البكاء لفقد المعصوم عليه السلام(1)

مسألة: يستحب البكاء لفقد المعصوم عليه السلام كما بكت الزهراء عليها السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك يستحب البكاء عالياً في مصيبتهم(2).

ويستحب تشكيل مجالس للبكاء عليهم (عليهم الصلاة والسلام) فهو نوع مـن المواساة، ومن الانتصار للمظلوم، ومن سبل تثبيت محبة آل البيت عليهم السلام في قلوب الناس، وقد دل على ذلك كثير من الروايات.

فعن ابي عبد الله (عليه السلام) قال لفضيل: (تجلسون وتحدثون، قال: نعم جعلت فداك، قال: ان تلك المجالس احبها فأحيوا امرنا يا فضيل فرحم الله من أحيى امرنا، يا فضيل من ذكرنا او ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت اكثر من زبد البحر)(3).

بكاء المظلوم تظلماً

مسألة: يستحب ‎بكاء المظلوم، للتظلم، بصوت عال، فإنه من غير الصحيح أن يسكت الإنسان على الظلم، ولذا قال سبحانه: (لا تظلمون ولا تظلمون )(4).

والبكاء إحدى طرق الضغط على الظالم وفضحه وإثارة العواطف ضده، ولذا بكى الإمام السجاد (عليه السلام) تلك المدة الطويلة(5)، وبكت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام حتى استشهدت(6).

كما روي انها عليها افصل الصلاة والسلام (ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة) الحديث(7).

ومثل البكاء: الأنين سواء على الميت ـ كما سبق ـ أم على المظلوم، أم من المظلوم، وقد ورد في قصة يوم (احد) أن صفية كانت تأن وتحن على حمزة وكان ذلك بمحضر من الرجال، وكلما أنت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنينها، وكلما حنت حن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحنينها.

وقد ورد: انه لما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من وقعة (أحد) إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحاً وبكاءً ولم يسمع من دار حمزة عمه، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولا يبكوه حتى يبدؤوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه(8).

أجهشت القوم لها بالبكاء

البكاء لبكاء المظلوم

مسألة: يستحب أن يبكي الناس تفاعلاً مع بكاء المظلوم، فإنه مشاركة وجدانية وتألم لألم المتألم(9)، بالإضافة إلى أنه يتضمن تأييداً للمظلوم ونصرة له.

قال علي (عليه السلام) في وصيته للحسن والحسين عليهما السلام: (كونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً)(10).

البكاء لبكاء المفجوع

مسألة: يستحب بكاء الناس لبكاء المفجوع بمصيبة، ولذا ورد استحباب البكاء على الميت وإن لم يعرفه الإنسان(11).

وقد بكى الرسول صلى الله عليه وآله وأن وحن لبكاء وأنين وحنين صفية.

فإن البكاء رحمة ورقة وعطوفة(12)، وكلهـا مطلوبة شرعـاً، حسـب الروايـات الكثيرة الواردة في التوادد والتراحم والرحمة والعطف وشبهها، الشاملة بإطلاقها للمقام.

فارتج المجلس

افتتاح الحديث بما يهيئ النفوس

مسألة: يستحب أن يفتتح المتكلم أو الخطيب حديثه بما يهيئ النفوس ويعد الأذهان لتقبل الكلام، على حسب مقتضيات البلاغة، ولذا نجد انها صلوات الله عليها (أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس).

فإنها عليها السلام فجرت في النفوس كوامن العواطف، وجعلت القوم في قصوى حالات الاستعداد النفسي والعاطفي للاستماع إلى حديثها وظلامتها.

فعلينا أن نتعلم من مدرستها عليها السلام حتى افتتاح الحديث، بل وتطعيمه بما يؤثر على الحضور والمستمعين أكبر الأثر، فإن ذلك كمال وفضيلة، ولاشك ان تربية الإنسان نفسه على الفضيلة والكمال من المستحبات، وقد قال سبحانه: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنهـا)(13).

وقال تعالى: (اتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم)(14).

هذا بالإضافة إلى أنه كلما كان كلام الإنسان مشتملاً على عوامل تحريك العواطف وإثارة دفائن العقول يكون أقوى وقعاً في نفوس المستمعين، فيكون أقرب إلى قبولهم للمعروف وانتهائهم عن المنكر وفعلهم الخيرات، كل في مورده.

ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم

الكلام في أفضل الأحوال

مسألة: ينبغي إيراد الكلام على مقتضى الحال، بل وفي أفضل الأحوال، ولذلك (أمهلت هنيئة) فان البدء بالحديث والقوم في شدة البكاء وفورة الاهتياج مما يفقد كلمات المتكلم تأثيرها المطلوب، ويكون التفاعل معها حينئذ أقل.

فالإمهال عندئذ ضروري، ولكن بشرط أن لا يكون الفاصل طويلاً، لأن الكلام يفقد حرارته وموالاته بسبب الفصل الطويل، وهذا مما ينافي موازين البلاغة، فاللازم أن لايكون متتابعاً جداً، وأن لايكون متباعداً بعضه عن بعض، بل يكون طبق الأسلوب البلاغي حسب اختلاف المقامات(15)، ولذلك كان إمهالها عليها السلام (هنيئة) فقط.

 

1 - حول هذا المباحث راجع كتاب (الشعائر الحسينية) لآية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).

2 - فقد روي عن ابن عباس، قال: خرجت انا وعلي والنبي صلى الله عليه وآله في جنان المدينة، فمررنا بحديقة فقال علي(عليه السلام): ما احسن هذه الحديقة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله: حديقتك في الجنة احسن منها، ثم مررنا بحديقة فقال: ما احسن هذه يا رسول الله، حتى مررنا بسبع حدائق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حدائقك في الجنة أحسن منها، ثم ضرب بيده على رأسه ولحيته وبكى حتى علا بكاؤه، فقال: ما يبكيك يا رسول الله، قال: ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني). الطرائف ص428 عن المناقب لابي بكر احمد بن موسى بن مردويه الحافظ.

3 - بحار الانوار ج44 ص282 ب24 ح14. وفي البحار ج71 ص351 ب21 ح20: (احيوا امرنا).

4 - سورة البقرة: الآية 279.

5 - بكى(عليه السلام) بعد ابيه الحسين(عليه السلام) اربعين سنة. كما سبق في الصفحة الهامش

6 - العوالم ومستدركاتها، مجلد فاطمة الزهراء ج2 ص782 باب مدة بقائها صلوات الله عليها بعد أبيها واحزانها وبكائها في تلك المدة الى وفاتها. وراجع روضة الواعظين ص150 مجلس في ذكر وفاة فاطمة عليها السلام.

7 - المناقب ج3 ص362 فصل في وفاتها وزيارتها عليها السلام.

8 - من لا يحضره الفقيه: ج1 ص116 ب 111 ح 52. وراجع بحار الأنوار ج79 ص92 ب16 ح44. 

9 - وقد ورد في فضل زيارة الحسين (عليه السلام): (..ان فاطمة عليها السلام اذا نظرت اليهم ومعها الف نبي والف صديق والف شهيد ومن الكروبيين الف الف يسعدونها على البكاء، وانها لتشهق شهقة فلا تبقي في السماوات ملك الا بكى رحمة لصوتها..).

10 - بحار الانوار ج42 ص245 ب127 ح46.

11 - راجع العروة الوثقى كتاب الطهارة فصل في مكروهات الدفن المسألة الأولى، وفيه: (يجوز البكاء على الميت.. بل قد يكون راجحا.. ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على المؤمن).

12 - وفي الحديث عنه(عليه السلام)قال: (بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند موت بعض ولده، فقيل له: يا رسول الله تبكي وانت تنهانا عن البكاء، فقال: لم انهكم عن البكاء، وانما نهيتكم عن النوح والعويل، وانما هي رقة ورحمة يجعلها الله في قلب من شاء من خلقه، ويرحم من يشاء وانما يرحم من عباده الرحماء) بحار الانوار ج79 ص101 ب16 ح48. 

وعنه(عليه السلام)قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البكاء عند المصيبة وقال: النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب). بحار الانوار ج79 ص101 ب16 ح48.

13 - سورة الأعراف: الآية 145.

14 - سورة الزمر: الآية 55.

15 - راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف دام ظله.