التفرق عن الحق |
فرأى الأمم فرقاً في أديانها مسألة: يحرم التفرق عن الحق، فقد قال سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(1) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار)(2) إلى غير ذلك. وقد ورد في تفسير الآية(3): (ان الله تبارك وتعالى علم انهم سيفترقون بعد نبيهم ويختلفون فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم فأمرهم ان يجتمعوا على ولاية آل محمد (عليهم السلام) ولا يتفرقوا)(4). ويمكن الاستدلال له بآية: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(5) وبدليل العقل الآتي على ذلك وعلى حرمة التنازع والاختلاف ما هو هو في الجملة، أي فيما اذا سبب ما لا يجوز من الفشل وذهاب الريح. وهل يحرم النزاع إذا كان أحد الطرفين أو الأطراف ذا حق شخصي أو شبهه؟ الظاهر عدم ذلك بالنسبة إلى المحق، خاصة إذا كان ضرر التخلي عن حقه أكثر من ضرر التنازع، أما إذا انعكس الأمر كما لو تنازعا في دين أو شبهه من الحقوق فقد يؤدي النزاع ـ لو لم يتخل ذو الحق عن حقه ـ إلى سفـك الدماء وشبهه، أو إلى ذهاب الريح بدرجة تكون خسارتها أعظم مما يذهب من حقه الحالي، فالمسألة حينئذ تكون من كلي (الأهم والمهم)، ثم ان الآية تشمل المنازع غير المحق مطلقاً. هذا بالإضافة إلى دلالة العقل على أن الاجتماع قوة والتفرقة ضعف، وسر تقدم وتحطم الامم هو ذلك، فإذا اجتمعت على الحق سلمت وسعدت دنيا وأخرى وإلا فلا. كما يدل العقل أيضاً على أن الحق في كل مجال واحد لايتعدد ـ اللهم إلا في مصاديق الكلي الواحد(6) ـ فمن خالف هذا الواحد كان باطلاً، فاللازم البحث والفحص والاستدلال حتى ينتهي الجميع إلى الواقع. وفي الحديث عن علي(عليه السلام) قال: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن امة موسى (عليه السلام) افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وسبعون في النار، وافترقت أمة عيسى (عليه السلام) بعده على اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية، وإحدى وسبعون في النار، وإن أمتي ستفترق بعدي علـى ثلاثة وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار)(7). وفي بعض الروايات عنه (عليه السلام) قال في آخره: (فقلت: يا رسول الله وما الناجية؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): المتمسك بما أنت عليه وأصحابك)(8). نعم في صورة اختلاف الاجتهادات في الفروع الشرعية وعدم تيسر وصول الجميع للحق فيها يأتي ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (للمصيب أجران وللمخطىء أجر). فان المصيب له اجر اصابة الواقع واجر البحث والفحص، اما المخطيء ـ والمقصود به من لم يقصر في المقدمات بل يحاول جاداً الوصول الى الحق إلا انه لم يصب قصوراً ـ فله أجر البحث والفحص فقط، وهذا الحديث عقلي قبل أن يكون شرعياً. قولها (عليها السلام): (فرقاً) أي ليست لهم وحدة في الدين، الأعم من الاصول والفروع. الفحص عن حال الأمم مسألة: يجب التفحص عن حال الأمم الأخرى، ومعرفة انحرافاتها الفكرية والعملية، وجوباً كفائياً، مقدمة للإرشاد والإصلاح، وهو ما يحقق في الجملة الأهداف المذكورة في كلماتها (عليها السلام)، هذا والكلام في وجوب الفحص عن الموضوعات مفصل ذكرناه في محله. عكفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها عبادة النيران والأوثان مسألة: تحرم عبادة النيران وسائر الأوثان بما هي هي أو بدعوى انها تقرب الإنسان إلى الله زلفى، كما ورد في القرآن عن لسان المشركين قال تعالى: (وما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى...)