الصفحة 71

وهذا هو السرّ في إرجاع عمر كعب الأحبار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا سأله عن غسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفنه(1)، إذ لم يكن حاضراً.. ولم يكن عالماً بكيفيّة تجهيزه (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال البلاذري: وانحاز المهاجرون إلى أبي بكر... ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته لم يفرغ من أمره، فأتى آت إلى أبي بكر فقال: أدرك النّاس قبل أن يتفاقم الأمر..(2).

وقال: بينا المهاجرون في حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقد قبضه الله إليه، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) والعبّاس متشاغلان به ـ إذ جاء معن بن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لأبي بكر: باب فتنة إن لم يغلقه الله بك فلن يغلق أبداً... فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح حتّى جاؤوا السقيفة(3).

وقال: فبايع الناس أبا بكر وأتوا به المسجد يبايعونه فسمع العباس وعلي (عليه السلام) التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!!، فقال علي (عليه السلام): " ما هذا؟ " قال العباس: ما رئي مثل هذا قط، ما قلت لك...(4).

وقال المقدسي: ووقع الاختلاف في الناس فانحاز هذا الحيّ من الأنصار إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وانحاز علي (عليه السلام)وطلحة والزبير في بيت فاطمة (عليها السلام)، وانحاز سائر المهاجرين إلى أبي بكر.. كلّ يدّعي الإمارة لنفسه، فجاء المغيرة بن شعبة فقال: إن كان لكم بالناس حاجة فأدركوهم! فتركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو وأغلقوا الباب دونه، وأسرع أبو بكر

____________

1. الطبقات: 2/ ق 2/51 ; كنز العمال: 7/252 ـ 253 ; جامع الأحاديث: 16/15.

2. أنساب الأشراف: 2/264 (ط دار الفكر).

3. المصدر: 2/262.

4. المصدر: 2/263 ; العقد الفريد: 4/246.


الصفحة 72
وعمر وأبو عبيدة بن الجراح إلى سقيفة بني ساعدة(1).

قال الشيخ المفيد (رحمه الله): ولم يحضر دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر الناس لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة، وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك.

وأصبحت فاطمة (عليها السلام) تنادي: " واسوء صباحاه!! "، فسمعها أبو بكر فقال لها: إنّ صباحك لصباح سوء!

واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتبادروا إلى ولاية الأمر، واتفق لأبي بكر ما اتفق لاختلاف الأنصار فيما بينهم وكراهية الطلقاء والمؤلّفة قلوبهم من تأخر الأمر حتّى يفرغ بنو هاشم فيستقرّ الأمر مقرّه(2).

وقال الشهرستاني عند ذكر البيعة: وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)كان مشغولاً بما أمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره(3).

وقال الهيثمي: ثمّ خلّوا بينه وبين أهل بيته فغسله علي بن أبي طالب (عليه السلام)(4).

قال ابن كثير: فصل ; في ذكر أُمور مهمّة وقعت بعد وفاته وقبل دفنه، ومن أعظمها وأجلّها وأيمنها بركة على الإسلام وأهله بيعة أبي بكر(5)!!!

وقال في موضع آخر: توفي (عليه السلام) يوم الاثنين، ودفن يوم الأربعاء.. عليه غير واحد من الأئمة خلفاً وسلفاً، ثمّ قال: وهو المشهور عن الجمهور(6).

____________

1. البدء والتاريخ: 5/65.

2. الإرشاد: 1/189 ـ 190 ; عنه بحار الأنوار: 22/519.

3. الملل والنحل: 1/24.

4. مجمع الزوائد: 9 / 33.

5. البداية والنهاية: 5/264 وراجع أيضاً: 268 ; السيرة النبوية: 4/484.

6. البداية والنهاية: 5/291 ـ 292.


الصفحة 73
قال أحمد أمين: ولم يكن علي (عليه السلام) حاضراً هذا الاجتماع [أي السقيفة]لاشتغاله هو وأهل بيته في جهاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ العدّة لدفنه، فلمّا بلغه خبر البيعة لأبي بكر لم يرض عنها(1).

.. والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى(2).

ومن الطرائف(3) ما رواه ابن سعد وغيره في المقام، قال: جاء علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوماً متقنعاً متحازناً، فقال أبو بكر: أراك متحازناً؟!! فقال علي (عليه السلام): " إنّه عناني ما لم يعنك!! " قال أبو بكر: اسمعوا ما يقول، أُنشدكم الله أترون أحداً كان أحزن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منّي!! "(4).

حديث السقيفة وتدبير البيعة..

قالوا: ثمّ اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولّي هذا الأمر من بعد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) سعد بن عبادة، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض، قال: فلمّا اجتمعوا قال لابنه أو لبعض بني عمّه: إنى لا أقدر لشكواي أن أُسْمع القوم كلّهم كلامي، ولكنّ تلقَّ منّي قولي فأسمعْهم، فكان يتكلّم ويحفظ الرجل قوله فيرتفع به صوته ويُسمع به أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأنثى عليه: يا معشر الأنصار! إنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع

____________

1. فجر الإسلام: 253.

2. راجع كتاب سليم: 79 ; الإفصاح: 234 ; الاحتجاج: 80 ـ 81.

3. الطرائف: 399 ـ 400 ; شرح نهج البلاغة: 12/86 و 13/36 ـ 37 ; الاكتفاء... مغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء: 2/438 ; سمط النجوم العوالي: 2/244 ; وذكر ابن شهر آشوب في ذلك أشعاراً وأخباراً، مثالب النواصب: 118 ـ 119 (مخطوط).

