بيان العلل والأهداف

ثم قالت: أيها الناس

مسألة: ينبغي للإنسان بيان العلل والأهداف والغايات المترتبة على كل قرار يصدره، أو موقف يتخذه، أو منهج يرسمه.

سواء كان لعائلته أم لأصدقائه أم للتجمعات المحيطة به أم المتعاملة معه أم لمجتمعه.

وسواء كان في الشؤون الدينية أم الدنيوية، الاقتصادية أم السياسية، الاجتماعية أم غيرها.

إذ ان ذلك يوجب مزيداً من اعتماد الآخرين على الإنسان، إضافة على أنه تربية للناس على التفكر والتعقل والتدبر، وتقييم كل شئ بمنظار المنطق والدليل والحكمة، كما دعى إليه القرآن الكريم، وعدم الإتباع الأعمى كما كان دأب المشركين: (إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون)(1).

ثم إنه يوجب تصحيح الخطأ في قرار أو مسيرة الإنسان والحيلولة دون الإستبداد، إذ تعويد الناس على ذكر العلل يوجب نموهم فكرياً وتصديهم لإسداء النصح والمشورة ولذا كانت:(المشورة مباركة)(2).

و:(أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله)(3).

و:(من استبد برأيه هلك)(4).

و:(الاستشارة عين الهداية)(5).

و:(ما عطب من استشار)(6) وما أشبه.

إضافة إلى إنه تأس وإقتداء بالمعصومين (عليهم السلام) في ذكرهم العلل التشريعية والتكوينية(7) كما ذكرت (عليها السلام) ههنا العلة في خلق العالم ومن قبله العلة في حمده تعالى وشكره، وستذكر العلة في بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واختياره، والعلة في استخلاف القرآن عليهم، والعلة في اختيار علي (عليه السلام) دون غيره، ثم تطرقت لعلل جعل العديد من فروع الدين وأحكامه وغيرها.

وكما تطرق القرآن الكريم من قبل لبيان علل أو حكم الكثير من الأمور التكوينية أو التشريعية وقد أشرنا إليه في مواطن من هذا الكتاب وغيره.

الهدف: تكامل الإنسان

وأخيراً: فإن العلل الخمسة المذكورة في كلامها (عليها السلام) كلها مما يصب في طريق تكاملية الإنسان(8) واقترابه الأكثر إلى مصدر الكمال المطلق والحق المطلق، فهي تعود إلى الإنسان نفسه أولاً وأخيراً، قال تعالى: (إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(9).

فقد خلقهم لرحمته(10) كما ورد في الحديث عن ابي عبد الله (عليه السلام): (فان الله تعالى خلق خلقاً لرحمته)(11).

ثم جعل الثواب على طاعته

الإثابة على الإطاعة

مسألة: يستحب جعل الثواب على الإطاعة وعلى الالتزام بالقانون، من غير فرق بين رب العائلة والمعلم والقائد وغيرهم، وربما وجب، فإنه إتباع لله سبحانه وتعالى ولسنة الرسل والأنبياء (عليهم السلام) وهو سيرة العقلاء(12).

حيث يجعلون الثواب على الطاعات، سواء كانت الطاعات إيجابية أم سلبية، مثل جعل الثواب على ترك كذا من الأعمال الضارة المنافية، كما ورد عنه (عليه السلام): (من ترك مسكراً مخافة الله أدخله الجنة وأسقاه من الرحيق المختوم)(13) ومن ترك الكذب كان له من الثواب كذا، وما أشبه(14).

والثواب أعم مما يعطيه الله للإنسان في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة)(15).

وجعل الثواب هو من حكمة الله، وهو من الطرق التي وضعها الله لتعبد البرية وجرهم للطاعة ـ وهذا من غاية لطف الله وفضله ـ ومن أسباب إعزاز الدعوة، ومن مظاهر قدرة الله أيضاً.

