[قول محمد بن المنكدر بالتأويل]

قال محمد بن المنكدر ـ وهو من سادة التابعين، وكانت عائشة رضي الله عنها تحبّه وتُكرمه وتَبِّره: الفقيه يدخل بين الله ـ عزّ وجلّ ـ وبين عباده،فلينظر كيف يدخل ؟

وصدق ونصح قدّس الله روحه.

وهذا شأن السلف بذلوا النصيحة للاسلام والمسلمين، وكانوا شديدين على من خالف، ولا سيّما لما ظهر أهل الزيغ، وتظاهروا بالتنويه بذكر آيات المتشابه وأحاديثه، بالغوا في التحذير منهم ومن مجالستهم، وكانوا يقولون: هم الذين عنى الله ـ عزّ وجلّ ـ في قوله تعالى: (فأمّا الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منهُ ابتغاء الفتنةِ)(1) الاية.

وكذا قالت عائشة رضي الله عنها.

وكانوا يقولون ـ إذا جلس أحد للوعظ والتذكير ـ: تفقدوا منه أموراً، ولا تغترّوا بكلّ واعظ، فإنّ الواعظ إذا لم يكن صادقاً ناصحاً سليم السريرة من الطمع

____________

(1) آل عمران: 7.

الصفحة 65
والهوى هلك وأهلك.

وذكروا أشياء ببعضها تنطفيء نار الشبه التي بها يموّه أهل الزيغ.

ومن لا يقبلها فما ذاك إلاّ أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يريد إهلاكه وحشره في زمرة السامرة واليهود والزنادقة، ومن يرد الله ـ عزّ وجلّ ـ إضلاله فلا هادي له (والله يحكم لا معقب لحكمه) (لا يُسأل عمّا يفعل) قسّم الخلق الى شقيّ وسعيد، فهو الفعّال لما يريد، فمن اتبع هداه فلا يضلّ ولا يشقى، ومن اتبع هوى نفسه الامّارة وأهل الزيغ والضلالة، وحاد عن سبيل من بهم يُقتدى هلك في المرقى.

ولنرجع الى قول السلف رضي الله عنهم: إذا جلس شخص للوعظ فتفقدوا منه أُموراً إن كانت فيه، وإلاّ فاهربوا منه، وإياكم والجلوس إليه، وإلاّ هلكتم من حيث طلبتم النجاة.

قالوا ذلك حين ظهر أهل الزيغ والبدع، وكثرت المقالات، وذلك بعد وفاة عمر رضي الله عنه وحديث حذيفة رضي الله عنه يدلّ لذلك واللفظ لمسلم.

[حديث حذيفة في الفتن ونبوغ الاهواء]

قال حذيفة: (كنّا عند عمر رضي الله عنه، فقال: أيّكم سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلّكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره، قالوا: أجل. قال: تلك تُكفّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيّكم سمع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة رضي الله عنه: فأسكت القومُ، فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك.

قال حذيفة رضي الله عنه: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير، فأيّ قلب أُشرِبَها نُكِت فيه نُكتة سوداء، وأيّ قلب أنكرها نُكِت فيه نُكتة بيضاء ; حتّى يصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاة، فلا تضرّه

الصفحة 66
فتنة مادامت السموات والارض، والاخر أسود مرباداً كالكوز مجْخيّاً ; لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلاّ ما أُشرب من هواه.

قال حذيفة (رضي الله عنه): وحدّثته: أنّ بينك وبينها باباً مُغلقاً يوشك أن يُكسر.

قال: قال عمر (رضي الله عنه): أكسر لا أبا لك، فلو أنّه فتح لعلّه كان يعاد. قال: لا، بل يُكسر.

وحدّثته: أنّ ذلك الباب رجل يُقتل أو يموت حديثاً ليس بالاغاليط.

قال أبو خالد: فقلت لسعيد: يا أبا مالك ما «أسود مرباداً»؟

قال: شدة البياض في السواد.

قال قلت: فما «الكوز مجخيّاً»؟ قال: منكوساً(1) .

فقوله: «ليس بالاغاليط» يعني أنّه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

والفتن كلّ أمر كشفه الاختبار عن أمر سوء، وأصله في اللغة الاختبار، وشُبّهت بموج البحر ; لاضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدّة عظمها وشيوعها.

وقوله: «تعرض الفتن على القلوب» أي تلصق بعرض القلوب ; أي بجانبها كالحصير تلصق بجنب النائم، وتؤثر فيه لشدة التصاقها.

وهذا شأن المشبّهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثّر، وتحسن لعقولهم ذلك حتّى يعتقدوا ذلك ديناً وقرباناً من الله عزّ وجلّ، وما يقنع أحدهم حتّى يبقى داعية وحريصاً على(2) إفتان من يقدر على إفتانه، كما هو مشاهد منهم.

____________

(1) صحيح مسلم: كتاب الايمان الحديث 207، والبخاري في مواقيت الصلاة رقم 494 وفي الزكاة 1345 وفي الصوم 1762 وفي المناقب 3321 وفي الفتن 6567، والترمذي في الفتن 2184، وابن ماجة في الفتن 3945، وأحمد في المسند رقم 22322.

(2) يريد: فتنة من يقدر على فتنته أو فتن أو فتون... الى آخره. أنتهى. مصحّحه.

الصفحة 67
وإلى مثل ذلك قوله «أُشرِبها» أي دخلت فيه دخولاً تامّاً وألزمها وحلّت منه محلّ الشراب ومنه قوله تعالى: (وأُشربوا في قلوبهم العجلَ)(1) أي حبّه.

فقوله: «إنّ بينك وبينها باباً مُغلقاً» معناه أنّ تلك الفتن لا تفتح، ولا يخرج منها شيء في حياتك.

وقوله: يُوشك ـ هو بضم الياء وكسر الشين ـ معناه أنّه يكسر عن قرب، والرجل هو عمر، وقد جاء مبيّناً في الصحيح.

والحاصل: أنّ الحائل بين الناس وبين الفتن هو عمر (رضي الله عنه) ما دام حيّاً، فإذا مات دخلت.

ومبدأ الفتن هو الذين شَرِقوا(2) بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ; لعلمهم أنّ الدين لا يتمّ إلاّ بهما ; لانّ عندهم علماً بذلك، وكانوا يُظهرون الاسلام ويقرؤون شيئاً من القرآن، وكانوا يرمزون الى التعرّض بالنقص حتّى في النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)حتّى أنّ منهم من كان يؤمّ الناس ولا يقرأ في الجهرية إلاّ بعبس ; لما فيها من العتاب مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لاجل ابن أُمّ مكتوم، وهمّ (رضي الله عنه) على(3) قتاله.