4. الطبقات: 2/ ق 2/84 ; نهاية الإرب: 18/396 ـ 397 ; كنز العمّال: 7/230 ; جامع الأحاديث: 13/15.


الصفحة 74
الأوثان فما آمن به قومه إلاّ رجال قليل، والله ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله، ولا أن يعزّوا دينه،ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عمّوا به، حتّى إذا أراد بكم ربّكم الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه، وكنتم أشدّ الناس على عدوّه منهم، واثقله على عدوّه من غيركم، حتّى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً،وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً، وحتّى أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفّاه الله إليه وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس فإنّه لكم دون الناس... فأجابوه بأجمعهم بأن قد وُفّقت في الرأي وأصبت في القول ولن نَعْدوا ما رأيت، نولّيك هذا الأمر، فإنّك فينا متّبع ولصالح المؤمنين رضا.

ثمّ إنّهم ترادّوا الكلام، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأوّلون، ونحن عشيرته وأولياؤه.. فعلام تنازعوننا الأمر من بعده؟!

فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذاً: منّا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبداً، فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أوّل الوهن.

وأتى عمر الخبر فأرسل إلى أبي بكر(1) فمضيا مسرعين نحوهم(2) ـ مع أبي عبيدة بن الجراح ـ وهم مجتمعون، فقال عمر بن الخطاب: أتيناهم وقد

____________

1. وهنا خلاف بين القوم فمن قائل ـ كالطبري ـ يقول: إنّ أبا بكر كان في الدار، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)دائب في جهاز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرسل عمر إليه: أن اخرج. ومن قائل ـ كابن هشام ـ: لمّا أتى الخبر إلى أبي بكر وعمر، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. راجع تاريخ الطبري 3/219 ; سيرة ابن هشام: 4/1071.

2. وفي رواية ابن كثير: فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان وفي رواية الطبري: يتقاودان حتى أتوهم. سيرة ابن كثير: 4/491 ; الطبري: 3/203.


الصفحة 75
كنت زورت كلاماً أردت أن أقوم به فيهم، فلمّا اندفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو بكر: رويداً حتّى أتكلّم.. ثمّ انطق بعد ما أحببت، فنطق فقال عمر: فما شيء كنت أُريد أن أقول به إلاّ وقد أتى به أو زاد عليه.

قال عبد الله بن عبد الرّحمن: فبدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: إنّ الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولاً إلى خلقه، وشهيداً على أُمّته ليعبدوا الله ويوحّدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتّى يزعمون أنّها لمن عبدها شافعة ولهم نافعة، وإنّما هي من حجر منحوت وخشب منجور، ثمّ قرأ: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ )(1) وقالوا: ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى )(2) فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخصّ الله المهاجرين الأوّلين من قومه، بتصديقه والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على شدّة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إيّاه، وكلّ الناس لهم مخالف وعليهم زار، فلم يستوحشوا لقلّة عددهم وتشذب الناس عنهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أوّل من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم في ذلك إلاّ ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه وليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم.. فحن الاُمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون(3) بمشورة، ولا يقضى دونكم الأُمور..!

وفي رواية: قال أبو بكر: إنّ الله جلّ ثناؤه بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهدى ودين الحقّ، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالى بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعا إليه، فكنّا

____________

1. يونس (10): 18.

2. الزمر (39): 3.

3. يقال: افتات عليه، إذا انفرد برأيه دونه في التصرّف فيه، هو افتعل من الفوت، يقال لكلّ من أحدث شيئاً في أمرك دونك: قد افتات عليه فيه. راجع النهاية لابن الاثير ـ فوت ـ وغيره.


الصفحة 76
معشر المهاجرين أوّل الناس إسلاماً، والناس لنا فيه تبع، ونحن عشيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنساباً، ليست قبيلة من قبائل العرب إلاّ ولقريش فيها ولادة. وأنتم أيضاً ـ والله ـ الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى، وشركاؤنا في دين الله عزّ وجلّ وفيما كنّا فيه من سرّاء وضرّاء، والله ما كنّا في خير قطّ إلاّ وكنتم معنا فيه، فأنتم أحبّ الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحقّ الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمر الله عزّ وجلّ ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين، وهم أحقّ الناس فلا تحسدوهم، وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله مازلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين، وأنتم أحقّ الناس ألاّ يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم...

فقال الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وإنّا لَكَما وصفت... ولكنّا نشفق ممّا بعد اليوم، ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منّا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منّا ورجلاً منكم بايعنا ورضينا، على أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار، فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبداً ما بقيت هذه الأُمّة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يكون بعضنا يتبع بعضاً، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري، ويشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي.

فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم فإنّ الناس في ظلّكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر أحد إلاّ عن رأيكم، أنتم أهل العزّة والمنعة، وأُولو العدد والكثرة، وذوو البأس والنجدة، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أُموركم، فإن أبى هؤلاء إلاَّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير.


الصفحة 77
فقال عمر: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيها من غيركم، ولا تمنع العرب أن تولّى أمرها من كانت النبوّة منهم، لنا بذلك الحجّة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من نازعنا، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّ مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورّط في الهلكة..!؟

فقام الحباب بن المنذر ـ ثانية ـ فقال: يا معشر الأنصار! امسكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا الجاهل وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، وإن أبوا أن يكون منّا أمير ومنهم أمير فاجلوهم عن بلادكم وتولّوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أحقّ به منهم، فقد دان بأسيافكم قبل هذا الوقت من لم يكن يدين بغيرها، وإنّا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، والله لئن ردّ أحد قولي لأحطمنّ أنفه بالسيف..

