سياسيات
إبلاغ وإنذار(1) قيل لفاطمة (عليها السّلام) كيف أصبحت يا أبنة المصطفى؟ قالت: أصبحت عائفةً لدنياكم، قاليةً لرجالكم، لفظتهم بعد أن عجمتهم، فأنا بين جهدٍ وكرب، بينهما: فقد النبي (صلى الله عليه وآله) وظلم الوصي.
مع أبي سفيان(2) لمّا انتهى الخبر إلى أبي سفيان، وهو بالشام بما صنعت قريش بخزاعة، أقبل حتّى دخل على رسول الله، فقال: يا محمد، احقن دم قومك وأجر بين قريش وزدنا في المدّة؛ قال: أغدرتم يا أبا سفيان؟ قال: ﻻ. قال: فنحن على ما كنّا عليه، - فساق الحديث إلى أن قال: - ثمّ خرج، فدخل على فاطمة (عليها السّلام)، فقال: يا بنت سيّد العرب، تجيرين بين قريش وتزيدين في المدّة فتكونين أكرم سيّدة في النّاس. قالت: جواري في جوار رسول الله. قال: فتأمرين ابنيك أن يجيرا بين النّاس؟ قالت: - والله – ما يدري ابناي ما يجيران من قريش...
ما يجير أحد على الرسول (صلى الله عليه وآله)(3) عند ذكره لما جرى بين الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأبي سفيان، فقال في حديثه: فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة (عليها السّلام)، فقال لها: يا بنت محمد (صلى الله عليه وآله)! هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين النّاس، فيكونا سيّدا العرب إلى آخر الدهر. فقالت: ما بلغ ابناي أن يجيرا بين النّاس، وما يجير أحد على رسول الله (صلى الله عليه وآله)...
مطالبة فدك(4) ثمّ إنّ فاطمة (عليها السّلام) بلغها أنّ أبا بكر قبض فدك، فخرجت في نساء بني هاشم حتّى دخلت على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر، تريد أن تأخذ منّي أرضاً جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتصدّق بها عليّ من الوجيف، الّذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب؟ أما كان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء يحفظ في ولده [بعده]؟ وقد علمت أنّه لم يترك لولده شيئاً غيرها، فلمّا سمع أبو بكر مقالتها والنسوة معها، دعا بدواة ليكتب به لها، فدخل عمر فقال: يا خليفة رسول الله، ﻻ تكتب لها حتّى تقيم البيّنة بما تدعي. فقالت فاطمة (عليها السّلام): نعم أقيم البيّنة، قال: من؟ قالت: علي وأمّ أيمن. فقال عمر: ﻻ تقبل شهادة امرأة عجميّة ﻻ تفصح، وأمّا عليّ فيحوز النّار إلى قرصه، فرجعت فاطمة (عليها السّلام) وقد جرّعها من الغيظ ما لا يوصف... .
إنّي فاطمة وأبي محمّد (صلى الله عليه وآله)(5) إنّه لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (عليها السّلام) فدكاً وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، وتطأذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتّى دخلت على أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، وغيرهم فنيطت دونها ملاءة، فجلست ثمّ أنّت أنّة، أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثمّ أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم. افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله (صلى الله عليه وآله). فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها، فقالت (عليها السّلام): الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها. وأشهد أن ﻻ إله إلا الله وحده ﻻ شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكّر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيّته. ابتدع الأشياء ﻻ من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته وذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته، وإعزازاً لدعوته، ثمّ جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته وحياشة لهم إلى جنّته. وأشهد أنّ أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره [وانتجبه] قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى بما يلي الامور، وإحاطةً بحوادث الدهور، ومعرفةً بمواقع الأمور. ابتعثه الله تعالى إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكّفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمّد (صلى الله عليه وآله) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في النّاس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرّهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم. ثمّ قبضه الله إليه، قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار. فمحمد (صلى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة، قد حفّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الربّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار. صلّى الله على أبي نبيّه، وأمينه وخيرته من الخلق وصفيّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ثمّ التفت إلى أهل المجلس، وقالت: أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، زعيم حقّ له فيكم، وعهد قدّمه إليكم، وبقيّة استخلفها عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنّّور الساطع، والضياء اللامع. بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان اتباعه، مؤدّ إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنوّرة، وعزائمه المفسّرة، ومحارمه المحذّرة، وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة. فجعل الله الإيمان: تطهيراً لكم من الشرك. والصلاة: تنزيهاً لكم عن الكبر. والزكاة: تزكية للنفس، ونماء في الرزق. والصيام: تثبيتاً للإخلاص. والحجّ: تشييداً للدين. والعدل: تنسيقاً للقلوب. وطاعتنا: نظاماً للملّة. وإمامتنا: أماناً للفرقة. والجهاد: عزّاً للإسلام. والصبر: معونةً على استيجاب الأجر. والأمر بالمعروف: مصلحة للعامّة. وبرّ الوالدين: وقاية من السخط. وصلة الأرحام: منساة في العمر، ومنماة للعدد. والقصاص: حقناً للدّماء. والوفاء بالنّذر: تعريضاً للمغفرة. وتوفية المكائيل والموازين: تغييراً للبخس. والنهي عن شرب الخمر: تنزيهاً عن الرجس. واجتناب القذف: حجاباً عن اللعنة. وترك السرقة: إيجاباً للعفّة. وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالرّبوبيّة. فـ (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(6). وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنّه (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)(7). ثمّ قالت: أيّها النّاس: اعلموا أنّي فاطمة، وأبي محمد أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(8). فإن تعزوه وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزّى إليه، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجف الأصنام، وينكث الهام، حتّى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتّى تفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلّت عقد الكفر والشقاق. وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفرة من النّار. مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ. أذلّة خاسئين تخافون أن يتخطّفكم النّاس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله)، بعد اللتيّا والّتي، وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ)(9) أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها. فلا ينكفئ حتّى يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيّداً في أولياء الله مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، ﻻ تأخذه في الله لومة لائم. وأنتم في رفاهيّة من العيش وادعون، فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرّون من القتال. فلمّا اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله) دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين. وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين. ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحشمكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم. هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)(10). فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم. أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(11) (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(12)، ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، ثمّ أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ، وإطفاء أنوار الدين الجليّ، وإهمال سنن النبيّ الصفيّ (صلى الله عليه وآله)، تشربون حسواً في ارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء. ويصير منكم على مثل خزّ المدى، ووخز السنان في الحشاء، وأنتم الآن تزعمون: أن ﻻ إرث لنا، أفحكم الجاهليّة تبغون؟ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(13)! أفلا تعلمون؟! بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية: أنّي ابنته. أيّها المسلمون: أأُغلب على إرثي؟ يابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)(14). وقال: فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا إذ قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(15). وقال: (وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(16). وقال: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ)(17). وقال: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(18). وزعمتم: أن لاحظوة لي ولا أرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إنّ أهل ملّتين ﻻ يتوارثان؟ أوَ لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه، من أبي وابن عمّي؟ فدونكها مخطومةً مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد (صلى الله عليه وآله). والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، و (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ)(19) و (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(20). ثمّ رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت: يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام، ماهذه الغميزة في حقّي، والسِنَةُ عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول: (المرء يحفظ في ولده)؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما أُحاول، وقوّة على ما أطلب وأزاول، أتقولون مات محمد (صلى الله عليه وآله)؟. فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأُزيلت الحرمة عند مماته، فتلك – والله – النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لامثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه في أفنيتكم وممساكم ومصبحكم، يهتف في أفنيتكم هتافاً، وصراخاً، وتلاوة، وإلحاناً. ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله حكم فصل، وقضاء حتم: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(21). إيهاً بني قيلة، أأُهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأى منّي ومسمع، ومنتدى ومجمع، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذووا العدد والعدّة، والأداة والقوّة، وعندكم السلاح والجنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح. معروفون بالخير والصلاح، والنّخبة الّتي انتخبت، والخيرة الّتي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، وتحمّلتم الكدّ والتعب، وناطحتم الأُمم وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون. حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودرّ حلب الأيّام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنّى حزتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(22). ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الّذي تسوّغتم. فـ (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(23). ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالجذلة الّتي خامرتكم، والغدرة الّتي استشعرتها قلوبكم، ولكنّها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة وبثّة الصدر، وتقدمة الحجّة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخفّ، باقية العار، موسومة بغضب الجبّار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، الّتي تطّلع على الأفئدة. فبعين الله ما تفعلون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(24). وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فاعملوا إنّا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون. فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان. وقال: يا بنت رسول الله، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً، وعقاباً عظيماً، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفك دون الأخلاء، آثره على كلّ حميم، وساعده في كلّ أمر جسيم. ﻻ يحبّكم إلاّ سعيد، ولا يبغضكم إلاّ [كلّ] شقيّ بعيد، فأنتم عترة رسول الله الطيبون الخيرة المنتجبون، على الخير أدلّتنا، وإلى الجنّة مسالكنا. وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقّك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا عملت إلاّ بإذنه، والرائد ﻻ يكذب أهله، وإنّي اشهد الله وكفى به شهيداً أنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: نحن معاشر الأنبياء ﻻ نورّث ذهباً ولا فضّة ولا داراً ولا عقاراً وإنّما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة وما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه!! وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح، يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفّار، ويجالدون المردة ثمّ الفجّار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم أنفرد به وحدي ولم أستبدّ بما كان الرأي عندي!! وهذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك، ﻻ تزوي عنك، ولا تدّخر دونك، وإنّك وأنت سيّدة أُمّة أبيك، والشجرة الطيّبة لبنيك. لاندفع مالك من فضلك، ولا يوضع من فرعك وأصلك. حكمك نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أن أُخالف في ذلك أباك (صلى الله عليه وآله)؟ فقالت [فاطمة] (عليها السّلام): سبحان الله ما كان أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفاً ولا لأحكامه مخالفاً! بل كان يتّبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته. هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً يقول: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(25) ويقول (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)(26). وبيّن عزّ وجل فيما وزّع [عليه] من الأقساط، وشرّع من الفرائض والميراث، وأباح من حظّ الذكران والإناث، ما أزاح به علّة المبطلين، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين. كلاّ (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(27). فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجّة، ﻻ أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك. هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلّدوني ما تقلّدت، وباتّفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبدّ، ولا مستأثر، وهم بذلك شهود. فالتفتت فاطمة (عليها السّلام) إلى النّاس، وقالت: معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر (أفلا تتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها)؟(28) كلاّ بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ولبئس ماتأوّلتم، وساء مابه أشرتم، وشرّ مامنه اغتصبتم. لتجدنّ والله محمله ثقيلاً وغبّه وبيلاً، إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون... (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(29). ثمّ عطفت على قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقالت: قد كان بعدك أنباء وهنبثة***لوكنت شاهدها لم تكثر الخطب إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها***واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب وكلّ أهل له قربى ومنزلة***عند الإله على الأدنين مقترب أبدت رجال لنا نجوى صدورهم***لمّا مضيت وحالت دونك الترب تجهّمتنا رجال واستخفّ بنا***لمّا فقدت وكلّ الأرض مغتصب وكنت بدراً ونوراً يستضاء به***عليك ينزل من ذي العزّة الكتب وكان جبريل بالآيات يؤنسنا***فقد فقدت وكلّ الخير محتجب فليت قبلك كان الموت صادفنا***لمّا مضيت وحالت دونك الكثب إنّا رزينا بما لم يرز ذو شجن***من البريّة لاعجم ولا عرب
بيوت ساسة المسلمين(30) أتيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقلت: السلام عليك يا أبة، فقال: وعليك السلام يا بنيّة. فقلت: - والله – ما أصبح يا نبيّ الله في بيت عليّ حبّة طعام، ولا دخل بين شفتيه طعام منذ خمس، ولا أصبحت له ثاغية، ولا راغية، وما أصبح في بيته سفة ولا هفة. فقال: ادني منّي، فدنوت منه، فقال: أدخلي يدك بين ظهري وثوبي، فإذا حجر بين كتفي النبيّ مربوط بعمامته إلى صدره، فصاحت فاطمة صيحة شديدة، فقال لها: ما أوقدت في بيوت آل محمد نار منذ شهر. ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): أتدرين ما منزلة عليّ؟ كفاني أمري وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وضرب بين يدي بالسيف وهو ابن ستّ عشرة سنة، وقتل الأبطال وهو ابن تسع عشرة سنة، وفرّج همومي وهو ابن عشرين سنة، ورفع باب خيبر وهو ابن نيّف وعشرين كان ﻻ يرفعه خمسون رجلاً. فأشرق لون فاطمة، ولم تقرّ قدماها مكانهما حتّى أتت عليّاً، فإذا البيت قد أنار بنور وجهها، فقال لها عليّ: يا ابنة محمد، لقد خرجت من عندي ووجهك على غير هذه الحال، فقالت: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) حدّثني بفضلك، فما تمالكت حتّى جئتك. فقال لها: كيف لو حدّثك بكلّ فضلي؟
فدك: عطية الرّب(31) إنّ عائشة بنت طلحة دخلت على فاطمة (عليها السّلام) فرأتها باكية فقالت لها: بأبي أنت وأمّي ما الّذي يبكيك؟ فقالت لها صلوات الله عليها: أسائلتي عن هنة حلّق بها الطائر، وحفي بها السائر، ورفع إلى السماء أثراً، ورزئت في الأرض خبراً، إنّ قحيف تيم واحيول عدي، جاريا أبا الحسن في السباق، حتّى إذا تفرّيا بالخناق، أسرّا له الشنآن، وطوياه الإعلان، فلمّا خبأ نور الدين، وقبض النبيّ الأمين، نطقا بفورهما، ونفثا بسورهما، وأدلاّ لفدك، فيالها لمن ملك، تلك أنّها عطيّة الربّ الأعلى للنجيّ الأوفى، ولقد نحلنيها للصبية السواغب، من نجله ونسلي، وأنّها ليعلم الله وشهادة أمينه. فإن انتزعا منّي البلغة ومنعاني اللمظة، واحتسبتها يوم الحشر زلفة، وليجدنّها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم.