وتظاهر شخص بسؤال: ماالذاريات ذَرْواً؟ فقال عمر (رضي الله عنه): اللّهمّ أمكني منه،

____________

(1) البقرة: 63.

(2) أي غَصّوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) وبصاحبيه، فلم يستطيعوا أن ينفذوا ما يضمرون من الكيد للاسلام في وجودهم ; لعلمهم... الى آخره. انتهى.

(3) «على» موضع الباء. انتهى.مصحّحه.

الصفحة 68
فمرّ يوماً، فقيل له: هوذا، واسم الرجل صبيغ، فشمّر عمر (رضي الله عنه) عن ذراعيه وأوجعه جلداً. ثمّ قال: أرحِلوه، فاركبوه على راحلته، فقال: طيفوا به في حيّه ليعلم الناس بذلك(1) .

وكان (رضي الله عنه) شديداً في دين الله ـ عزّ وجلّ ـ لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد ذكرت نبذة يسيرة من سيرته في كتاب «قمع النفوس».

ولما كان أواخر القرن الاوّل اتّسع الامر من القُصّاص.

وتظاهر شخص يقال له المغيرة بن سعيد، وكان ساحراً، واشتهر بالوصّاف، وجمع بين الالحاد والتنجيم، ويقول: إنّ ربه على صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء، ويقول ما لا ينطق به، ويقول: إنّ الامانة في قول الله تعالى: (إنّا عرضنا الامانةَ على السمواتِ والارضِ والجبالِ)(2) ، هي أن لا يُمنع عليٌّ الخلافة، وقوله تعالى:(وحَمَلَها الانسانُ إنّه كانَ ظلوماً جَهولاً)(3) هو أبو بكر (رضي الله عنه)، وقال عمر (رضي الله عنه) لابي بكر أن يحملها ويمنع عليّاً منها، وضمن عمر أنّه يعيّن أبا بكر بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة له بعده، فقبل أبو بكر منه، وأقدما على المنع متظاهرين.

ثمّ وصفهما بالظلم والجهل، فقال: وحملها أبو بكر إنّه كان ظلوماً جهولاً، وزعم أنّه نزل في حقّ عمر (رضي الله عنه) (كمثلِ الشيطانِ إذ قال للانسانِ أكفرْ...)

____________

(1) ونفاه بعد ذلك(رضي الله عنه)، ولم يرجعه حتّى صدقت توبته. انتهى. مصحّحه.

(2) الاحزاب: 72.

(3) الاحزاب: 72.

الصفحة 69
(1) الاية، وكان يقول بتكفير سائر الصحابة رضي الله عنهم إلاّ لمن ثبت مع عليّ (رضي الله عنه).

وكان يقول: إنّ الانبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لم يختلفوا في شيء من الشرائع، وكان يقول بتحريم إنكار المنكر قبل خروج الامام.

وقال لمحمّد الباقر: أقِرّ أنّك تعلم الغيب حتّى أجبي لك العراق، فانتهره وطرده.

وكذا فعل بجعفر الصادق ـ ولد محمّد الباقر ـ فقال: أعوذ بالله.

وكان يقول: انتظروا محمد بن عبدالله الامام، فإنّه يرجع ومعه ميكائيل وجبريل يتبعانه من الركن والمقام.

وكان له خبائث،فلمّا كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن عبدالله القسري، فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه(2) .

فهذا شأن أهل الزيغ.

واستمرّ الامر على ذلك، إلاّ أنّهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار

____________

(1) الحشر: 16.

(2) جمع المؤلّف في الحديث عن المغيرة بن سعيد بين هذه الخرافات وخلط فيها بين الحقّ والباطل نقلاً عن أعداء آل محمد(صلى الله عليه وآله) تشويهاً لسمعتهم وإبعاداً للناس عنهم وعن مآثرهم ومكارمهم ومعارفهم، فليتروّ القارىء في أكثر هذه المنقولات، وليقرأها بحذَر!

فإنّ أكثر أهل هذا الشأن هم أهل الحديث، والمنتسبونَ إلى السلفيّة والمذهب الحنبليّ كما صرّح المؤلّف في مواضع، ومن الكراميّة والجهميّة، وهم أبعد الناس من آل محمد ومن مذهب أهل البيت.

الصفحة 70
الكبّ(1) على سماع الحديث، ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس والعوامّ.

ثم كثرت المقالات في زمن الامام أحمد وكثر القُصّاص، وتوجّع هو وابن عُيينة وغيرهما منهم، وكان الامام أحمد يقول: كنت أودّ لو كان قصّاصاً صادقاً نصوحاً طيّب السريرة.

[بدعة الكرامية والحنابلة]

ونبغ في زمنه محمّد بن كرام السجستاني، وترافق مع الامام أحمد، وأظهر حسن الطريقة حتّى وثقه هو وابن عيينة، وسمع الحديث الكثير، ووقف على التفاسير، وأظهر التقشّف مع العفّة ولين الجانب، وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط، وعلى رأسه قَلَنسُوة بيضاء، ثم أخذ حانوتاً يبيع فيه لبناً، واتّخذ قطعة فَرْو يجلس عليها، ويعظ ويذكّر ويحدّث ويتخشّع.

حتّى أخذ بقلوب العوامّ والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده ; حتّى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون الفاً، وكان من غلاة المشبهة، وصار يُلقي على العوامّ الايات المتشابهة والاخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوامّ وما ألفوه.

ففطن الحُذّاق من العلماء، فأخذوه ووضعوه في السجن، فلبث في سجن نيسابور ثمانيَ سنين.

ثمّ لم يزل أتباعه يسعون فيه حتّى خرج من السجن، وارتحل الى الشام، ومات بها في زعر، ولم يعلم به إلاّ خاصّة من أصحابه، فحملوه ودفنوه في القدس الشريف، وكان اتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفاً على التعبّد والتقشّف، وقد

____________

(1) يريد «الاكباب». انتهى. مصحّحه.

الصفحة 71
زيّن لهم الشيطان ما هم عليه وهم من الهالكين وهم لا يشعرون، واستمرّ على ما هم عليه خَلق شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا.