ووضع العقاب على معصيته

العقاب على مخالفة القانون

مسألة: من اللازم وضع العقاب على المعصية ومخالفة القانون، عقاباً مناسباً ومطابقاً للعدل، كما جعل الله سبحانه العقاب على معصيته، فإذا اعتبرنا أن (العقاب) يطلق ـ ولو توسعاً ـ على الأعم من المترتب على الحرام، استحب وضعه على المكروه أيضاً كما ورد جملة من العقوبات على المكروهات مثل البناء رياءً، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من بنى بنياناً رياءً وسمعةً حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثم يطوقه ناراً توقد في عنقه ثم يرمى به في النار)(16) أو تربية الشعر على الرأس من دون (فرق)، أو ان المريض إذا لم يقرأ ثلاث مرات (قل هو الله أحد) كان له كذا من العقاب، إلى غير ذلك مما يوجد في كتاب (عقاب الأعمال) للشيخ الصدوق (قدس سره) وغيره، فإطلاق العقاب عليها توسعي وإن كان جمع من العلماء أولوا بعض هذه الروايات بما يرفع الاستغراب من وجود مثل تلك العقوبات على فعل هذه المكروهات، كما لو كان بقصد العناد أو تضمن إنكار إحدى الأصول.

ثم إن العقاب قد يكون عقاباً تكوينياً ـ في الدنيا ـ بنحو الأثر الوضعي أو الردع الإجتماعي، فإن المعاصي توجب عنت الإنسان وعطبه، قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى)(17).

إذ المعصية خلاف مسير الحياة وهي تصطدم بشبكة السنن الإلهية المحيطة بالإنسان كمن يلقي نفسه من شاهق حيث تتكسر عظامه.

وقد يكون تشريعياً، هذا بالإضافة إلى العقاب في الآخرة، فإنه مقرر من الله للعصاة.

وقد ذهب البعض إلى أن الأعمال صالحة وطالحة هي كالنواة التي تثمر ما يجانسها، فكل عقاب وثواب في الآخرة هو ثمرة ما غرس في الدنيا، وفي الحديث: (وان الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده)(18) وهذا بلحاظ تجسم الأعمال فإن (الكذب) يتحول إلى عقرب تلدغ الإنسان ـ مثلاً ـ في الآخرة، وهكذا سائر المعاصي، فهناك علاقة تكوينية بين العمل وبين العقاب الأخروي، قال تعالى: (ذوقوا ما كنتم تعملون)(19).

ذيادة لعباده عن نقمته

حفظ العباد عن التعرض للنقمة الإلهية

مسألة: يجب ذيادة العباد وإبعادهم عن نقمته تعالى، عقلاً ونقلاً، وتحقيقاً لغرض المولى جل وعلا، والروايات الدالة على ذلك كثيرة جداً، (فنعوذ بالله من غضب الله ونقمته)(20).

ومعنى الذيادة: الطرد والدفع والإبعاد، يقال: ذاد الإبل عن الحوض، أي: طرده عن الماء(21).

ففي المحرمات وترك الواجبات الذيادة واجبة، لأنها نوع من النهي عن المنكر والتعليم وتنبيه الغافل وإرشاد الجاهل وما أشبه ذلك.

وهذا(22) من غاية لطف الله بعبيده، وللتوضيح نمثل: بأن يضع الأب عقوبة الحبس يوماً ـ مثلاً ـ على من أراد من أبناءه التوغل في غابة مجهولة خطيرة، فإن هذه العقوبة هي للحيلولة دون وقوعه في الخطر الأعظم، وكذلك الطبيب الذي يجري عملية جراحية منعاً لسريان السرطان إلى سائر الأعضاء.

فالعقوبات الدنيوية المجعولة على ارتكاب المعاصي كشرب الخمر والزنا وشبههما مـع اجتمـاع شرائطهـا الكثيرة(23) لدفـع النقمـة الكبرى التي ستنـال العاصي في الآخرة(24).

هذا لو كان المراد من (العقاب) في كلامها (عليها السلام): العقوبات الدنيوية.

