من آيات الله سبحانه الظاهرة والمعجزات الخارقة للعادة المؤيّدة لإمامته صلوات الله عليه

 وهذا الباب يشتمل على فنّين من الايات الدلالات ، أحدهما ما يختصرّ بالإِخبار عن الغائبات ، والفنّ الاخر: غيرها من المعجزات الخارقة للعادات .

 فأما الفن الأول : وهو إخباره بالغائبات والكائنات قبل كونها ، فيوافق الخبر المخبر عنه ، فإنه أحد معجزات المسيح الدالة على ثبوته كما نطق به التنزيل من قوله : ﴿
  وَاُنَبِّئُكُم بما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم  ﴾ وكان ذلك من آيات نبيّنا أيضاً مثل ، ما جاء في القرآن من قوله تعالى :﴿  لَتَدخُلنَّ المَسجدَ الحَرامَ اِن شاءَ الله امِنِينَ مُحَلّقِينَ رُؤُسكُم وَمُقَصِّرِينَ لأ تَخافُون) ﴾  وَقوله تعالى في يوم بدر قبل الواقعة : ﴿  سَيُهزَمُ الجَمعُ وَيُوَلًّونَ الدُّبُر ﴾ وقوله تعالى في غلبة فارس الروم :﴿  الم غلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدنَى الأرض وَهُم مِن بَعدِ غَلَبهِم سَيَغلِبُونَ  ﴾ فيأمثال لذلك (لا نطوّل به ).

فكان جميع ذلك على ما قال .

وما كان من هذا الفنّ منقولاً عن أمير المؤمنين
فهو أكثر من أن يحصى ولا يمكن إنكاره ، إذ ظهر للخلق اشتهاره ، فلا يخفى على العامّ والخاصّ ما حفظ عنه من الملاحم والحوادث في خطبه وكلامه وحديثه بالكائنات قبل كونها :

فمنه : قوله قبل قتاله الفرق الثلاثة بعد بيعته : «اُمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين» .

فما مضت الأيّام حتّى قاتلهم .ومنه : قوله لطلحة والزبير لمّا استأذناه في الخروج إلى العمرة : «واللهما تريدان العمرة وإنّما تريدان البصرة»
.

فكان كما قال .

ومنه : قوله بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة: «يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً يبايعوني على الموت » .

قال ابن عبّاس : فجعلت اُحصيهم فاستوفيت عددهم تسعمائة رجل وتسعة وتسعين رجلاً ثمّ انقطع مجيء القوم فقلت : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ماذا حمله على ما قال ! فبينا أنا متفكّر في ذلك إذ رأيت شخصاً قد أقبل حتّى دنا، وإذا هو رجل عليه قباء صوف ، معه سيفه وترسه وأدواته ، فقرب من أمير المؤمنين
فقال : امدد يدك أبايعك ، فقال : «وعلى متبايعني ؟» قال : على السمع والطاعة والقتال بين يديك حتّى أموت أو يفتح الله عليك ، فقال : «ما اسمك» قال : اُويس قال : «أنت اُويس القرني ؟» قال :نعم . قال : قال : «الله أكبر، أخبرني حبيبي رسول الله أنّي أدرك رجلاً من اُمّته يقال له : اُويس القرني يكون من حزب الله ورسوله ، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر».

قال ابن عبّاس : فسرى عنّي
.

ومنه : إخباره بالمُخْدَج وقوله : «إنّ فيهم لرجلاً موذون اليد، له ثدي كثدي المرآة وهو شرّ الخلق والخليقة ، قاتلهم أقرب الخلق إلى الله وسيلة» .

ولم يكن المخدج معروفاً في القوم ، فلمّا قتل الخوارج جعل يطلبه في القتلى ويقول : «والله ما كذبت ولا كذبت» ويحض أصحابه على طلبه لمّا أجلت الوقعة، وكان يرفع رأسه إلى السماء تارة ويحطّه أخرى، حتى وجِدَ في القوم فشقً عن قميصه ، فكان على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات إذا جذبت انجذب كتفه معها وإذا تركت رجع كتفه إلى موضعها، فلمّا وجده كبّر ثمّ قال : «إنّ في هذه لعبرة لمن استبصر»
.