قال الله تعالى: (أفمن زُيِّنَ له سوءُ عمله فرآه حسناً)(1) قال سعيد بن جبير: هذه الاية نزلت في أصحاب الاهواء والبدع. المعنى: أنّه ركض في ميادين الباطل، وهو يظنّها حقّاً.

وكان ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ يقول عند هذه الاية: إنّ الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها.

والبدعة هي استحسان ما يسوق إليه الهوى والشبهة مع الظنّ بكونها حقّاً.

وهؤلاء يُنزع من قلوبهم نور المعرفة، وسراج التوحيد من أسرارهم، ووُكلوا الى ما أختاروا، فضلّوا وأضلّوا (ويحسبون أنّهم على شيء ألا إنّهم همُ الكاذبونَ)(2) حتّى ينكشف لهم الامر.

كما قال الله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبونَ)(3) قيل: عملوا أعمالاً ظنّوا أنّها في كفّة الحسنات، فإذا هي في كفة السيئات.

وهذه الاية قيل: إنّها في أهل البدع، يتصوّر(4) ويعتقد ـ مع تمام الورع

____________

(1) فاطر: 8.

(2) المجادلة: 18.

(3) الزمر: 47.

(4) أي أحدهم انتهى. مصحّحه.

الصفحة 72
والزهد وتمام الاعمال الصالحة وفعل الطاعات والقُرُبات ـ ما عاقبته خطرة، ومن ذلك أن يعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله ما هو خلاف الحقّ، ويعتقده على خلاف ما هو عليه ; إمّا برأيه ومعقوله الذي يُحاكي به الخصوم، وعليه يُعوّل وبه يغترّ، قد زيّن له العدّو وحلاّه له حتّى اعتقده ديناً ونعمة، وإمّا أخذاً بالتقليد مّمن هذه حاله. وهذا التقليد كثير في العوامّ، لا سيّما من يعضد بدعته واعتقاده بظاهر آية أو خبر، وهو على وفق الطبع والعادة.

وقد أهلك اللعين بمثل هذا خلقاً لا يُحصون حتّى إنّهم يعتقدون أنّ الحقّ في مثال ماهم عليه، وأنّ غيرهم على ضلالة.

ومثل هؤلاء ومن اتّبعوهم إذا بدا لهم ناصية مَلَك الموت، انكشف لهم(1) ـ ما اعتقدوه حقّاً ـ باطلاً وجهلاً، وخُتم لهم بالسوء، خرجت أرواحهم على ذلك، وتعذّر عليهم التدارك، وكذا كلّ اعتقاد باطل.

ولا يفيد زوال ذلك كثرة التعبّد وشدّة الزهد وكثرة الصوم والحجّ، وغير ذلك من أنواع الطاعات والقربات، لانّها تبع لامر باطل.

ولا ينجو أحد إلاّ بالاعتقاد الحقّ وقد قال تعالى: (فماذا بعد الحقِّ إلاّ الضَّلالُ)(2) وهذه الاية صريحة في أنّه ليس بين الحقّ والباطل واسطة.

والباطل هو الذهاب عن الحقّ، مأخوذ من ضلّ الطريق، وهو العدول عن سمته.

____________

(1) في الاصل: انكشف لهم بطلان ما اعتقدوه...» وهو من سهو القلم، والصحيح حذف كلمة «بطلان». ولعلّ «بطلان» من زيادة النسّاخ.انتهى. مصحّحه.

(2) يونس: 32.

الصفحة 73
والحقّ هو الصراط المستقيم الذي في قوله تعالى: (وأنّ هذا صراطي مُستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُّبلَ فتَفَرقَ بكم عن سبيلهِ ذلكم وصَّاكم به لعلّكم تتّقون)(1) وصف الله تعالى صراطه ـ وهو دينه ـ بالاستقامة، وأمر باتّباعه.

والمستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، فمن اتّبعه أوصله الى مقعد صدق عند مليك مقتدر.

قال سهل: الصراط المستقيم هو الاقتداء والاتّباع وترك الهوى والابتداع.

ثمّ إنّه تعالى نهى عن اتّباع السُّبل ; لما فيها من الحِيَدَة عن طريق الاستقامة، فقال: (ولا تَتّبِعُوا السُّبلَ فتفرَّقَ بِكم عن سبيله) أي تميل بكم عن طريقه ـ التي ارتضى، وبه(2) أوصى ـ الى سُبُل الضلالات من الاهواء، فتهلكوا.

قيل لعبدالله بن مسعود (رضي الله عنه): ما الصراط المستقيم؟ فقال: «ما تركنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)في أدناه وطرفه في الجنّة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثَمّ رجال يدعون من مرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به الى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به الى الجنّة، ثمّ تلا: (وأنَّ هذا صراطي مُستقيماً) الاية.

فأشار (رضي الله عنه)بالرجال الذين على الجوادّ الى علماء السوء وأهل البدع، وأشار بقوله: «يدعون من مرّ بهم» الى الوعّاظ الذين هم سبب هلاك من قعد إليهم.

____________

(1) الانعام: 153.

(2) راعى في وصف الطريق بـ «التي» جواز تأنيثها، وراعى في رجوع الضمير إليها «به» جواز تذكيره، فليعلم. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 74
ولهذا بالغ السلف رضي الله عنهم في التحذير من مجالسة كلّ أحد، وقالوا: إذا جلس للوعظ فتفقدّوا منه أموراً، فإن كانت فيه فأهربوا منه، وإلاّ هلكتم من حيث ظننتم النجاة.

منها: إن كان مبتدعاً فاحذروه واجتنبوه، فانه على(1) لسان الشيطان ينطق، ومن نطق على لسان الشيطان فلا شكّ ولا ريب في إغوائه، فيهلك الانسان من حيث يظنّ السلامة.

وأيضاً ففي المشي إليه ومجالسته تعظيم له وتوقير.

روى ابن عدي من حديث عائشة رضي الله عنها: (من وقّر صاحب بِدْعة فقد أعان على هدم الاسلام)، ورواه الطبراني في مُعجمه الاوسط، ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث عبدالله بن بشر، وبهذا وغيره يجب التبرّي من أهل البدع والتباعد.

قال بعض السلف: «من بشّ في وجه مبتدع أو صافحه فقد حلّ عُرى الاسلام عروة عروة».

وقال شخص من أهل الاهواء لايّوب السختياني (رضي الله عنه): أكلّمك كلمة. فقال: لا والله ولا نصف كلمة.

وكان يقول: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلاّ ازداد من الله بُعداً.

