فضائل الرسول (ص)

اختاره وانتجبه قبل أن أرسله

مسألة: يستحب أو يجب ـ كل في مورده ـ بيان فضائل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما بينت (عليها السلام) في خطبتها.

وكذلك بالنسبة إلى سائر الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وبالنسبة إلى العلماء والصالحين أيضاً.

الاختيار الإلهي للرسول الأعظم (ص)

مسألة: يجب أن يكون اختيار النبي من قبل الله تعالى وبتعيينه سبحانه، وكذلك الإمام (عليه السلام)، حيث قالت: (اختاره وانتجبه) أي: لأن يكون رسوله الأخير إلى البشر وأفضل الرسل على الإطلاق، وفي حديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (فلم أزل خياراً من خيار).

قولها (عليها السلام): (وانتجبه) من النجابة، وقد نجب نجابة: إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه، أي اصطفاه، وذلك قبل أن خلقه وفطره، وفي زيارة الجامعة: (خلقكم أنوارا فجعلكم بعرشه محدقين)(1) فإن النور تحول إلى إنسان، كما أن النار تحولت إلى الجان، وكما أن التراب تحول إلى البشر، قال تعالى:(والله خلقكم من تراب)(2).

ومن الواضح إمكان تحول المادة إلى المادة، والمادة إلى الطاقة، وبالعكس، فقد اختاره الله وانتقاه قبل أن يرسله، أي إنه تعالى انتخب من عرف انه خير البشرية على الإطلاق، للرسالة.

والعلم كاشف وليس بعلة، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان سيخرج قمة القمم في مختلف الامتحانات الإلهية ـ حسب معرفته سبحانه وتعالى بعلم الغيب ـ لذلك انتخبه هو دون غيره ليحمله أعظم الرسالات والمسؤوليات الكونية على الإطلاق وأعطاه من الامتيازات الاستثنائية ما أعطاه.

وهناك وجه آخر: هو امتحانه جل وعلا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكل من عداه في عوالم سابقة، فأبدى (صلى الله عليه وآله وسلم) أهليته على الإطلاق، وقد يشير إلى هذا الوجه ما ورد في زيارة السيدة الزهراء (عليها السلام): (يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة)(3) وتفصيل البحث في علم الكلام والحديث.

مواصفات خاصة للنبي (ص) والإمام (عليه السلام)

مسألة: في قولها (عليها السلام): (اختاره وانتجبه) دليل على أن هنالك مواصفات استثنائية، يجب أن تتوفر في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام(عليه السلام).

فقد اختاره صلى الله عليه وآله وسلم وانتقاه الله تعالى بما يحمل من مواصفات تؤهله لكي يكون رسولاً لرب العالمين وحجة على الناس أجمعين.

ففي نفس كلمة (اختاره وانتجبه) دلالة على ذلك، حيث وقع الاختيار من بين الكل عليه وهو سبحانه أحكم الحكماء(4) على أن تفرد الله تعالى بهذا العمل وقيامه به بالذات دليل على ذلك، حيث ان غيره لايمكن أن يكتشف تلك الصفات الإستثنائية.

ومن هنا كان اعتراض الملائكة عليه سبحانه في قضية خلق آدم (عليه السلام)، قال تعالى: (واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم مالا تعلمون)(5).

ومن جملة تلك الصفات: العصمة(6) اللازمة عقلاً وشرعاً في النبي والإمام عليهما السلام(7) والتي لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى وقد أشار إليه الإمام (عليه الصلاة والسلام) في قصة اختيار موسى (عليه السلام) حيث اختار سبعين رجلاً ومع ذلك كفروا: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا)(8).

وليس هذا نقصاً في موسى (عليه السلام)واختياره، وإنما هو بيان لأن الذين كانوا خيرة القوم حسب مختلف الظواهر كانوا هكذا فكيف إذا كانوا غير الخيرة، أو كانوا غير مختارين من قبل النبي (عليه السلام) وهو أدرى الناس بما يمكن للبشر معرفته من خفايا النفس البشرية.

أما بالنسبة إلى الفقهاء أو الوكلاء والرجوع إليهم، فهو بأمر الله سبحانه وتعالى أيضاً، قال تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(9) فحيث لم تشترط فيهم العصمة ولم تكن فيهم ضرورية ولا واقعة، لذلك أوكل الله تعالى معرفة مصاديقهم إلى الناس أنفسهم أو إلى أهل الخيرة منهم(10).

