من مكاتيبه ورسائله

أما رسائله التي نقلتها لنا المصادر فهي كثيرة منها : رسالتان إلى سعد الخير رواهما الكليني ( رحمه الله ) ( ت / 329 ه‍ ) في روضة الكافي ، قال : كتب أبو جعفر إلى سعد الخير :

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد : فإني أوصيك بتقوى الله ، فإن فيها السلامة من التلف ، والغنيمة في المنقلب ، إن الله تعالى يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ، ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله ، وبالتقوى نجا نوح ومن معه في السفينة .

وصالح ومن معه من الصاعقة ، وبالتقوى فاز الصابرون ، ونجت تلك العصب من المهالك ، ولهم إخوان على تلك الطريقة يلتمسون تلك الفضيلة ، نبذوا طغيانهم من التذاذ بالشهوات ، لما بلغهم في الكتاب من المثلات حمدوا ربهم على ما رزقهم وهو أهل الحمد ، وذموا أنفسهم على ما فرطوا وهم أهل الذم ، وعلموا أن الله تعالى الحليم العليم ، إنما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنما يضل من لم يقبل منه هداه ثم أمكن أهل السيئات من التوبة بتبديل الحسنات ، دعا عباده في الكتاب إلى ذلك بصوت رفيع لم ينقطع ، ولم يمنع دعاء عباده ، فلعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله ، وكتب على نفسه الرحمة ، فسبقت قبل الغضب ، فتمت صدقا وعدلا فليس يبتدئ العباد بالغضب قبل أن يغضبوه ، وذلك من علم اليقين .

وعلم التقوى وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه ، ولاهم عدوهم حين تولوه ، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ، وكان من نبذهم الكتاب أن ولوه الذين لا يعلمون ، فأوردوهم الهوى وأصدروهم إلى الردى ، وغيروا عرى الدين ، ثم ورثوه في السفه والصبا .

فالأمة يصدرون عن أمر الناس بعد أمر الله تعالى ، وعليه يردون ، بئس للظالمين بدلا ولاية الناس بعد ولاية الله ، وثواب الناس بعد ثواب الله ، ورضا الناس بعد رضا الله ! فأصبحت الأمة كذلك وفيهم المجتهدون في العبادة على تلك الضلالة ، معجبون مفتونون ، فعبادتهم فتنة لهم ولمن اقتدى بهم ، وقد كان في الرسل ذكرى للعابدين ، إن نبيا من الأنبياء كان مستكمل الطاعة ، ثم عصى الله تعالى في الباب الواحد ، فيخرج به من الجنة . وينبذ به في بطن الحوت ، ثم لا ينجيه إلا الاعتراف والتوبة .

فاعرف أشباه الأحبار والرهبان الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه ، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، ثم اعرف أشباههم من هذه الأمة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرفوا حدوده ، فهم مع السادة والكثرة فإذا تفرقت قادة الأهواء كانوا مع أكثرهم دنيا .

ذلك مبلغهم من العلم ، لا يزالون كذلك في طمع وطبع ، فلا تزال تسمع صوت إبليس على ألسنتهم بباطل كثير ، يصبر منهم العلماء على الأذى والتعنيف ، ويعيبون على العلماء بالتكليف ، والعلماء في أنفسهم خانة إن كتموا النصيحة ، إن رأوا تائها ضالا لا يهدونه ، أو ميتا لا يحيونه ، فبئس ما يصنعون ، لأن الله تبارك وتعالى أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أمروا به ، وأن ينهوا عما نهوا عنه ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى ، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان ، فالعلماء من الجهال في جهد وجهاد ، إن وعظت ، قالوا : طغت ، وإن علموا الحق الذي تركوا ، قالوا : خالفت ، وإن اعتزلوهم قالوا : فارقت ، وإن قالوا : هاتوا برهانكم على ما تحدثون قالوا : نافقت .

وإن أطاعوهم قالوا : عصيت الله عز وجل ، فهلكت جهال في ما لا يعلمون ، أميون في ما يتلون ، يصدقون بالكتاب عند التعريف ، ويكذبون به عند التحريف ، فلا ينكرون .

