ابْتَدَعَهُمْ
خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَان وَمَوَات، وَسَاكِن وَذِي حَرَكَات،
وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ،
وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً
بِهِ، وَمُسْلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ فِي أَسْـمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ
عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ
الاَْطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الاْرْضِ، وَخُرُوقَ
فِجَاجِهَا، وَرَوَاسِي أعْلاَمِهَا، مِنْ ذَوَاتِ أَجْنِحَة
مُخْتَلِفَة، وَهَيْئَات مُتَبَايِنَة، مُصَرَّفَة فِي زِمَامِ
التَّسْخِيرِ، وَمُرَفْرِفَة بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ
المُنفَسِحِ وَالْفَضَاءِ المُنفَرِجِ.
كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجائِبِ صُوَر ظَاهِرَة،
وَرَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَة، وَمَنَعَ بَعْضَهَا
بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً،
وَجَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً، وَنَسَقَهَا عَلَى اخْتِلاَفِهَا فِى
الاْصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ، وَدَقِيقِ صَنْعَتِهِ; فَمِنْهَا
مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْن لاَ يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ
فِيه، وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغ قَدْ طُوِّقَ بِخِلاَفِ
مَا صُبِغَ بِهِ.
وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُوسُ، الَّذِي أَقَامَهُ فِي
أَحْكَمِ تَعْدِيل، وَنَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيد،
بِجَنَاح أَشْرَجَ قَصَبَهُ، وَذَنَب أَطَالَ مَسْحَبَهُ.
إذَا دَرَجَ إلَى الاُْنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ، وَسَمَا بِهِ
مُطِلاًّ عَلَى رَأْسِهِ كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيّ عَنَجَهُ
نُوتِيُّهُ.
يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ، وَيَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ، يُفْضِي كَإفْضَاءِ
الدِّيَكَةِ، وَيَؤُرُّ بِمَلاَقِحِهِ[أَرَّ الْفُحُولِ
الْمُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ]
أُحِيلُكَ مِنْ ذلِكَ عَلَى مُعَايَنَة، لاَ كَمَنْ يُحِيلُ عَلى
ضَعِيف إسْنَادُهُ، وَلَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ
يُلْقِحُ بِدَمْعَة تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ، فَتَقِفُ في ضَفَّتَي
جُفُونِهِ، وأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِكَ، ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ
لِقَاحِ فَحْل سِوَى الدَّمْعِ الْمُنبَجِسِ، لَمَا كَانَ ذلِكَ
بَأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ!.
تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِىَ مِنْ فِضَّة، وَمَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا
مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ، وَشُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ، وَفِلَذَ
الزَّبَرْجَدِ. فَإنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الاَْرْضُ قُلْتَ:
جَنِىٌّ جُنِىَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيع، وَإنْ ضَاهَيْتَهُ
بِالْملابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِىِّ الْحُلَلِ أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ
الَيمَنِ، وَإنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوص ذَاتِ
أَلْوَان، قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ.
يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْـمُخْتَالِ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ
وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ،
وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ; فَإذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ
زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْت يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ،
وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لاِنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ
كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ.
وَقَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ، وَلَهُ
فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ، وَمَخْرَجُ
عَنُقِهِ كالاْبْرِيقِ، وَمَغَرزُهَا إلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ
الْوَسِمَةِ الْـيَـمَانِيَّةِ، أَوْ كَحَرِيرَة مُلْبَسَة مِرْآةً
ذَاتَ صِقَال، وَكَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَر أَسْحَمَ; إلاَّ
أنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ، وَشِدَّةِ بَرِيقِهِ، أَنَّ
الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ، وَمَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ
خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الاُْقْحُوَانِ، أَبْيَضُ
يَقَقٌ، فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ.
وَقَلَّ صِبْغٌ إلاَّ وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْط، وَعَلاَهُ
بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَبَرِيقِهِ، وَبَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَرَوْنَقِهِ،
فَهُوَ كَالاَْزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ، لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ
رَبِيع، وَلاَ شُمُوسُ قَيْظ. وَقَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ،
وَيَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ، فَيَسْقُطُ تَتْرَى، وَيَنْبُتُ تِبَاعاً،
فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الاَْغْصَانِ، ثُمَّ
يَتَلاَحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ،
لاَ يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ، وَلاَ يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ
مَكَانِهِ!
وَإذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ
حُمْرَةً وَرْدِيَّةً، وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً،
وَأَحْيَاناً صُفْرَةً عسْجَدِيَّةً.
فَكَيْفَ تَصِلُ إلَى صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ، أَوْ
تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ، أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ
أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ؟!
وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الاَْوهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ،
وَالاَْلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ
عَنْ وَصْفِ خَلْق جَلاَّهُ لِلْعُيُونِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً
مُكَوَّناً، وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً، وَأَعْجَزَ الاَْلْسُنَ عَنْ
تَلْخِيصِ صِفَتِهِ، وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ!
فَسُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ وَالْهَمَجَةِ إلَى
مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَالاَْفْيِلَةِ! وَوَأَى
عَلَى نَفْسِهِ أَلاَّ يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ
الرُّوحَ، إِلاَّ وَجَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ، وَالْفَنَاءَ
غَايَتَهُ.
فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا
لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا
مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا،
وَلَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَار غُيِّبَتْ
عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا،
وَفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا)وَأَفْنَانِهَا،
وَطُلُوعِ تِلْكَ الِّثمارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا،
تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّف فَتأْتي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا،
وَيُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالاَْعْسَالِ
الْمُصَفَّقَةِ، وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ.
قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتََمادَى بهِمْ حَتَّى حَلُّوا
دَارَ الْقَرَارِ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ الاَْسْفَارِ.
فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إلَى
مَا يَهْجُمُ عَلَيكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ،
لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ
مَجْلِسِي هذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً
بِهَا. جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلى
مَنَازِلِ الاْبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ.(1)
1. (نهج
البلاغة:خطبة 165) |