الصفحة 95
قوله تعالى: (لقد جئت شيئاً نُكراً)(1) .

ولمّا وصل إلينا الجمع أولوا العقد والحلّ، وذوو التحقيق والنقل، وحضر قضاة الاسلام، وحكّام الانام، وعلماء المسلمين، وأئمة الدنيا والدين، وعُقد له مجلس شرعيّ في ملا من الائمة وجمع، ومن له دراية في مجال النظر ودفع.

فثبت عندهم جميع ما نُسب إليه، بقول من يُعتمد ويُعوّل عليه، وبمقتضى خطّ قلمه الدالّ على مُنْكَرِ معتقده(2) .

وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه تالين: (ستُكتَبُ شهادَتُهم ويُسألوُنَ)(3) .

وبلغنا أنّه قد استُتِيبَ مراراً فيما تقدّم، وأخّره الشرع الشريف لما تعرّض لذلك وأقدم، ثمّ عاد بعد منعه، ولم يدخل ذلك في سمعه.

ولمّا ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي، حكم الشرع الشريف أن يُسجن هذا المذكور، ويُمنع من التصرّف والظهور.

ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متّبعاً، أو لهذه الالفاظ مستمعاً، أو يسري في مسراه، أو يفوه بجهة العلّو بما فاه، أو يتحدّث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك الى الموت، أو ينطق بتجسيم، أو يحيد عن الطريق

____________

(1) الكهف: 74.

(2) ليحفظ هذا، ثمّ ليحفظه المغررون. انتهى. مصحّحه.

(3) الزخرف: 19.

الصفحة 96
المستقيم، أو يخرج عن رأي الائمة، أو ينفرد به عن علماء الاُمّة، أو يحيّز الله سبحانه وتعالى في جهة، أو يتعرّض الى حيث وكيف، فليس لمعتقد هذا إلاّ السيف(1) .

فليقف كلّ واحد عند هذا الحدّ، ولله الامر من قبل ومن بعد.

وليلزم كلّ واحد من الحنابلة بالرجوع عن كلّ ما أنكره الائمّة من هذه العقيدة، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به، والتمسك بمسالك أهل الايمان الحميدة، فإنّه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل.

ومثل هذا ليس له إلاّ التنكيل، والسجن الطويل مستقرّه ومقيله وبئس المقيل.

وقد رسمنا بأن يُنادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية، وتلك الجهات الدنيّة والقصيّة: بالنهي الشديد، والتخويف والتهديد، لمن اتّبع ابن تيميّة في هذا الامر الذي أوضحناه.

ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه، ووضعناه من عيون الامّة كما وضعناه، ومن أصرّ على الامتناع، وأبى إلاّ الدفاع، أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم، وأسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية، ولا شهادة ولا إمامة، بل ولا مرتبة ولا إقامة.

فإنّا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضلّ بها كثيراً من العباد أو كاد، بل كم أضلّ بها من خلق، وعاثوا بها في الارض الفساد.

____________

(1) لينظر هذا كذلك. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 97
ولتثبت المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك، وتسيّر المحاضر بعد إثباتها على قضاء المالكية. وقد أعذرنا وحذّرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا.

وليُقرأ مرسومنا الشريف على المنابر; ليكون أبلغ واعظ وزاجر، لكلّ باد وحاضر.

والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه.

وكُتب ثامن(1) عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة(2) .

[تاريخ ابن تيمية كما نقله المؤرّخ ابن شاكر]

وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب «عيون التواريخ»، وهو ابن شاكر، ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي، وكان من أتباع ابن تيميّة، وضُرب الضرب البليغ ; لكونه قال لمؤذّن في مأذنة العروس وقت السحر: أشركت، حين قال:

لا يارسول الله أنتَ وسيلتي الى الله في غفران ذنبي وزلّتي
وأرادوا ضرب عنقه، ثمّ جدّدوا إسلامه.

____________

(1) كذا بالاصل، والمعنى ظاهر، ولعلّ الاصل في ثامن وعشرين من شهر... الخ، وكذا ما يأتي يقال فيه ذلك. انتهى. مصحّحه.

(2) إنّ في ذلك لعبرة لاولي الابصار. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 98
وإنّما أذكر ما قاله لانه أبلغ في حقّ ابن تيميّة في إقامة الحجّة عليه، مع أنّه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه، لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته. والعجب أنّ ابن تيميّة ذكرها، وهو سكت عنها:

كلام ابن تيميّة في الاستواء ووثوب الناس عليه:

فمن ذلك ما أخبر به ابو الحسن علي الدمشقي ـ في صحن الجامع الاموي ـ عن أبيه، قال: كنّا جلوساً في مجلس ابن تيميّة، فذكر ووعظ وتعرّض لايات الاستواء، ثمّ قال: (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا).

قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة، وأنزلوه من الكرسي، وبادروا إليه ضرباً باللكم والنعال وغير ذلك ; حتّى أوصلوه الى بعض الحكّام.

واجتمع في ذلك المجلس العلماء، فشَرَع يناظرهم، فقالوا: ما الدليل على ما صدر منك؟

فقال: قوله تعالى: (الرحمنُ على العرشِ استوى)(1) .

فضحكوا منه، وعرفوا أنّه جاهل لا يجري على قواعد العلم.

ثمّ نقلوه ليتحققوا أمره. فقالوا: ما تقول في قوله تعالى: (فأينما تُولُّوا فثمّ وجه الله) ؟

فأجاب بأجوبة تحقّقوا أنّه من الجهلة على التحقيق، وأنّه لا يدري ما يقول.

____________

(1) طه: 5.

الصفحة 99
وكان قد غرّه بنفسه ثناء العوامّ عليه، وكذا الجامدون(1) من الفقهاء، العارون عن العلوم التي بها يجتمع شمل الادّلة على الوجه المرضي.

