الصبر(1) |
والصبر معونة على استيجاب الأجر(2) مسألة: يجب الصبر في موارد، ويستحب في موارد أخرى، كما سيأتي. وحيث أطلقت (عليها السلام) (الصبر) شمل الصبر على أداء الواجبات والصبر عن المحرمات والصبر في النوازل والمصائب والمشاكل الشخصية والعائلية والاجتماعية بمختلف أبعادها، كما ورد في الحديث: (الصبر على ثلاثة أوجه، فصبر على المصيبة وصبر عن المعصية وصبر على الطاعة)(3). ومن الواضح أن الصبر في هذه المواطن المذكورة بين واجب ومستحب، كالكثير من الأحكام الجوارحية والجوانحية الأخرى. وإلى الأقسام الثلاثة من الصبر أشارت الآيات الكريمة: قال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)(4). وقال سبحانه: (فاصبر لحكم ربك)(5). وقال تعالى: (واصبر نفســك مع الــذين يدعــون ربهم بالغـــداة والعـــشي يـــريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم)(6). وقال سبحانه: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)(7). وقال تعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس)(8). إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. وحيث إنها (عليها السلام) كانت في صدد بيان بعض الفروع المهمة التي لها مدخلية في قوة المجتمع واستقامته وتقدمه ذكرت الصبر، إذ (الصبر مفتاح الفرج)(9) وسبب التقدم ويدفع الإنسان على تحمل ما يوجب له الأجر في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)(10). فإنه لا يتقدم متقدم في أي بعد من أبعاد الحياة ـ سواء كان فرداً أم أمة أم جماعة ـ إلا بالصبر، وقال تعالى: (وإن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين)(11). ولذا قال علي (عليه السلام): (اعلموا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس له)(12). وفي الحديث: (ولا ايمان لمن لا صبر له)(13). وقال (عليه السلام): (نعم عون الدين الصبر)(14). وقال (عليه السلام): (افضل العبادة الصبر)(15). وقال (عليه السلام): (الزم الصبر فان الصبر حلو العاقبة ميمون المغبة)(16). ومن الواضح ـ بعد ذلك ـ أن الصبر حالة إيجابية، ولذا قال تعالى: (استعينوا بالصبر والصلاة)(17) وليس حالة سلبية، فإنه يعني الصبر على مشاق الطاعات كالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر عن إتيـــان المحـــرمات، أما الصبر في مشاق الحــياة فهــو يعـــني تحملها بجلد دون الانهيار تحت وطأتها (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات)(18) فيما لا قدرة للإنسان على الخلاص منها ـ دائماً أو لفترة ـ كمرض ميؤوس منه أو سجن لا مخلص للإنسان منه. أما إذا كان له طريق للخلاص من المرض أو الفقر أو سجن الحاكـم الجائر أو ما أشبه ذلك من مشاكل الحياة، فعليه أن يسعى للخلاص منه. فـ: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(19) وقال تعالى: (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)(20). لا أن يبقى الإنسان على الوضع الذي هو فيه ـ مما لا يريده الله سبحانه ـ مدعياً الصبر(21)، قال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)(22). السعي لاستحقاق الأجر والثواب مسألة: يجب ـ في الجملة ـ القيام بما يوجب استحقاق الأجر والثواب، وهو الذي اعتبرته (عليها السلام) العلة لجعله جل وعلا (الصبر). و(استيجاب الأجر) أي استحقاقه(23) كما ورد في الدعاء: (من غير استحقاق لاستماعك مني ولا استيجاب لعفوك عني)(24). و: (وباعدتني عن استيجاب مغفرتك)(25). وفي الصحيفة السجادية: (ولا يبرئ نفسه من استيجاب نقمتك)(26). وقد يجيء باب الاستفعال بمعنى الفعل المجرد(27) فيكون الصبر ـ على هذا ـ معونة على ثبوت الأحر ولزومه، فان العمل الصالح يحتاج الى لزوم اجره وثبوته بنحو العلة المبقية، وكثير من الناس من يجبط عمله بـ (الجزع) مثلاً، فالصبر هو المعين على دوام الأجر وعدم حبطه، قال (عليه السلام): (من اعطي الصبر لم يحرم الأجر)(28). وحيث أن (الأجر) بين ما يجب عقلاً تحصيله أو المحافظة عليه، وبين ما يستحب، كان إتيان وإنجاز ما يوجبه بين واجب ومستحب، فمثلاً: الفقير الذي يكتسب لقوت يومه وقوت عياله، يجب عليه العمل لاستيجاب الأجر الذي يوفر لهم المأكل والملبس، أما الزائد منه على قدر الضرورة فهو مستحب(29). و(الأجر) قد ينصرف للأجر الإلهي، ولكنه لغة وعرفاً يطلق على الأجر الدنيوي منه والأخروي، وربما يستظهر من