فلا يقال: لماذا يلزم في النبي والإمام (عليهما السلام) العصمة دون وكلائهم في حال حياتهم أو بعد غيبتهم، فإن القياس مع الفارق الكبير.

إضافة إلى عدم وجود القابلية لمقام العصمة في غير الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، إذ هو تعالى فياض حكيم يعطي فيضه ولطفه للقابل لاغير(11).

مواصفات وكلاء المعصومين (ع) وأتباعهم

مسألة: ومما سبق نعرف أن الفقهاء والوكلاء والقضاة وأئمة الجماعة والخطباء ومن أشبههم، بل عموم أتباع المعصومين (عليهم السلام) وإن لم يكونوا معصومين إلا ان من الضروري أن يتحلوا بكثير من الصفات التي توفر درجة من السنخية والتجانس مع موكليهم وأئمتهم وقادتهم، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ألا وإن لكل مأموم إمام يقتدي به ويستضيء بنوره ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألى وإنكم لاتقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(12).

ثم إن من تلك الصفات: ما ذكر في القرآن الكريم وورد في الأحاديث الشريفة حكاية عن حال الأنبياء (عليهم السلام) أو وصفاً للمؤمنين، مثل قوله سبحانه:( إنه كان عبداً شكورا)(13).

وقوله تعالى: (إنه كان صادق الوعد)(14).

وقوله سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم)(15).

وقوله تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر )(16).

وقوله سبحانه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود)(17) الآية.

وقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون)(18) الآية.

وقوله سبحانه: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(19).

وعنه عليه السلام: (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)(20).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): (ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لايظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده)(21).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (المؤمن … بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً… يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل الغم، بعيد الهم، كثير الصمت، ذكور، صبور، شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقـــره، سهل الخليقـــة، لين العـــريكـــة… أصــلب من الصلـــد، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع ولا عنف ولا صلف ولا متكلف ولا متعمق…)(22).

وهذه الصفات وإن كانت عامة إلا أن توفرها في الوكلاء آكد، كما لا يخفى.

وسماه قبل أن اجتباه

التسمية قبل الولادة

مسألة: يستحب التسمية للشخص قبل الولادة، وقد ورد في الروايات استحباب تسمية المولود قبل أن يولد، حتى إنهم قالوا: إذا عرف إنه ولد سمي باسم الولد، أو أنثى فباسم الانثى، أو مشكوك فباسم مشترك يصلح للذكر والأنثى.

وفي الحديث عن علي (عليه السلام): (سموا أولادكم قبل أن يولدوا، فان لم تدروا أذكر أم انثى فسموهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى، فإن أسقاطكم إذا لقوكم يوم القيامة ولم تسموهم يقول السقط لأبيه: ألا سميتني)(23).

ومن هذه الجهة سمى رسول الله محسناً قبل أن يولد(24).

قولها (عليها السلام) (اجتبله) أي: خلقه، فقد سماه جل وعلا لملائكته وأنبيائه قبل أن يخلقه(25) أو انه تعالى وضع له اسماً قبل أن يخلق مطلقاً(26).

واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة وبنهاية العدم مقرونة

من فضائله (ص)

مسألة: ينبغي التركيز والتأكيد على اختيار الله جل وعلا واصطفائه للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) و لسائر الرسل وللأئمة (عليهم السلام)، وبيان فلسفة ذلك أيضاً، كما سبق الإشارة إلى جانب منها وكما سيأتي في كلامها (عليها السلام): (علماً من الله بمآل الأمور…).

إذ ان ذلك إضافة إلى تضمنه توجيهاً وتربية، فإنه يزيد من شدة التفاف الناس حولهم وبهم (عليهم السلام).

قولها (عليها السلام): (إذ) بيان لظرف الاصطفاء، فالقبلية زمنية ورتبية أيضاً، فقد اختاره (صلى الله عليه وآله) لا قبل البعثة فحسب، بل قبل الخلقة أيضاً.

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله: (قال: قلت لرسول الله: أول شيء خلقه الله ما هو؟ فقال: نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير)(27).

ولا ينافي هذا ما ورد من أن (أول ما خلق الله عزوجل العقل)(28) لأن العقل الأكمل هو النبي (صلى الله عليه وآله) ونوره عقل.