ومنه : قوله في الخوارج مخاطباً لأصحابه : «والله لا يفلت منهم عشرة ولايهلك منكم عشرة«.

فكان كما قال .

ومنه : ما رواه جندب بن عبداللهّ الأزدي قال : شهدت مع عليّ
الجمل وصفين لا أشكّ في قتال من قاتله ، حتّى نزلت النهروان فدخلني شكّ فقلت : قرّاؤنا وخيارنا نقتلهم ! إنّ هذا الأمر عظيم ، فخرجت غدوة أمشي ومعي أداوة ماء حتّى برزت من الصفوف ، فركزت رمحي ووضعت ترسي عليه واستترت من الشمس ، فإنّي لجالس إذ ورد عليّ أميرالمؤمنين فقال : «يا أخا الأزد أمعك طهور؟» قلت : نعم .

فناولته الأداوة، فمضى حتّى لم أره ، ثمّ أقبل فتطهّر فجلس في ظلّ الترس ، فإذا فارس يسأل عنه ، فقلت : يا أمير المؤمنين هذا فارس يريدك ،قال : «فأشر إليه» فأشرت إليه فجاء فقال : يا أمير المؤمنين قد عبر القوم وقطع النهر، فقال : « كلاّ ما عبروا » ، فقال : بلى والله لقد فعلوا ، قال : «كلاّ ما فعلوا» .

قال : فإنّه لكذلك إذ جاء رجلٌ آخر فقال : يا أمير المؤمنين قد عبر القوم ، قال : «كلاّ ما عبر القوم» قال : والله ما جئتك حتّى رأيت الرايات في ذلك الجانب والأثقال ، قال : « والله ما فعلوأ ، وإنّه لمصرعهم ومهراق دمائهم ».

ثمّ نهض ونهضت معه ، فقلت في نفسي : الحمد للهّ الذي بصّرني بهذا الرجل وعرّفني أمره ، هذا أحد رجلين : إمّا رجل كذّاب جريء ، أوعلى بيّنة من ربه وعهد من نبيّه ، اللهمّ إنّي أعطيك عهداً تسألني عنه يوم القيامة : إنأنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أوّل من يقاتله وأوّل من يطعن بالرمح فيعينه ، وإن كانوا لم يعبروا أن أقيم على المناجزة والقتال .

فدفعنا إلى الصفوف ، فوجدنا الرايات والأثقال كما هي ، قال: فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال : «يا أخا الأزد، أتبيّن لك الأمر؟» فقلت : أجليا أمير المؤمنين ، قال : « فشأنّك بعدوّك » فقتلت رجلاً، ثمّ قتلت آخراَ ، ثمّ اختلفت أنا ورجل آخر أضربه ويضربني فوقعنا جميعاً ، فاحتملني أصحابي ، فأفقت حين أفقت وقد فرغ القوم
.

فكان كما قال
.

وأمّا إخباره
بما يكون بعد وفاته من الحوادث والملاحم والوقائع ، وما ينزل بشيعته من الفجائع ، وما يحدث من الفتن في دولة بني اُميّة والدولة العبّاسيّة وغيرها فأكثر من أن تحصى :

فمن ذلك : قوله
لأهل الكوفة: «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة، وأمّا البراءة فلا تتبرّؤوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإسلام والهجرة».

فكان كما قال
.

ومن ذلك : أنّه لمّا اخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل فتكلّم فيه الحسن والحسين فخلّى سبيله فقالا له : «يبايعك يا أمير المؤمنين» فقال : «ألم يبايعني بعد قتل عثمان ، لا حاجة لي في بيعته ،

أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمّة منه ومن ولده موتاً أحمر ».

فكان كما قال
.

