التشبيه بأكفّ التنزيه ص97 ـ 104.
وقال بعضهم: ويتنفّس.
ثمّ إنّهم يُرضُون العوامّ بقولهم: لا كما يُعقل.
وقد أخذوا بالظواهر في الاسماء والاضافات، فسمّوا الصفات تسمية مُبتدعة ; لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل.
ولم يلتفتوا الى النصوص الصارفة عن الظواهر الى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى، ولا الى إلغاء ما توجبه الظواهر من سِمات الحَدَث.
ولم يقنعوا أن يقولوا: صفة فعل ; حتّى قالوا: صفة ذات.
ثمّ لمّا أثبتوا أنّها صفات [ذات] قالوا: لا نحملها على ما توجبه اللغة، مثل اليد على النعمة أو القدرة، ولا المجيء على معنى البِرّ واللطف، ولا الساق على الشدّة، ونحو ذلك.
بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة.
والظاهر هو المعهود من نعوت الادميّين، والشيء إنّما يُحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرف صارف حُمل على المجاز.
وهم يتحرّجون من التشبيه، ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السُّنّة وكلامهم صريح في التشبيه.
وقد تبعهم خلق من العوامّ على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم، وكفروا تقليداً، وقد نصحتُ للتابع والمتبوع.
[عتاب المؤلّف مع الحنابلة!]
ثمّ أقول لهم على وجه التوبيخ: ياأصحابنا أنتم أصحاب نقل وأتباع، وإمامكم الاكبر أحمد بن حنبل يقول ]وهو تحت السياط[: «كيف أقول ما لم يقل؟!».
فمن أين أقدمتم على هذه الاشياء؟!
وهذا كلّه ابتداع قبيح بمن ينكر البِدْعة ؟
ثمّ قلتم: إنّ الاحاديث تُحمل على ظاهرها، وظاهر القدم الجارحة.
وإنّما يقال: تُمرّ كما جاءت، ولا تقاس بشيء.
فمن قال: «استوى بذاته»، فقد أجراه مجرى الحسّيّات، وذلك عين التشبيه.
فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم.
وأمِرّوا الاحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص.
فلو أنكم قلتم: نقرأ الاحاديث ونسكت، لما أنكر عليكم أحد.
ولا تُدخِلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ـ أعني الامام أحمد ـ ما ليس منه، فلقد كسوتم هذا المذهب شيناً قبيحاً ; حتّى لا يقال عن حنبليّ إلاّ مجسّم.
ثمّ زيّنتم مذهبكم بالعصبيّة لـ «يزيد بن معاوية»، وقد علمتم أنّ صاحب المذهب أجاز لعنته.
وقد كان أبو محمّد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهبَ شيناً قبيحاً لا يُغسل الى يوم القيامة(1) .
____________
(1) إلى هنا المنقول عن ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) وبين المنقول والمطبوع هناك اختلاف، أثبتنا بعضه بين المعقوفات.
فإنّه لمّا قيل عن عيسى (عليه السلام): إنّه روح الله سبحانه وتعالى، اعتقدت النصارى أنّ لله صفة هي روح ولجت في مريم(عليها السلام).
وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم، وما ذاك إلاّ أنّهم سمّوا الاخبار أخبار صفات، وإنّما هي إضافات، وليس كلّ مضاف صفة.
فإنّه ـ سبحانهوتعالى ـ قال: (ونَفَخْتُ فيه مِن روحي)(1) ، وليسلله صفة تسمّى روحاً، فقد ابتدع من سمّى المضاف صفة، ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم.
[تأرجح الحنابلة مع الهوى في التجسيم والتأويل]
ثمّ إنّهم في مواضع يؤوّلون بالتشهّي.
وفي مواضع أغراضِهم الفاسدة يُجرون الاحاديث على مقتضى العرف والحسّ، ويقولون ينزل بذاته، وينتقل ويتحرّك، ويجلس على العرش بذاته.
ثم يقولون: لا كما يُعقل، يغالطون بذلك من يسمع من عامّي وسيّء الفهم.
وذلك عين التناقض، ومكابرة في الحسّ والعقل ; لانّه كلام متهافت يدفع آخره أوّله وأوّلُه آخره.
____________
(1) سورة الحجر: 29، سورة ص: 72.
وهذا كلام من لا يعقل ما يقول.
ومثل قول بعضهم: المفهوم من قوله: (هُو اللهُ الحيّ القيُّومُ)(1) في حقه هو المفهوم في حقّنا إلاّ أنّه ليس كمثله شيء.
فانظر ـ أرشدك الله ـ كيف حكم بالتشبيه المساوي، ثمّ عقّبه بهذا التناقض الصريح؟!
وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى رَويّة.
ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى.
[تناقض دعواهم]
ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى: (الرحمنُ على العرشِ استوى)(2) أنّه مستقرّ على العرش.