وقد رأيت في فتاويه ما يتعلّق بمسألة الاستواء، وقد أطنب فيها، وذكر أموراً كلّها تلبيسات وتجرّيات خارجة عن قواعد أهل الحقّ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحُسن رويّة، ظنّ أنّها على منوال مرضيّ.

ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله: «إنّ الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: (هو الذي خلق السمواتِ والارضَ في ستةِ أيّام ثمّ استوى على العرشِ يعلم ما يَلجُ في الارضِ وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصيرٌ) ، فأخبر: أنّه فوق العرشِ يعلم كلّ شيء، وهو معنا أينما كنّا».

هذه عبارته بحروفها.

فتأمّل ـ أرشدك الله تعالى ـ هذا التهافت، وهذه الجرأة بالكذب على الله تعالى: أنه ـ سبحانه وتعالى ـ أخبر عن نفسه أنّه فوق العرش، ومحتجاً بلفظ الاستواء الذي هو موضوع بالاشتراك، ومن قبيل المجمل.

وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقّق به جهله وفساد تصوّره وبلادته.

وكان بعضهم يسمّيه: حاطب ليل، وبعضهم يسمّيه: الهدار المهذار.

وكان الامام العلامة شيخ الاسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرّح بأنّه من الجهلة، بحيث لا يعقل ما يقول.

____________

(1) كذا بالاصل، وليس بخفيّ أنّ لفظ «الجامدين» حقّها الجامدون، وكذا العارون. انتهى. مصحّحة.

الصفحة 100
ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة(1) عن شيخه، الذي تلقّاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرّف بالاسلام.

وهو(2) من أعظم الناس عداوة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقَتَلَ عليٌّ رضي الله عنه واحداً منهم، تكلّم في مجلسه كلمة فيها ازد راء بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد وقفت على المسألة ; أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ; ليزدروه بها، وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق، وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء، فتصدّى لهم الجهابذة من العلماء، وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي والعرفي، وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الاعناق، ولم يبقَ منهم إلاّ الضعفاء في العلم، ودامت فيهم مسألة التفرقة حتّى تلقّاها ابن تيميّة عن شيخه، وكنت أظنّ أنـّه ابتكرها.

واتفق الحُذّاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه، وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصوّرها، عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.

[تاريخ ابن تيمية الاسود]

ولنرجع الى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه ; ذكره في الجزء العشرين.

قال: وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب، عُقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الابلق، فسُئل ابن تيميّة عن عقيدته ؟ فأملى

____________

(1) ظاهر أنّها الفوقية، وكذا ما يأتي بعد كالسياق أو التفرقة حياة الرسول ومماته. أنتهى. مصحّحه.

(2) ظاهر أنّ اللفظ هم لا هو. أنتهى. مصحّحه.

الصفحة 101
شيئاً منها.

ثمّ أُحضرت عقيدته الواسطيّة، وقرئت في المجلس، ووقعت بحوث كثيرة، وبقيت مواضع أُخّرت الى مجلس ثان، ثمّ اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب.

وحضر المجلس صفي الدين الهندي، وبحثوا، ثمّ اتفقوا على أنّ كمال الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيميّة، ورضوا كلّهم بذلك، فأفحم كمالُ الدين ابنَ تيميّة، وخاف ابن تيميّة على نفسه، فأشهد على نفسه الحاضرين أنّه شافعيّ المذهب، ويعتقد ما يعتقده الامام الشافعي، فرضوا منه بذلك وانصرفوا.

ثمّ إنّ أصحاب ابن تيميّة أظهروا أنّ الحقّ ظهر مع شيخهم، وأنّ الحقّ معه، فأُحضروا الى مجلس القاضي جلال الدين القزويني، وأحضروا ابن تيميّة وصُفع ورُسم بتعزيره، فشفّع فيه، وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيميّة.

ثمّ قال: ولمّا كان سَلخُ رجب جمعوا القضاة والفقهاء، وعُقد مجلس بالميدان أيضاً، وحضر نائب السلطنة أيضاً، وتباحثوا في أمر العقيدة، وسلك معهم المسلك الاوّل.

فلمّا كان بعد أيّام ورد مرسوم السلطان ; صحبة بريديّ من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبابن تيميّة، وفي الكتاب: تعرّفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين في عقيدة ابن تيميّة.

فطلبوا الناس وسألوهم عمّا جرى لابن تيميّة في أيّام نُقل عنه فيها كلام قاله، وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أُحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين، وتحدّثوا مع ملك الامراء في أن يكاتب في هذا الامر، فأجاب، فلمّا كان ثاني يوم وصل مملوك ملك الامراء على البريد من مصر، وأخبر أنّ الطلب على ابن تيميّة كثير، وأنّ القاضي المالكي قائم في قضيّته قياماً عظيماً،

الصفحة 102
وأخبر بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية، وأنّ بعضهم صُفع، فلمّا سمع ملك الامراء بذلك انحلّت عزائمه عن المكاتبة، وسيّر شمس الدين بن محمّد المهمندار الى ابن تيميّة، وقال له:

قد رسم مولانا ملك الامراء بأن تسافر غداً، وكذلك راح الى قاضي القضاة، فشرعوا في التجهيز، وسافر صحبة ابن تيميّة أخواه عبدالله وعبدالرحمن، وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيميّة.

وفي سابع شوّال وصل البريدي الى دمشق، وأخبر بوصولهم الى الديار المصريّة، وأنّه عقد لهم مجلس بقلعة القاهرة بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والامراء: فتكلّم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادّعى على ابن تيميّة في أمر العقيدة، فذكر منها فصولاً.

فشرع ابن تيميّة فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وتكلّم بما يقتضي الوعظ، فقيل له: ياشيخ إنّ الذي تقوله نحن نعرفه، وما لنا حاجة الى وعظك، وقد أدُّعي عليك بدعوى شرعية فأجب.

فأراد ابن تيميّة أن يعيد التحميد، فلم يمكّنوه من ذلك، بل قيل له: أجب.