و(الأهاويل) الأهوال، هذا تشبيه للعدم بالهول أو يقال: إن الأهوال شرور والشرور أعدام، كما ذكروا في علم الكلام في بـحث ان الـوجـود خير محـض

والعدم شر محض(29).

و(بنهاية العدم): العدم ليس بشيء حتى يكون له إبتداء، وإنما هو كناية عن العدم المحض الذي لا شائبة له من الوجود حتى الوجود الذهني والانتزاعي والاعتباري.

وهذه الجمل الثلاثة يحتمل أن يكون المراد بها واحداً، فبعضها بيان للبعض الآخر من باب التفنن في التعبير، ويحتمل أن يكون المراد بها الإشارة إلى التسلسل الوجودات في العوالم المتتالية، أو إلى مراتب الوجود(30).

علماً من الله تعالى بمآئل الأمور(31) وإحاطة بحوادث الدهور

ومعرفة بمواقع المقدور(32)

علمه تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بعلمه تعالى و: (إن الله قد أحاط بكل شئ علماً)(33) (وهو بكل شئ عليم)(34) والتفصيل في علم الكلام.

كما يجب الاعتقاد بأنه عزوجل يعلم الغيب:( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمركله)(35).

ولا يخفى ان علمه سبحانه من صفات الذات، كما هو مفصل في علم الكلام، قال الامام موسى بن جعفر (عليه السلام): (علم الله لا يوصف منه بأين ولا يوصف العلم من الله بكيف ولا يفرد العلم من الله ولا يبان الله منه وليس بين الله وبين علمه حد)(36).

ما وصف الله به نفسه

مسألة: ينبغي أن يصف المرء ربه بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله وأوصيائهم، ويحرم أن يصفه بغير صفاته، وقد قال (عليه السلام): (فمن وصف الله فقد حده ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله)(37).

والمراد توصيفه سبحانه بصفات الجسم ولوازم الجسم وما أشبه من صفات الممكنات(38) بل مطلق غير ما يصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله، وخطبتها (عليها السلام) هي مما يرجع إليه في معرفة أوصافه وأسمائه جل وعلا.

و(مائل) جمع مآل: ما يؤول ويرجع إليه الأمر(39)، أي إنما بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلمه بعواقب الامور، كعلمه بعاقبة كل فعل من أفعال البشر ومناهجهم وعلمه بعاقبة بعثته للرسول (صلى الله عليه وآله) وعاقبة عدم بعثته وغير ذلك، كمن يعلم عاقبة من يمشي في غابة خطرة جاهلاً بمسالكها وأخطارها، وهو تعالى يعلم أيضاً المستجدات والمتغيرات التي تحدث للبشرية ولغيرها على مر الأعصار(40).

فهو سبحانه، يضع منهجاً متكاملاً لشتى أبعاد الحياة البشرية وهو عالم بالعواقب، محيط بالمستجدات، عارف بموقع كل شيء، وقدره فهو يعلم الزمان والمكان والجهات والشرائط المكتنفة بكل حدث وحكم، فمن الطبيعي وجوب اتباع مناهجه ورسله عقلاً.

أما البشر فليس بمقدوره وضع القوانين والمناهج، إذ هم يجهلون كل ذلك، فهم يجهلون خفايا النفس البشرية ويجهلون خفايا الطبيعة ويجهلون المستجدات الطارئة ويجهلون تأثيرات القوانين على الأجيال القادمة ويجهلون التزاحمات والتعارضات ويجهلون ويجهلون(41).

قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتـــبع غير سبـــيل المـــؤمنين نـــوله ما تولى ونصله جهـــنم وســــاءت مصيراً)(42).

فمن يريد حياة سعيدة بهيجة في الدنيا والآخرة لابد له من الإذعان لاختيار الله ومن اتباع مناهج من اصطفاه الله في كل رطب ويابس، قال تعالى: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )(43).

وقال سبحانه: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم)(44).

وقال تعالى: (يبين الله لكم أن تضلوا)(45).

وقال سبحانه: (كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم)(46).

استحضار إحاطته تعالى

مسألة: يستحب أن يستحضر الإنسان في ذهنه دوماً إحاطة الله سبحانه بكافة أفعاله وأقواله بل حتى خواطره، وقد ورد: (يا عالم الجهر والخفيات ويا من لا يخفى عليه خواطر الأوهام وتصرف الخطرات)(47)، وأن يتذكر أن أزمة الأمور كلها بيده(48)، وإن المقادير جميعاً تعود إليه، كما قال (صلى الله عليه وآله): (ان الله عزوجل قدر المقادير ودبر التدابير)(49).

