3 ـ الأمر الإلهي في خلق فاطمة (عليها السلام) : قد هيّأ الله سبحانه وتعالى البيئة الصالحة لتكوين شخصية الصّديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) ، فالأب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والاُم خديجة (عليها السلام). والروايات تحدثنا عن مزيد من الاهتمام الربّاني والعناية الإلهية في مسألة خلق الزهراء ووجودها، وأشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى هذه المسألة في مواطن عديدة . فقد روي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بينما كان جالساً بالأبطح إذ هبط عليه جبرئيل(عليه السلام) فناداه : « يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام ، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً » فبعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وأخبرها بالأمر الإلهي، وأقام النبي (صلى الله عليه وآله) أربعين يوماً يصوم نهاراً ويقوم ليلاً، فلمّا كان تمام الأربعين هبط جبرئيل (عليه السلام) فقال : « يا محمّد! العليّ الأعلى يقرئك السلام ، وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيته وتحفته » . فبينما النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس ، فوضعه بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وأقبل جبرئيل (عليه السلام) وقال: « يا محمّد! يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام ». فأكل النبي (صلى الله عليه وآله) شبعاً وشرب من الماء ريّاً ، ثم قام ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال : « الصلاة محرمة[1] عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة، فإنّ الله ـ عزّوجلّ ـ آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة » . فوثب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى منزل خديجة رضي الله عنها . قالت خديجة رضي الله عنها : وكنت قد ألفت الوحدة ، فكان إذا جنّني الليل غطيت رأسي ، وأسجفت ستري وغلقت بابي ، وصلّيت وردي ، وأطفأت مصباحي ، وآويت إلى فراشي ، فلمّا كان تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة ، إذ جاء النبيّ فقرع الباب فناديت : « من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلاّ محمّد(صلى الله عليه وآله) ؟ .. قالت خديجة : فنادى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه : « افتحي يا خديجة ، فإنّي محمّد » وفتحت الباب ودخل النبيّ المنزل ، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عنّي النبيّ (صلى الله عليه وآله) حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني[2] .
4 ـ اُنس خديجة بفاطمة (عليهما السلام) : لمّا تزوّجت خديجة بنت خويلد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هجرها نُسوة مكة وكنّ لا يكلّمنها ولا يدخلن عليها، فلمّا حملت بالزهراء فاطمة (عليها السلام) كانت إذا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من منزلها تكلّمها فاطمة الزهراء في بطنها من ظلمة الأحشاء ، وتحدّثها وتؤانسها ، فدخل يوماً رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمع خديجة تحدّث فاطمة فقال لها : «يا خديجة! من تكلّمين ؟ قالت : يا رسول الله إنّ الجنين الذي أنا حامل به إذا أنا خلوت به في منزلي كلّمني وحدّثني من ظلمة الأحشاء، فتبسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال : «يا خديجة! هذا أخي جبرئيل(عليه السلام) يخبرني أنّها ابنتي، وأنّها النسمة الطاهرة المطهّرة، وأنّ الله تعالى أمرني أن اُسمّيها « فاطمة» وسيجعل الله تعالى من ذرّيتها أئمة يهتدي بهم المؤمنون»[3] . وروي أنّه لمّا سأل الكفار رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه يريهم انشقاق القمر ـ وقد بان لخديجة حملها بفاطمة وظهر ـ قالت خديجة : واخيبة من كذَّب محمّداً وهو خير رسول ونبيّ فنادت فاطمة من بطنها : يا اُمّاه! لا تحزني ولا ترهبي فإنّ الله مع أبي[4] . إنّ خديجة التي وقفت مع رسول الله في أيام محنته الاُولى وتعرّضت لهجران النساء عوّضها الله على صبرها وبذلها الغالي والنفيس من أجل نشر الدعوة الإسلامية عوّضها بالبشرى بحملها بهذه البنت التي سيكون لها ولذريتها شأن عظيم .
انقضت أيام الحمل واقترب موعد الولادة ولم
تزل خديجة تأنس بجنينها وتعيش الأمل على الفرحة بالولادة، فلمّا
حضرتها الولادة أرسلت وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته لمن يرضعه، فلمّا ولدت فاطمة(عليها السلام) لم يرضعها أحدٌ غير خديجة[6] .
اختلف المؤرّخون في تأريخ ولادتها (عليها السلام) إلاّ أنّ المشهور بين مؤرّخي الإمامية أنّه في يوم الجمعة في العشرين من شهر جمادي الآخرة في السنة الخامسة من البعثة ، بينما قال غيرهم : إنّها ولدت قبل البعثة بخمس سنين[7] . روى أبو بصير عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال : « ولدت فاطمة في جمادي الآخرة يوم العشرين سنة خمس وأربعين من مولد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فأقامت بمكة ثمان سنين وبالمدينة عشر سنين ، وبعد وفاة أبيها خمسة وسبعين يوماً ، وقُبضت في جمادي الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشرة من الهجرة »[8] . ومن أسمائها : الصدّيقة هي الكثيرة التصديق، وقد كانت سلام الله عليها مصدِّقة لأبيها صادقة في أقوالها صدوقة في أفعالها ووفائها ، فهي الصدّيقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون كما ورد عن حفيدها الصادق(عليه السلام)[9] . والمباركة باعتبار الخير الكثير الذي يأتي من قِبَلِها، وقد وصفها القرآن الكريم بالكوثر باعتبار أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد انقطع نسله إلاّ منها، فهي اُمّ الأئمة الأطهار واُمّ الذريّة الطاهرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكثرة الذرّية ـ التي دافعت عن رسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) وتحمّلت أعباء الوقوف أمام الظالمين والمنحرفين عنها ـ هي الخير الكثير أو أهمّ مصاديقه التي أعطاها الله لرسوله كما نصّ عليه في سورة الكوثر . وعن ابن عباس أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قال : «ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث ، وإنّما سمّاها فاطمة لأنّ الله فطمها ومحبيها عن النار»[10] . وعنه (صلى الله عليه وآله) : «أن فاطمة حوراء إنسيّة، كلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتُها»[11] . وقالت اُمّ أنس بن مالك : كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفر غماماً إذا خرج من السحاب، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشدّ الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) شبهاً[12] . ولقّبت بالطاهرة لطهارتها من كلّ دنس وكلّ رفث، وأنّها ما رأت قطّ يوماً حمرةً ولا نفاساً[13] كما جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، وقد شهد القرآن الكريم بطهارتها من الدنس في آية التطهير . وكانت سلام الله عليها راضية بما قدّر لها من مرارة الدنيا ومشاقّها ومصائبها وثوابها، مرضية عند ربها كما أخبر بذلك القرآن الكريم عنها في سورة الدهر، إذ ارتضى ربّها سعيها وآمنها من الفزع الأكبر ، وهي ممّن ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )[14]وخشي ربّه دون شك كما نلاحظ ذلك في سيرتها. والمحدَّثة هي التي تحدّثها الملائكة ، كما حدّثت الملائكة مريم ابنة عمران واُمّ موسى وسارة امرأة ابراهيم إذ بشّرتها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب . وكنّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) باُمّ أبيها تعظيماً لشأنها، إذ لم يكن أحد يوازيها في محبّته لها ورفعة مكانتها لديه ، وكان يعاملها معاملة الولد لاُمّه كما كانت تعامله معاملة الاُم لولدها، إذ كانت تحتضنه وتضمد جروحه وتخفّف من آلامه . كما كُنيت باُمّ الأ ئمة، إذ أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّ الأئمة من ولدها وأنّ المهديّ من نسلها[15].
|
|