وأما لو كان المقصود منه في كلامها (عليها السلام) العقاب الأخروي، فإن التهديد به يردع الكثيرين عن ارتكاب المعاصي التي تؤدي إلى نقمته تعالى، وهذا(25) هو ما يقتضيه الربط بين العلة والمعلل له(26).

وحياشة لهم إلى الجنة

سوق العباد إلى الجنة

مسألة: يجب سوق العباد إلى الجنة، على ما عرفت في البحث الآنف، قال تعالى: ( وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض)(27).

وقال سبحانه: (وسابقوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله)(28).

و(حياشة) أي: سوقا(29)، فإن الله تعالى يريد لعباده الجنة والنعيم والسعادة السرمدية، قال سبحانه: (إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(30).

والطريق إلى ذلك الإطاعة وتجنب المعاصي، فإن الكون دنياه وآخرته قررت بحيث ان المطيع مآله النعمة والجنة، والعاصي مآله النقمة والنار، كما تمت هندسة الكون بحيث أن الزارع يحصد غداً ومن لا يزرع يبقى صفراً يداً، ومن يدرس يصبح طبيباً أو مهندساً أو ما أشبه، ومن لا يدرس يبقى جاهلاً.

وإن كثيراً من الناس لا يسوقه إلى الجنة وإلى النعيم المقيم إلا ما يراه من العقاب على المعصية فيرتدع، فيوفق للنعيم المقيم.

التطرق لفلسفة الثواب والعقاب

مسألة: من اللازم بيان فلسفة الثواب والعقاب للناس، إذ ذلك يزيدهم إيماناً واعتقاداً والتزاماً. وحتى بالنسبة إلى الأبوين عند عقاب الطفل أو ثوابـه، ويرجح أن يذكر السبب حتى يكون تأثيره أكثر.

وهذا الأمر يجري في القوانين الوضعية أيضاً، فأية عقوبة تضعها شركة أو هيئة أو دولة ـ شرط أن تكون في إطار الشريعة(31) ـ ينبغي أن تذكر علتها وفلسفتها للناس.

ولذا أكثر في القرآن الحكيم من ذكر الفلسفة، فإن القرآن الكريم ذكر فلسفة كثير من الأحداث والأحكام، مثلاً قال جل وعلا في الصلاة: (وأقم الصلاة لذكري )(32) فإن (لذكري) فلسفة (أقم الصلاة).

وقال سبحانه: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)(33) فـ(لعلكم تتقون) فلسفة هذا الحكم.

وقال تعالى: (ليشهدوا منافع لهم )(34) في فلسفة الحج.

وقال سبحانه: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين)(35) حيث إن فائدة الجهاد تعود إلى النفس، قال (عليه السلام): (جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً).

وقال (عليه السلام): (جاهدوا تغنموا)(36) وهو فلسفة الجهاد.

وقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(37) حيث أن التطهير والتزكية فلسفة الزكاة.

وقال سبحانه: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)(38) حيث أن تفضيل الله سبحانه وإنفاق الأزواج سبب قوامية الرجال على النساء.

وقال في فلسفة الدعوة إلى عبادته تعالى وحده: (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون)(39) إلى غير ذلك.

 

1 - سورة الزخرف: الآية 23.

2 - تفسير العياشي ج1 ص204 ح147 من سورة آل عمران. بحار الأنوار: ج72 ص103 ب 48 ح 34.

3 - وفي غرر الحكم ص 442 الفصل الاول في المشاورة ح10078: (من شاور ذوي العقول استضاء بانوار العقول). وح 10060: (المشورة تجلب لك صواب غيرك). وح 10057: (من شاور الرجال شاركها في عقولها)؟.

4 - غرر الحكم ودرر الكلم ص443 الفصل الاول في المشاورة ح 10111. بحار الأنوار: ج72 ص104 ب 48 ح 38 عن نهج البلاغة.

5 - بحار الأنوار: ج72 ص104 ب 48 ح 38. وغرر الحكم ص442 الفصل الاول في المشاورة ح10066.