(9). فإن عبادة غير الله سبحانه وتعالى محرمة(10)، سواء كان ذلك الغير بشراً، أو حيواناً كالبقر، أو نباتاً كالشجر، أو جماداً كالحجر والنار والماء، فإن كثيراً من هذه العبادات لاتزال موجودة في بعض البلاد كالهند والصين ونحوهما. بل إن الكثير من الناس يعبدون ويطيعون أهوائهم من دون الله، كما قال تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه)(11) وإطلاق كلامها (عليها السلام) يشمله، وربما يقال بأن الانصراف وبعض القرائن المقامية قد لا تسمح بذلك، فتأمل. كما يمكن التعميم توسعة مجازاً أو ملاكاً، بإرادة نيران العداوة والبغضاء، لا يحيدون عنها إلى الألفة والاجتماع والتعقل والصلاح. ولا فرق في حرمة عبادة النار والوثن بين مختلف أنواع ما يطلق عليه عبادة عرفاً، كالصلاة والركوع والسجود وتقديم القربان وما أشبه ذلك، كما لايجوز إذا قصد العبادة ولو بما لا يعد عرفاً عبادة، أما صنع المجسمـات والمعاملـة عليهـا لا للعبادة، فالظاهر جواز ذلك لأن الأدلة منصرفة إلى ما كان المقصود منها العبادة والتفصيل مذكور في الفقه(12). وقد يكون السبب في تركيز السيدة الزهراء (عليها السلام) على هذا الانحراف العقائدي في المعبود: ان عبادة النيران والأوثان ـ وهي كما قال تعالى: (واتخذوا من دونه الهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولانفعاً ولا يملكون موتاً ولاحيوةً ولانشوراً)(13) ـ يكشف عن الجهل بأكثر الحقائق بداهة وبأكبر الكمالات وأعظمها، بل الجهل بالكمال المطلق. وذلك إضافة إلى كونه نقصاً(14) يعد من أهم عوامل الجمود الفكري والتخلف الحضاري والعلمي، إذ الفرق واضح بين من إلهه مظهر الفقر والجهل والعجز، ومن إلهه مظهر الكمال والغنى والعلم المطلق، وذلك كمن يتخذ مقتداه وإمامه شخصاً سفيهاً أو حكيماً، مستبداً أو استشارياً، قاسياً أو رحيماً، فإن هذا الاتخاذ يؤثر بقدر وإن كان الفرد بطبيعته أو بتربيته الاجتماعية من نمط آخر. قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم)(15) فهو ظلم للإنسان نفسه ولمجتمعه كما هو ظلم لعقله ولفطرته ووجدانه. منكرة لله مع عرفانها إنكار الله رغم معرفته مسألة: يحرم إنكاره جل وعلا، سواء كان بإنكار أصل وجوده، أم وحدانيته، أم بعض صفاته الثبوتية أو السلبية، كما: (قالت اليهود يد الله مغلولة)(16) وكقول النصارى بأن له ولداً، قال تعالى:( وقالوا اتخذ الرحمن ولداً، لقد جئتم شيئاً إداً، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، أن دعوا للرحمن ولداً، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً )(17). وكالقول بالحلول والاتحاد والجبر وما أشبه ذلك، فلقد كانت الأمم حين بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) فرقاً، كل واحدة منها تنكر شيئاً من ذلك فهي (منكرة لله مع عرفانها) بالحقيقة، والمراد إما المعرفة الفطرية أو البرهانية. أما من لا يعرفه جل وعلا ـ لشبهة مثلاً ـ فالواجب عليه الفحص والبحث وجوباً عقلياً قبل أن يكون شرعياً في بعض الموارد(18) وذلك لاحتمال الضرر العظيم في الدنيا والآخرة، ودفع الضرر المحتمل في الأمور الخطيرة واجب عقلاً، كمن يحتمل احتمالاً