وقد يجب ذلك..

وبإخطار ذلك دوماً في القلب وتأمله في العقل وتكراره باللسان سيحدث للإنسان حاله روحانية وملكة تقربه إلى مراتب الكمال وتجنبه مواطن الزلل والضلال.

التعبد المطلق

مسألة: يجب التعبد المطلق في قباله تعالى، وكذلك بالنسبة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الطاهرين (عليهم افضل الصلاة والسلام) حتى فيما جهل وجه الحكمة فيه، فلقد أصبح البعض ينكر ـ فوراً ودون روية وبلا رجوع لأهل الذكر ـ أي حديث يبلغ مسامعه مما لايفهم وجه العلة فيـه، أو مما عـارض مرتكزاته الذهنية، فكان مثله كمثل من يرفض نصائح الطبيب الحاذق لأنه لايفهم وجه العلة، أو لأنه عارض مفهوماً ذهنياً لديه.

فإذا كان الله العالم بمآل الأمور والمحيط الحوادث والعارف بالمقدرات.. قد اصطفاهم (عليهم السلام) ليكونوا الأدلاء عليه والمرشدين إلى سعادة البشرية والعالمين بما كان وما يكون وما هو كائن، فكيف ينكر الإنسان حديثاً لمجرد معارضته لما توصل هو إليه، مع ضيق أفقه وقلة علمه وكثرة اشتباهه(50)...؟!

ومما يوضح هذا المعنى أكثر: ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) في بيان ان دية قطع أربع أصابع المرأة تساوي دية إصبعين منها واستنكار ذلك الرجل قائلاً: ان هذا كان يبلغنا فنبرء ممن قاله ونقول الذي جاء به شيطان(51).

وقد قال (عليه السلام): (انما الأمور ثلاثة: امر بين رشده فيتبع، وامر بين غيه فيجتنب، وامر مشكل يرد علمه الى الله والى رسوله)(52).

ابتعثه الله إتماماً لأمره

إتمام الأمر

مسألة: ينبغي للإنسان أن يتم كل أمر بدأ وإن يتقنه، تخلقاً بأخلاقه تعالى(53)، ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (رحم الله إمرء عمل عملاً فأتقنه)(54).

والإتمام والإتقان شامل للكم المنفصل والمتصل، ومنه الاستمرار زمناً، وللكيف ولسائر الجهات، فتأمل.

و(ابتعثه إتماماً لأمره) حيث ان أمره تعالى ابتداءً هو التكوين: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون )(55) ومنه تكوين الإنسان وغيره ممن وضع عليهم قلم التكليف(56).

و(إتمام الأمر) هو هدايته.

و(الابتعاث) من البعث، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

وببيان آخر: أمره تعالى هو ما سبق من العلل الخمسة المذكورة في كلامها (عليها السلام): (تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته و…) فببعثه النبي (صلى الله عليه وآله) يتم التثبيت للحكمة والتنبيه على الطاعة وإظهار القدرة وتعبد البرية وإعزاز الدعوة وإتمام الأمر وهو مقتضى الحكمة، وعدمه نقض للغرض ولو في الجملة.

وبمعرفة ذلك يتضح السر في قوله تعالى في الحديث القدسي: (يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك ولو لا علي لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما)(57).

وقولها (عليها السلام): (إتماماً لأمره) يصلح للاستدلال به على ضرورة الإمامة والوصاية، نظراً لأن بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) لايكمل الغرض منها ولايتم الأمر إلا بذلك، ولذلك قال تعالى في يوم الغدير، يوم نصب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) خليفة من بعده: (أليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )(58).

ويمكن الإستناد للجملتين اللاحقتين بضميمة.

وعزيمة على إمضاء حكمه وإنفاذاً لمقادير حتمه

تنفيذ حكمه تعالى

مسألة: يجب إمضاء حكمه تعالى وتنفيذه، ولايجوز العدول عن أحكامه، قال سبحانه:( ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون)(59).

وقال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون)(60).

وقال سبحانه: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون)(61).