فقال عمر: إذن يقتلك الله، فقال: بل إيّاك يقتل(1). فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار! إنّكم أوّل من نصر فلا تكونوا أوّل من بدّل أو غيّر(2)..!

قال: فلمّا رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من أمر سعد بن عبادة ـ وكان حاسداً له، وكان من سادة الخزرج ـ قام فقال: أيّها الأنصار! إنّا وإن كنّا ذوي سابقة فإنّا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلاّ رضى ربّنا،

____________

1. وفي رواية: قال حباب بن المنذر: فإنّا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم ـ أيّها الرهط! ـ ولكنّا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم، فقال عمر: إذا كان ذلك فمت إن استطعت!! كنز العمّال: 5/606.

2. وفي رواية اليعقوبي: قال عبد الرّحمن بن عوف: يا معشر الأنصار! إنّكم وإن كنتم على فضل، فليس منكم مثل أبي بكر وعمر وعلي، وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم رجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب (عليه السلام). اليعقوبي: 2/123.


الصفحة 78
وطاعة نبيناً، ولا ينبغي لنا أن نستظهر بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضاً من الدنيا، إنّ محمّداً رجل من قريش وقومه أحقّ بميراث أمره، وأيم الله لا يراني الله أُنازعهم هذا الأمر.. فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.

فقام أبو بكر وقال: هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم، فقالا:

والله لا نتولّى هذا الأمر عليك، وأنت أفضل المهاجرين، وثاني اثنين، وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصلاة ـ والصلاة أفضل الدين ـ ابسط يدك نبايعك(1)..

فلمّا بسط يده وذهبا يبايعانه، سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير! عقّتك عقاق، والله ما اضطرك إلى هذا إلاّ الحسد لابن عمّك، فلمّا رأت الأوس أنّ رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع قام أسيد بن حضير ـ وهو رئيس الأوس ـ فبايع حسداً لسعد أيضاً ومنافسة له أن يلي الأمر، فبايعت الأوس كلّها لما بايع أسيد، فأقبل الناس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر.

وفي رواية: وبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار ـ أو بعض الأنصار ـ: لا نبايع إلاّ عليّاً (عليه السلام)(2)، وفي رواية اُخرى: فكثر القول حتّى كادت الحرب تقع بينهم، وأوعد بعضهم بعضاً(3).

وكادوا يطأون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعداً لا تطأوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله.. ثمّ قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطاك حتّى تندر عضدك. فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر ثمّ قال: والله لئن حصحصت

____________

1. وفي رواية الطبري: فقال أبو بكر: بل أنت يا عمر! فأنت أقوى لها منّي، قال: وكان عمر أشدّ الرجلين، وكان كلّ واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها، ففتح عمر يد أبي بكر وقال: إنّ لك قوتي مع قوّتك. الطبري: 3/203.

2. الطبري: 3/202.

3. الاكتفاء... مغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء: 2/443.


الصفحة 79
منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة. فقال أبو بكر: مهلاً يا عمر! الرفق ههنا أبلغ.. فأعرض عنه، وقال سعد: أما والله لو أرى من قوّة ما أقوى على النهوض لسمعتم منّي بأقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك، أما والله إذاً لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع، احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره.. وترك أياماً، ثمّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فقال: أما والله [لا والله] حتّى أرميكم بما في كنانتي من نبل وأخضب منكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي، ما ملكته يدي وأُقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، ولا أفعل، وأيم الله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتّى أُعرض على ربّي، وأعلم ما حسابي. فلمّا أُتي أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتّى يبايع، فقال له بشير بن سعد: إنّه قد لجّ وأبا، فليس يبايعكم حتّى يقتل، وليس بمقتول حتّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فليس تركه بضارّكم إنّما هو رجل واحد، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه، وكان سعد لا يصلّي بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ولا يحجّ معهم، ويفيض فلا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتّى هلك أبو بكر(1).

____________

1. راجع تاريخ الطبري: 3/218 ـ 223 ; عنه شرح نهج البلاغة: 2/37 ـ 40 ; كتاب السقيفة للجوهري، عنه شرح نهج البلاغة: 6/5 ـ 10 و 39 ـ 40 ; تاريخ اليعقوبي: 2/123 ـ 126 ; الإمامة والسياسة: 1/12 ـ 17 ; الكامل لابن الاثير 2/328 ـ 331 ; الطبقات: 2/ ق2/55 ـ 56 ; نهاية الإرب: 19/29 ـ 38 ; السيرة الحلبية: 3/357 ـ 358 ; البدء والتاريخ: 5/65 ـ 66 ; كنز العمال: 5/640 و 648 و 627 ـ 628 ; البخاري: 4/194 ; جامع الأحاديث: 13 / 267 و 15/420 ـ 422 ; العقد الفريد: 4/257 ـ 258 ; تاريخ الخميس: 2/167 ـ 169 ; سمط النجوم العوالي: 2/244 ; الرياض النضرة: 1/235 ـ 237 ; الاحتجاج: 71 ـ 73 ; الشافي: 3/184 ـ 191 ; عن كثير منهم بحار الأنوار: 28/179 ـ 183 و 324 ـ 355.