قال (رضي الله عنه): كنّا ندخل على أيّوب السختياني، فإذا ذكرنا له حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي حتّى نرحمه.

وكان يقول: إذا بلغني موت أحد من أهل السُّنّة فكأنّما يسقط عضو من

____________

(1) «على» بمعنى عن أو الباء. انتهى.مصحّحة.

الصفحة 75
أعضائي.

وكان يقول: والله ما صدق عبد إلاّ سرّه ألاّ يراه أحد(1) .

وكان يونس بن عبيد يقول: احفظوا عنّي ثلاثاً متُّ أو عشتُ: لا يدخلنّ أحد على سلطان يعظه أو يعلّمه، ولا يخلونّ بأمرأة شابة وإن أقرأها القرآن، ولا يمكّن سمعه من ذي هوىً، وأشدها الثالثة ; لما فيها من الزيغ أعاذنا الله من ذلك.

وكان يقول: ما يزال العبد بخير ماأبصر ما يفسد عمله.

ويونس هذا تابعي من أصحاب الحسن البصري.

وكان أبو عبدالله الاصبهاني من عباد الله الصالحين ومن البكّائين، ولم يكن بأصبهان أزهد منه ولا أورع منه، قال: وقفت على علي بن ماشاذة، وهو يتكلّم على الناس.

فلمّا جاء الليل رأيت ربّ العزة في النوم، فقال لي: وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لاحرمنّك النظر في الدنيا، فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئاً.

وقال الحميدي: سمعت الفضيل يقول: من وقرّ صاحب بدعة أورثه الله عمًى قبل موته.

قيل: أراد أيضاً عمى البصيرة.

____________

(1) أي وهو يعمل الصالحات، وهو كلام جليل، فليفكّر فيه القارىء طويلاً لعله يتحقق به. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 76

[البدعة وأسبابها]

وأعلم: أنّ الكلام على البدعة وأهلها فيه طول جدّاً، وقد ذكرت جملة منه في «تنبيه السالك على مظانّ المهالك».

ومنها: أن يكون الواعظ سيء الطعمة، فإنّه إنّما ينطق بالهوى ; لانّ مثل هذا يوقع الناس في الحرام،أو ربّما اعتقدوا حلّه ; لانّهم يقتدون به في فعله بواسطة قوله.

ومنها: أن يكون رديء العقل أحمق، فانه يفسد بحمقه أكثر مما يصلح،والاحمق هو الذي يضع الشيء في غير موضعه ويعتقد أنّه يصيب.

قال عيسى (عليه السلام): «أبرأت الاكمه والابرص وأعياني الاحمق».

فالاحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه للطريق فاسد، فلا يكون له رؤية صحيحة في طريق الوصول الى الغرض، ويختار ما لاينبغي أن يختار، وهذا واجب الاجتناب.

بخلاف صاحب العقل الصحيح، فإنّه يُثمر حسن النظر وجودة التدبير وثقافة الرأي وإصابة الظنّ، والتفطن لدقائق الادلّة والاعمال وخفايا النفس الامّارة وغرور الشيطان.

ومنها: أن يذكر الادّلة التي هي رجاء وتوسعة على النفوس، ويسكت عن آيات الخوف والرهبة وكذا الاخبار والاثار ; لانه بذلك يحلّ من القلوب الزواجر، ويسهل ارتكاب المعاصي، لا سيّما إذا علم منه ارتكاب شيء ولو كان مكروهاً، فانه يوقع الناس في ورطة عظيمة.

قال: «إذا عبث العلماء بالمكروه عبث العوامّ بالحرام، وإذا عبث العلماء بالحرام كفر العوامّ» ; معناه: أنّهم يعتقدون حلّه لارتكاب العلماء ذلك ; لانّهم القادة وعليهم المعوّل في التحليل والتحريم.

ومنها: أن يتعرّض لايات المتشابه وكذلك الاخبار، ويجمعها ويسردها ويكرّر

الصفحة 77
الاية والخبر مراراً ; لانّه يوقع العامّي فيما اعتاده وألفه، فيُجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه، ويزيّنه الشيطان له بغروره، لا سيّما إن كان الواعظ مّمن يُظهر زهداً وورعاً وشفقة على الناس، فكم من شخص حسن الظاهر خبيث الباطن، جميل الظاهر قبيح السرائر والضمائر.

والسلف رضي الله عنهم لهم اعتناء بشدّة مجانبة هذا والتباعد عنه.

ومنها: أن يكون متهماً بالرفض وبسبّ الصحابة رضي الله عنهم.

وهؤلاء نبّه مالك (رضي الله عنه) على أنّهم من سلالة المنافقين، وأوضح ذلك نوّر الله تعالى قلبه، فقال: أرادوا أن يقدحوا في النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بشيء فلم يجدوا مساغاً، فقدحوا في الصحابة ; لانّ القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه، وهؤلاء كفّار لا ستحلالهم سبّ أفضل الخلق بعد الانبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ومنهم: أقوام يُلبسون على الناس بقراءة البخاري وغيره، وهم لا يعتقدون البخاري، ويسمّونه فيما بينهم بالفشاري، ولهم خبائث عديدة كلّ واحدة كفر محقّق.

وبقي أُمور لا أطوّل بذكرها.

فمن أراد الله به خيراً حماه عن مجالسة هؤلاء ; لانّ القلب سريع الانقلاب وقبول الرخص والشبه، فإذا علقت به الشبهة والريبة فبعيد أن ترتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه، وأقلّ ما ينال القلب التردّد والحيرة، وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان.

فّان كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميّاً، والمبتدع أدخلها عليه بـ «قال الله عزّ وجلّ وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)» فبعيد أن يرجع ويتقشّع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة لتحكّم الشبهة بالدليل، وهذا من الهالكين إلاّ أن يتداركه الله

الصفحة 78
برحمته.

لانّ عمدة الناس الكتاب والسُّنّة، والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضيّ.

فمن حقّ العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خُزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم، وأن لا يغترّ بتقشّفهم وكثرة تعبّدهم وزهدهم ووصفهم لانفسهم، فإنّ ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها، وبها تتشرّب القلوب لبدعتهم، لا سيّما من قلبه مشغوف بحبّ الدنيا، إذا رأى زاهداً فيها، مع إكبابه على الكتاب والسُّنّة،مع الورع والزهد والعفّة والقناعة، فلا شكّ ولا ريب أنّه يرغب فيه غاية الرغبة، ويميل إليه غاية الميل، ولا يصدّه عنه صادّ، كما هو مشاهد من العوامّ ومحبّتهم ورغبتهم لمن هو بهذه المثابة.