مع قولهم في قوله تعالى: (أأمِنتُم مَنْ في السماءِ)(3) إنّ من قال: إنّه ليس في السماءِ فهو كافر. ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في حيِّزينِ في آن واحد وفي زمن واحد، ومن المعلوم أنّ «في» للظرفية، ويلزم أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ مظروف تعالى عن ذلك.
____________
(1) البقرة: 255، آل عمران: 2.
(2) سورة طه: 5.
(3) سورة الملك: 16.
وفيه من حديث ابن عمر (رضي الله عنه): أنّه (عليه السلام) رأى نخامة في جدار الكعبة فحكّها، ثمّ أقبل على الناس، فقال: إذا كان أحدكم يصلّي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإنّ الله قِبَل وجهه إذا صلى».
وفي «صحيح مسلم»(3) وغيره من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه): أنّه (عليه السلام) رأى نُخامة في القبلة فقال: (ما بال أحدكم يستقبل ربّه فيتنخّع أمامه، أيُحبّ أحدكم أن يستقبل فيُنخَّع في وجهه).
وفي الصحيحين(4) من حديث أبي موسى الاشعري (رضي الله عنه): أنّه (عليه السلام) قال: (يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم ; إنّكم ليس تدعون أصمّ ولا غائباً ; إنّكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم).
____________
(1) صحيح البخاري: 1 / 159ح 397 كتاب الصلاة / أبواب المساجد. ولاحظ فتح الباري (1/508)، وقال: فيه الردّ على من زعم أنّه على العرش بذاته.
(2) نفس المصدر السابق ح398. ولاحظ فتح الباري (1/509).
(3) صحيح مسلم: 2 / 76 كتاب الصلاة.
(4) صحيح البخاري: 4 / 541 ح 3986 كتاب المغازي، صحيح مسلم: 8 / 73 كتاب الذكر والدعاء والتوبة.
وفي الصحيح(2) : (أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه يذكرني).
وحديث المريض(3) : (أما لو عدته لَوَجدتني عنده).
وقال تعالى: (وناديناهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الايمنِ)(4) .
وقال تعالى: (ونوديَ مِنْ شاطيء الوادي الايمنِ في البقعة المباركةِ مِنَ الشجرةِ أنْ ياموسى إنّي أنا الله ربُّ العالمينَ)(5) .
وقال تعالى: (فأينما تُوَلّوا فَثمَّ وجهُ اللهِ)(6) .
وفي الترمذي(7) في حديث العنان، وفيه ذكر الارضين السبع ; وأنّ بين كلّ أرض والاُخرى كما بين السماء والارض، قال (عليه السلام): (والذي نفسي بيده لو دلّى
____________
(1) مسند أحمد: 4 / 402، وهو في الجامع الصحيح للربيع بن حبيب 3/35.
(2) صحيح البخاري: 6 / 2694 ح 6970 كتاب التوحيد. ]وصحيح مسلم 8 / 91 كتاب التوبة [والنص بلفظ مسلم.
(3) كنز العمال: 15 / 824 ح 43277.
(4) سورة مريم: 52.
(5) سورة القصص: 30.
(6) سورة البقرة: 115.
(7) سنن الترمذي: 5 / 376 ـ 377 ح 3298 كتاب التفسير.
ومثل هذه الادلّة كثير، وكلّها قاضية بالكون السُّفلي دون العُلوي.
[الاستواء لغة وتأويلاً]
واعلم(1) أنّ الاستواء في اللغة على وجوه، وأصله افتعال من السواء، ومعناه ـ أي السواء ـ العدل والوسط، وله وجوه في الاستعمال:
منها: الاعتدال، قال بعض بني تميم: استوى ظالم العشيرة والمظلوم ; أي اعتدلاً.
ومنها: إتمام الشيء، ومنه قوله تعالى: (وَلَمّا بَلَغَ أشُدَّه واستوى)(2) .
ومنها: القصد الى الشيء، ومنه قوله تعالى:(ثُمَّ استوى الى السَّماء)(3) ; أي قصد خلقها.
ومنها: الاستيلاء على الشيء، ومنه قول الشاعر:
ثُمّ استوى بِشرٌ على العراقِ | من غير سيف ودم مُهراقِ |
____________
(1) من هنا ذكره ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ص121 وانظر هامش ص123.
(2) القصص: 14.
(3) سورة البقرة: 29.
إذا ما غزا قوماً أباح حريمَهم | وأضحى على ما ملّكوه قد استوى(1) |
وهذه صفة المخلوق الحادث، كقوله تعالى: (وجَعَلَ لكُم مِن الفلكِ والانعامِ ما تركبُون لتستوُوا على ظُهورهِ)(3) .
وهو نزّه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع، وقطع المادّة في ذلك أنّ المسألة علميّة وكفى الله المؤمنين القتال والجدال.