فتوقّف، وكُرِّر عليه القول مراراً، فلم يزدهم على ذلك شيئاً، وطال الامر، فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبسِ أخويه معه.

فحبسوه في بُرج من أبراج القلعة فتردّد إليه جماعة من الامراء، فسمع القاضي بذلك، فاجتمع بالامراء، وقال: يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلاّ فقد وجب قتله، وثبت كفره.

فنقلوه الى الجُبّ بقلعة الجبل، ونقلوا أخويه معه بإهانة.

وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم

الصفحة 103
الدين بن صصري، وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي، وحضروا القرّاء والمنشدون، وأُنشدت التهاني، وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة، فلمّا كان بعد أيّام عرضها عليه، فرسم ملك الامراء بقراءتها والعمل بما فيها أمتثالاً للمراسيم السلطانية.

وكانوا قد بيّتوا على الحنابلة كلّهم بأن يحضروا الى مقصورة الخطابة بالجامع الاُموي بعد الصلاة،وحضر القضاة كلّهم بالمقصورة، وحضر معهم الامير الكبير ركن الدين بيبرس العلاني، وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري، الّذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الاوقاف وزيادة المعلوم، وقرىء الكتاب الذي وصل على يديه، وفيه ما يتعلّق بمخالفة ابن تيمية عقيدته وإلزام الناس بذلك، خصوصاً الحنابلة، والوعيد الشديد عليهم، والعزل من المناصب، والحبس وأخذ المال والروح ; لخروجهم بهذه العقيدة عن الملّة المحمّدية.

ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدّم، وتولّى قراءته شمس الدين محمّد بن شهاب الدين الموقع، وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذّن، وقُرىء بعد تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة، وأحضروا بعد القراءة الحنابلة مُهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة، واعترفوا أنّهم يعتقدون ما يعتقده محمّد ابن إدريس الشافعي (رضي الله عنه).

وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة، ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يُفتي بها ابن تيميّة.

وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة، وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء، وحضر ابن تيميّة وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق، وكونهم نهوه وما انتهى، ولا قبل مرسوم السلطان، ولا حكم الحكام بمنعه، فأنكر.

الصفحة 104
فحضر خمسة نفر، فذكروا عنه: أنه أفتاهم بعد ذلك، فانكر وصمّم على الانكار، فحضر ابن طليش وشهود شهدوا أنّه أفتى لحّاماً اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا.

فقيل لابن تيميّة: اكتب بخطك: أنك لا تُفتي بها ولا بغيرها، فكتب بخطّه: أنه لا يُفتي بها وما كتب بغيرها.

فقال القاضي نجم الدين بن صصري: حكمتُ بحبسك واعتقالك.

فقال له: حكمك باطل ; لانّك عدوّي، فلم يُقبل منه، وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق.

وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء، أُفرج عن ابن تيميّة من حبسه بقلعة دمشق، وكانت مدّة اعتقاله خمسة أشهر ونصفاً.

وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر في شعبان، قدم بريدي من الديار المصرية، ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيميّة.

فاعتقل في قلعة دمشق، وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنّه قال: لا تُشدّ الرحال إلاّ الى ثلاثة مساجد، وإنّ زيارة قبور الانبياء لا تُشد إليها الرواحل كغيرها، كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ إنّ الشامييّن كتبوا فُتيا أيضاً في ابن تيميّة ; لكونه أوّل من أحدث هذه المسألة، التي لا تصدر إلاّ مّمن في قلبه ضغينة لسيّد الاولين والاخرين.

فكتب عليها الامام العلاّمة برهان الدين الفزاريّ نحو أربعين سطراً بأشياء، وآخر القول أنّه أفتى بتكفيره.

ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي، وكتب تحت خطّه: كذلك المالكي.

وكذلك كتب غيرهم.

الصفحة 105
ووقع الاتّفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته.

ثمّ أراد النائب أن يعقد لهم مجلساً، ويجمع العلماء والقضاة، فرأى أنّ الامر يتّسع فيه الكلام، ولابدّ من إعلام السلطان بما وقع، فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعه وسيّرها.

فجمع السلطان لها القضاة، فلمّا قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وكتب عليها: القائل بهذه المقالة ضالّ مبتدع.

ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي، فصار كفره مُجمعاً عليه(1) .

ثمّ كُتب كتاب الى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في أمره.

وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان الى نائب البلد، وأمره أن يُقرأ على السدّة في يوم الجمعة فقُرىء، وكان قارىء الكتاب بدر الدين ابن الاعزازي الموقع والمبلغ ابن النجيبي المؤذّن.

ومضمون الكتاب بعد البسملة: أدام الله تعالى نعمه، ونوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهّزها بسبب ابن تيميّة، فوقفنا عليها، وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه ; حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء.

وعقدنا بهذا السبب مجلساً بين أيدينا الشريفة، ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء.

فذكروا جميعاً من غير خلف: أنّ الذي أفتى به ابن تيميّة في ذلك خطأ مردود عليه، وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقاً.

وكتبوا خطوطهم بين ايدينا على ظاهر الفتوى المجهّزة بنسخة ما كتبه ابن

____________

(1) لينظر هذا المغرورون. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 106
تيميّة.

وقد جهّزنا الى الجناب العالي طيّ هذه المكاتبة، فيقف على حكم ما كتب به القضاة الاربعة.

ويتقدم اعتقال المذكور في قلعة دمشق، ويُمنع من الفتوى مطلقاً، ويُمنع الناس من الاجتماع به والتردّد اليه تضييقاً عليه، لجرأته على هذه الفتوى.

فيحيط به علمك الكريم، ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الائمة الاربعة، وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه.

فإنّه في كلّ وقت يُحدث للناس شيئاً منكراً، وزندقة يشغل خواطر الناس بها، ويُفسد على العوامّ عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم.

فيمنع من ذلك، وتسدّ الذريعة منه.