ومن ذلك : قوله
: «أما إنّه سيليكم من بعدي ولاة لايرضون منكم بهذا، يعذبوكم بالسياط والحديد، إنّه من عذّب الناس في الدنيا عذّبه الله في الاخرة، وآية ذلك أنّه يأتيكم صاحب اليمن حتى يحلبين أظهركم ، فيأخذ العمّال ، وعمّال العمّال رجل يقال له : يوسف بن عمر».

فكان كما قال
.

ومن ذلك : قوله لجويرية بن مسهر: «ليقتلنّك العتلّ الزنيم ، وليقطعنّ يدك ورجلك ، ثمّ ليصلبنّك تحت جذع كافر» .

فلمّا ولي زياد في أيّام معاوية قطع يده ورجله ، وصلبه على جذع ابن معكبر.

ومن ذلك : حديث ميثم التمّار رحمه الله ، فقد روى نقلة الاثار: أنّه كان عند امرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين
منها ، فأعتقه وقال له : « ما اسمك ؟ » فقال : سالم ، قال : « فأخبرني رسول الله أنّ اسمك الذى سمّاك به أبوك في العجم ميثم » قال: صدق الله ورسوله وصدقت يا أمّير المؤمنين ، قال : « فارجع إلى اسمك الذي سمّاك به رسول الله ودع سالماً » فرجع إلى ميثم واكتن بأبي سالم .

فقال له أميرالمؤمنين ذات يوم : «إنّك تؤخذ بعدي فتصلب وتطعن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً فتخضّب لحيتك ، فانتظر ذلك الخضاب ، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث ، أنت عاشر عشرة ، أنت اقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة».

وأراه النخلة التي يصلب على جذعها، وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول : بوركت من نخلة لك خلقت ولي غذّيت ، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت ، وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له : إنّي مجاورك فأحسن جواري . وهو لا يعلم ما يريد .

وحجّ في السنة التي قتل فيها، فدخل على اُمّ سلمة فقالت : من أنت ؟ قال : أنا ميثم . قالت : والله لربّما سمعت رسول الله يوصي بك عليّاً في جوف الليل ، فسألها عن الحسين
فقالت :هو في حائط له ، قال : فأخبريه إني قد أحببت السلام عليه ، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله تعالى . فدعت بطيب وطيّبت لحيته وقالت له :أما إنّها تخضب بدم .

فقدم الكوفة فاخذه عبيداللهّ بن زياد لعنه الله وقال له : ما أخبر كصاحبك أنّي فاعل بك ؟ قال : أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة أنا أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهرة ، قال : لنخالفنّه ،قال :كيف تخالفه و فوالله ما أخبرني إلاّ عن النبيّ عن جبرئيل
عن اللهّ عزّ تعالى ، فكيف تخالف هؤلاء ؟! ولقد عرفت الموضع الذي اُصلب عليه أين هو من الكوفة ، وأنا أوّل خلق الله ألجم في الإسلام .

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيد، فقال ميثم للمختار: إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا .

فلمّا دعا عبيدالله بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد يأمره بتخلية سبيله فخلاّه ، وأمر بميثم أن يصلب فاُخرج فقال له رجل لقيه : ما كان أغناك عن هذا يا ميثم ، فتبسّم وقال وهو يومئ إلى النخلة : لها خلقت ولي غذَيت ، فلمّا رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث قال عمرو: قد كان والله يقول لي : إنّي مجاورك ، فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره ، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم فقيل لابن زياد لعنه اللهّ : قد فضحكم هذا العبد، فقال : ألجموه .

فكان أوّل خلق الله اُلجم في الإسلام .

وكان مقتل ميثم قبل قدوم الحسين بن علي على العراق بعشرة أيّام ، فلمّا كان اليوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة، فكبّر ثمّان بعث في آخر النهار أنفه وفمه دماً .

ومن ذلك : ما رواه مجاهد ، عن الشعبي ، عن زياد بن النضر الحارثي قال : كنت عند زياد إذ اُتي برشيد الهجري فقال له : ما قال لك صاحبك ـ يعني عليّاً
ـ إنّا فاعلون بك ؟ قال : تقطعون يدي ورجلي وتصلبوني ، فقال زياد : أما والله لاُكذّبنّ حديثه ، خلّوا سبيله .

