قصة أعرابي ووليد بن يزيد ، وما قال في مدح علي وفيه بيان

- العدد : روى أبو الحسن اليشكري ، عن عمرو بن العلا ، عن يونس النحوي اللغوي ، قال : حضرت مجلس الخليل بن أحمد العروضي قال : حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وقد اسحنفر في سب علي واثعنجر في ثلبه إذ خرج عليه أعرابي على ناقة له وذفراها يسيلان لاغذاذ السير دما ، فلما رآه الوليد - لعنه الله - في منظرته قال : ائذنوا لهذا الأعرابي فإني أراه قد قصدنا ، و جاء الأعرابي فعقل ناقته بطرف زمامها ، ثم أذن له فدخل ، فأورده قصيدة لم يسمع السامعون مثلها جودة قط ، إلى أن انتهي إلى قوله :

ولما أن رأيت الدهر آلى * علي ولح في إضعاف حالي

وفدت إليك أبغي حسن عقبى * أسد بها خصاصات العيال

وقائلة إلى من قد رآه * يؤم ومن يرجي للمعالي

فقلت إلى الوليد أزم قصدا * وقاه الله من غير الليالي

هو الليث الهصور شديد * بأس هو السيف المجرد للقتال

خليفة ربنا الداعي علينا * وذو المجد التليد أخو الكمال

قال : فقبل مدحته وأجزل عطيته ، وقال له : يا أخا العرب قد قبلنا مدحتك و أجزلنا صلتك ، فاهج لنا عليا أبا تراب ، فوثب الأعرابي يتهافت قطعا ويزأر حنقا ويشمذر شفقا ، وقال : والله إن الذي عنيته بالهجاء ، لهو أحق منك بالمديح ، وأنت أولى منه بالهجاء ، فقال له جلساؤه : اسكت نزحك الله قال : علام ترجوني ؟ وبم تبشروني ؟ ولما أبديت سقطا ، ولا قلت شططا ، ولا ذهبت غلطا ، على أنني فضلت عليه من هو أولى بالفضل منه ، علي بن أبي طالب ، الذي تجلبب بالوقار ، ونبذ الشنار وعاف العار ، وعمد الانصاف ، وأبد الأوصاف وحصن الأطراف ، وتألف الاشراف ، وأزال الشكوك في الله بشرح ما استودعه الرسول من مكنون العلم الذي نزل به الناموس وحيا من ربه ولم يفتر طرفا ، ولم يصمت ألفا ، ولم ينطق خلفا ، الذي شرفه فوق شرفه ، وسلفه في الجاهلية أكرم من سلفه ، لا تعرف الماديات في الجاهلية إلا بهم ، ولا الفضل إلا فيهم ، صفة من اصطفاه الله واختارها .

فلا يغتر الجاهل بأنه قعد عن الخلافة بمثابرة من ثابر عليها ، وجالد بها والسلال المارقة ، والأعوان الظالمة ، ولئن قلتم ذلك كذلك إنما استحقها بالسبق تالله ما لكم الحجة في ذلك ، هلا سبق صاحبكم إلى المواضع الصعبة ، والمنازل الشعبة ، والمعارك المرة ، كما سبق إليها علي بن أبي طالب ، الذي لم يكن بالقبعة ولا الهبعة ، ولا مضطغنا آل الله ، ولا منافقا رسول الله .

كان يدرأ عن الاسلام كل أصبوحة ويذب عنه كل أمسية ، ويلج بنفسه في الليل الديجور المظلم الحلكوك ، مرصدا للعدو .