(وعزيمة): أي تصميماً(62) على تنفيذ حكمه بالخلق والهداية، فقد بعثه (صلى الله عليه وآله) لأجل انه عزم على إمضاء ذلك الحكم وتحقيقه في الخارج.

التقدير الإلهي الحتمي

مسألة: من اللازم الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي(63)، وتفصيل الكلام في علم الكلام.

وهذا لا ينافي اختيار الإنسان وقدرته، لأنه تعالى قدر ذلك كما سيأتي.

قولها عليها السلام:(لمقاديره حتمه) أي لمقادير الحتمية(64) أو ما حتم.

والحتم بعد الحكم، فالثلاثة كما يقال في الإنسان: من الشوق والإرادة والتنفيذ، كتحريك العضلات ـ مثلاً ـ وهنا: حكم فعزم(65) فحتم، إذ قد يكون الحكم غير حتمي، أي لم يصل إلى العلية التامة، والبحث في هذا المقام مضطرب الآراء طويل الذيل نتركه لمظانه.

هذا ومن الواضح: ان من مقاديره الحتمية قدرة الإنسان واختياره، قال تعالى: (وهديناه النجدين)(66) وقال سبحانه: (فألهمها فجورها وتقواها )(67) فالجمع بين ذا وبين علمه بمآل الامور وإرادته إتمام الأمر وشبهه: هو إرساله هذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون حجة ودليلاً وهادياً، ذائداً لعباده عن نقمته، حائشا لهم إلى جنته، قال تعالى: ( ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى)(68) وهدايته بالعقل والشرع والفطرة والغريزة وما أشبه.

وأخيراً: ينبغي الإشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يكون ذا عزيمة وإصرار على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن شر ما يصيب الفرد أو الأمة الوهن والتردد عند مواجهة الصعاب والعقبات التي تعترض طريق المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

قال علي (عليه السلام): (يا أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه)(69) فكل ما حكم به الله، على الإنسان أن يجد لتحقيقه فإنه سير في طريق الهدف الذي توخاه الله من الخلقة.

وقد ذكر في القرآن الكريم على سبيل المدح كلمة (العزم) قال سبحانه: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)(70) وعبر عن بعض الأنبياء بـ:( أولوا العزم من الرسل)(71) إلى غير ذلك.

 

1 - عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص275 ح1 زيارة اخرى جامعة. وراجع أيضاً (مفاتيح الجنان) و(الدعاء والزيارة) زيارة الجامعة الكبيرة.

2 - سورة فاطر: الآية 11.

3 - التهذيب: ج6 ص9 ب 16 ح 12. وراجع أيضا (المزار) ص178 باب زيارتها عليها السلام. ومصباح المتهجد ص711. وجمال الاسبوع ص31 و32 زيارة الزهراء عليها السلام.

4 - إضافة إلى أن (انتجبه) ـ كما سبق ـ من: نجب نجابة، إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه.

5 - سورة البقرة: الآية 30.

6 - العصمة هي ما يمتنع المكلف معه من المعصية متمكناً منها، ولايمتنع منها مع عدمها. راجع (الالفين) ص56 المائة الاولى البحث السابع في عصمة الامام (عليه السلام).

7 - راجع كتاب (الألفين) للعلامة الحلي (قدس سره) ص56 المائة الاولى، البحث السابع في عصمة الامام(عليه السلام)، وكتاب (القول السديد) للمؤلف دام ظله. و(علل الشرائع) ص باب العلة التي من أجلها يجب ان يكون الامام معروف القبيلة.. معصوماً من الذنوب.

8 - سورة الأعراف: الآية 155.

9 - سورة التوبة: الآية 122.

10 - راجع المسائل الإسلامية ص90 احكام التقليد المسألة3 وفيه: (يعرف المجتهد باحدى طرق ثلاث: أولا: ان يتيقن الإنسان نفسه بذلك بان يكون الشخص نفسه من اهل العلم ويتمكن من معرفة المجتهد، ثانيا: ان يخبر بذلك عالمان عادلان يمكنهما معرفة المجتهد بشرط ان لا يخالف خبرهما عالمان عادلان آخران، ثالثا: ان يشهد جماعة من أهل العلم والخبرة ممن يقدرون على تشخيص المجتهد ويوثق بهم باجتهاد أحد، والظاهر هو كفاية اخبار شخص واحد إذا كان ثقة بذلك).