فلمّا أراد أن يخرج قال زياد: والله ما نجد له شيئاً شرّاً ممّا قال له صاحبه ، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه .

فقال رشيد: هيهات ، قد بقي لكم عندي شيء أخبرني أمير المؤمنين
به ، قال زياد : اقطعوا لسانه .

فقال رشيد : الآن والله جاء تصديق خبر أمير المؤمنين
.

ومن ذلك : اخباره مولاه قنبر وصاحبه كميل بن زياد بأن الحجاج بن يوسف يقتلهما


فكان كما قال .

ومن ذلك : ما اشتهرت به الرواية أنّه
خطب فقال فيخطبته : «سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله ما تسألونني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة» فقام إليه رجل فقال :أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟

فقال عليه السلام : «لقد حدّثني خليلي رسول اللهّ بما سألت عنه ، وأنّ على كلّ طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك ، وعلى كلّ طاقة شعرفي لحيتك شيطاناً يستفزّك ، وأنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن بنت رسول الله ، وآية ذلك مصداق ما أخبرتك به ، ولولاأنّ الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرت به ، ولكن اية ذلك ما نبّأته عن سخلك الملعون » .

وكان ابنه في ذلك الوقت صغيراً يحبو، فلمّا كان من أمر الحسين
ما كان ، تولّى قتله ، فكان كما قال .

ومن ذلك : ما روي عن سويد بن غفلة: أنّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين
فأخبره أنّ خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له ، فقال : « إنّه لم يمت ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب ابن جمّاز» .

فقام رجل من تحت المنبر فقال : يا أمير المؤمنين ، والله إنّي لك شيعة، وإنّي لك محبّ ، وأنا حبيب بن جفّاز.

فقال : «إيّاك أن تحملها ، ولتحملنّها فتدخل من هذا الباب » وأومأ بيده إلى باب الفيل .

فلمّا كان من أمر الحسين
ما كان بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى الحسين ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته ، وحبيب بن جمّاز صاحب رايته ، فسار بها حتّى دخل المسجد من باب الفيل .

وهذا الخبر مستفيض في أهل العلم بالآثار من أهل الكوفة .

ومن ذلك : ما رواه إسماعيل بن زياد قال : إنّ عليّاً
قال للبراء بن عازب : « يا براء ، يُقتل ابني الحسين وأنت حيّ لاتنصره ».

فلمّا قُتل الحسين
كان البراء يقول : صدق والله عليّ بن أبي طالب ، قُتل الحسين بن عليّ وأنا لم أنصره . ويظهر الندم على ذلك والحسرة.

وهذا الذي ذكرناه ـ من جملة إخباره بالغائبات وإعلامه بالكائنات قبلكونها ـ غيض من فيض ، ويسير من كثير، ولو لم تكن إلاّ خطبته القاصة ، وخطبة البصرة المستفيضة الشائعة، وما فيها من الملاحم والحوادث في العباد والبلاد، وأسامي ملوك بني اُميّة وبني العباس ، وما حلّ من عظائم بليّاتهم بالناس لكفى بهما اُعجوبة لا يعادلها سواها إلاّ ما ساواها في معناها ، وفيما ذكرناه كفاية ومقنع لذوي الألباب .



وأمّا الفن الآخر من المعجزات والايات الخارقة للعادات التي هي غير الإخبار بالغائبات فمما لا يدخل تحت الضبط والانحصار، ونحن نذكر طرفاً منها على شريطة الاختصار:



فمن ذلك : قصة عين راحوما والراهب بأرض كربلاء والصخرة ، والخبر بذلك مشهور بين الخاصّ والعامّ ، وحديثها :

أنّه عليه السلام لمّا توجّه إلى صفّين لحق أصحابه عطش ، فأخذوا يميناً وشمالاً يطلبون الماء فلم يجدوه ، فعدل بهم أمير المؤمنين عن الجادّة ، وسار قليلاً ، فلاح لهم دير فسار بهم نحوه ، وأمر من نادى ساكنه بالإطّلاع إليهم ، فنادوه فاطّلع ، فقال له أمير المؤمنين
: «هل قرب قائمك ماء ؟»