هو ذل تارة وتضكضك أخرى ، و يا رب لزبة آتية قسية وأوان آن أرونان قذف بنفسه في لهوات وشيجة ، وعليه زغفة ابن عمه الفضفاضة ، وبيده خطية عليها سنان لهذم ، فبرز عمرو بن ود القرم الأود ، والخصم الألد ، والفارس الأشد ، على فرس عنجوج ، كأنما نجر نجره باليلنجوج ، فضرب قونسه ضربة قنع منها عنقه ، أو نسيتم عمرو بن معدي كرب الزبيدي إذ أقبل يسحب ذلاذل درعه ، مدلا بنفسه ، قد زحزح الناس عن أماكنهم ونهضهم عن مواضعهم ، ينادي أين المبارزون يمينا وشمالا ؟ فانقض عليه كسوذنيق أو كصيخودة منجنيق ، فوقصه وقص القطام بحجره الحمام ، وأتى به إلى رسول الله كالبعير الشارد ، يقاد كرها وعينه تدمع ، وأنفه ترمع ، وقلبه يجزع ، هذا وكم له من يوم عصيب برز فيه إلى المشركين بنية صادقة ، وبرز غيره وهو أكشف أميل أجم أعزل ، ألا وإني مخبركم بخبر على أنه مني بأوباش كالمراطة بين لغموط وحجابه وفقامه ومغذمر ومهزمر ، حملت به شوهاء شهواء في أقصى مهيلها ، فأتت به محضا بحتا ، وكلهم أهون على علي من سعدانة بغل ، أفمثل هذا يستحق الهجاء ، وعزمه الحاذق ، وقوله الصادق ، وسيفه الفالق ، وإنما يستحق الهجاء من سامه إليه ، وأخذ الخلافة ، وأزالها عن الوارثة ، وصاحبها ينظر إلى فيئه ، وكأن الشبادع تلسبه ، حتى إذا لعب بها فريق بعد فريق ، وخريق بعد خريق ، اقتصروا على ضراعة الوهز ، وكثرة الأبز ، ولو ردوه إلى سمت الطريق والمرت البسيط ، والتامور العزيز ، ألفوه قائما ، واضعا الأشياء في مواضعها ، لكنهم انتهزوا الفرصة ، واقتحموا الغصة ، وباؤا بالحسرة . قال : فأربد وجه الوليد وتغير لونه ، وغص بريقه ، وشرق بعبرته ، كأنما فقئ في عينه حب المض الحاذق ، فأشار عليه بعض جلسائه بالانصراف وهو لا يشك أنه مقتول به ، فخرج فوجد بعض الاعراب الداخلين ، فقال له : هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وآخذ خلعتك السوداء وأجعل لك بعض الجائزة حظا ؟ ففعل الرجل وخرج الأعرابي فاستوى على راحلته ، وغاص في صحرائه ، وتوغل في بيدائه ، و اعتقل الرجل الآخر فضرب عنقه ، وجيئ به إلى الوليد ، فقال : ليس هو هذا بل صاحبنا ، وأنفذ الخيل السراع في طلبه فلحقوه بعد لأي ، فلما أحس بهم أدخل يده إلى كنانته يخرج سهما سهما يقتل به فارسا ، إلى أن قتل من القوم أربعين و انهزم الباقون ، فجاؤوا إلى الوليد فأخبروه بذلك ، فأغمي عليه يوما وليلة أجمع قالوا : ما تجد ؟ قال : أجد على قلبي غمة كالجبل من فوت هذا الأعرابي فلله دره .

بيان : اسحنفر الرجل : مضى مسرعا ، ويقال : ثعجرت الدم وغيره فاثعنجر أي صببته فانصب ، وذفري البعير أصل أذنيها ، وأغذ السير أسرع ، ويقال إلى يؤلي تألية إذا قصر وأبطأ ، والهصور الأسد الشديد الذي يفترس ويكسر ، والزأر : صوت الأسد من صدره ، وقال في القاموس الشميذر : كسفرجل البعير السريع والغلام النشيط الخفيف ، كالشمذارة ، والسير الناجي كالشمذار والشمذر ، قوله نزحك الله : أي أنفذ الله ما عندك من خيره ، قوله وأبد الأوصاف : أي جعل الأوصاف الحسنة جارية بين الناس ، أو بتخفيف الباء المكسورة من قولهم أبد كفرح إذا غضب وتوحش فالمراد الأوصاف الردية ، ويقال قبع القنفذ يقبع قبوعا أدخل رأسه في جلده ، وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه ، وامرأة قبعة طلعة تقبع مرة وتطلع أخرى ، والقبعة أيضا طوير أبقع مثل العصفور يكون عند حجرة الجرذان ، فإذا فزع ورمي بحجر انقبع فيها ، وهبع هبوعا مشى ومد عنقه وكأن الأول كناية عن الجبن ، والثاني عن الزهو والتبختر ، والحلكوك بالضم والفتح الأسود الشديد السواد . وهو ذل في مشيه : أسرع ، والضكضكة ، مشية في سرعة ، وتضكضك انبسط وابتهج ، والأخير أنسب ، واللزبة الشدة . قوله آتية أي تأتي على الناس وتهلكهم ، وفي بعض النسخ آبية أي يأبى عنها الناس ، قوله : قسية : أي شديدة ، من قولهم عام قسي أي شديد من حر أو برد .