عقلائياً أن يكون في الطريق سبع أو لص يقتله أو ما أشبه ذلك، فإن العقلاء يردعونه عن سلوك هذا الطريق، قال: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(19). ومعنى الإنكار مع العرفان ما ذكر في قوله سبحانه: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)(20) وقوله تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(21) حيث ان كثيراً من المشركين كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى لكنهم كانوا تقليداً لآبائهم يعبدون الأصنام، وقد اشير في القرآن الحكيم إلى هذا المطلب كراراً(22) فهم كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)(23). فإن المعرفة إذا لم تكن موضع العمل يسري الإنكار إلى السلوك لساناً وعملاً، بل وقلباً ـ بنائياً ـ أيضاً، فهم يعرفون علماً، وينكرون عقدا قلبياً. فأنار الله بأبي محمد (ص) ظلمها إنارة الظلم مسألة: لقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) شمساً مضيئة في افق البشرية ـ بل كل العوالم الإمكانية ـ فقد كان ولايزال هو وأهل بيته (عليهم السلام) وسائط الفيض بين الخالق جل وعلا وبين كافة المخلوقات، كما ورد: (بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الارض والسماء)(24). فمن الواجب السعي ـ عبر الكتب والمجلات والإذاعات وغيرها ـ لتوضيح الإشراقات الإلهية التي تجلت عبره (صلى الله عليه وآله) على البشرية بأجمعها، ودوره (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا يضارع في إضائة طرق الهداية، بل في الكشف عن مختلف الحقائق الدينية والدنيوية في شتى الحقول، وما له (صلى الله عليه وآله) من الفضل على الإنسانية في الأبعاد الحقوقية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها وفي أبعاد العلوم الوضعية أيضا(25). المصباح المنير مسألة: يستحب ـ ويجب في موارد ـ تأسياً به (صلى الله عليه وآله وسلم) وتخلقاً بأخلاق الله تعالى(26) ولدليل العقل أيضاً: أن يكون الإنسان كالمصباح المنير للمجتمع، ينير لهم سبل الرشاد، وفي كل حقل كيفما تمكن. و(الظلم): جمع الظلمة، وهي قد تكون ظلمة الاعتقادات المخالفة للواقع، وقد تكون ظلمة الأعمال الباطلة، وكما تستر الظلمة الحقائق العينية الخارجية كذلك يستر الجهل الحقائق الفكرية والاعتقادية ويخفي الخير العملي، فيضيع الحق بين أقسام الباطل ويختلط العمل الصالح بالطالح. وفي ذينك الموردين الإنارة واجبة وفي غير ذلك مستحبة، لأنها نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل و… الشامل للواجب والمستحب والحرام والمكروه كل في مورده. تفصيل أهداف البعثة مسألة: ينبغي الاجتهاد(27) نحو البيان التفصيلي للغاية من بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهدافها، فإن ذلك من العلل المعدة لاقتراب الناس منها وسوقه نحوها وإرشادهم إليها، ذلك ان الناس لو عرفوا فوائد الشئ ومنافعه تفصيـلاً، كانوا أسرع استجابة وأشد ثباتاً وأقوى اندفاعاً، قال تعالى: (استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(28) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق)(29)، وقال (صلى الله عليه وآله): (انما بعثت رحمة)(30). المقياس في إتباع الرسول (ص) مسألة: الملاك لمعرفة من يسير بسيرته (صلى الله عليه وآله) ومن يهتدي بهديه ممن يدعي ذلك ويتظاهر به فقط: مدى إنارته