كلامها (عليها السلام) إرادة الأعم، وقد يؤيد ذلك بقرينة السياق، فتأمل. والأمر بالمعروف مصلحة للعامة وجوب الأمر بالمعروف(30) مسألة: يجب الأمر بالمعروف، في الجملة، فإن كان المعروف واجباً وجب، وإن كان مستحباً استحب إلا لو طرأ عليه عنوان ثانوي فقد يجب حينئذ. قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)(31) وهو واجب كفائي، فإن قام به من فيه الكفاية، وإلا وجب على الجميع. وقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة)(32) قد يفيد ضرورة تفرغ أو تخصص مجموعة لذلك، وكان ذلك من أسباب تفرغ رجال الدين للهداية والتبليغ على مر العصور. ولا يبعد أن يراد بـ (الأمر بالمعروف) هنا: الأعم منه ومن النهي عن المنكر، لإطلاق كل واحد منهما على الآخر إذا انفرد، فإن الأمر بالصلاة وكذلك النهي عن شرب الخمر كلاهما أمر بالمعروف توسعاً(33). وقد وصـف سـبحانـه وتعالى الأمـة بأنهـا (خير أمة أخرجت للناس)(34) لأنها اتصفت بـ: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(35) ولا يخفى ما لجعل الأمر والنهي في سياق الإيمان بالله من الدلالة على أهميتها. وفي الحديث: (فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها….)(36). قال (عليه السلام): (غاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(37). وقال (عليه السلام): (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خـــلقان من خـــلق الله فمن نصرهـــما اعـــزه الله ومن خــذلهما خذله الله)(38). وقال (عليه السلام): (الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق)(39). مراعاة المصلحة العامة مسألة: تجب مراعاة المصلحة العامة، وإنما استفيد من هذه الجملة وجوب مراعاة المصلحة العامة ـ مع قطع النظر عن الأدلة العقلية والنقلية الأخرى الدالـة علـى ذلـك ـ لأنهـا (عليها السلام) جعلتهـا العلـة الغائية لجعله سبحانه وتعالى (الأمر بالمعروف)، فقد أوجبه جل وعلا لأنه الطريق لمصلحة العامة، فلولا وجوبها لما ترشح الوجوب إلى الوسيلة والسبب، فتدبر. وغير خفي أن ذلك غير ما ذهبوا إليه من (المصالح المرسلة)(40). فليست (المصلحة العامة) مشرعة، بل إنها تنقح موضوع القواعد الأولية والثانوية، وقد أوضحنا في العديد من الكتب أن الشؤون العامة يكون المرجع فيها هو (شورى الفقهاء المراجع)(41). ومن البين أن مصلحة العامة على قسمين: مصلحة لازمة تمنع النقيض، ومصلحة ليست بتلك الدرجة، فالمانعة من النقيض واجبة، والراجحة مستحبة، كما أنه يعلم مما تقدم أنه أعم مما ينهى عنه أو يأمر به. قولها (صلوات الله عليها): (مصلحة للعامة) لأن بالأمر بالمعروف تستقيم أمور العامة وتهتدي إلى سبل الرشاد، وبتركه تنحرف إلى ما يفسد دينهم ودنياهم. ومن مصاديق ذلك ما أشارت اليه الرواية الشريفة: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(42). ويظهر من الروايات الشريفة، ومن التدبر الكامل في أبعاد القضايا: إنه يخطئ من يتصـور أن تركـه للأمـر بالمعـروف والنهـي عن المنكر ـ سواء كـان منكـراً صـادراً من الحكومـة أم من آحـاد الناس ـ يخلصـه من المشاكل، ويجعله بمنحي عن البلاء، فقد قال الامام علي (عليه السلام): (واعلما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق)(43). ولو تخلص من بلاء لأوقعه الله في بلاء أشد ولو بعد حين، كما في الرواية الآنفة: (ليستعملن). بيان الأحكام مسألة: يجب بيان الأحكام الشرعية للناس وجوباً كفائياً عموماً، ويمكن بيانها في الخطاب أيضاً، كما بينت الزهراء (عليها السلام) قسماً من الواجبات والمحرمات في خطبتها. فإنها (عليها الصلاة والسلام) على حسب اقتضاء المقام بينت قسماً من الأحكام الشرعية للناس، وهي أسوة، والفعل ـ وكلامها من هذه الجهة من مصاديقه ـ في أمثال المقام دليل الرجحان، الأعم من الوجوب والاستحباب. قال (عليه السلام): (بينوا ما ذكره الله)(44). وقال (عليه السلام): (بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه)(45). وقال تعالى: (ان الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعـــد ما بــيناه للنـــاس في الكـــتاب اولئك يلعـــنهم الله ويلعـــنهم اللاعنون)(46). وقال سبحانه: (ان الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً اولئك ما يأكلون في بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)(47).