11 - بالإضافة إلى ان الدنيا دار امتحان، وكونها دار امتحان يقتضي وجود نبي أو إمام معصوم(عليه السلام) يكون بمثابة المنبع والمصدر الأساسي والرئيسي للتشريع، ووكلاء لهم بمثابة الجداول والفروع، لم يشترط فيهم ذلك ولم يتحقق، فالجمع بين كونها دنيا وبين (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) [البقرة: 187] وبين إرادة الامتحان وغيرها يقتضي ذلك فدقق.

12 - مستدرك الوسائل: ج12 ص54 ب 63 ح 13497 عن نهج البلاغة.

13 - سورة الإسراء: الآية 3.

14 - سورة مريم: الآية 54.

15 - سورة آل عمران: الآية 159.

16 - سورة آل عمران: الآية 159.

17 - سورة الفتح: الآية 29.

18 - سورة المؤمنون: الآيات 1-5.

19 - سورة آل عمران: الآية 110.

20 - وسائل الشيعة: ج18 ص94 ب 10 ح 20. والاحتجاج ص458 احتجاج ابي محمد الحسن ابن علي العسكري (عليه السلام) في انواع شتى من علوم الدين.

21 - الكافي: ج2 ص230 ح 2. والخصال ص406 باب الثمانية ح1.

22 - الكافي: ج2 ص226 ح 1. واعلام الدين ص115 باب صفة المؤمن.

23 - وسائل الشيعة: ج15 ص121 ب 21 ح 1. والخصال ص634 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) اصحابه في مجلس واحد..

24 - الكافي: ج6 ص 18ح2. وعلل الشرائع ص464 باب النوادر ح14.

25 - أي: قبل أن يخلقه في هذا العالم، أي قبل ولادته، وإلا فإن نوره صلى الله عليه وآله وسلم قد خلق قبل سائر الأشياء، راجع بحار الأنوار: ج25 ص21 ب37.

26 - أي قبل خلقه جسمه وروحه ونوره.

27 - بحار الأنوار: ج25 ص21 ب1 ح37.

28 - من لا يحضره الفقيه: ج4 ص 369 ب2 ح 5762. وغوالي اللئالي ج4 ص99 ح141 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم واهله وحامليه.

29 - راجع القول السديد في شرح التجريد للإمام المؤلف دام ظله.

30 - وربما يؤيد هذا الاحتمال الثاني قولها عليها السلام: (مصونة، مكنونة) وعلى الاحتمال الأول قد تكون هذه التعابير مجازية.

31 - وفي نسخة: (بما يلي الأمور).

32 - وفي نسخة: (بمواقع الأمور).

33 - سورة الطلاق: الآية 12.

34 - سورة البقرة: الآية 29.

35 - سورة هود: الآية 123.

36 - التوحيد ص138 باب العلم ح16.

37 - الكافي: ج1 ص140 ح 6. والتوحيد ص57 باب التوحيد ونفي الشبيه ح14.

38 - ولذا علل (عليه السلام) قوله بـ (لشهادة كل صفة انها غير الموصوف وشهادة الموصوف انه غير الصفة وشهادتهما جميعاً بالتثنية الممتنع منه الأزل) [الكافي: ج1 ص140 ح 6] وهذه حال صفات الممكن.

39 - راجع لسان العرب مادة (أول) وفيه: (الاول: الرجوع. آل الشيء يؤول اولا ومآلا: رجع. واول اليه الشيء: رجعه. وألت عن الشيء: ارتددت).

40 - كمن يـخطط المعركة وهو على علم تام بكافة الطواري والمستجدات التي ستواجه أفراد الجيش، فهو يرسم مختلف الحلول والبدائل لجيشه.

41 - راجع موسوعة الفقه كتاب القانون للإمام المؤلف دام ظله.

42 - سورة النساء: الآية 115.

43 - سورة الأنعام: الآية 59.

44 - سورة النساء: الآية 26.

45 - سورة النساء: الآية 176.

46 - سورة النور: الآية 59.

47 - الإقبال ص969 فصل فيما نذكره من تسبيح وتحميد و.. في ليلة النصف من شعبان.

48 - راجع مصباح المتهجد ص378 صلاة في طلب الولد وفيه: (علما بأن ازمة الأمور بيدك). وفي البلد الامين ص386 دعاء اويس القرني: (وازمة الأمور كلها بيدك).