الصفحة 80

السقيفة برواية عمر بن الخطاب

قال ـ ضمن خطبة له ـ: قد بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ أمرؤ أن يقول: أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، ألا وإنّها كانت كذلك.. ألا وإن الله عزّ وجلّ وقى شرّها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الاعناق مثل أبي بكر، ألا وإنّه كان من خبرنا حين توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ علياً والزبير ومن كان معهما تخلّفوا في بيت فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتخلّف عنّا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمّهم حتّى لَقِيَنا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين، فقلت: والله لنأتينّهم.. فانطلقنا حتّى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وجع.. فلمّا جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله عزّ وجلّ بما هو أهله، وقال: أمّا بعد،فنحن أنصار الله عزّ وجلّ، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفت دافة منكم يريدون أن يخزلونا(1) من أصلنا، ويحضنونا من الأمر.. فلمّا سكت أردت أن أتكلّم، وقد كنت زوّرت(2) مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وقد كنت

____________

1. خَزَله أي: قطعه.

2. قال أبو هلال العسكري: إنّ الزور هو الكذب قد سوي وحسن في الظاهر ليحسب أنّه صدق وهو من قولك زوّرت الشيء إذا سوّيته وحسّنته، وفي كلام عمر: زوّرت يوم السقيفة كلاماً. الفروق اللغوية: 268.


الصفحة 81
أداري منه بعض الحد، وهو كان أحلم مني وأوقر، فقال أبو بكر: على رسلك.. فكرهت أن أغضبه، وكان أعلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قالها في بديهته وأفضل حتى سكت.

فقال: أمّا بعد ; فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيّهما شئتم..

وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدّم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر إلاّ أن تغير نفسي عند الموت(1)، فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش!.. وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتّى خشيت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر.. فبسط يده فبايعتُه وبايعه المهاجرون، ثمّ بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعداً! فقلت: قتل الله سعداً.

قال عمر: والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ـ ولم تكن بيعة ـ أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى وإمّا أن نخالفهم فيكون فيه فساد، فمن بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا!!(2).

____________

1. إلاّ أن تسوّل لي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن، سنن البيقهي: 8/142.

2. مسند أحمد: 1/55 ـ 56 ; وذكر السقيفة برواية عمر بن الخطاب كما مرّ أو باختصار وتغيير: العقد الفريد: 4/257 ; سنن البيهقي: 8/142 ; تاريخ الطبري: 2/445 (3/203 ـ 206 ط دار التراث) ; سيرة ابن هشام: 4/1071 ; البخاري: 8/25 ـ 28 ; البداية والنهاية: 5/265 ـ 267 ; كنز العمال: 5/645 ـ 648 ; تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 30/280 ـ 285 ; صفوة الصفوة: 1/254 ; الكامل لابن الأثير: 2/327 ; جامع الأحاديث: 13/263.


الصفحة 82
ملاحظة: قيل: ان الدعوة إلى سعد بن عبادة إنّما كانت بعد أن علموا بدفع الخلافة عن أهل البيت (عليهم السلام)، ففي الرواية أنّ الانصار قالوا: إذا لم تسلمّوها لعليّ (عليه السلام)فصاحبنا أحقّ بها، وقال سعد: ما دعوت إلى نفسي إلاّ بعد ما رأيتكم قد دفعتموها عن أهل بيت نبيّكم(1).

وورد في كتاب عمر إلى معاوية بعد أن شهد عمر وجماعة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: الإمامة بالاختيار قالت الأنصار: نحن أحقّ من قريش... وقال قوم: منّا أمير ومنكم أمير(2).

إجبار الناس على البيعة

قال البراء بن عازب: لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تخوّفت أن يتظاهر قريش على إخراج هذا الأمرمن بني هاشم، فأخذني ما يأخذ الواله الثكول مع مابي من الحزن لوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجعلت أتردّد وأرمق وجوه الناس،وقد خلا الهاشميون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لغسله وتحنيطه، وقد بلغني الذي كان من قول سعد بن عبادة ومن اتبعه من جملة أصحابه، فلم أحفل بهم وعلمت أنّه لا يؤول إلى شيء، فجعلت أتردد بينهم وبين المسجد وأتفقّد وجوه قريش، وكأنّي لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، ثمّ لم ألبث حتّى إذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأُزر الصنعانية، لا يمرّ بهم أحد إلاّ خبطوه، فإذا عرفوه مدّوا يده على يد أبي بكر شاء ذلك أم أبى..! فأنكرت عند ذلك عقلي جزعاً منه مع المصيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرجت مسرعاً حتّى أتيت المسجد، ثمّ أتيت بني

____________

1. كشف المحجّة، عنه بحار الأنوار: 30/10 ـ 11 ; المسترشد: 410 ـ 412 ; مثالب النواصب: 143. وراجع: لوامع الأنوار: 1/221.

2. بحار الأنوار: 30/290 ـ 291.


الصفحة 83
هاشم والباب مغلق دونهم، فضربت الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: يا أهل البيت!.. فخرج إليّ الفضل بن العباس، فقلت: قد بايع الناس أبا بكر! فقال العباس: قد تربت أيديكم منها آخر الدهر(1).

وفي رواية: ثمّ إنّ عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي: إنّ أبا بكر قد بويع له فهلمّوا إلى البيعة.. فينثال الناس فيبايعون، فعرف أنّ جماعة في بيوت مستترون، فكان يقصدهم في جمع فيكبسهم ويحضرهم في المسجد فيبايعون(2).