فقال : هيهات ، بينكم وبين الماء فرسخان ، وما بالقرب منّي شيء من الماء . فلوى
عنق بغلته نحو القبلة وأشار بهم إلى مكان يقرب من الدير فقال : «اكشفوا الأرض في هذا المكان» فكشفوه بالمساحي فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع فقالوا: يا أمير المؤمنين ، ههنا صخرة لا تعمل فيها المساحي ، فقال : ،«إنّ هذه الصخرة على الماء ، فاجتهدوا في قلعها« فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً واستصعبت عليهم ، فلوى رجله عن سرجه حتّى صار إلى الأرض وحسر ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحرّكها ثمّ قلعها بيده ودحا بها أذرعاً كثيرة، فلمّا زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء فتبادروا إليه فشربوا منه ، فكان أعذب ماءٍ وأبرده وأصفاه ، فقال لهم : «تزوّدوا وارتووا» ففعلوا ذلك.

ثمّ جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت ، وأمر أن يعفى أثرها بالتراب ، والراهب ينظر من فوق ديره ، فلمّا علم ما جرى نادى : يا معشر الناس أنزلوني أنزلوني ، فانزلوه فوقف بين يدي أمير المؤمنين
فقال له : أنت نبيّ مرسل ؟ قال : «لا» ، قال : فملك مقرّب ؟ قال : «لا» ، قال : فمن أنت ؟ قال : «أنا وصيّ رسول اللهّ محمّد بن عبدالله خاتم النبيّين» قال : ابسط يدك اُسلم للّه على يدك . فبسط عليه السلام يده وقال له : «اشهد الشهادتين» فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشِهد أنّ محمّداً رسول الله ، وأشهد أنّك وصيّ رسول اللهّ وأحقّ الناس بالأمر من بعده ، وقال : يا أمير المؤمنين إنّ هذا الدير بُني على طلب قالع هذه الصخرة ومُخرج الماء من تحتها، وقد مضى عالم كثير قبلي ولم يدركوا ذلك ، وقد رزقنيه الله عزّ وجل ،إنّا نجد في كتاب من كتبنا مآثرعن علمائنا إنّ في هذا الصقع عيناً عليها صخرة لا يعرف مكانها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، وإنّه لا بدّ من وليّ للّه يدعو إلى الحقّ ، آيته معرفة مكان هذه الصخرة وقدرته على قلعها ، وإنّي لمّا رأيتك قد بلغت ذلك تحقّقت ما كنّا ننتظره ، وبلغت الاُمنية منه ، فانا اليوم مسلم على يدك ومؤمن بحقّك ومولاك .

فلمّا سمع بذلك أميرالمؤمنين بكى حتّى اخضلّت لحيته من الدموع وقال : « الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكوراً ، الحمد لله الذي لم أك عنده منسيّاً ثمّ دعا الناس وقال : «اسمعوا ما يقوله أخوكم المسلم»
 فسمع الناس مقال له وشكروا الله على ذلك ، وساروا والراهب بين يديه حتى لقي أهل الشام ، فكان الراهب في جملة من استشهد معه ، فتولّى الصلاة عليه ودفنه وأكثر من الاستغفار له ، وكان إذا ذكره يقول :«ذاك مولاي ».

وفي هذا الخبر ضروب من الأيات : أحدها : علم الغيب
.

والآخر: القوّة الخارقة للعادة .

والثالث : ثبوت البشارة به في كتب الله الاُولى كما جاء في التنزيل :(ذلِكَ مَثَلُهُم فِي التّوَراة وَمَثَلُهُم فِي الإنجِيلِ »
.