فتنبّه لذلك، فقد أوضحتُ طريق السلامة والتباعد من مظانّ الهلكة.

فكم من شخص قصدُهُ صالحٌ، قد هلك بمثل هؤلاء إخوان الشياطين وهو لا يشعر.

وعليك بالاقتداء بالاطباء ; أعني أطباء القلوب، وهم الانبياء (عليهم السلام) ; لانهم العالمون بأسباب الحياة الاُخروية، ثمّ أتباعهم الذين أخذوا عنهم، وشاهدوا منهم مالم يشاهده غيرهم. شعر:

ن كان يرغب في النجاة فما لَهُ غير اتّباع المصطفى فيما بدا
اتْبعْ كتاب الله والسنن التي صحّت فذاك إذا اتّبعتَ هو الهدى
الدينُ ما قال النبيُّ وصحبُهُ فإذا اقتديت بهم فنِعْم المُقتدى

الصفحة 79

فسبحان الحليم الودود، الممهل الكريم العميم الجود، العالم بخفايا الضمائر ودبيب النملة على الصخرة في الليالي السود. ويرى جريان الماء في العود. القادر فكلّ ما سواه بقدرته موجود. نزّه نفسه بنفسه لعجز خلقه عن ذلك، فتعالى عن الاشكال والامثال والجهات والحدود، صفاته قديمة ثابتة بالنقل والعقل، فمن عطّل وقع في الجحود، وتنزيهه عن النقائص والاشباه محقّق ومعلوم، والتشبيه مذهب السامرة واليهود. وكفّ الكيف مشلولة بل مقطوعة، وباب التشبيه مردوم ومسدود، فمن فتحه هجمت عليه نار الوعيد، فأهلكته كما هلك فرعون ونمرود، وأصحاب الاخدود وعاد وثمود، فنسأل الله العافية من الفتن ومن أسبابها ومن النار ذات الوقود، ونتوسّل إليك بسيّد الاوّلين والاخرين محمّد، كما توسّل به أبو البشر فقبلته، فهو أحمد المحمود، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، فهو أعظم الوسائل، ولا يخيب من توسّل به ولو كان من أهل الجحود.

[التوسّل بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن]

قال الله تعالى: (وكانوا) أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) أي بعث محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)(يستفتحون) أي يستنصرون (على الذين كفروا)(1) وهم مشركو

____________

(1) البقرة: 89.

الصفحة 80
العرب، كانوا يقولون إذا حَزَبَهُمْ أمر أو دهمهم عدوّ: «اللّهمّ انصرنا بجاه النبيّ المبعوث آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة»، فكانوا يُنصرون، وكانوا يقولون لاعدائهم كغطفان وغيرها من المشركين: «قد أطلّ زمانُ نبيٍّ يخرج بتصديق ما قلناه، فنقتلكم معه قتل عاد وثمود».

فانظر ـ أرشدك الله ـ الى قدره ودُنوّ منزلته عند ربّه، كيف قبل عزّ وجلّ التوسّل به من اليهود،مع علمه سبحانه بأنهم يكفرون به، ولا يوقّرونه ولا يعظّمونه، بل يؤذونه، ولا يتّبعون النور الذي أُنزل معه ؟

فمن مَنع التوسّل به فقد نادى على نفسه، وأعلم الناس بأنّه أسوأ حالاً من اليهود.

شعر:

نت الملاذُ لنا وأنت المرتجى وبك اللياذُ وأنت ملجأُ مَن لَجا
سيّد الكونينِ يامَن قد سما معراجُه فوق السماءِ وعرَّجا
سيّد الثقلين والحكم الهدى والمقصد الاسنى لابواب الرجا
سيّداً مَن أمَّ بابَ مقامه ألفاهُ خير مقامِ سُؤْل يُرتجى
سيّداً ما أمَّهُ من ضامهُ ريبُ الزمان بخَطبه إلاّ نجا
سيّداً جعل الالهُ وجودَهُ للعالمين المرتجى والمُلتجا
خاتم الرُّسُل الكرامِ ومن بهِ ربُّ البريّةِ كلَّ همٍّ فرَّجا
غيره:

الصفحة 81
كن مستجيراً بالذي نالَ رفعةً الى عزّها ذلَّ الملوكُ الاكاسرُ
بيٌّ لهُ جاهٌ عريض ومَنصَبٌ عظيمٌ له تُعزى العُلى والمفاخرُ
ليلٌ جميلٌ راحمٌ مُتعطِّفٌ فصيحٌ مليحٌ كاملُ الحُسنِ باهرُ
لا يا رسولَ الله يا غاية المُنى لقد نلتَ فخراً ما لادناه آخرُ
يا دُرة الانباء ياجوهر الورى هنيئاً لنفس في هواك تُتاجرُ
قد ربحتْ في بيعها وتنعّمت وقد سَعِدت يادرّها والجواهرُ
بيبي رسولَ الله كُنْ لِيَ شافعاً أغِثْني أجِرْني يومَ تُبلى السرائرُ
جاهك آمالُ الضعيف تعلّقتْ إذا نُصب الميزانُ والعقلُ طائرُ
كن شافعي عند الاله فإنّه حليمٌ كريمٌ غافرُ الذنبِ ساترُ
ضى العُمرُ في لهو وزهو وغفلة وإنّي عن الفعل الحميد لقاصرُ
ياربِّ دارِكْنا بعفو ورحمة فأنت جيملُ العفو للكسرِ جابرُ
خُذْ بنواصينا وطهِّرْ قُلوبَنا ومُنَّ بعفو منكَ فالعفوُ غامرُ
صلِّ على البدرِ الذي من جبينِهِ بَدا الشمسُ والاقمارُ والنجمُ زاهرُ

الصفحة 82

نجزتُ هذه الاحرف المباركات على قارئها ومستمعيها، المتأسّين بأهل الحقّ، التابعين للصفوة من أولي المعجزات، المنزِّهين لربّ العالمين، والمعظّمين لسيّد الاوّلين والاخرين، وسائر الانبياء والمرسلين، وسرج هذه الاُمّة من بعدهم، كالصدّيقين وسائر الصحابة والتابعين لهم بأحسان الى يوم الدين.

الصفحة 83

[ابن تيمية الحرّاني وآراؤه]

وكنتُ قد عزمت على أن أقتصر على ذلك ; لانّ في بعض ما ذكرته وقاية من المقت والمهالك.