قال الشيخ المفيد: روى أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي، عن محمّد بن سائب الكلبي وأبي صالح، ورواه أيضاً عن رجاله، عن زائدة بن قدامة قال: كان جماعة من الأعراب قد دخلوا المدينة ليمتاروا منها، فشغل الناس عنهم بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشهدوا البيعة وحضروا الأمر فأنفذ إليهم عمر واستدعاهم وقال لهم: خذوا بالحظّ والمعونة على بيعة خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واخرجوا إلى الناس واحشروهم ليبايعوا فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه.. قال: فوالله لقد رأيت الأعراب قد تحزّموا واتّشحوا بالأُزر الصنعانية وأخذوا بأيديهم الخشب وخرجوا حتّى خبطوا النّاس خبطاً وجاؤوا بهم مكرهين إلى البيعة..

ثم قال الشيخ المفيد: وأمثال ما ذكرناه من الأخبار في قهر الناس على بيعة أبي بكر وحملهم عليها بالاضطرار كثيرة، ولو رمنا إيرادها لم يتسع لهذا الكتاب(3).

وقال الجوهري عند ذكر السقيفة: فوثب رجل من الأنصار فقال: أنا

____________

1. كتاب سليم: 74 ـ 75 ; شرح نهج البلاغة: 1/219 ; بحار الأنوار: 28/285 ـ 286 ; وراجع اليعقوبي: 2/124.

2. الاحتجاج: 80 ; عنه بحار الأنوار: 28/204.

3. الجمل: 118 ـ119.


الصفحة 84
جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.. فأُخذ ووُطىءَ في بطنه ودسّوا في فيه التراب!!(1).

وقال يحيى بن الحسين الهاشمي (الهادي الزيدي) (المتوفّي 298):

ثمّ نهض أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن نهض معهم من أهل السقيفة محتزمين بالأُزر معهم المخاصر، لا يمرّون بأحد ولا يلقونه إلاّ خبطوه وقالوا: بايع..! من غير أن يشاور أو يعلم خبراً..

فأين الإجماع من هذا الفعل؟!(2).

وقال ابن شهرآشوب المازندراني: ورُوي: أنّه (أي أبا سفيان) دخل المسجد، فإذا القوم قد أقبلوا بأجمعهم وهم يعترضون كلّ من رأوه فيقدمونه يبايع، شاء ذلك أم أبي!!...(3).

بل ترى إشارة عابرة إلى ذلك في كلام عايشة، فقد روى البخاري عنها حديث السقيفة إلى أن قال: قالت: لقد خوّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً.. فردّهم الله بذلك(4).

التخلف عن بيعة أبي بكر والإنكار عليه

لقد حاول جمع كثير من العامة كتمان تخلّف من تخلّف عن بيعة أبي بكر وإثبات إجماع المسلمين عليها ورضاهم بها، إذ تبتني مشروعية خلافته بهذا الإجماع عندهم، لادّعائهم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تجتمع أُمّتي على الضلال. ولذلك اضطروا إلى القول بأنّه: ما خالف على أبي بكر أحد إلاّ مرتدّ أو من كان قد ارتدّ!!(5).

____________

1. شرح نهج البلاغة: 6/40.

2. تثيبت الإمامة: 13 (ط بيروت).

3. مثالب النواصب: 130.

4. البخاري: 4/193 ـ 195.

5. الطبري: 3/207 ; بل هذا هو السرّ في نسبة الارتداد إلى مالك بن نويرة، والمقام لا يسع التفصيل، راجع بحار الأنوار: 30/471 ـ 495.


الصفحة 85
والمتتبِّع في كتب أهل السنّة يجدها مشحونة بذكر تخلّف وجوه الأصحاب وعدم رضاهم بالبيعة.

روى البخاري ومسلم والطبري وغيرهم أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبنو هاشم جميعاً لم يبايعوا أبا بكر في حياة فاطمة (عليها السلام)(1).. أي ستّة أشهر على رواياتهم.

قال المقدسي: ولم يبايع علي (عليه السلام) أبا بكر مالم يدفن فاطمة (عليها السلام)، وذكر ابن دأب(2) : أنها ماتت عاتبة على أبي بكر وعمر(3).

قال المسعودي: لمّا بُويع أبو بكر في يوم السقيفة وجدّدت البيعة له يوم الثلاثاء على العامّة، خرج عليٌّ (عليه السلام) فقال: " افسدتَ علينا أُمورنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقّاً؟! فقال أبو بكر: بلى، ولكنّي خشيت الفتنة(4). وكان للمهاجرين

____________

1. راجع البخاري: 5/82 ـ 83 ; مسلم: 5/153 ـ 154 ; السنن للبيهقي: 6/300 ; الطبري: 3/208 ; الكامل لابن الأثير: 2/331 ; كفاية الطالب: 370 ; السيرة الحلبية: 3/360 ; شرح مسلم للنووي: 12/77 ; تاريخ الخميس: 2/174 ; المصنف، لعبد الرزّاق: 5/472 ; الرياض النضرة: 1/243 ; الصواعق المحرقة: 15 ; شرح نهج البلاغة: 6/46. وذكر تخلّفه (عليه السلام) في غير هذه الرواية أيضاً راجع المختصر في تاريخ البشر: 1/156 ; النهاية لابن الأثير: 2/68 ; الطبري: 3/205 ; نور الأبصار: 60 ; الكامل لأبن الأثير: 2/325 ; تتمة المختصر: 1/215، 249 ; البداية والنهاية: 5/307 ; صفوة الصفوة: 1/254 ; كتاب الردّة للواقدي: 47 ; الثقات لابن حبان: 2 / 161 ; السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، له: 426 ; تاريخ العيقوبي: 2/126 ; العقد الفريد: 4/260 ; نهاية الإرب: 19/40 ; السيرة النبوية لابن هشام: 4/308 ـ 310 ; سمط النجوم العوالي: 2/247، 251.