[كلام ابن الجوزي الحنبلي في الردّ على المجسّمة]
قال أبو الفرج بن الجوزي: وجميع السلف على إمرار هذه الاية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.
قال عبدالله بن وهب: كنّا عند مالك بن أنس ودخل رجل، فقال: يا أبا
____________
(1) إلى هنا عن (دفع شبه التشبيه) ص121.
(2) سورة هود: 44.
(3) سورة الزخرف: 12.
فأطرق مالك وأخذته الرُّحَضاء(2) ، ثمّ رفع رأسه فقال: (الرحمنُ على العرشِ استوى) ، كما وصف نفسه، ولا يقال له: كيف، و«كيف» عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بِدعة أخرجوه، فأُخرج(3) .
كان ابن حامد يقول: المراد بالاستواء القعود(4) .
وزاد بعضهم: استوى على العرش بذاته، فزاد هذه الزيادة، وهي جُرأة على الله بما لم يقل.
قال أبو الفرج: وقد ذهب طائفة من أصحابنا الى أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ على عرشه ما ملاه، وأنّه يُقعِد نبيّه معه على العرش(5) .
ثمّ قال: والعجب من قول هذا: ما نحن مجسّمة !
وهو تشبيه محض، تعالى الله ـ عزّ وجلّ ـ عن المحلّ والحيّز ; لاستغنائه عنهما، ولانّ ذلك مستحيل في حقّه ـ عزّ وجلّ ـ ولانّ المحلّ والحيّز من لوازم الاجرام، ولانزاع في ذلك، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ منزّه عن ذلك ; لانّ الاجرام من صفات
____________
(1) سورة طه: 5.
(2) العرق الكثير يغسل الجلد.
(3) دفع شبه التشبيه ص122 وأنظر تعليقته.
(4) دفع شبه التشبيه ص128.
(5) دفع شبه التشبيه ص128.
ومن المعلوم أنّ الاستواء إذا كان بمعنى الاستقرار والقعود لابدّ فيه من المماسة، والمماسّة إنّما تقع بين جسمين أو جُرمين.
والقائل بهذا شبّه وجسّم، وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقيّة، كما أبطل دلالة (ليس كمثله شيء)(1) .
ومن المعلوم في قوله تعالى (لتستووا على ظهورهِ)(2) أنّه الاستقرار على الانعام والسفن، وذلك من صفات الادميين.
فمن جعل الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار والتمكّن، فقد ساوى بينه ـ عزّ وجلّ ـ وبين خلقه.
وذلك من الامور الواضحة التي لا يقف في تصوّرها بليد، فضلاً عمّن هو حسن التصوّر جيّد الفهم والذوق، وحينئذ فلا يقف في تكذيبه (ليس كمِثِله شيء) وذلك كفر محقّق.
ثمّ من المعلوم أنّ (الاستواء) من الالفاظ الموضوعة بالاشتراك، وهو من قبيل المجمل، فدعواه أنّه بمعنى الاستقرار في غاية الجهل ; لجعله المشترك دليلاً على أحد أقسامه خاصّة.
فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضُحكة ; لجعله القسم قسيماً.
فمن تأمّل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركّب ; يحتجّون بالادلّة المجملة
____________
(1) سورة الشورى: 11.
(2) سورة الزخرف: 13.
ويتركون الادلّة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم، بل بعضها نصوص، كما قدّمته في حديث النخامة وغيرها. فتنبّه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك.
ومن المعلوم أنّه ـ عزّ وجلّ ـ واجب الوجود كان، ولا زمان ولا مكان، وهما ـ أعني الزمان والمكان ـ مخلوقان.
وبالضرورة أنّ من هو في مكان فهو مقهور محاط به، ويكون مقدّراً ومحدوداً.
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ منزّه عن التقدير والتحديد، وعن أن يحويه شيء، أو يحدث له صفة، تعالى الله عمّا يصفون وعمّا يقولون عُلوّاً كبيراً.
فإن قيل: ففي الصحيحين(1) من حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس (رضي الله عنه): أنّه ذكر المعراج، وفيه: (فعلا بي الجبّار تعالى، فقال وهو في مكانه: ياربّ خفّف عنّا) الحديث.
فالجواب: أنّ الحافظ أبا سليمان الخطابي قال: إنّ هذه لفظة تفرّد بها شريك، ولم يذكرها غيره، وهو كثير التفرّد بمناكير الالفاظ.
والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، إنّما هو مكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مقامه الاوّل الذي أُقيم فيه.
وفي الحديث: (فأستأذن على ربّي وهو في داره)(2) .
____________
(1) صحيح البخاري: 6 / 2732 ح 7079 كتاب التوحيد، وفي طبعة رقم 6963 صحيح مسلم: كتاب الايمان رقم 234 و235 و236 والصلاة 607.