لظلمات الجهل، عبر دعوة الناس للتفكر والتدبر وفسح المجال لهم بذلك وعبر المشورة وفتح باب نقد الحاكم إن أخطأ وما أشبه. على عكس المستبدين الذين يحرمون قولاً وعملاً، أو عملاً لا قولاً ـ إغراءً بالجهل وخداعاً للعامة ـ كل ذلك، بسلب الحرية من العلماء والمصلحين والكتاب والمفكرين وبسوق الناس لإطاعة الحاكم إطاعة عمياء، وفي القرآن الكريم:(وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)(31). وكذلك مدى إنقاذه الناس من الغواية والضلالة، أو محاولة إضلالهم أكثر فأكثر بالتدليس والتلبيس والتحريف وما أشبه في عكسه، قال (عليه السلام): (اذا جــالســـتم فجالسوا من يـــزيد في علمكم منطقه، ويذكركم الله رؤيـــته، ويـــرغـــبكم فــــي الآخرة عمله)(32). وكشف عن القلوب بهمها توضيح المعضلات مسألة: ينبغي كشف البهم(33) عن القلوب، وجوباً أو استحبابا، كل في مورده. فالشبهات والمتشابهات والمشتبهات والابهامات والمعضلات والمجهولات التي يجب على الإنسان الاعتقاد بطرف من أطرافها يلزم كشفها، وفي موارد المستحبات يستحب كشفها. كما ان الأمر في الأعمال كذلك، فينبغي ـ بالمعنى الأعم ـ كشف مجهولاتها وشبهاتها أيضاً، وقد ذكروا في علم الأصول حكم الشبهات الوجوبية والتحريمية، البدوية وغيرها، كما ذكروا مسألة الفحص في الأحكام والموضوعات(34). هذا ولا يخفى مدى أهمية (القلوب) في تبليغ رسالات الله، وإنه ينبغي الإهتمام بها، لا بالمظاهر فقط، قال تعالى: (يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم)(35). وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): (ان الله لا ينظر الى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر الى قلوبكم ونياتكم)(36). وقال الصادق (عليه السلام): (بينا موسى بن عمران(عليه السلام) يعظ أصحابه إذ قام رجل فشق قميصه، فأوحى الله عزوجل إليه: يا موسى قل له: لاتشق قميصك ولكن اشرح لي عن صدرك)(37). وجلى عن الأبصار غممها إزاحة الستائر مسألة: يستحب أو يجب إزاحة الستائر عن البصائر، إذ الظاهر ان المراد بالأبصار: البصائر، لأن ذلك هو الذي قام به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وهو بين واجب ومستحب، أما هذا العضو الخارجي الذي يبصر به الإنسان فليس الحديث بصدده(38) والله العالم، وإن كان يجب علاج العين فيما إذا عميت أو أصيبت وأمكن علاجها، أو يستحب، كل في مورده، قال علي(عليه السلام): (فقد البصر أهون من فقدان البصيرة)(39). قولها (عليها السلام): (غممها) الغمة: الستر، ولذا يسمى السحاب: الغمام، لأنه يستر ما في السماء من النيرات(40)، فقد كانت القلوب ـ قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ جاهلة بالحقائق، والأبصار لا ترى الدرب الصحيح نحو الحياة السعيدة. وربما يقال في الفرق بين المقاطع الثلاثة: إن المراد بـ (فأنار الله بأبي محمد ظلمها) أي المجهولات المطلقة، و(كشف عن القلوب بهمها): المتشابهات والمشتبهات، و(جلى عن الأبصار غممها) المجهولات بالعرض، ألساتر(41). أو يقال: المراد بالظلم: ظلم العقيدة، وبالبهم: ما يتعلق بها(42)، وبالغمم: كل ما يرتبط بمسيرة الحياة(43). أو يقال: الظلم: ما يتعلق بمدركات القوة المتعقلة(44)، والبهم: ما يتعلق بالقوة المتوهمة(45)، والغمم: ما يتعلق بالقوة المتخيلة والحواس. والله العالم، ويحتمل أن تكون الجمل من باب التفنن في التعبير، فتأمل. وقام في الناس في الهداية الهداية العملية مسألة: هداية الناس إلى الواجب واجـــبة، وهــــدايتهم إلى المستحــــبات مستحبة، وكذلك في عكس الأمرين، المحرمات والمكروهات(46). أما الهداية إلى المباحات فمستحبة أيضاً، حـــيث ان المباحــــات أحكــــام الله سبحـــانه وتعالى، وبيان أحكام الله وهداية الناس إليها بين واجب ومستحب. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعـــلي (عليه الســــلام): (لئـــن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من ان تكون لك حمـــر النعم)(47). وفي بعض الروايات: (خير لك مما طلعت عليه الشمس)(48). وفي بعضها: (خير لك من الدنيا وما فيها)(49). قولها (عليها السلام): (في الهداية) أي: إلى العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة والشريعة القويمة. ويمكن القول بأن الجمل الثلاثة السابقة كانت تشير إلى الجانب النظري [ الفكري والاعتقادي ] وهذه تشير إلى الهداية العملية، فقد قام (صلى الله عليه وآله وسلم) عملياً بهداية الناس نحو ما يصلح دنياهم وأخراهم، فأوجد فيهم روح الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والمصابرة والمرابطة والتوكل على الله والتواضع والاخوة والحرية والشورى وما أشبه. كما طبق (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم عملياً مناهج الإسلام الحيوية في مجالات: الإقتصاد، الزراعة، السياسة، الحكم، الحقوق الفردية والاجتماعية وما أشبه(50). ومن الواجب علينا أن نحذو حذوه في كل ذلك، كالقيام بالهداية إلى العقيدة عملياً، بمعنى توفير المقومات والأجواء اللازمة التي تسوق الناس للاعتقاد السليم وللمحافظة عليه(51). فأنقذهم من الغواية الإنقاذ من الغواية مسألة: يستحب أو يجب إنقاذ الناس من الغواية، بأي المعنيين فسرت(52)، تأسياً وإقتداءً به (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنقذهم من الغواية(53) التي كانوا فيها والضلالة الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها والتحارب والفقر وما أشبه(54). قال علي(عليه السلام): (في طاعة الهوى كل الغواية)(55). والفاء للتفريع فقد (قام في الناس بالهداية) (فـ) (أنقذهم من الغواية). وفي بعض النسخ (وأنقذهم) والواو تفيد مطلق الجمع وهي لا تدل على الترتيب أو التفريع لكنها لا تنفيها أيضاً(56). ومن المعلوم أن الهداية غير الإنقاذ: فإن الهداية: إراءة الطريق. والإنقاذ: الأخذ بيد الناس حتى الوصول إلى الهدف. فقد يقول المصلح للناس: (زوجوا أولادكم مبكراً) وقد يهيأ أسبـاب الزواج ومقوماته حتى يتم، فهذه الجملة اشارة للهداية بالمعنى الثاني(57). وقد تكون الهداية زيادة عن الإنقاذ عن الغواية، لأن بينهما واسطة، قال تعالى: (ولاينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم)(58). وبصرهم من العماية: وبصرهم من العماية التبصير من العماية مسألة: يستحب أو يجب تبصير الناس من العماية، عماية القلب والبصيرة والعمي في السلوك العملي للإنسان، لأن من لايرى الحقائق هو أعمى تشبيهاً، للمعقول بالمحسوس، قال (عليه السلام): (شر العمى عمى القلب)(59). ويمكن إرادتها (عليها السلام) من (الغواية): (الخيبة)(60) فتكون غير العماية التي فسرت بالضلالة، ولو فسرت الغواية بالضلالة كانت الجملة الثانية من مصاديق الجملة الأولى(61) إذ الإنقاذ في كل شيء