قوله : آن أي حار كناية عن الشدة ، ويوم أرونان : صعب ، قوله وشيجة أي ما اشتبك من الحروب والأسلحة ، والزغفة الدرع اللينة ، والفضفاضة الواسعة والرماح الخطية منسوبة إلى خط موضع باليمامة ، واللهذم من الأسنة القاطع والقرم : البعير يتخذ للفحل ، والسيد ، والأود الاعوجاج ، والمراد به المعوج أو هو الا رد بالراء والدال المشددة لرده الخصام عنه ، والعنجوج : الفرس الجيد ، واليلنجوج العود الذي يتبخر به ، والقونس أعلى البيضة من الحديد ، وقنعت المرأة ألبستها القناع وقنعت رأسه بالسوط ضربا ، وذلاذل الدرع : ما يلي الأرض من أسافله ، والسود كأنه جمع الأسود بمعنى الحية العظيمة ، إن وكان نادرا والنيق بالكسر أعلا موضع من الجبل ، والصيخورة كأنها بمعنى الصخرة وإن لم نرها في كتب اللغة ، ووقص عنقه كسرها ، والقطام كسحاب الصقر ، ورمع أنفه من الغضب تحرك ، والأكشف من ينهزم في الحرب ، والأميل الجبان والأجم الرجل بلا رمح ، والأعزل الرجل المنفرد المنقطع ، ومن لا سلاح معه والأوباش الاخلاط والسفلة ، والمراطة ما سقط في التسريح أو النتف ، واللغموط لم أجده في اللغة وفي القاموس اللعمط كزبرج المرأة البذية ، ولا يبعد كون الميم زائدة واللغط الأصوات المختلفة والجلبة ، وفقم فلان : بطر وأشر ، والامر لم يجر على استواء ، وغذمره باعه جزافا ، والغذمرة الغضب ، والصخب ، واختلاط الكلام والصياح ، والمغذمر : من يركب الأمور فيأخذ من هذا ويعطي هذا ، ويدع لهذا من حقه ، والهزمرة الحركة الشديدة .

وهزمره عنف به ، والشبادع : جمع الشبدع بالدال المهملة كزبرج وهو : العقرب ، ويقال لسبته الحية وغيرها كمنعه وضربه لدغته ، والمراد بالخريق من يخرق الدين ويضيعه وكان يحتمل النون فيهما فالفرنق كقنفذ الردي ، والخرنق كزبرج الردي من الأرانب ، والوهز الوطئ والدفع ، والحث ، والأبز : الوثب والبغي ، والمرت : المفازة ، والتامور : الوعاء والنفس وحياتها ، والقلب وحياته ، ووزير الملك ، والماء ولكل وجه مناسبة .

قوله : كأنما فقئ : أي كأنما كسر حاذق لا يخطئ حبا يمض العين ويوجعها في عينه ، فدخل ماؤه فيها كحب الرمان أو الحصرم ، عبر بذلك عن شدة احمرار عينه ، واللأي : الابطاء والاحتباس والشدة .

إنما أوردت هذه القصة مع كون النسخة سقيمة قد بقي منها كثير لم يصحح ، لغرابتها ولطافتها .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>