|
1 - راجع (الفضيلة الإسلامية) للمؤلف و (جامع السعادات) للمولى النراقي (قده). 2 - وفي بعض النسخ: (والصبر معونة على الاستجابة). 3 - الارشاد ج1 ص302 ومن كلامه عليه السلام في وصف الانسان. ومثله في تحف العقول ص206. 4 - سورة طه: الآية 132. 5 - سورة القلم: الآية 48؛ سورة الإنسان: الآية 24. 6 - سورة الكهف: الآية 28. 7 - سورة الأحقاف: الآية 35. 8 - سورة البقرة: الآية 177. 9 - بحار الأنوار: ج68 ص74 ب72 ح7 (بيان). وشرح النهج ج20 ص307 ح514. وفي تحف العقول ص207: (الصبر مفتاح الدرك). 10 - سورة الشورى: الآية 43. 11 - سورة الأنفال: الآية 65. 12 - الخصال ص315 ح96. وبحار الأنوار: ج2 ص115 ب16 ح10. 13 - عيون اخبار الرضا(عليه السلام) ص44 ح155. 14 - دعائم الاسلام ص534 ح1899 كتاب آداب القضاة. 15 - تحف العقول ص201. 16 - غرر الحكم ص284 ح6353، الفصل السابع في الصبر والحلم والاستقامة. 17 - سورة البقرة: الآية 153. 18 - سورة هود: الآية 11. 19 - سورة الرعد: الآية 11. 20 - سورة البقرة: الآية 250. 21 - راجع (الفضيلة الاسلامية) للإمام المؤلف (دام ظله). 22 - سورة النساء: الآية 97. 23 - استوجب الشيء استيجاباً: استحقه: راجع (لسان العرب) وغيره. 24 - مصباح المتهجد ص582 دعاء السحر في شهر رمضان. والبلد الأمين ص205 دعاء السحر لعلي بن الحسين (عليه السلام). 25 - البلد الأمين ص387 دعاء الاعتقاد. ومهج الدعوات: ص253 ومن ذلك دعاء الرضا (عليه السلام).. 26 - الصحيفة السجادية ص194 وكان من دعائه (عليه السلام) في طلب العفو والرحمة. 27 - راجع (البلاغة) للإمام المؤلف، فيكون الإستيجاب بمعنى الوجوب، واستيجاب الأجر أي: وجوبه، والوجوب هو الثبوت واللزوم. 28 - الخصال ص202 ح16، من اعطي اربعاً لم يحرم اربعاً، عن الصادق(عليه السلام). 29 - راجع (المسائل الإسلامية). 30 - راجع موسوعة الفقه ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 31 - سورة آل عمران: الآية 104. 32 - سورة آل عمران: الآية 104. 33 - أي: أنه مجاز، للتلازم بينهما، إذ كل نهي عن المنكر يستلزم عقلاً وعرفاً الأمر بضده، فالنهي عن شرب الخمر يستلزم الأمر بترك شربه. 34 - سورة آل عمران: الآية 110. 35 - سورة آل عمران: الآية 110. 36 - وسائل الشيعة: ج11 ص402 ب2، ضمن الحديث 9، عن علي(عليه السلام). 37 - غرر الحكم ودرر الكلم ص332 ح7638، الفصل الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 38 - غوالي اللئالي ج3 ص189 باب الجهاد ح27. ومشكاة الأنوار ص48 عن الباقر(عليه السلام). 39 - غرر الحكم ودرر الكلم ص331 ح7632، الفصل الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 40 - راجع (الأصول) و(الوصائل إلى الرسائل) و(الفقه: القانون) للإمام المؤلف (دام ظله). 41 - يراجع حول هذا المبحث الكتب التالية: (موسوعة الفقه، كتاب البيع ح4و5) و(الشورى في الإسلام) و (الفقه: الدولة الإسلامية) للمؤلف دام ظله، وكذلك (شورى الفقهاء المراجع) و(شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية). 42 - تنبيه الخواطر ونزهــة النواظــر ج2 ص86. وغـــوالي اللئالي ج3 ص191 باب الجهاد ح36. ومشكاة الأنوار ص50 الفصل13. 43 - وسائل الشيعة: ج11 ص406 ب 3 ح9. وغرر الحكم ودرر الكلم ص332 ح7637، الفصل الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 44 - تفسير الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): ص570. 45 - تصحيح الاعتقاد ص71 فصل في النهي عن الجدال. 46 - سورة البقرة: الآية 159. 47 - سورة البقرة: الآية 174. |