بحسبه(62). وهداهم إلى الدين القويم الهداية للدين القويم مسألة: القويم أي العدل المستقيم الذي له قوام وواقعية، لا ذلك الذي في ظاهره بريق لكنه خلو عن الحق والحقيقة فهو كـ: (خشب مسندة)(63) أو: ( كرماد اشتدت به الريح في يوم عاص)(64) أو: (فأما الزبد فيذهب جفاء)(65) وهذا مما يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال. ولقد بذل صلى الله عليه وآله وسلم كل لجهد وأتعب نفسه الشريفة أشد التعب لهداية الناس إلى الدين القويم حتى نزل فيه قوله تعالى: (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى )(66). ومن اللازم علينا أن نتأسى به (صلى الله عليه وآله وسلم) في العمل لأجل الدين القويم كما ورد في الحديث: (فتأس متأس بنبيه وإلا فلا يأمن الهلكة)(67). ثم إن العمل لأجل الدين القويم حتى يتخذ الناس ذلك منهجاً وطريقاً، بين واجب ومستحب كل في مورده، مثل افتتاح المدارس وتأسيس المساجد وتجهيز الجيوش وتنظيم المنظمات وغير ذلك، كل حسب الزمان والمكان والجهات المناسبة. ودعاهم إلى الطريق المستقيم انتهاج الطريق المستقيم مسألة: ينبغي(68) الدعوة إلى الطريق المستقيم(69) وانتهاجه للوصول إلى المقاصد السامية، فإن العمل لأجل الوصول إلى الهدف، قد يكون بسبب طريق مستقيم وهو الصحيح، وقد يكون بطريق منحرف، أو بطريق متعرج وكلاهما خطأ. فإن الأول: لايوصل إلى الهدف وهو نوع من الضلالة، إضافة إلى انه يسبب المشاكل والصعوبات. والثاني: يستلزم مؤونة زائدة وطول الطريق والتعب والنصب. مثلاً: من يريد الذهاب إلى النجف الأشرف من كربلاء المقدسة، فقد يذهب إلى بغداد ثم إلى الحلة ثم إلى النجف الأشرف، وقد يذهب من كربلاء المقدسة إلى النجف الأشرف بخط مستقيم. كما انه قد يذهب بسيارة أو بأمـوال مغصوبة، وقد يذهب بطرق محللة شرعية. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل لأجل الدين القويم والصراط المستقيم عبر الطريق المستقيم بكلا المعنيين، وهكذا يجب أو يستحب مثل ذلك، كل في مورده كما ذكرناه سابقاً. قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين (70). و: (لا يطاع الله من حيث يعصى). فهذه الجملة منها (صلوات الله عليها) ترد مقولة (الغاية تبرر الوسيلة). كما أنها تشير إلى أقرب الطرق للنصر والتقدم. فالتقوى من الله والزهد في ملذات الحياة والصبر على الأذى والتوكل على الله تعالى وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وإعطاء الخمس والزكاة والعمل بأوامره تعالى من الحرية والاخوة والشورى وما أشبه، هي أسلم وأقرب الطرق لبناء أمة متكاملة وحضارة راقية ولضمان سعادة الدنيا والأخرى وللانتصار على العدو وللحيلولة دون الظلم والطغيان، قال تعالى: (وان تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً)(71). وقال سبحانه: (وان لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا)(72). وقال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدراً )(73). وقال (عليه السلام): (جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً)(74). وقال(عليه السلام): (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(75).
|