6 - كنـز الفوائد ج1 ص367 فصل من كلام امير المؤمنين(عليه السلام) وآدابه وحكمه.

7 - راجع مثلاً كتاب (علل الشرائع).

8 - فمعرفة حكمة الله وقدرته وإطاعة أوامره والتعبد بها وإعزاز دعوته كلها تزيد الإنسان تكاملية، مادية ومعنوية، دنيوية وأخروية.

9 - سورة هود: الآية 119.

10 - فإذا كان الناس يركضون وراء المال أو الشهرة أو الرئاسة أو حتى العلم ـ بما هو علم ـ فإنها جميعاً كمالات مجازية محدودة فانية (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) [الرحمن: 26و27]. أما معرفة الله وإطاعته فهو الكمال الحقيقي للإنسان، والعلم ـ كالعلوم الطبيعية والإنسانية، وما أشبه ـ يكتسب قيمته الحقيقة الخالدة إذا كان في هذا الإطار كجسر للاقتراب من الحقيقة الخالدة وكطريق لاكتساب رضى الله تعالى، بما تقدمه العلوم من خدمة الإنسان الذي أمر الله سبحانه فطرة وعقلاً وشرعاً بإعطائه حقه والتعاون معه والإحسان إليه، وإلا لكانت له قيمته مجازية محدودة يثيبه الله عليها دنيوياً و… والعلوم مع ذلك تكشف جانباً من عظمة الله وقدرته وحكمته في مخلوقاته.

11 - قرب الاسناد ص35.

12 - في الجملة.

13 - وسائل الشيعة: ج7 ص253 ب 13 ح 2.

14 - للتفصيل راجع كتاب (ثواب الأعمال) للشيخ الصدوق قدس سره.

15 - سورة آل عمران: الآية 148.

16 - بحار الأنوار: ج73 ص360 ب 67 ح 30. وشبهه في الأمالي للشيخ الصدوق ص427 المجلس66.

17 - سورة طه: الآية 124.

18 - بحار الأنوار: ج93 ص126 ب 43 ح 14. تفسير العياشي ج1 ص153 ح508، من سورة البقرة، وفي آخر الحديث: (حتى يلقاه يوم القيامة مثل أحد)

19 - سورة العنكبوت: الآية 55. 

20 - علل الشرائع ص487 ح3 باب 239 باب علل المسوخ وأصنافها.

21 - وفي لسان العرب مادة (ذود): الذود، السوق والطرد والدفع، تقول: ذدته عن كذا، وذاده عن الشيء ذوداً وذيادا.

22 - أي وضعه تعالى العقوبات ذيادة لعباده عن نقمته.

23 - وقد ذكر الإمام المؤلف في (الفقه) إن إجراء بعض الحدود مشروط بأكثر من أربعين شرطـاً، فراجع.

24 - راجع كتاب (العقوبات في الاسلام) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).

25 - إشارة إلى تفسير كلامها عليها السلام (وضع العقاب) بالتفسير الإثباتي لا الثبوتي، إذ (التهديد بالعقاب) ـ كما ذكر دام ظله ـ هو السبب للذيادة لا وجوده الحقيقي بنفسه.

26 - العلة: (ذيادة لعباده عن نقمته) والمعلل له: (وضع العقاب على معصيته).

27 - سورة آل عمران: الآية 133. 

28 - سورة الحديد: الآية 21.

29 - وفي لسان العرب مادة (حوش): وحشت الابل، جمعتها وسقتها.

30 - سورة هود: الآية 119.

31 - كعقوبة الفصل من الشركة أو العزل من وظائف الدولة لو ارتشى أو تماهل في قضاء حوائج المراجعين أو ما أشبه ذلك.

32 - سورة طه: الآية 14.

33 - سورة البقرة: الآية 183.

34 - سورة الحج: الآية 28.

35 - سورة العنكبوت: الآية 6.

36 - وسائل الشيعة: ج11 ص6 ب1 ح5.

37 - سورة التوبة: الآية 103.

38 - سورة النساء: الآية 34.

39 - سورة القصص: الآية 88.