فليكن عمله على هذا الحكم، ويتقدّم أمره به.

وإذا اعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية، فيتقدم منع من سلك مسالكه، أو يُفتي بهذه الفتاوى، أو يعمل بها في أمر الطلاق، أو هذه القضايا المستحدثة.

وإذا اطّلع على أحد عمل بذلك، أو أفتى به، فيعتبر حاله، فإن كان من مشايخ العلماء، فيعزّر تعزير مثله.

وإن كان من الشبّان الذين يقصدون الظهور ـ كما يقصده ابن تيميّة ـ فيؤدّبهم ويردعهم ردعاً بليغاً، ويعتمد في أمرهم ما يُحسم به موادّ أمثاله ; لتستقيم أحوال الناس، وتمشي على السداد، ولا يعود أحد يتجاسر على الافتاء بما يخالف الاجماع، ويبتدع في دين الله ـ عزّ وجلّ ـ من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه أحد إليه.

فالجناب العالي يعتمد هذه الامور التي عرّفناه إيّاها الان وسدّ الذرائع

الصفحة 107
فيها.

وقد عجّلنا بهذا الكتاب، وبقيّة فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وكتب في سابع عشرين رجب سنة ستٍّ وعشرين وسبعمائة.

[فتوى الائمة الاربعة بكفر ابن تيمية]

صورة الفتوى من المنقول من خطّ القضاة الاربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى:

الحمد لله، هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله: إنّ زيارة الانبياء والصالحين بدعة.

وماذكره من نحوذلك، وأنّه لايرخّص بالسفر لزيارة الانبياء،باطل مردود عليه.

وقد نقل جماعة من العلماء: أنّ زيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فضيلة وسُنّة مجمع عليها. وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يُزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند الائمة والعلماء، ويُمنع من الفتاوى الغريبة، ويحبس(1) إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره ; ليحتفظ الناس من الاقتداء به.

وكتبه محمّد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.

وكذلك يقول محمّد بن الجريري الانصاري الحنفي: لكن يُحبس الان جزماً مطلقاً.

وكذلك يقول محمّد بن أبي بكر المالكي ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد.

____________

(1) ظاهر أنّ اللفظ «ويحبس» لا يجلس. أنتهى. مصحّحه.

الصفحة 108
وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي.

ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها: بأنّ زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وقبور الانبياء معصية بالاجماع مقطوع بها.

وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكّام، وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمّد بن عبدالرحمن القزويني، فلمّا رأوا خطّه عليها تحققوا فتواه، فغاروا لرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)غيرة عظيمة، وللمسلمين الذين ندبوا الى زيارته، وللزائرين من أقطار الارض، واتّفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه، وأهانوه ووضعوه في السجن.

وذكر الشيخ الامام العلاّمة شمس الدين الذهبي بعض محنته، وأنّ بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة، وكان سؤالهم عن عقيدته وعمّا ذكر في الواسطيّة، وطلب وصوّرت عليه دعوى المالكي، فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهراً، ثمّ أُخرج، ثمّ حبس في حبس الحاكم.

وكان مّما أُدّعي عليه بمصر أن قال: الرحمن استوى على العرش حقيقة، وأنّه تكلّم بحرف وصوت.

ثمّ نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيميّة حلّ ماله ودمه(1) .

[حكم ابن حيان على ابن تيمية بالتشبيه]

وذكر أبو حيّان النحوي الاندلسي في تفسيره المسمّى بـ «النهر» في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرسيُّهُ السَّمواتِ والارضَ) ما صورته: وقد قرأت في كتاب لاحمد ابن تيميّة هذا الذي عاصرناه، وهو بخطّه سمّاه «كتاب العرش»: إنّ الله يجلس

____________

(1) ليتأمل العاقل هذا، ثمّ ليتأمّله. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 109
على الكرسيّ، وقد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

تحيّل عليه التاج محمّد بن علي بن عبدالحقّ، وكان من تحيّله عليه أنّه أظهر أنّه داعية له حتّى أخذ منه الكتاب، وقرأنا ذلك فيه.

ورأيت في بعض فتاويه: أنّ الكرسي موضع القدمين.

وفي كتابه المسمّى بـ «التدمرية» ما هذا لفظه بحروفه ـ بعد أن قرّر ما يتعلق بالصفات المتعلّقة بالخالق والمخلوق ـ: ثمّ من المعلوم أنّ الربّ لمّا وصف نفسه: بأنّه حيّ عليم قادر، لم يقل المسلمون: إنّ ظاهر هذا غير مراد ; لانّ المفهوم ذلك في حقّه مثل مفهومه في حقّنا.

فكذلك لمّا وصف نفسه: أنّه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أنّ ظاهره غير مراد ; لانّ مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقّنا.

هذه عبارته بحروفها، وهي صريحة في التشبيه المساوي، كما أنّه جعل الاستواء على العرش مثل قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره) تعالى الله وتقدّس عن ذلك.

وقال في كلام حديث النزول المشهور: أنّ الله ينزل الى سماء الدنيا الى مَرْجة خضراء، وفي رجليه نعلان من ذهب. هذه عبارته الزائغة الركيكة.

وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه ; حريصاً على ظاهرها واعتقادها، وإبطال ما نزّه الله تعالى به نفسه في أشرف كتبه، وأمر به عموماً وخصوصاً، وذكره إخباراً عن الملا الاعلى والكون العُلوي والسُّفلي، ومن تأمّل القرآن وجده مشحوناً بذلك.

وهذا الخبيث لا يعرُج على ما فيه التنزيه، وإنّما يتتبّع المتشابه، ويُمعن الكلام فيه، وذلك من أقوى الادّلة على أنّه من أعظم الزائغين.

ومن له أدنى بصيرة لا يتوقّف فيما قلته ; إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب

الصفحة 110
والسُّنّة، وتفيد القطع، وتفيد ترتّب الاحكام الشرعية، لا سيّما في محلّ الشُّبه.