وفي ذلك يقول السيّد إسماعيل بن محمد الحميري :

 

 ولَقَد سرى فِي يُسَيِّر ُلَيلة بَعد العِشاءِ بِكَربَلا فِي مَوكِبِ
 حَتّى أتى مُتَبَتِّلاً في قائِم ألقى قَواعِدَهُ بقاعٍ مجدبِ
 يأتِيهِ لَيسَ بِحَيثُ يَلفيَ عامراً غَيرَ الوُحُوش وَغَيرَ أصلَعَ أشيَبِ
َفدَنا فَصاحَ بِهِ فَاشرفَ ماثلاً كَالنَّسرِ فوقَ شظيّةٍ مِن مَرقَبِ
هَل قُربَ قائِمِكَ الذِي بُوِّئتَهُ ماء يُصابُ فَقالَ ما مِن مَشرَبِ
إلاّ بِغايَةِ فَرسَخَينِ وَمَن لَنا بالماء ِبَينَ نَقاً وَقيٍّ سَبسبِ
 فَثَنى الأعنَّةَ نَحوَ وَعثٍ فَاجتَلى مَلساءَ تَرقُ كَاللُّجينِ المُذهبِ
قالَ اقلبونا إنَّكُم إن تقلِبوا تَرووُا وَلا تَروونَ إن لَم تُقلبِ
فَاعصَوصَبوافِي قَلبِها فَتمنّعت مِنهُم تَمنُّع صَعبَةٍ لَم تُركَبِ
حَتّى إذا أعيَتهُمُ أهوى لَها كَفّاً مَتى تَردِ المُغالبَ تَغلِبِ
فكأنّها كرَةٌ بِكَفٍّ حَزوَّر عَبلٍ الذراعِ دَحا بها في مَلعَبِ
قالَ اشربُوا مِن تَحتها مُتسَلسِلاً عَذباَ يَزيدُ عَلَى الألذًّ الأعذبِ
حَتّى إذا شَرِبُوا جَميعاً رَدَّها وَمَضى فَخِلتَ مَكانَها لَم يُقرَب
أعنيِ ابنَ فاطِمَةَ الوَصيّ وَمن يَقُل فِي فَضلِهِ وَفَعالِهِ لا يَكذِبِ


ومن ذلك : ما استفاضت به الأخبار ونظمت فيه الأشعار من رجوع الشمس له مرّتين : في حياة النبيّ مرّة ، وبعد وفاته اُخرى، فالأولى قد روتها أسماء بنت عميس ، وأمّ سلمة زوج النبي ، وجابر بن عبدالله ، وأبو سعيد الخدريّ في جماعةمن الصحابة: أنّ النبيّ كان ذات يوم في منزله وعليٌّ بين يديه إذ جاءه جبرئيل يناجيه عن الله عزّ وجلّ ، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين عليه السلام فلم يرفع رأسه عنه حتّى غابت الشمس وصلّى صلاة العصر جالساً بالإيماء ، فلمّا أفاق النبيّ قال له : «ادع الله ليردّ عليك الشمس ، فإنّ الله يجيبك لطاعتك الله ورسوله» فسأل الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين في ردّ الشمس ، فردّت عليه حتّى صارت في موضعها من السماء وقت العصر ، فصلّى أمير المؤمنين الصلاة في وقتها ثمّ غربت ، وقالت أسماء بنت عميس : أما والله لقد سمعنا لها عند غروبها صريراً كصرير المنشار في الخشب
.

وأما الثانية : أنّه لمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابّهم ورحالهم ، وصلّى بنفسه في طائفة معه العصر، فلم يفرغ الناس من عبورهم حتّى غربت الشمس وفات كثيراً منهم الصلاة، وفات جمهورهم فضل الجماعة معه ، فتكلّموا في ذلك ، فلمّا سمع كلامهم فيه سأل الله عزّوجلّ ردّ الشمس عليه فاجابه بردّها عليه ، فكانت في الأفق على الحالة التي تكون وقت العصر، فلمّا سلّم بالقوم غابت فسمع لها وجيب شديد .