ثمّ قيل لي وكُرِّر عليّ: إنّ أهل التشبيه والتجسيم والمزدرين بسيّد الاولين والاخرين ـ تبعاًلسلالة القردةوالخنازير ـ لهم وجودوفيهم كثرة، وقدأخذوا بعقول كثير من الناس ; لما يزيِّنون لهم من الاطراء على قدوتهم، ويُزخرِفون لهم بالاقوال والافعال، ويموِّهون لهم بإظهار التنسّك، والاقبال على كثرة الصلاة والصوم والحجّ والتلاوة، وغير ذلك مّما يحسن في قلوب كثير من الرجال، لا سيما العوامّ المائلين مع كلّ ريح أتباع الدجّال، فانقادوا لهم بسبب ذلك، وأوقعوهم في اسر المهالك.

فرأيت بسبب هذه المكايد والخزعبلات أن أتعرض لسوء عقيدتهم ; قمعاً لهذا الزائغ عن طريق أهل الحقّ، وهم الائمة الاربعة المقتدى بهم والمعوّل عليهم في جميع الاعصار والاقطار ; لانّهم النجوم الذين بهم يُهتدى.

وقد بالغ جمع من الاخيار من المتعبّدين وغيرهم من العلماء، كأهل مكّة وغيرها، أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحِيَدة عن طريق هذه الائمة ولو كان

الصفحة 84
أحرفاً يسيرة ; إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة، فاستخرتُ الله ـ عزّ وجلّ ـ في ذلك مدّة مديدة.

ثم قلت: لا أبا لك، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الاغواء والمهالك، فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما علمت، وإلاّ ألجمتُ بلجام من نار ومقت.

وها أنا أذكر الرجل، وأُشير باسمه الذي شاع وذاع، واتّسع به الباع، وسار بل طار في أهل القرى والامصار.

وأذكر بعض ما أنطوى باطنه الخبيث عليه، وما عوّل في الافساد بالتصريح أو الاشارة إليه.

ولو ذكرت كثيراً مّما ذكره ودوّنه في كتبه المختصرات، لطال جدّاً، فضلاً عن المبسوطات.

وله مصنّفات أُخر لا يمكن أن يطّلع عليها إلاّ من تحقّق أنّه على عقيدته الخبيثة،ولو عصر هو واتباعه بالعاصرات ; لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات.

قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الاُموي في ملا من الناس: لو اطّلع الحصني على ما اطّلعنا عليه من كلامه، لاخرجه من قبره وأحرقه وأكّد هؤلاء أن أتعرّض لبعض ما وقفت عليه.

وما أفتى به مخالفاً لجميع المذاهب، وما خطِىء فيه وما انتقد عليه.

وأذكر بعض ما اتّفق له من المجالس والمناظرات، وما جاءت به المراسيم العاليات.

وأتعرض لبعض ما سلكه من المكايد التي ظنّ بسببها أنّه تخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الاهانات، وهيهات.


الصفحة 85

[انتساب ابن تيمية إلى مذهب أحمد بن حنبل!]

فأوّل شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى الى مذهب الامام أحمد، وشرع يطلب العلم ويتعبّد، فمالت إليه قلوب المشايخ، فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه، فأظهر التعفّف فزادوه في الرغبة فيه والوقوع عليه، ثمّ شرع ينظر في كلام العلماء، ويعلّق في مسودّاته حتّى ظنّ أنّه صار له قوّة في التصنيف والمناظرة، وأخذ يدوّن ويذكر أن جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة، فيكتب عليها صورة الجواب، ويذكر مالا ينتقد عليه، وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد، إلاّ أنّه يشير إليه على وجه التلبيس ; بحيث لا يقف على مراده إلاّ حاذق عالم متفنّن، فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلاّ ذلك المتفنّن الفطن.

[خداعه لعوامّ الناس]

ثمّ شَرَع يتلقى الناس بالاُنس وبسط الوجه ولين الكلام، ويذكر أشياء تحلو للنفوس، لاسيّما الالفاظ العذبة، مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الاخرة، فطلبوا منه أن يُذكّر الناس ففعل، فطار ذكره بالعلم والتعبّد والتعفف، ففزع الناس إليه بالاسئلة، فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة، قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه قال: هذه مسألة مشكلة، ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط، فإني أتقلدها في عنقي، فيقول: أنا أوفي لك، فيقول: أن تكتم عليّ، فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك، فيفتيه بما فيه فرجه ; حتّى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته أن لو عرض له عارض.

ثمّ إنّه علم أنّ ذلك لا يخلّصه، فكان إذا كان في بعض المجالس، قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها، ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلاناً وزيراً، وفلاناً محتسباً، وفلاناً دويداراً، وفلاناً أمير

الصفحة 86
البلد، فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب، فكانوا يقومون في نصرته.

[محايلته للعلماء]

ثمّ اعلم: أنّ مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره، فجعل له مَخْلصاً منهم ; بأن ينظر الى من الامر إليه في ذلك المجلس، فيقول له: ما عقيدة إمامك، فإذا قال: كذا وكذا، قال: أشهد أنّها حقّ، وأنا مخطيء، واشهدوا أني على عقيدة إمامك، وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أنّ الحقّ في جهته ومعه، وأنّه قطع الجميع ; ألا ترون كيف خرج سالماً حتّى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير، لا سيّما من العوامّ.

فلمّا تكرر ذلك منه علموا أنّه إنّما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن الى سجن حتّى أهلكه الله ـ عزّ وجلّ ـ في سجن الزندقة والكفر.

[التزام ابن تيميّة للتقيّة]

ومن قواعده المقرّرة عنده، وجرى عليها أتباعه، التوقّي بكلّ ممكن حقّاً كان أو باطلاً ولو بالايمان الفاجرة ; سواء كانت بالله ـ عزّ وجلّ ـ أو بغيره.

وأمّا الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه، ألبتّة، ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز، وهذا مذهب فرقة الشيعة، فإنهم لا يرونه شيئاً، وإشاعته هو وأتباعه أنّ الطلاق الثلاث واحدة خُزَعْبَلات ومكر، وإلاّ فهو لا يوقع طلاقاً على حالف به ; ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أيّ وجه ; سواء كان حثاً أو منعاً أو تحقيق خبر، فاعرف ذلك، وأنّ مسألة الثلاث إنّما يذكرونها تستّراً

الصفحة 87
وخديعة وقد وقفتُ على مصنّف له في ذلك(1) ، وكان عند شخص شريف زينبي، وكان يردّ الزوجة الى زوجها في كلّ واقعة بخمسة دراهم، وإنّما أطلعني عليه لانّه ظنّ أنّي منهم، فقلت له: ياهذا أتترك قول الامام أحمد وقول بقيّة الائمة بقول ابن تيميّة؟!