قال بعض السلف رضي الله عنهم: الاعراض عن الحقّ والتسخّط له علامة الركون الى الباطل، وطريق الحقّ دقيق وبعيد، والصبر معه شديد، والعدوّ لا يزال عنه يحيد، وأثقال الحقّ لا يحملها إلاّ مطايا الحقّ.

وقال بعض السلف: داعي الحقّ داعي رشد، ليس للشيطان فيه يد، ولا للنفس فيه نصيب. وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس، ومتّبعها هالك لا محالة ; لانّه عاص في صورة طائع، ومُبعِد في صورة مُقرِّب.

وصدق ونصح (رضي الله عنه)، فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يُحصون عدّاً، ولا يمكن ضبطهم حدّاً.

قال العلماء: إنّ وسوسة التشبيه من إبليس، فالردّ عليه وابطال وسوسته أن يقول في نفسه: كلّ ما تصوّر في صدري فالربّ بخلافه، فإنّه لا يتصوّر في صدري إلاّ مخلوق له كيفيّة ومِثْل، والربّ ـ سبحانه وتعالى ـ لا مِثْل له ولا كيفية، فما مثل في صدري فهو غير ربي، فهو ـ سبحانه وتعالى ـ موحّد الذات والصفات.

[التوحيد والعدل في كلام الائمة]

وسُئل علي (رضي الله عنه) عن التوحيد والعدل، فقال: (التوحيد أن لا تتوهّمه، والعدل أن لا تتّهمه).

وقال يحيى بن معاذ: التوحيد في كلمة واحدة ما تصوّر في الاوهام فهو بخلافه.

وقال علي (رضي الله عنه): (ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود).

وقال (رضي الله عنه): (أوّل الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به

الصفحة 111
توحيده، وكمالُ توحيده الاخلاص له، وكمالُ الاخلاص له نفي الصفات الُمحدَثة عنه، فمن وصفه بحادث فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه(1) ، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه)(2) .

قال المحقّقون: من اعتقد في الله ـ سبحانه وتعالى ـ ما يليق بطبعه فهو مشبّه ; لانه ـ سبحانه وتعالى ـ منزّه عمّا يصفه به أو يتخيّله ; لانّ ذلك من صفات الحَدَث.

وسُئل ـ أعني عليّاً (رضي الله عنه): بمَ عرفت ربّك؟ فقال: (عرفتُه بما عرّف به نفسه ; لا يُدرك بالحوّاس، ولا يُقاسُ بالناس، قريب في بُعده، بعيد في قُربه، فوق كلّ شيء ولا يقال تحته شيء وأمام كلّ شيء، ولا يقال أمامه شيء، وهو في كلّ شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره)(3) .

وقال أيضاً (رضي الله عنه): (عرّفنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه بلا كيف، وبعث سيّدنا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغ القرآن، وبيان المفصّلات للاسلام والايمان، وإثبات الحجّة وتقويم الناس على منهج الاخلاص، فصدّقته بما جاء به).

وقال الامام الحافظ محمّد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة: من جهل أوصاف العبوديّة فهو بنعت الربوبيّة أجهل.

____________

(1) قوله: «ثنّاه» هي ثنّاه. انتهى. مصحّحه.

(2) نهج البلاغة، الخطبة الاولى ص39 تحقيق الدكتور صبحي الصالح.

(3) لاحظ هذه النص في كتب الشيعة الامامية: المحاسن للبرقي ص239، والكافي للكليني 1/85، والتوحيد للصدوق ص285.

الصفحة 112
قال جعفر ]الصادق[ في قوله تعالى: (قل هو اللهُ أحدٌ) : (هو الذي لم يُعطِ لاحد من معرفته غير الاسم والصفة).

وقيل: هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته إلاّ هو.

وقوله تعالى (الله الصمد) قيل هو الذي أيست العقول من أن تطّلع عليه، أو تُدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه.

وقيل: هو السيّد الذي لا نهاية لسؤدده.

وقيل: هو المصمود إليه في الحوائج.

وقيل: هو الذي لا يستغني عنه شيء من الاشياء.

وقال ابن عبّاس (رضي الله عنه): معناه الذي لا جوف له. وقيل غير ذلك.

وقوله: (لم يلد ولم يُولد) نفي الجنسية والبعضية.

وقوله: (ولم يكنْ له كفواً أحدٌ) نفي الشريك والنظير، فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.

فتعالى أن تُدركه الاوهام والعقول والعلوم، بل هو كما وصف نفسه، والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة، كيف يكون ذلك؟ وهو قديم الذات والصفات، والتخيّل إنّما يكون في المحدثات.

وسئل الامام العلاّمة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب، فقال: كيف يستدلّ بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يُشاهد ولا يُعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل؟!

هذا من جهل الجاهلين بالايات التي قلبوا بها حقائق الامور، فجعلوا الايات صفات، ومعنى الايات العلامات.

وهو كلام إمام محقّق، وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك.

فسبحان الاحدي الذات، العليّ الصفات، المنزّه عن الالات، المقدّس عن

الصفحة 113
الكيفيات، المنزّه عن مشابهة المخلوقات، تعالى عمّا يقوله من الالحاقات.

كيف يُقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات؟! وهي من آياته البيّنات الظاهرات.

رفع السموات، وبسط الارض وثبتها بالاوتاد الراسيات، وأتحفها بالمُزن الماطرات، فزهت بأنواع النباتات المختلفات، كذلك يحيي الموتى. (إعلموا أنّ الله يُحيي الارض بعد موتِها قد بيَّنّا لكم الاياتِ) .

قال أرباب البصائر وذوو التحقيقات: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى، ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلاّ من جهة موافقة اللفظ.

وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة، كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة.

وأنّ التكرار من حدوث الصفة، جلّ ربّنا أن يحدث له صفة أو أسم ; إذ لم يزل بجميع صفاته واحداً، ولا يزال كذلك.