وفي ذلك يقول السيد الحميري :

ردت عَلَيهِ الشَّمسُ لمّا فاتَهُ وَقتُ الصَّلاةِ وَقَد دَنَت للمغربِ
حَتّى تبلَّجَ نورها في وَقتِها لَلعَصرِ ثُمَّ هوت هَوِيَّ الكَوكَبِ
وَعَليهِ قَد حُبِسَت بِبابلَ مَرّةً اُخرى وما حُبِست لِخلقٍ مُعرب
إلاّ لَيُوشَعَ أَو لَهُ مِن بَعدهِ وَلِرَدِّها تَأوِيلُ أمرٍ مُعجب


ومن ذلك : ما رواه نقلة الأخبار من حديث الثعبان ، والأية فيه أنَّه كَان يخطب ذات يوم على منبر الكوفة إذ ظهر ثعبان من جانب المنبر ، فجعل يرقى حتى دنا من منبره ، فارتاع لذلك الناس وهمّوا بقصده ودفعه عنه ، فاومأ إليهم بالكفّ عنه ، فلمّا صار إلى المرقاة التي كان أمير المؤمنين قائماً عليها انحنى إلى الثعبان وتطاول الثعبان إليه حتّى التَقَمَ اُذنه ، وسكت الناس وتحيّروا لذلك ، فنقّ نقيقاً سمعه كثيرٌ منهم ، ثمّ إنّه زال عن مكانه وأمير المؤمنين يحرّك شفتيه والثعبان كالمصغي إليه ، ثمّ انساب فكأنّ الأرض ابتلعته ، وعاد أمير المؤمنين إلى خطبته فتممها، فلمّا فرغ منها ونزل اجتمع الناس إليه يسألونه عن حال الثعبان ، فقال لهم :

«إنّما هو حاكم من حكّام الجنّ التبست عليه قضيّة فصار إليّ يستفتيني عنها، فافهمته إيّاها ودعا إليَّ بخير وانصرف»
.

ومن ذلك : حديث الحيتان وكلامهم له في فرات الكوفة، وذلك أنّ الماء طغى في الفرات حتّى أشفق أهل الكوفة من الغرق ، ففزعوا إلى أمير المؤمنين
، فركب بغلة رسول الله وخرج الناس معه حتّى أتى شاطىء الفرات فنزل
وأسبغ الوضوء وصلّى ، والناس يرونه ، ودعا الله عزّ وجلّ بدعوات سمعها أكثرهم ، ثمّ تقدّم إلى الفرات متوكّئاً على قضيب بيده حتّى ضرب به صفحة الماء وقال :«انقص بإذن الله ومشيئته» فغاض الماء حتّى بدت الحيتان من قعره ، فنطق كثير منها بالسلام عليه بإمرة المؤمنين ولم ينطق منها اصناف من السمك وهي الجرّيّ والمارماهي ، فتعجّب الناس لذلك ، وسألوه عن علّة نطق ما نطق وصمت ما صمت ، فقال : «أنطق الله لي ما طهر من السمك ، وأصمت عنّي ما نجس وحرم».

وهذا الخبر مستفيض أيضاً كاستفاضة كلام الذئب للنبيّ وتسبيح الحصى في كفّه وأمثال ذلك .

ومن ذلك : ما جاء في الآثار عن ابن عبّاس قال : لمّا خرج النبيّ إلى بني المصطلق ونزل بقرب واد وعر، فلمّا كان آخر الليل هبط عليه جبرئيل عليه السلام يخبره عن طائفة من كفّار الجنّ قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشرّ باصحابه ، فدعا أمير المؤمنين وقال : «اذهب إلى هذا الوادي فسيعرض لك من أعداء الله الجنّ من يريدك ، فادفعه بالقوّة التي أعطاك الله عزّ وجلّ إيّاها ، وتحصّن منه بأسماء الله التي خصّك بها وبعلمها» وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم :«كونوا معه وامتثلوا أمره» .