49 - التوحيد ص376 ح22 باب القضاء والقدر. وفي (الاقبال) ص661 فصل فيما نذكره من دعاء يوم النصف من رجب: (يا من اليه التدبير وله المقادير).

50 - ونرى العلامة المجلسي (قدس سره) عند ما ذكر رواية في كتاب (السماء والعالم) عن الإمام الصادق (عليه السلام) تنفي ما أجمع عليه الفلكيون منذ زمن بطلميوس: من كون الأرض هي المركز، وكون الأفلاك محيطة بالأرض كقشور البصل، فلم يرد المجلسي (قدس سره) الرواية رغم مخالفتها لعلم الهيئة ذلك الزمن، بل أرجع علمها إلى أهلها عليهم السلام، والآن قد ثبت صحة الرواية وخطأ علم الهيئة السابقة المتسالم عليه بين كافة علماء تلك الأعصار ولألوف السنين، وقد اعتبر السيد هبة الدين الشهرستاني (قدس سره) في كتابه القيم (الهيئة والإسلام) هذا الموقف من العلامة المجلسي (قدس سره)دليلاً على عظمته وسمو روحه…

51 - اللمعة الدمشقية ج10 ص41 كتاب القصاص، صحيحة ابان بن تغلب عن أبي عبد الله(عليه السلام). ووسائل الشيعة ج19 ص268 ب44 ح1: (عن ابان بن تغلب قال قلت لابي عبد الله(عليه السلام): ما تقول في رجل قطع اصبعاً من اصابع المرأة، كم فيها، قال: عشرة من الابل، قلت: قطع اثنتين، قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثة، قال: ثلاثون، قلت: قطع اربعة، قال: عشرون، قلت: سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعاً ويكون عليه عشرون، ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرء ممن قاله ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: مهلاً يا ابان، هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية، فاذا بلغت الثلث رجعت الى النصف، يا ابان انك اخذتني بالقياس، والسنة اذا قيست محق الدين).

52 - وسائل الشيعة ج18 ص114 ب12 ح9.

53 - اشارة الى قوله (عليه السلام): (تخلقوا بأخلاق الله) بحار الانوار ج58 ص129 ب42.

54 - راجع الامالي للشيخ الصدوق ص384 المجلس 61 ح2 وفيه: (ولكن الله يجب عبدا اذا عمل عملا أحكمه).

55 - سورة يس: الآية 82.

56 - كالجن قال سبحانه: (إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا) [الجن: 2] ومخلوقات اخرى لانعرفها، قال تعالى: (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) [الإسراء: 70].

57 - عوالم العلوم ومستدركاته مجلد فاطمة الزهراء عليها السلام ج1 ص44 عن مستدرك سفينة البحار ج3 ص334، عن مجمع النورين ص14.

58 - سورة المائدة: الآية 5.

59 - سورة المائدة: الآية 44.

60 - سورة المائدة: الآية 45.

61 - سورة المائدة: الآية 47.

62 - (عزمت على أمر): إذا أردت فعله وقطعت عليه، و(العزم): ما عقدت عليه قلبك انه فاعله. راجع لسان العرب مادة (عزم).

63 - حول هذا المبحث راجع كتاب (التوحيد) ص364 باب القضاء والقدر. و(تصحيح الاعتقاد) ص54 في تفسير آيات القضاء والقدر. و(روضة الواعظين) ص40 باب في القضاء والقدر. و(الاحتجاج) ص209 روي انه سئل عن القضاء والقدر. و(غوالي اللئالي) ج4 ص109 روي انه سئل عن القضاء والقدر. و(بصائر الدرجات) ص340 سألته عن القضاء والقدر. و(المحاسن) ص245 ح240 باب الارادة والمشيئة. و(كنـز الفوائد) ج1 ص360 فصل من القول في القضاء والقدر. و(غرر الحكم ودرر الكلم) ص102 الفصل الثالث في القضاء والقدر.

64 - من باب إضافة الموصوف للصفة.

65 - على إمضاء ذلك الحكم.

66 - سورة البلد: الآية 10.

67 - سورة الشمس: الآية 8.

68 - سورة طه: الآية 50.

69 - مستدرك الوسائل: ج12 ص194 ب 4 ح 13858. وشبهه في الارشاد ج1 ص276 فصل ومن كلامه(عليه السلام) في مقام آخر.

70 - سورة آل عمران: الآية 186.

71 - سورة الاحقاف: الآية 35.