أولئك أشباه الأحبار والرهبان ، قادة في الهوى ، سادة في الردى ، وآخرون منهم جلوس بين الضلالة والهدى ، لا يعرفون إحدى الطائفتين من الأخرى ، يقولون ما كان الناس يعرفون هذا ولا يدرون ما هو وصدقوا ، تركهم رسول الله على البيضاء ليلها من نهارها ، لم يظهر فيهم بدعة ، ولم تبدل فيهم سنة ، لا خلاف عندهم ولا اختلاف ، فلما غشي الناس ظلمة خطاياهم صاروا إمامين : داع إلى الله تعالى ، وداع إلى النار . فعند ذلك نطق الشيطان ، فعلا صوته على لسان أوليائه ، وكثر خيله ورجله ، وشارك في الأموال والولد من أشركه ، فعمل بالبدعة ، وترك الكتاب والسنة ، ونطق أولياء الله بالحجة ، وأخذوا بالكتاب والحكمة ، فتفرق من ذلك اليوم أهل الحق وأهل الباطل ، وتخاذل وتهاون أهل الهدى ، وتعاون أهل الضلالة ، حتى كانت هي الجماعة مع فلان وأشباهه . فاعرف هذا الصنف ، وصنفا آخر فأبصرهم رأي العين نجباء ، وألزمهم حتى ترد أهلك ، فإن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين . وفي رواية محمد بن يحيى ، زيادة : " لهم علم بالطريق ، فإن كان دونهم بلاء فلا ينظر إليهم ، فإن كان دونهم عسف من أهل العسف وخسف ، ودونهم بلايا تنقضي . ثم تصير إلى رخاء .

ثم اعلم أن إخوان الثقة ذخائر بعضهم لبعض ، ولولا أن تذهب بك الظنون عني لجليت لك عن أشياء من الحق غطيتها ، ولنشرت لك أشياء من الحق كتمتها ولكني أتقيك وأستبقيك ، وليس الحليم الذي لا يتقي أحدا في مكان التقوى والحلم لباس العالم ، فلا تعرين منه ، والسلام " .

والرسالة الثانية ينقلها إلينا نفس المصدر وهي أيضا إلى سعد الخير ، حيث كتب إليه أبو جعفر يقول فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد : فقد جاءني كتابك تذكر فيه معرفة ما لا ينبغي تركه ، وطاعة من رضى الله رضاه ، فقبلت من ذلك لنفسك ما كانت نفسك مرتهنة لو تركته . فعجب أن رضى الله وطاعته ونصيحته لا تقبل ولا توجد ولا تعرف إلا في عباد غرباء ، أخلاء من الناس ، قد اتخذتهم الناس سخريا لما يرمونهم به من المنكرات ، وكان يقال : " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون أبغض إلى الناس من جيفة الحمار " ولولا أن يصيبك من البلاء مثل الذي أصابنا فتجعل فتنة الناس كعذاب الله - وأعيذك بالله وإيانا من ذلك - لقربت على بعد منزلتك .

واعلم - رحمك الله - أنه لا تنال محبة الله إلا ببغض كثير من الناس ، ولا ولايته إلا بمعاداتهم ، وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون .

[ أ ] يا أخي إن الله عز وجل جعل في كل من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون معهم على الأذى ، يجيبون داعي الله ، ويدعون إلى الله ، فأبصرهم رحمك الله فإنهم في منزلة رفيعة ، وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة ، إنهم يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله من العمى .

كم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضال قد هدوه ، يبذلون دماءهم دون هلكة العباد ، وما أحسن أثرهم على العباد ؟ ! وما أقبح آثار العباد عليهم ؟ ! " .

وعن الاختصاص : ( قال : حدثني محمد بن أحمد الكوفي الخزاز ، عن أحمد بن محمد بن سعد الكوفي ، عن ابن فضال ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي مسروق النهدي ، عن مالك بن عطية ، عن أبي حمزة قال : دخل سعد بن عبد الملك - وكان أبو جعفر يسميه سعد الخير وهو من ولد عبد العزيز بن مروان - على أبي جعفر فبينا ينشج كما تنشج النساء .

قال : فقال له أبو جعفر : ما يبكيك يا سعد ؟ قال : وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن ؟ ! فقال له : لست منهم أنت أموي منا أهل البيت ، أما سمعت قول الله عز وجل يحكي عن إبراهيم : ( فمن تبعني فإنه مني ) ، .

وله كتب ورسائل أخرى إلى بعض خلفاء بني أمية كهشام بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ، وإلى جابر الجعفي وعبد الله بن المبارك ، وكتبه في الإمامة وغيرها جاءت في مواضعها بعنوان وصايا أو مواعظ أو أجوبة . إلى هنا نكتفي من سرد هذه الحكم والمواعظ ، ومن الله سبحانه نستمد العون والتسديد .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>