1 - سورة آل عمران: الآية 103. 2 - الفصول المختارة ص97 وص135. وبحار الأنوار: ج33 ص376 ب 23 ح 606 (بيان). وشرح النهج ج18 ص72. 3 - قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا). آل عمران: 103. 4 - تفسير القمي ج1 ص108 سورة آل عمران في تفسير الآية 103. 5 - سورة الأنفال: الآية 46. 6 - كأداء الدين بدفع مال أو شيك أو بضاعة فيما اذا لم يكن شرط احدهما ولو ضمناً او ارتكازاً، او كالسفر للحج بالطائرة او السيارة او السفينة او ماشياً، وكالصلاة في اول الوقت او ما بعده في الموسع، في هذا المكان او غيره مما يجتمع فيه الشرائط، وكدفع الصدقة لهذا الفقير او ذاك وهكذا. 7 - هذه الرواية من المتواترات، راجع مثلاً (الخصال) ص584. و(الخصال) ص636. و(كمال الدين) ص662 باب في النوادر. و(المناقب) ج3 ص72.و(الصراط المستقيم) ج2 ص37 وص96. و(تأويل الآيات) ص195 وص233 وص350. و(غوالي اللئالي) ج1 ص83. و(الغوالي) ج4 ص65. و(الطرائف) ص429. و(كتاب سليم بن قيس) ص96 وص227. و(مائة منقبة) ص80 المنقبة 48. و(كنـز الفوائد) ج2 ص29. و(العمدة) ص74. و(نهج الحق) ص330 وص332 وص404 و(جامع الأخبار) ص162. و… 8 - سفينة البحار: ج2ص 359 -360 مادة (فرق) [الطبعة القديمة]. 9 - سورة الزمر: الآية 3. 10 - قال تعالى: (والرجز فاهجر) [ المدثر: 5] أي عبادة الاوثان، كما في بعض التفاسير، راجع تشابه القرآن ج2 ص158 باب فيما يحكم عليه الفقهاء، للشيخ محمد بن علي بن شهر آشوب. 11 - سورة الفرقان: الآية 43. 12 - راجع موسوعة الفقه: كتاب المكاسب المحرمة ج 1-2. 13 - سورة الفرقان: الآية 3. 14 - إذا كان جهل الإنسان بالرياضيات والهندسة أو بقواعد علم النفس أو السياسة أو الاقتصاد وشبهها يعد نقصاً، فما بالك بالجاهل جهلاً مركباً بها، كمن يتصور ان اثنين زائداً اثنين يساوي ثلاثة مثلاً، والأمر في من يتصور الخالق الرازق العالم المطلق هو تلك الأوثان الجاهلة العاجزة أسوأ والنقص فيه أعظم. وإذا كان الجهل بأسماء كبار الشخصيات العالمية والعلمية كالجهل بمكتشف القوة الجاذبية، وبمخترع المصباح الكهربائي وشبهه نقصاً، فما بالك بالجهل بخالق الجاذبة والكهرباء وبخالق اديسون ونيوتون، وبخالق هذا الإنسان نفسه؟ وهكذا. 15 - سورة لقمان: الآية 13. 16 - سورة المائدة: الآية 64. 17 - سورة مريم: الآيات 88 ـ 92. 18 - إشارة إلى ان الوجوب الشرعي قد يتأتى في غير المنكر لأصل وجوده تعالى، كالمنكر لصفاته مثلاً. 19 - وسائل الشيعة: ج17 ص376 ب1 ح 10. 20 - سورة النحل: الآية 83. 21 - سورة البقرة: الآية 146؛ سورة الأنعام: الآية 20. 22 - المائدة: 104. الأعراف: 28. يونس: 78. الشعراء:74. لقمان: 21. الزخرف: 22و… 23 - سورة النمل: الآية 14. 24 - عمدة الزائر ص375. الدعاء والزيارة ص269.؟؟ 25 - راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم ج 1-2) للإمام المؤلف. 26 - لما ورد من (تخلقوا بأخلاق الله) بحار الأنوار ج58 ص129 ب42. 27 - بالمعنى اللغوي وهو استفراغ الوسع. راجع لسان العرب مادة (جهد) وفيه: (والاجتهاد والتجاهد: الوسع والمجهود.. والجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب او اللسان او ما أطاق من شيء). 28 - سورة الأنفال: الآية 24. 29 - مكارم الاخلاق ص 8 المقدمة. 30 - المناقب ج1 ص215 فصل في اللطائف. 31 - سورة الأحزاب: الآية 67. 32 - إرشاد القلوب ص77، الباب الثامن عشر، وصايا وحكم بليغة، عن الصادق(عليه السلام). 33 - البهم، بالضم: جمع (البهمة) وهو المجهول الذي لا يعرف، (مجمع البحرين). 