لقد عقد له الولاء(32) ثمّ إنّ عمر احتزم بإزاره، وجعل يطوف بالمدينة وينادي: ألا إنّ أبا بكر قد بويع له، فهلمّوا إلى البيعة، فينثال النّاس يبايعون، فعرف أنّ جماعة في بيوت مستترون، فكان يقصدهم في جمع كثير، ويكبسهم ويحضرهم المسجد فيبايعون، حتّى إذا مضت أيّام، أقبل في جمع كثير، إلى منزل عليّ (عليه السّلام) فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب ونار وقال: والّذي نفس عمر بيده، ليخرجنّ أو ﻻ حرقنّه على ما فيه. فقيل له: إنّ فاطمة بنت رسول الله، وولد رسول الله، وآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه؛ وأنكر النّاس ذلك من قوله، فلمّا عرف إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك؟! إنّما أردت التهويل؛ فراسلهم عليّ (عليه السّلام) أن ليس إلى خروجي حيلة، لأنّي في جمع كتاب الله، الّذي قد نبذتموه، وألهتكم الدنيا عنه؛ وقد حلفت أن ﻻ أخرج من بيتي، ولا أدع ردائي على عاتقي، حتّى أجمع القرآن؛ قال: وخرجت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم فوقفت خلف الباب ثمّ قالت: ﻻ عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازةً بين أيدينا، وقطعتم أمركم فيما بينكم، ولم تؤمّرونا، ولم تروا لنا حقّاً، كأنّكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم. والله، لقد عقد له يومئذ الولاء، ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ولكنّكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيّكم، والله حسيب بيننا وبينكم، في الدنيا والآخرة.
من سيرة الأنبياء(33) جاءت فاطمة (عليها السّلام) إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله! إنّي وابن عمّي مالنا فراش إلاّ جلد كبش، ننام عليه ونعلف عليه ناضحنا(34) بالنهار. فقال: يا بنيّة، اصبري، فإنّ موسى بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين مالهما فراش إلاّ عباءة قطوانيّة – أي بيضاء كثيرة الخمل -.
|
1 ـ جامع الأخبار 91 الفصل 49:... 2 ـ مناقب ابن شهر آشوب 1/206: قال في حديثه عن فتح مكّة: قال أبان: وحدّثني عيسى بن عبد الله القمّي، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال:... 3 ـ عوالم سيدة النساء ج 2 ص 917 عن المفيد في الإرشاد:... 4 ـ عوالم سيدة النساء 2/594 عن كتاب سليم بن قيس:... 5 ـ الإحتجاج للطبرسي 1/131 مطبعة النعمان النجف الأشرف: روى عبد الله بن الحسن بإسناده، عن آبائه (عليهما السلام):... 6 ـ آل عمران: 102. 7 ـ فاطر: 28. 8 ـ التوبة: 128. 9 ـ المائدة: 64. 10 ـ التوبة: 49. 11 ـ الكهف: 50. 12 ـ آل عمران: 85. 13 ـ المائدة: 50. 14 ـ النمل: 16. 15 ـ مريم: 5، 6. 16 ـ الانفال: 75. 17 ـ النساء: 11. 18 ـ البقرة: 180. 19 ـ الأنعام: 67. 20 ـ هود: 39. 21 ـ آل عمران: 144. 22 ـ التوبة: 13. 23 ـ ابراهيم: 8. 24 ـ الشعراء: 227. 25 ـ مريم: 6. 26 ـ النمل: 16. 27 ـ يوسف: 18. 28 ـ محمد: 24. 29 ـ غافر: 78. 30 ـ دلائل الإمامة 4: أخبرني القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري، قال: أخبرنا أبو الحسين زيد بن محمد بن جعفر الكوفي قراءة عليه؛ قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن الحكم الحيري قراءة عليه؛ قال: أخبرنا إسماعيل بن صبيح، قال: حدّثنا يحيى بن مساور، عن عليّ بن حزور، عن القاسم بن أبي سعيد الخدري – رفع الحديث – إلى فاطمة (عليها السّلام) قالت:... 31 ـ عوالم سيّدة النساء 2/880 عن أمالي الطوسي: 32 ـ الإحتجاج 1/105: عن عبد الله بن عبد الرحمان قال:... 33 ـ عوالم سيّدة النساء 1/468 عن السيرة النبويّة قال:... 34 ـ النّاضح: البعير الّذي يسقى عليه. |
![]() |