عند الرحيل

وبعد أن استطلعنا هذا الموجز من سيرة الإمام أبي جعفر الباقر ، ووقفنا فيه على بعض أقواله ، وتطلعنا من نوافذ شتى على سيرة هذا الإمام الهمام ، باقر العلوم ، وينبوع المعارف ، ومعدن وحي النبوة ، وسليل بيت كان مهبط الروح الأمين . .

إمام كان أجداده موضع عناية ملائكة الرحمن وتعظيم وتبجيل الأمة لهم باعتبارهم رواد العلم ، وفرائد عصرهم ، ونماذج دهرهم فأبوه سيد الساجدين وزين العابدين وخامس البكائين وراعي الفقراء والمحرومين ، الحامل إليهم الطعام ليلا ليكون له ذخرا في الدين .

وجده الحسين السبط سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول ، وجد أبيه أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب ، وجده الأعلى سيد المرسلين وأشرف الموجودين وخاتم النبيين المصطفى الأمين عليه وعليهم آلاف التحايا والتسليم . .

أما أمه فهي السيدة الجليلة فاطمة بنت الإمام الحسن ، فهو أول امام حاز قصب السبق ، وأمسك رداء المجد من أطرافه ، هاشمي من هاشميين وعلوي من علويين كما سبق ان ذكرنا ذلك كجده أمير المؤمنين .

ولم لا يكون ذلك فهو الإمام ابن الامام أبو الأئمة وهذا الشرف السامق ! وقد بلغ آباؤه الغاية القصوى في المجد والشرف والسؤدد . .

ولقد أوقفناك عزيزي الباحث (الزائر) خلال جولتنا على براهين إمامته ومجاميع من أخباره وفضائله التي اعترف بها المؤالف والمخالف .

وانه كان الجدير بخلافة الأمة الإسلامية ، لكنه أقصي عنها ظلما وعدوانا مع علم الغاصبين بأنهم يجلسون مجلسا ليس لهم به عير أو نفير .

وقد أعانهم على ذلك وعاض السلاطين من أمة جده وبذلك لم تحفظ الأمة وصيته في أهل بيته من بعده حتى عاش إمامنا بين ظهرانيهم مغصوبا حقه مغلوبا على أمره ، مضايقا من قبل السلطات الحاكمة . .

وأدخل سجن هشام بن عبد الملك الأموي في عاصمة ملكه دمشق ظانين ومتوهمين أنهم يستطيعون بذلك إيقاف تأثير الإمام في الأمة المسلمة ، وحجبه عن أداء دوره الرسالي العظيم .

بيد أن تأثيره الفكري فيمن التقى بهم - في السجن - حمل السلطة الأموية على إطلاق سراحه وذلك لأنه - كما تفيد رواية أبي بكر الحضرمي - لم يبق في الحبس رجل إلا ترشفه وحن عليه .

ولما لم تحقق المضايقة الأموية غاياتها الدنيئة في صد الإمام الباقر عن النهوض بمهامه الرسالية العظمى ، فقد صممت السياسية الأموية المنحرفة على اغتياله بالسم وتصفيته جسديا والتخلص منه . واختلفت الروايات في كيفية دس السم اليه .

وهكذا دس إليه السم وودع الدنيا في السابع من شهر الحج عام 114 ه‍ على أكثر الأقوال وأشهرها . .

فرحل إلى ربه الأعلى سبحانه صابرا محتسبا . .

وقد ذكر ابن بابويه وابن طاووس وغيرهما أنه قتل مسموما بأمر إبراهيم بن الوليد بن يزيد عامل هشام بن عبد الملك على المدينة .