وكلّ أمور التوحيد والتفريد خرجت(1) من هذه الكلمة(ليس كمثله شيء) .

لانّه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلاّ والعلّة مصحوبة والعبارة منقوضة ; لان الحقّ لا ينبعث(2) أقداره إلاّ على إقراره ; لانّ كلّ ناعت مشرف على المنعوت، وجلّ ربّنا أن يشرف عليه مخلوق، احتجب عن خلقه بخلقه، ثمّ عرّفهم صنعه

____________

(1) أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة. انتهى. مصحّحه.

(2) قوله: «لا ينبعث» هو لا ننعت... الى آخره. بدليل قوله بعد ذلك: «لانّ كلّ ناعت...» الى آخره. انتهى. مصحّحه.

الصفحة 114
بصنعه، وساقهم الى أمره بأمره، فلا يمكن الاوهام أن تناله، ولا العقول أن تختاله(1) ، ولا الابصار أن تمثله، ولا الاسماع أن تشتمله(2) ، ولا الاماني أن تمتنحه.

هو الذي لا قبل له، ولا مفرّ(3) عنه ولا معدل، ولا غاية وراءه ولا مثل. ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء، ولا يستره حجاب، ولا يقلّه مكان ولا يحويه هواء، ولا يحتاطه(4) فضاء، ولا يتضمّنه خلاء (ليس كمثلهِ شيء وهو السميعُ البصيرُ) .

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: معنى الاية ليس له نظير.

وقيل: الكاف صلة ; أعني زائدة، فالمعنى: ليس مثله شيء.

وقيل: المثل صلة، فالمعنى ليس كهو شيء، فأدخل المثل للتأكيد.

فمن الجهل البيّن أن يطلب العبد درك ما لا يُدرك، وأن يتصوّر ما لا يُتصوَّر.

كيف ؟

وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحوّاس، أو يُتصور بالعقل الحادث

____________

(1) يريد: أن تتخيّله. انتهى. مصحّحه.

(2) لعلّها تشمله ; أي هو ليس من جنس الاصوات فتسمعه الاسماع. انتهى. مصحّحه.

(3) لعلّها مفرّ. أنتهى. مصحّحه.

(4) لعلّ الاصل«لا يحيط به...» الى آخره. أنتهى مصحّحه. عبارة المصنّف صحيحة لمجيء «احتاط» بمعنى «أحاط».

الصفحة 115
والقياس، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل، ويدركه من جهة الدليل.

فكلّ ما يتوهّمه العقل فهو جسم، وله(1) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه، مع ما يلزمه من الحدود والمساحة، ومن الطول والعرض، وغير ذلك من صفات الحدث، تعالى الله عن ذلك.

فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدَثين، وهو الاوّل قبل سوابق العدم، الابدي بعد لواحق القدم، ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، جلّت الذات القديمة الواجبة الوجود ـ التي لم تُسبق بعدم(2) أن تكون كالصفة الحديثة.

قال تعالى: (أو لا يَذكرُ الانسان أنّا خلقناهُ مِن قبلُ ولم يكُ شيئاً) .

فهو ـ سبحانه وتعالى ـ احتجب عن العقول والافهام كما احتجب عن الادراك والابصار، فعجز الخلق عن الدَّرك، والدَّرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق الى مثله، وأسنده الطلب الى شكله.

قال الصدّيق (رضي الله عنه): «العجز عن درْك الادراك إدراك».

وقال (رضي الله عنه): «سبحان من لم يجعل للخلق سبيلاً الى معرفته إلاّ بالعجز عن معرفته».

فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير، لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته.

كذلك عُلّوه واستواؤه ; إذ الصفة تتبع الموصوف.

فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات،

____________

(1) قوله: ولا نهاية صوابه وله نهاية الى آخره. كما هو ظاهر. انتهى. مصحّحه.

(2) قوله: «بقدم» هو بعدم، كما هو واضح. انتهى مصحّحه.

الصفحة 116
فكذلك حقيقة صفاته.

فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحقّ، مَن يُشبّه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (تعالى الله عمّا يقولونَ علوّاً كبيراً) .

لانّه ـ سبحانه وتعالى ـ وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والاوهام السخيفة.

وقيل في قوله تعالى: (وما قدروا الله حقَّ قدره) أي ما وصفوه حقّ وصفه.

وقيل: ما عظّموه حقّ عظمته.

وقيل: ما عرفوه حقّ معرفته، وقيل غير ذلك.

قال بعض أهل المعاني والقلوب: لا يعرف قدر الحقّ إلاّ الحقّ، وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والاولياء والصدّيقون؟

ثم قال: ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه الى غيره، ولا تغفل عن ذكره، ولا تفتر عن طاعته ; إذ ذاك(1) عرفت قدر ظاهر قدره، وأمّا حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلاّ هو.

وصدق ; لانّ الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقّه من كمال صفاته وعظم ذاته.

____________

(1) أي لو كنت كما ذكر قد الخ أنتهى. مصحّحه.

الصفحة 117

[في التسبيح]

ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله: (سبحان ربِّك ربِّ العزّة عمَّا يصفون) ، وفي هذا غاية الحثّ على كثرة التنزيه ودوامه، مع أمره لاكمل خلقه في قوله تعالى: (سبّح اسم ربّك الاعلى) ، مع غير ذلك مّما في أشرف الكتب مّما أذكر بعضه.

فقوله: (سبّح اسم ربِّك) أي قل: سبحان ربّي الاعلى، والمعنى: نزّه اسم ربّك واذكره وأنت له معظّم.

وقيل:نزّه عن المعاني المفضِية الى نقصه.

وقيل: نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به.