2. ابن دأب: عيسى بن يزيد بن دأب، راوية وخطيب وشاعر، توفي سنة 171، انظر الاعلام: 5/111.

3. البدء والتاريخ: 5/20.

4. وأشارت إليه السيدة فاطمة (عليها السلام) في الخطبة فقالت: وإنّما زعمتم ذلك خوف الفتنة، (ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)، شرح نهج البلاغة: 16/251.


الصفحة 86
والأنصار يوم السقيفة خطب طويل ومجاذبة في الإمامة، وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع، ولم يبايعه أحدمن بني هاشم حتّى ماتت فاطمة (عليها السلام)(1).

وقال اليعقوبي: جاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم..! بويع أبو بكر! فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه، ونحن أولى بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال العباس: فعلوها، وربّ الكعبة.

وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في علي (عليه السلام)، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، انّه ما حقّت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم.

وقام عتبة بن أبي لهب فقال:

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس ايماناً وسابقة وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً بالنبي، ومن جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به وليس في القوم ما فيه من الحسن(2)

____________

1. مروج الذهب: 2/301.

2. اليعقوبي: 2/124، وفي رواية: خرج العباس الى المسجد وقد اجتمعوا فيه، فأخذ بعضادتي الباب وأنشد هذه الأشعار كما في مثالب النواصب: 131. ونقل الأبيات عن عتبة أيضاً في المختصر في تاريخ البشر: 1/156 وتتمة المختصر: 2/215، ونسبها في غير واحد من المصادر إلى غيره راجع شرح نهج البلاغة: 6/21 و 13/232 ; فرائد السمطين: 2/82 ; كتاب سليم: 78 ; كنز الفوائد: 1/266 ـ 267 ; الارشاد: 1/32 ; الجمل: 118 ; الفصول المختارة: 268 ; إعلام الورى: 184 ; روضة الواعظين: 87 ; كشف الغمة: 1/67 ; الصراط المستقيم: 1/205، 236 ـ 237 ; قصص الأنبياء للجزائري: 194 ; المقنع للسدآبادي: 129، وذكر في المقنع: 120 ـ 131، أشعاراً لعدّة من المخالفين للبيعة فراجع.


الصفحة 87
وروى الزبير بن بكار عن محمّد بن اسحاق انه قال: إن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرّة!!

قال: وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال الفضل بن العباس: يا معشر قريش! وخصوصاً يا بني تيم! إنّكم إنّما اخذتم الخلافة بالنبوة ونحن أهلها دونكم، ولو طالبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا حسداً منهم لنا وحقداً علينا، وإنّا لنعلم إنّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه(1).

وروى أيضاً الزبير بن بكار ضمن رواية: قال زيد بن أرقم: إنا لنعلم إنّ من قريش من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد.. علي بن أبي طالب (عليه السلام)(2).

وذكر الواقدي أن زيد بن أرقم قال ـ عقيب بيعة السقيفة لعبد الرّحمن بن عوف ـ: يا ابن عوف! لولا أن علي بن أبي طالب وغيره من بني هاشم اشتغلوا بدفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبحزنهم عليه فجلسوا في منازلهم ما طمع فيها من طمع!!(3).

قال اليعقوبي: وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبيّ ابن كعب..(4)

____________

1. شرح نهج البلاغة: 6/21.

2. شرح نهج البلاغة: 6/20، ونسب اليعقوبي هذا الكلام إلى المنذر بن أرقم، انظر اليعقوبي: 2/123.

3. كتاب الردّة للواقدي: 45 ; الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي: 1/12.

4. اليعقوبي: 2 / 124 ; المختصر في تاريخ البشر: 1 / 156 ; تتمة المختصر: 1 / 215 وراجع أيضاً: أنساب الأشراف: 1 / 588 (270 ـ 271 ط دار الفكر) البدء والتاريخ: 5 / 95 ; الطبري: 3 / 387 ـ 388 ; السيرة النبوية: 4 / 656 (ط دار المعرفة) ; العقد الفريد: 4 / 259 ; أسد الغابة: 1 / 37 و 3/222 ; تاريخ الخميس: 2 / 169 ; نهاية الأرب: 19 / 39 ـ 40 ; أخبار الموفقيات: ص 590 (تخلف غير واحد منهم).


الصفحة 88
وغيرهم(1).

بل يظهر من عبارة بعض أهل السنة تخلف جمع كثير، قال ابن عبد البرّ: وتخلف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش.. ثم ذكر علياً (عليه السلام) والزبير وطلحة وخالد بن سعيد..(2).

وقال محب الدين الطبري: وتخلّف... سعد بن عبادة في طائفة من الخزرج وعلي بن أبي طالب وابناه (عليهم السلام) وبنو هاشم والزبير وطلحة وسلمان وعمار وأبوذر والمقداد وغيرهم من المهاجرين، وخالد بن سعيد بن العاص(3).

وقال محمّد أبو الفضل محمّد ـ من أعلام أهل السنة في القرن الثامن والتاسع ـ: إنّ علياً (عليه السلام) كان في غاية الشجاعة ومعه فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)وكثير من أكابر الصحابة، حتى روي عنهم أنّه اجتمع عنده سبعمائة من الأكابر مريدين إمامته.. إلى أن قال: أجاب الشيعة: بأنه وان كان معه سبعمائة لكن جميع عوام الصحابة مع أبي بكر، وكانوا أكثر من ثلاثين ألفاً فأين القدرة..؟!(4).