34 - راجع (الأصول) و(الوصائل في شرح الرسائل) للإمام المؤلف دام ظله. 35 - سورة الشعراء: الآية 89. 36 - جامع الاخبار ص100 الفصل56 في الإخلاص. 37 - سفينة البحار: ج2 ص442 مادة (قلب). 38 - وذلك للقرائن المقامية، وسياق كلامها عليها السلام. 39 - غرر الحكم ودرر الكلم ص41 الفصل الاول: اهمية المعرفة ح5. 40 - وفي لسان العرب مادة (غمم) الغمام: الغيم الأبيض، وانما سمي غماما لانه يغم السماء، أي يسترها. 41 - كالفطريات المستورة كما ورد (ويثيروا لهم دفائن العقول)، نهج البلاغة الخطبة1/ 37. 42 - كتفاصيل المعاد والحشر والنشر وتفاصيل الخلقة وشبه ذلك. 43 - كالسلوك والمعاشرة والعادات والتقاليد وسائر مناهج الحياة اليومية والعملية. 44 - أي: الكليات. 45 - كالحب والبغض والخوف والرجاء والحسد… الخ. 46 - فالهداية لمعرفة المحرمات واجبة، ومعرفة المكروهات مستحبة وقد تجب أيضاً. 47 - الطرائف ص56 ما ظهر من فضله في غزوة خيبر ح52. والعمدة ص147 و149 و157 الفصل17. 48 - شرح النهج ج4 ص13 من أخبار يوم صفين. 49 - منية المريد ص101 فصل فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل العلم، قاله (ص) لمعاذ. 50 - يراجع حول تلك العناوين الكتب التالية للإمام المؤلف دام ظله: من موسوعة (الفقه): الحقوق، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع وكذلك (ولأول مرة في تاريخ العالم ج1/2)، (من أوليات الدولة الإسلامية)، (حكومة الرسول صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام) وكذلك (السياسة من واقع الإسلام) لآية الله السيد صادق الشيرازي دام ظله. 51 - مثلاً قام صلى الله عليه وآله ببناء خمسين مسجداً في المدينة وحولها، ونصب ائمة الجماعة من الرجال والنساء ـ كأم ورقة ـ للعديد منها، وعين من يعلم القرآن الكريم، وهكذا. 52 - إذ لها معنيان،كما سيأتي منه دام ظله. 53 - الغي: الضلالة والخيبة، وغوى يغوي: انهمك في الجهل وهو خلاف الرشد.[مجمع البحرين]. وفي (لسان العرب) مادة (غوي): الغي: الضلال والخيبة. 54 - كوأد البنات وأكل الحشرات وشبه ذلك مما ستأتي الإشارة إليه في كلماتها عليها السلام اللاحقة. 55 - غرر الحكم ودرر الكلم ص307 الفصل الخامس في الغضب والشهوات ح7037. 56 - راجع (الالفية) لابن مالك، وشروحها. 57 - المعنى الاول للهداية: اراءة الطريق، والمعنى الثاني: الايصال للمطلوب. 58 - سورة هود: الآية 34. 59 - الأمالي للشيخ الصدوق ص488 المجلس74. 60 - الخيبة: الخسران والحرمان. راجع لسان العرب مادة خيب، وفيه: (الخيبة: الحرمان والخسران.. وخاب اذا خسر). 61 - الجملة الأولى: (أنقذهم من الغواية) والثانية (بصرهم من العماية). 62 - فالإنقاذ من الضلالة: تارة يكون بمجرد أن يبصر الإنسان الضال، وتارة يكون بأكثر من ذلك. 63 - سورة المنافقون: الآية 4. 64 - سورة إبراهيم: الآية 18. 65 - سورة الرعد: الآية 17. 66 - سورة طه: الآيات 1-3. 67 - نهج البلاغة: الخطبة 160. 68 - أي يجب أو يستحب كل في مورده. 69 - الاستقامة: الاعتدال والاستواء واستقام الشعر: اتزن… راجع لسان العرب وغيره مادة (قوم). 70 - سورة المائدة: الآية 27. 71 - سورة آل عمران: الآية 120. 72 - سورة الجن: الآية 16. 73 - سورة الطلاق: الآيتان 2 و3. 74 - راجع وسائل الشيعة: ج1 ص13 ب 1 ح 22، وفيه: (الجهاد عز الإسلام). 75 - مستدرك الوسائل: ج12 ص181 ب 1 ح 13827. وغوالي اللئالي ج3 ص191 باب الجهاد ح36. |