وقيل: لفظ اسم زائد، وفي الكلام حذف، المعنى: نزّه مسمّى ربّك الذي خلق فسوّى، أي مخلوقه ; بأن خلقه مستوياً بلا تفاوت فيه وفي أعضائه، وغير ذلك من مخلوقاته، فإنّ مَنْ هذا من بعض مصنوعاته يستحقّ التنزيه، فكيف بمخلوقات اُخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها؟! وكلّها على اختلاف أجناسها وأنواعها، كلٌّ يسبّحه بلغته،وبما يليق بجلاله.

قال تعالى: (يسبّحُ لهُ السمواتُ السَّبعُ والارضُ ومن فيهنَّ وإن من شيء إلاّ يسبَّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) .

وقال: (والطيرُ صافات كلٌّ قد عَلِمَ صلاتهُ وتسبيحهُ) .

قال مجاهد: تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقّه ; من كمال صفات عظم ذاته.

قيل: يفقه تسبيحهم العلماء الرّبّانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنوّرون البصائر الذين يشاهدون كلّ شيء مرقوماً عليه بقلم القُدرة: هو الملك القُدّوس.

وقال مجاهد: كلّ الاشياء تسبّح حيواناً وجماداً، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده.

الصفحة 118
وروى ابن السني: أنّه (عليه السلام) قال: (ما تستقبل الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلاّ سبّح الله تعالى وحمده، إلاّ ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم. فقيل: ما أغبياء بني آدم؟ فقال: شرار الخلق).

وقال شهيب(1) بن حوشب: حملة العرش ثمانية: أربعة يقولون: سبحانك اللّهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللّهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.

[في التقديس]

وقال: (هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملكُ القدّوس) فالملك اسم من أسمائه تعالى، وكذا مليك، وهو صفة مبالغة في الملك، قال تعالى: (عند مليك مقتدر) فالملك هو المُستغني عن كلّ شيء، ويفتقر إليه كلّ شيء، ونافذ حكمه في مملكته طوعاً أو كرهاً.

وقيل: هو القادر على الابداع والانشاء والاعدام، وهذا على الحقيقة لا يكون إلاّ لله ـ عزّ وجلّ ـ أبدع المكوِّنات العُلويّات والسُّفليّات الجليّات والخفيّات، أبدعها بقدرته ورتّبها على اختلاف أطوارهابحكمته، فكلّ مابرز فهو مقهور الوجود بـ «كُنْ»، وكلّ ما انعدم فهو مقهور العدم بـ «كُنْ».

وبهذا يُعلم أنّ إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازيّ، إذ المملوك لا يكون مالكاً ; لانّ من هو تحت قهر الاغيار فهو كالعدم.

ولهذا لمّا تحقّق أرباب القلوب أنّ الملك لله ـ عزّ وجلّ ـ تحقّقاً قلبيّاً، سكنت

____________

(1) معروف هذا الاسم بـ «شهر». انتهى. مصحّحه.

الصفحة 119
أنفسهم عن وصف الاضافات، وتبرّؤوا من الحول والقوّة حتى بالاشارات، فلا يقول: منّي، ولا لي ; حتّى قيل لبعضهم: ألك ربّ؟ فقال أنا عبد، وليس لي نملة، ومن أنا حتّى أقول: لي.

فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشريّة وهواها، وفكّ رِبقة رِقّ خيالاتها الباطلة ومُناها، ومحض رقّ العبودية لمولاها.

فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذلّلون له. ولهذا تتّمات ليس هذا المقام مقامها ; إذ الغرض التنزيه.

والقُدُّوس من أسمائه ـ عزّ وجلّ ـ سمّى نفسه بذلك ليُرشدك الى تقديسه، كما أشار الى ذلك بقوله تعالى: (يُسبِّحونَ اللَّيل والنَّهار لا يفترونَ) .

وفيه الحثّ على دوام التقديس.

فالقُدُّوس قيل: هو المنزّه عمّا لا يليق به من الاضداد والانداد.

وقيل: هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب.

وهاتان غير مرضيّين عند المحقّقين.

قال حجّة الاسلام الغوّاص الغزالي: «وهذا في حقّ الباري ـ سبحانه وتعالى ـ يقارب ترك الادب، كما أنّه ليس من الادب أن يقال لملك: ليس بحائك ولا بحجّام ; لانّ نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الايهام نقص.

بل القدّوس: المنزّه عن كلّ وصف يُدركه حِسّ، أو يتصوّره وَهْم، أو يسبق إليه فكر، أو يهجس به سِرّ، أو يختلج به ضمير، أو يسنح له خفيّ خيال».

وقد أجاد (رضي الله عنه).

[فائدة جليلة للمنزّه والمشبّه]

وههنا فائدة جليلة للمنزّه والمشبِّه: وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظّاً

الصفحة 120
وافراً من تكرير هذا الاسم والامعان في معناه، فإن كان منزَّهاً عطف ذلك عليه، وقدّس نفسه وقلبه وبدنه:

أمّا نفسه فيطهّرها من الاوهام المذمومة، كالغضب والحقد والحسد والغشّ وسوء الظنّ والكبر وحبّ الشرف والعُلوّ وحبّ الدنيا ولوازمها وغير ذلك، ويبدلها بالاوصاف المحمودة، فيطهّرها أيضاً عن العاهات والشهوات، وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات ; إذ هي أزّمة الشيطان يقود بها الى ارتكاب الموبقات.

وأمّا القلب فيطهّره بالعقد الصحيح المطابق الجازم، وبالمبادرة الى امتثال الاوامر واجتناب النواهي والاهواء، وتحقيق الاخلاص نيّة وقولاً وعملاً، وبالرضا بما جرى، فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآت، وذلك يرجع الى ذوق حلاوة الايمان القلبي لا العملي، وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الاكوان، ولا يرى الاغيار إلاّ على العدم الاصلي، فلا يتحرّك في ظاهره ولا باطنه حتّى في أنفاسه إلاّ بالله عزّ وجلّ.

وأما البدن فيطهّره بماء الجوع، ويكفنّه بدوام التقشّف، ويحنّطه بالعُزلة، ويطيّبه بدوام الذكر والفكر، ويدفنه في لحد الخوف، فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه، وبقي معناه.

فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع، ولاح له خزائن أسرار الايات في معارج ترداد الايات، فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات، فيثمر له ذلك الشوقَ إلى رؤية مطلوبه، فلا شيء أشهى إليه من الموت ; لانّه لا سبيل الى الوصول الى محبوبه إلاّ به، فمن أراد أن يجلسه في حضرة القُدس على منابر التقديس، فليجرِ على هذا التأسيس.

ومرّ إبراهيم بن أدهم ـ قدس الله روحه ـ بسكران مطروح على قارعة الطريق

الصفحة 121
وقد تقيأ، فنظر إليه وقال: بأي لسان أصابته هذه الافة، وطهّر فمه ومضى.

فلمّا أفاق السكران أُخبر بما فعله به إبراهيم، فخجل وتاب، وحسنت توبته.

فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول: غسلت لاجلنا فمه، فلا جرم أنّا طهّرنا لاجلك قلبه.

وأمّا المشبّه والمجسِّم فلانّه بتكرار هذا الاسم يتعقّل معناه، فيضيء له نوره، فينكشف له حجاب الضلال، فإذا حقّق المعنى المراد منه ظهر له نوره، فأحرق حجاب الضلال، فصفا قلبه للحقّ وزاح الباطل.

وقد وقع ذلك لبعض الغُلاة في التشبيه والتجسيم، مرّ يوماً على هذه الاية (هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملك القُدُّوس) ، فكرّر هذا الاسم وتعقّل معناه، فقال: والله أنا لفي ضلال مُبين بيّن.

فبادر في الحال، وأتى بالشهادتين، وقال: والله لا يخلّصني إلاّ استئناف العمل.

فانظر ـ أرشدك الله تعالى ـ الى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حقّ أهل التنزيه والتشبيه، والله أعلم.

[حقيقة التوحيد في الذات والافعال]

ثمّ تمام التقديس لا يحصل إلاّ بالتمكّن بعد كمال التوحيد، وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل:

فتوحيد الذات ينفي الحدوث، وثبوت الاحديّة ينفي الاضداد، وثبوت الذات ينفي التشبيه، ويحيّر العقل في بحر الادراك.

وأما توحيد الافعال فهو شهود القدرة في المقدور، ثمّ الاستغراق في أنوار

الصفحة 122
العظمة، فيغيب بذلك عن الموجودات، وتبقى القدرة بارزة بأسرار التوحيد، ثمّ الاستغراق في أنوار المحو، فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر.

ومن مقدوراته ـ جلّ وعلا ـ ما ذكره في قوله تعالى: (يوم يقومُ الرُّوحُ) .

قال أبو الفرج بن الجوزي: رُوي عن عليّ (رضي الله عنه) في تفسيرها: (أنّ الروح مَلَكٌ عظيم، له سبعون ألف وجه، في كلّ وجه سبعون ألف لسان، لكلّ لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلّها، يخلق الله ـ عزّ وجلّ ـ من كلّ تسبيحة مَلَكاً يطير مع الملائكة الى يوم القيامة).

وقال ابن مسعود (رضي الله عنه): «الروح مَلَكٌ عظيم ; أعظم من السموات والارضين والجبال والملائكة، يسبّح كلّ يوم ألف ألف تسبيحة، يخلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ من كلّ تسبيحة مَلَكاً يجيء يوم القيامة صفّاً والملائكة بأسرهم يجيئون صفاً».

قال ابن عبّاس: وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة، وبيده لواء طوله ألف عام، فيغرزه في ظهر الكعبة، ولو أذن الله ـ عزّ وجلّ ـ له أن يلتقم السموات والارض لفعل.

وقيل: الروح هنا جبريل (عليه السلام).

وقيل: هو مَلَكٌ ما خلق الله بعد العرش خلقاً أعظم منه، وقيل غير ذلك.

رُوي أنّه (عليه السلام) قال: (رأيت على كلّ ورقة من السِّدرة مَلَكاً قائماً يسبّح الله عزّوجلّ).

ومراده «سدرة المنتهى» سُمّيت بذلك لانّها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم، ولا يعلم ما وراءها إلاّ الله عزّ وجلّ، وهي شجرة نَبق على يمين العرش، عندها جنّة المأوى، يأوي إليها الملائكة عليهم السلام، وقيل: أرواح الشهداء،

وقيل: أرواح المتّقين.

الصفحة 123

[ذو الجلال والاكرام]

وقال الله تعالى: (تبارك اسم ربِّك ذي الجلال والاكرام) معنى «تبارك» جلّ وعظم، ومعنى «ذي الجلال» المستحقّ للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال.

جلّ أن يعرف جلاله غيره، تنزّه وعظُم شأنه عمّا يقول فيه المبطلون ; لانّ كلّ شيء يُثني عليه بقدرته، وكلّ ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه.

والحقّ ـ جلّ جلاله ـ ذكره خارج عن أوهام الادميّين ; لانّ الحادث ناقص بقهر الايجاد والفناء، والعارف(1) دون الغايات الجلالية.

فسبحانه ما أثنى عليه حقّ ثنائه غيره، ولا وصفه بما يليق به سواه، عجز الانبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك، قال أجلّهم قدراً، وأرفعهم محلاًّ، وأبلغهم نطقاً، مع ما أُعطي من جوامع الكَلِم: (لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).

وأمّا(2) «الاكرام» فمعناه: ذو الانعام والمِنَن على العامّ والخاصّ والطائع والعاصي.

____________

(1) لم يظهر لي في هذه العبارة معنًى فلتحرّر. أنتهى. مصحّحه.

(2) «ذو الانعام» ليس معنى «الاكرام»، بل معنى «ذو الاكرام»، فهنا لفظ «ذو» ساقط. انتهى مصحّحه. بل ليس هناك سقط في العبارة حيث إنه يفسّر قوله تعالى