ثم إنّ اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدّمه على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)(5).

____________

1. تجد تخلف سعد بن عبادة، وأبي سفيان وأبان بن سعيد وغيرهم في غير واحد من كتب الفريقين بل في كتب الشيعة ذكروا جمعاً كثيراً منهم، راجع عيون اخبار الرضا (عليه السلام): 2/126 ; عنه بحار الأنوار: 10/358، مثالب النواصب: 127 ـ 128 تحفة الأبرار: 261 ـ 262 ; الكشكول للآملي: 138 ـ 140.

2. الاستيعاب: 3/937، (ط دار الجيل).

3. الرياض النضرة: 1/241.

4. قاموس البحرين: 337 (نشر ميراث مكتوب).

5. ذكر غير واحد من مؤلّفينا إنكار عدّة من الأصحاب على أبي بكر، ونقله السيد ابن طاووس (رحمه الله) عن بعض علماء السنّة وقال: روته الشيعة متواترين. والظاهر وقوع هذا الإنكار والاحتجاج بعد الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام)، إذ ورد في بعض رواياته إشارة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى إخراجه ملبّباً. ونحن نذكر تلفيقاً من الروايات في ذلك عن مولانا الصادق (عليه السلام)وعن زيد بن وهب ونعتذر عن عدم إيراد كلمات المنكرين واحتجاجاتهم، إذ لا نريد أن يملّ القارئ العزيز بطولها، فمن أراد الوقوف عليها يراجع المصادر الآتية.


الصفحة 89
من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص(1)، والمقداد بن الأسود، وأُبيّ بن كعب، وعمّار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود(2)، وبريدة الأسلمي.

ومن الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان، وغيرهم(3).

فلمّا صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم: هلاّ نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، وقد قال الله عزّ وجلّ: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(4) ولكن امضوا بنا إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) نستشيره ونستطلع أمره، فأتوا عليّاً (عليه السلام)، فقالوا: يا أمير المؤمنين! ضيّعت نفسك.. وتركت حقّاً أنت أولى به..! وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ الحقّ حقّك وأنت أولى بالأمر منه، لأنّا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يميل مع الحقّ كيف مال " فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك.

فقال لهم علي (عليه السلام): " لو فعلتم ذلك ما كنتم إلاّ حرباً لهم، ولا كنتم إلاّ كالكحل في العين، أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأُمّة التاركة لقول نبيّها،

____________

1. وذكر في كتاب اليقين بدل خالد أخاه عمرو.

2. وفي الاحتجاج عثمان بن حنيف بدل ابن مسعود وفي رجال البرقي قيس بن سعد.

3. وروي أنّهم كانوا غيباً عن وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقدموا وقد تولّى أبو بكر وهم يومئذ أعلام مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

4. البقرة (2): 195.


الصفحة 90
والكاذبة على ربّها، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلاّ السكوت لما يعلمون من وغر صدور القوم وبغضهم لله عزّ وجلّ ولأهل بيت نبيّه..، وإنّهم يطالبون بثارات الجاهليّة، والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدّين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتّى قهروني وغلبوني على نفسي ولبّبوني وقالوا لي: بايع وإلاّ قتلناك!! فلم أجد حيلة إلاّ أنّ أدفع القوم عن نفسي، وذاك أنّي ذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عليّ! إنّ القوم نقضوا أمرك، واستبدّوا بها دونك وعصوني فيك، فعليك بالصبر حتّى ينزل الله الأمر، وإنّهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي.. كذلك أخبرني جبرئيل (عليه السلام) من ربّي تبارك وتعالى ".

وفي رواية: " وإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى، وإنّ الأُمّة من بعدي بمنزلة هارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه، فقلت: يا رسول الله! فما تعهد إليّ إذا كان ذلك؟ فقال: إن وجدتَ أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم وإن لم تجد أعواناً كفّ يدك واحقن حتّى تلحق بي مظلوماً.. " " ولمّا تُوفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ثمّ آليت يميناً أن لا أرتدي إلاّ للصلاة حتّى أجمع القرآن ففعلت، ثمّ أخذت بيد فاطمة وابنيّ الحسن والحسين (عليهما السلام) فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقّي ودعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلاّ أربعة رهط، منهم: سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر.. فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرّفوه ما سمعتم من قول رسولكم (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا تدعوه في الشبهة من أمره ليكون ذلك أوكد للحجّة وأبلغ للعذر وأبعد لهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا وردوا عليه.

فسار القوم حتّى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وكان يوم الجمعة ـ، فلمّا صعد أبو بكر قاموا وتكلّموا ببيانات شافية وافية، فأوّل من تكلّم كان خالد بن سعيد بن العاص وقال: اتّق الله يا أبا بكر! فقد علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال

الصفحة 91
ـ ونحن محتوشوه يوم قريظة، حين فتح الله له وقد قَتَل علي (عليه السلام) يومئذ عدّة من صناديد رجالهم وأُولي البأس والنجدة منهم ـ: " يا معاشر المهاجرين والأنصار! إنّي موصّيكم بوصية فاحفظوها، ومودّعكم أمراً فاحفظوه، ألا إنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) أميركم بعدي وخليفتي فيكم، بذلك أوصاني ربّي، ألا وإنّكم إن لم تحفظوا فيه وصيّتي وتوازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم، واضطرب عليكم أمر دينكم، ووليكم شراركم، ألا إنّ أهل بيتي هم الوارثون لأمري، والعالمون بأمر أُمّتي من بعدي، اللّهمّ من أطاعهم من أُمّتي وحفظ فيهم وصيّتي فاحشرهم في زمرتي، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي، يدركون به نور الآخرة، اللّهمّ ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنّة التي عرضها كعرض السماء والأرض ".