فقال: أشهد عليّ أنّي تُبتُ.

وظهر لي أنّه كذب في ذلك، ولكن جرى على قاعدتهم في التستّر والتقيّة، فنسأل الله العافية من المخادعة، فإنّها صفة أهل الدَّرك الاسفل(2) .

[تزوير ابن تيميّة في المصنّفات والمصادر]

ثمّ اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه: أنّه يذكر في بعض مصنّفاته كلام رجل من أهل الحقّ، ويدسّ في غضونه شيئاً من معتقده الفاسد، فيجري عليه الغبّي بمعرفة كلام أهل الحقّ فيهلك، وقد هلك بسبب ذلك خَلق كثير.

وأعمق من ذلك أنه يذكر: أنّ ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني، وليس لذلك الكتاب حقيقة، وإنّما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكّد قوله بأن يقول: ما يبعد أنّ هذا الكتاب عند فلان، ويسمّي شخصاً بعيد المسافة،كلّ ذلك خديعة

____________

(1) هذا شىء مدهش جدّاً، ولو أنّ الذي يحكيه ]غير[ الامام الحصني المعروف بشحّه على دينه، ما وجد ما يحكيه الى القلوب سبيلاً. انتهى. مصحّحه.

(2) لا يتردّد عاقل في أن ما سيحكيه الامام الحصني بعدُ فعلُ دجاجلة لا علماء، فليقرأه العاقل، وليعجب كيف يكون من هذه بلاياهم أئمة في دين الله؟! انتهى. مصحّحه.

الصفحة 88
ومكر وتلبيس لاجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله.

ولهذا لم يزل فيهم التعازير والضرب بالسياط والحبوس وقطع الاعناق، مع تكتمهم ما يعتقدونه والمبالغة في التكتم ; حتّى أنّهم لا ينطقون بشيء من عقائدهم الخبيثة إلاّ في الاماكن الخفية، بعد التحرّز وغلق الابواب والنطق بما هم عليه بالمخافتة، ويقولون: إنّ للحيطان آذاناً.

[أساليب التيميّة في خداع المسلمين]

ومن جملة مكرهم وتحيّلهم: أنّ الكبير منهم المشار إليه في هذه الخبائث، له أتباع يُظهرون له العلم والعظمة والتعبّد والتعفّف ; يخدعون بذلك أرباب الاموال، لاسيما الغرباء، فيدفع ذلك الغريب أوغيره الى ذلك الشيخ شيئاً،فيأبىويُظهر التعفّف، فيزداد ذلك الرجل حرصاً على الدفع، فلا يأخذ منه إلاّ بعد جهد، فيأخذها ذلك الخبيث، ولا عليه من أطّلاع الله تعالى على خبث طوّيته، ويدفع بعضها الى بعض اتباعه والى غيرهم، ويتمتّع هو وخواصّه بالباقي، ولهم يد وقدرة على ذلك.

ومن جملة مكرهم من هذا النوع أن يكسو عشرة مساكين قمصاناً أو غيرها، ثمّ يقولون: انظروا هذا الرجل كيف يجيئه الفتوح فيؤثركم بها وغيركم، ويترك نفسه وعياله وأصدقاءه، وهكذا كان السلف، ويكون قد أخذ أضعاف ما دفع، وكثير من الناس في غفلة من هذا.

ولولا أنّ ذلك من جملة النصيحة لماذكرته ولما تعرضت له، وكان ما في نفسي شاغلاً عن ذلك، إلاّ أنّه كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بسبب نجدة الحروري المبتدع: «لولا أن أكتم علماً لما كتبت إليه» ; يعني جواب ما كتب إليه بأن

الصفحة 89
يعلّمه مسائل، والقصة مشهورة حتّى في صحيح مسلم(1) .

وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): (من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلِجام من نار) رواه غير واحد ـ من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ـ منهم أبو داود، وكذا الترمذي، وحسنّه، والحاكم وصحّحه(2) .

ثمّ إن كان المال المدفوع زكاة فلا تبرأ الذمّة بدفعه إليهم ; لانّهم ليسوا من أهلها، فليتنّبه لذلك فإنّه قد يخفى مع ظهوره، وقد تشكّك في ذلك وتلاعب الشيطان به، فلنأخذه بجانب الاحتياط منه، فإنّه طريق السلامة. والله أعلم.

وأعلم أني لو أردت أن أذكر ما هم عليه من التلبيسات والخديعة والمكر، لكان لي في ذلك مزيد وكثرة وفيما ذكرته أُنموذج ينبّه بعضه على غيره، لا سيّما لمن له أدنى فراسة وحسن نظر بموارد الشرع ومصادره، التي أشار إليها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعضها صرّح به تصريحاً ظاهراً، لا يخفى إلاّ على أكمه لا يعرف القمر.

وفي الصحيحين من حديث عليّ (رضي الله عنه)، قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الاسنان سفهاء الاحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة).

____________

(1) صحيح مسلم: في الجهاد والسير رقم 3377، وانظر مسند أحمد رقم 1866، وسنن أبي داود في الجهاد رقم 2351.

(2) سنن ابي داود في العلم رقم 3173، وكذا الترمذي برقم 2573، والحاكم في المستدرك 1/101.

الصفحة 90
وفي صحيح مسلم من حديث علي (رضي الله عنه)، قال: سمعت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: (يخرج قوم من أمّتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم الى قراءتهم بشيء، وليس صلاتكم الى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم الى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنّه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرميّة)(1) .

وفي الصحيحين(2) من حديث ابن عمر (رضي الله عنه)، قال: سمعت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول وهو على المنبر: (ألا إنّ الفتنة هنا ـ ويشير الى المشرق ـ من حيث يطلع قرن الشيطان)، وفي رواية: (إنّ الفتنة ههنا) ثلاثاً، وفي رواية: (خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من بيت عائشة رضي الله عنها، فقال: رأس الكفر ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان)(3) .

هذا المبتدع من حرّان الشرق ; بلدة لا تزال يخرج منها أهل البدع، كجعد وغيره.

وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخُدري وأنس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: (سيكون في أمّتي اختلاف، وفرقة يحسنون القيل ويسيئون الفعل،

____________

(1) صحيح مسلم في الزكام رقم 1773.

(2) البخاري في بدء الخلق رقم 3037، والمناقب رقم 3249، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة رقم 5167 ـ 5172، والترمذي في الفتن 3194، ومسند أحمد رقم 4450.

(3) صحيح البخاري 4/179 و6/115، 8/52، ومسند أحمد ـ مسند المكثرين ـ رقم 4521، والنسائي 7/118، وصحيح مسلم 3/114، والبيهقي 8/170، والترمذي 3/326 عن عبدالله

الصفحة 91
يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، هم شرّ الخلق. طُوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يَدْعُو الى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، من قتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله وما سيماهم؟ قال: التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأنيموهم)(1) أي اقتلوهم، والتسبيد هو الحلق واستئصال الشعر، وقيل: ترك التدهّن وغسل الرأس وغير ذلك.

والاحاديث في ذلك كثيرة، وفي واحد كفاية لمن أراد الله ـ عزّ وجلّ ـ به الرشد والهداية.

فقد أوضحهم سيّد الناصحين(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ باعتبار أوصافهم وأماكنهم ـ إيضاحاً جليّاً لا خفاء فيه لا جهالة، فلا يتوقّف في معرفتهم بعد ذلك إلاّ من أراد الله تعالى إضلاله.

[التحذير من عقائد التيمية أهل الزيغ]

وإذا تمهّد لك هذا أيّها الراغب في فكاك نفسك من رِبْقة عقائد أهل الزيغ

الضالين المضلين، والاقتداء بأهل السلامة في الدين.

فاعلم: أنّي نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ، المتتبّع ما تشابه في الكتاب والسُّنّة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خَلْق من العوامّ وغيرهم ممّن أراد الله ـ عزّ وجلّ ـ إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به(2) ، ولا لي أنامل تُطاوعني على رسمه وتسطيره.

لما فيه من تكذيب ربّ العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين.

____________

(1) سنن أبي داود كتاب السنة رقم 4137.

(2) ليتأمل هذا جدّاً، فإنّه عجيب. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 92
وكذا الازدراء بأصفيائه المنتجبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموّفقين.

فعدلت عن ذلك الى ذكر ما ذكره الائمة المتّقون، وما اتّفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين، فمنه ما دُوّن في المصنّفات، ومنه ما جاءت به المراسيم العليات، وأجمع عليه علماء عصره مّمن يرجع إليهم في الامور الملمّات والقضايا المهمات، وتضمّنه الفتاوي الزكيّات من دنس أهل الجهالات، ولم يختلف عليه أحد، كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رؤوس الاشهاد في المجامع الجامعة ; حتّى شاع وذاع، واتّسع به الباع حتّى في الفوات.

[المرسوم السلطاني بشأن ابن تيمية]

فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني(1) ، ناصر الدنيا والدين محمّد بن قلاوون ـ رحمه الله تعالى ـ وقُرىء على منبر جامع دمشق، نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة. صورته(2) :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تنزّه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المِثْل، فقال تعالى: (لَيسَ كمثلِهِ شيء وهو السميعُ البصيرُ)(3) .

____________

(1) لفظ «ناصر الدين» صفة لموصوف محذوف قطعاً ليستقيم الكلام، والتقدير الصادر من السلطان ناصر الدين... الى آخره. أنتهى. مصحّحه.

(2) لاحظ الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني ص145.

(3) الشورى: 11.

الصفحة 93
نحمده على ما ألهمنا من العمل بالسُّنّة والكتاب، ورفع في أيّامنا أسباب الشكّ والارتياب.

ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ; شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير، وينزّه خالقه عن التحيّز في جهة ; لقوله تعالى: (وهو معكمْ أينما كنتُمْ واللهُ بما تعملونَ بصيرٌ)(1) .

ونشهد أنّ سيّدنا محمّداً عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته، وأمر بالتفكّر في الايات، ونهى عن التفكر في ذاته،(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين علا بهم منارُ الايمان وارتفع، وشيّد الله بهم من قواعد الدين الحنيفي ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحقّ ومال الى البدع.

وبعدُ:

فإنّ القواعد الشرعية ; وقواعد الاسلام المرعيّة، وأركان الايمان العلمية، ومذاهب الدين المرضيّة، هي الاساس الذي يُبنى عليه، والموئل الذي يرجع كلّ أحد إليه، والطريق التي من سلكها فاز فوزاً عظيماً، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذاباً أليماً: ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها: ويؤكد دوامها: وتصان عقائد هذه الاُمة عن الاختلاف: وتُزان بالرحمة والعطف والائتلاف: وتُخمد ثوائر البدع، ويُفرّق من فرقها ما اجتمع.

وكان ابن تيميّة في هذه المدّة قد بسط لسان قلمه، ومدّ بجهله عنان كلمه، وتحدّث بمسائل الذات والصفات، ونصّ في كلامه الفاسد على أمور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما اجتنبه الائمة الاعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الاسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء

____________

(1) الحديد: 4.

الصفحة 94
والحكّام، وشهر من فتاويه ما استخفّ به عقول العوامّ، وخالف في ذلك فقهاء عصره، وأعلام علماء شامه ومصره، وبثّ به رسائله الى كلّ مكان، وسمّى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

ولمّا اتّصل بنا ذلك، وما سلك به هو ومريدوه، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه، من هذه الاحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه، حتى اتّصل بنا أنّهم صرّحوا في حقّ الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم.

فقمنا في نصرة الله، مشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وعزنا(1) أن يشيع عمّن تضّمنه ممالكه هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله تعالى: (سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عمّا يصفونَ)(2) .

فإنّه ـ سبحانه وتعالى ـ تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير،(لا تدركه الابصارُ وهو يدركُ الابصارَ وهو اللَّطيفُ الخبيرُ)(3) .

فتقدمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيميّة المذكور الى أبوابنا، حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا، وصرّح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلاّ وتلا

____________

(1) هذه الفقرة محرّفة، ومعناها ليس بظاهر، والذي يظهر أنّ أصلها: «وعُذنا» أن يشيع عمّن تضمّه ممالكه هذه السمعة» يستعيذ السلطان بالله أن يشيع عنه هو تلك السمعة ; لانّ الرجل في مملكته. انتهى. مصحّحه.

(2) الصافات: 180.

(3) الانعام: 103.