فتوجّه أمير المؤمنين إلى الوادي ، فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ولا يحدثوا شيئاً حتّى يأذن لهم ، ثمّ تقدّم فوقف على شفير الوادي وتعوّذ باللهّ من أعدائه ، وسمّاه باحسن أسمائه ، وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه ، فقربوا ، وكان بينه وبينهم فرجة مسافتها غلوة، ثمّ رام الهبوط إلى الوادي فاعترضت ريح عاصف كاد القوم يقعون على وجوههم لشدّتها، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هو لما لحقهم ، فصاح أمير المؤمنين : «أنا عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب وصيّ رسول الله وابن عمّه، اثبتوا إنشئتم» فظهر للقوم أشخاص مثل الزط
تخيّل في أيديهم شعل النار، قد اطمانّوا وأطافوا بجنبات الوادي .

فتوغّل أمير المؤمنين
بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً، فما لبثت الأشخاص حتّى صارت كالدخان الأسود ، وكبّر أمير المؤمنين ثمّ صعد من حيث هبط ، فقام مع القوم الذين اتّبعوه حتّى أسفر الموضع عمّا اعتراه ، فقال له أصحاب رسول الله : ما لقيت يا أبا الحسن ، فقد كدنا نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك ؟ فقال : «لمّا تراءى لي العدو جهرت فيهم باسماء الله فتضاءلوا وعلمت ما حلّ بهم من الجزع ، فتوغّلت الوادي غير خائف منهم ، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم ، وكفى الله كيدهم وكفى المسلمين شرّهم ، وستسبقني بقيّتهم إلى النبيّ فيؤمنوا به».

وانصرف أمير المؤمنين بمن معه إلى رسول الله
فاخبره الخبر فسرى عنه ودعا له بخير وقال له : «قد سبقكيا علي إليّ من أخافه الله بك فاسلم وقبلت إسلامه».

ومن ذلك : ما أبانه الله تعالى به من القوّة الخارقة للعادة في قلعِ باب خيبر ودحوه به ، وكان من الثقل بحيث لا يحمله أقلّ من أربعين رجلاّ، ثمّ حمله إيّاه على ظهره فكان جسراً للناس يعبرون عليه إلى ذلك الجانب ، فكان ذلك علماً معجزاً.

ومن ذلك : إنقضاض الغراب على خفه وقد نزعه ليتوضّأ وضوء الصلاة ، فانساب فيه أسود، فحمله الغراب حتّى صار به في الجوّ ثمّ ألقاه فوقع منه الأسود ووقاه الله عزّ وجلّ من ذلك
.

وفي ذلك يقول الرضي الموسوي رضي الله عنه :

أما في باب خيبر معجزات تصدّق أو مناجاة الحباب
أرادت كيده والله يأبى فجاء النصر من قبل الغراب


ومن ذلك : ما رواه عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر الباقر من قوله عليه السلام لجويرية بن مسهر وقد عزم علىالخروج : «أما إنّه سيعرض لك في طريقك الأسد» قال : فما الحيلة له ؟ قال :«تقرظ منّي السلام وتخبره أنّي أعطيتك منه الأمان» .

فخرج جويرية، فبينا هو كذلك يسير على دابّته إذ أقبل نحوه أسد لا يريد غيره ، فقال له جويرية : يا أبا الحارث ، إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يقرؤك السلام ، وانّه قد آمنني منك ، قال : فولّى الليث عنه مطرقاً برأسه يهمهم حتّى غاب في الأجمة، فهمهم خمساً ثمّ غاب ، ومضى جويرية في حاجته .

فلمّا انصرف إلى أمير المؤمنين وسلّم عليه وقال : كان من الأمر كذا وكذا فقال : «ما قلت للّيث وما قال لك ؟» .

فقال جويرية: قلت له ما أمرتني به وبذلك انصرف عنّي ، وأمّا ما قال الليث فالله ورسوله ووصيّ رسوله أعلم .

قال : «إنّه ولّى عنك يهمهم ، فاحصيت له خمس همهمات ثمّ انصرف عنك».

قال جويرية : صدقت يا أمير المؤمنين هكذا هو.

فقال : «فإنّه قال لك : فاقرأ وصيّ محمّد منّي السلام» وعقد بيده خمساً
.

كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى ، للشيخ الطبرسي ، تحقيق مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث   

العودة

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>