فقال له عمر بن الخطّاب: اسكت يا خالد! فلست من أهل المشورة ولا ممن يقتدى برأيه، فقال خالد: اسكت ـ يا ابن الخطاب! ـ فإنّك تنطق عن لسان غيرك، وأيم الله لقد عَلمَتْ قريش إنّك من ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، وأخسّها قدراً، واخملها ذكراً، وأقلّهم غناءً عن الله ورسوله، وإنّك لجبان في الحروب، بخيل بالمال، لئيم العنصر، ما لك في قريش من فخر ولا في الحروب من ذكر، وانّك في هذا الأمر بمنزلة ( الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ * فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ )(1).

فأبلس عمر، وجلس خالد بن سعيد.

ثم احتجّ عليه بقية المهاجرين والأنصار..

قال الصادق (عليه السلام): " فأُفحم أبو بكر على المنبر حتّى لم يُحر جواباً، ثمّ قال: ولّيتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني. فقال عمر بن الخطاب: انزل عنها ـ يا

____________

1. الحشر (59): 16 ـ 17.


الصفحة 92
لكع! ـ إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لِمَ أقمت نفسك هذا المقام؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ".

" فنزل ثمّ أخذ بيده وانطلق إلى منزله ـ وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل وقال لهم: ما جلوسكم؟ فقد طمع فيها ـ والله ـ بنو هاشم.. وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل.. وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل.. فما زال يجتمع رجل رجل حتّى اجتمع أربعة آلاف رجل، فخرجوا شاهرين أسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عمر: والله يا صحابة عليّ! لئن ذهب الرجل منكم يتكلّم بالذي تكلّم به بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه. فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص... [وجرى بينهما كلام]، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " اجلس ـ يا خالد ـ فقد عرف الله مقامك وشكر لك سعيك "، فجلس، وقام إليه سلمان الفارسي... [فتكلّم]، فهمّ به عمر بن الخطاب فوثب إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ بمجامع ثوبه ثمّ جلد به الأرض، ثمّ قال: " يا ابن صهاك الحبشية! لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدّم لأريتك أيّنا أضعف ناصراً وأقلّ عدداً "، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: " انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلاّ كما دخل أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه: [فـ] ( إِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ )(1)، والله لا أدخل إلاّ لزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لقضية أقضيها فإنّه لا يجوز لحجّة أقامه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يترك الناس في حيرة "(2).

____________

1. المائدة (5): 24.

2. راجع رجال البرقي: 63 ـ 66 ; الخصال: 461 ـ 465، عنه بحار الأنوار: 28/208 ـ 214 ; الاحتجاج: 75 ـ 80، عنه بحار الأنوار: 28/189 ـ 203 ; اليقين: 235 ـ 242، عنه بحار الأنوار: 28/214 ـ 219 ; إبطال الاختيار للحسين بن جبر، عنه الصراط المستقيم: 2/79 ـ 84 ; وحفيده علي بن جبر (ق7) في نهج الإيمان: 578 ـ 589، وقال: ذلك بينهم معروف مشهور لا خفاء به ولا تناكر فيه ; حقائق المعرفة، لأحمد بن سليمان اليمني الزيدي (المتوفّى 566)، عنه أنوار اليقين: 386 ـ 388، وشفاء صدور النّاس: 481 ـ 484 ; بهجة المباهج: 264 ـ 271، عن الصفواني (القرن الرابع)، الدر النظيم: 441 ـ 447، وأشار إلى احتجاجهم الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإفصاح: 48، والهادي الزيدي في تثبيت الإمامة: 14 ـ 15، ورواه مختصراً في مثالب النواصب: 127، ونقل عن ابن أبي جمهور الأحسائي شهرته، راجع مجالس المؤمنين: 1/858.


الصفحة 93

تدبير لم يتمّ!

روى الجوهري عن جرير بن المغيرة: إنّ سلمان والزبير والأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليّاً (عليه السلام)(1).

وروى ابن أبي الحديد عن الزبير بن بكّار: لمّا بويع أبو بكر واستقرّ أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهتفوا باسمه وأنّه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون وكثر في ذلك الكلام(2).

وفي رواية أُخرى عنه بعد ذكر البيعة لأبي بكر يوم الوفاة: فلمّا كان آخر النهار افترقوا إلى منازلهم فاجتمع قوم من الأنصار وقوم من المهاجرين فتعاتبوا فيما بينهم..(3).

ويظهر من رواية البراء بن عازب أيضاً أنّ جماعة من الأصحاب اجتمعوا في تلك الليلّة ـ أي الليلة الأُولى من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وتكلّموا حول مسألة الخلافة، وأرادوا الوقوف امام دسيسة القوم وابطال مخططهم في البيعة لابي بكر،

____________

1. شرح نهج البلاغة: 2/49 و 6/43، وراجع أيضاً ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة النعمان بن عجلان الزرقي واشعاره في السقيفة، وأشار إلى بعضها في شرح نهج البلاغة: 16/174.

2. شرح نهج البلاغة: 6/23.

3. شرح نهج البلاغة: 6/19 ـ 20.