وعن كيفية سمه وشهادته فلم تعرف تفاصيلها إلا من رواية واحدة في كتاب الخرائج والجرائح عن أبي بصير وهي طويلة ينقلها المجلسي في البحار ج 46 / 329 وله عليها شرح وتعليق ، ونحن ننقل منها محل الحاجة روما للاختصار : روي عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله قال : كان زيد بن الحسن يخاصم أبي في ميراث رسول الله ويقول أنا من ولد الحسن ، وأولى بذلك منك ، لأني من ولد الأكبر ، فقاسمني ميراث رسول الله وادفعه إلى فأبى أبي فخاصمه إلى القاضي ، فكان زيد معه إلى القاضي ، فبينما هم كذلك ذات يوم في خصومتهم ، إذ قال زيد بن الحسن لزيد بن على : اسكت يا ابن السندية فقال زيد بن علي : أف لخصومة تذكر فيها الأمهات ، والله لا كلمتك بالفصيح من رأسي أبدا حتى أموت ، وانصرف إلى أبي فقال : يا أخي إني حلفت بيمين ثقة بك ، وعلمت أنك لا تكرهني ولا تخيبني ، حلفت أن لا أكلم زيد بن الحسن ولا أخاصمه ، وذكر ما كان بينهما فأعفاه أبي واغتنمها زيد بن الحسن فقال : يلي خصومتي محمد بن على فأعتبه وأؤذيه فيعتدي على ، فعدا على أبي فقال : بيني وبينك القاضي . .

ثم دار بينهما ما دار . فحلف زيد أن لا يعرض لأبي ولا يخاصمه ، فانصرف وخرج زيد من يومه إلى عبد الملك بن مروان فدخل عليه وقال : أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه ، وقص عليه ما رأى ، وكتب عبد الملك إلى عامل المدينة ، أن ابعث إلى محمد بن علي مقيدا وقال لزيد : أرأيتك إن وليتك قتله قتلته ؟ قال : نعم .

قال : فلما انتهى الكتاب إلى العامل أجاب عبد الملك : ليس كتابي هذا خلافا عليك يا أمير المؤمنين ، ولا أرد أمرك ، ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب نصيحة لك ، وشفقة عليك ، وإن الرجل الذي أردته ليس اليوم على وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه ، وإنه ليقرء في محرابه ، فيجتمع الطير والسباع تعجبا لصوته وإن قراءته كشبه مزامير داود ، وإنه من أعلم الناس ، وأرق الناس وأشد الناس اجتهادا وعبادة ، وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

فلما ورد الكتاب على هشام ، سر بما أنهى إليه الوالي وعلم أنه قد نصحه فدعا بزيد بن الحسن فأقرأه الكتاب ، فقال : أعطاه وأرضاه ، فقال عبد الملك : فهل تعرف أمرا غير هذا ؟ قال : نعم عنده سلاح رسول الله وسيفه ، ودرعه ، وخاتمه ، وعصاه ، وتركته ، فاكتب إليه فيه ، فإن هو لم يبعث به فقد وجدت إلى قتله سبيلا .

فكتب هشام عبد الملك إلى العامل أن احمل إلى أبي جعفر محمد بن على ألف ألف درهم ، وليعطك ما عنده من ميراث رسول الله : فأتى العامل منزل أبي فأقرأه الكتاب فقال : أجلني أياما قال : نعم ، فهيأ أبي متاعا ثم حمله ودفعه إلى العامل ، فبعث به إلى هشام عبد الملك ، وسر به سرورا شديدا فأرسل إلى زيد ، فعرض عليه ، فقال زيد : والله ما بعث إليك من متاع رسول الله قليلا ولا كثيرا ، فكتب هشام عبد الملك إلى أبي ، إنك أخذت مالنا ، ولم ترسل الينا بما طلبنا .

فكتب إليه أبي : إني قد بعثت إليك بما قد رأيت فإن شئت كان ما طلبت ، وإن شئت لم يكن ، فصدقه هشام عبد الملك ، وجمع أهل الشام وقال : هذا متاع رسول الله قد أتيت به ، ثم أخذ زيدا وقيده وبعث به ، وقال له : لولا أني أريد لا أبتلي بدم أحد منكم لقتلتك ، وكتب إلى أبي بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه ، وأوصلك سرج هدية مني إليك ، فلما أتى به قال أبي : ويحك يا زيد ما أعظم ما تأتي به ، وما يجري على يديك ، والله إني لأعرف الشجرة التي نحت [ السرج ] منها ، ولكن هكذا قدر فويل لمن أجرى الله على يديه الشر .

فأسرج له فركب أبي السرج ونزل متورما فأمر بأكفان له ، وكان فيه ثياب أبيض أحرم فيه وقال : اجعلوه في أكفاني ، وعاش ثلاثا ، ثم مضى لسبيله وذلك السرج عند آل محمد معلق ، ثم إن زيد بن الحسن بقي بعده أياما فعرض له داء فلم يزل يتخبط ويهوي ، وترك الصلاة حتى مات .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>