وفي كتابه (عليه السلام) إلى أخيه عقيل: ".. اللّهم فاجز قريشاً عنّي بفعالها ; فقد قطعت رحمي، وظاهرت عليّ، وسلبتني سلطان ابن عمّي، وسلّمت ذلك لمن ليس في قرابتي وحقّي في الإسلام وسابقتي "(1).
وعنه: " اللّهمّ فإنّي أستعديك على قريش، فخذ لي بحقّي منها، ولا تدع مظلمتي لها، وطالبهم ـ يا ربّ ـ بحقّي فإنّك الحكم العدل، فإنّ قريشاً صغرت قدري، واستحلّت المحارم منّي، واستخفّت بعرضي وعشيرتي، وقهرتني على ميراثي من ابن عمّي.. "(2).
وقد روى الكافّة عنه: " اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش، فإنّهم ظلموني في الحجر والمدر "(3).
وقال (عليه السلام): " ما لنا ولقريش! يخضمون الدنيا باسمنا، ويطؤون على رقابنا، فيا لله وللعجب من اسم جليل لمسمّى ذليل! "(4).
____________
1. الإمامة والسياسة: 1/54، عنه بحار الأنوار: 29/628، وقريب منه في نهج البلاغة: 130، كتاب 136، عنه بحار الأنوار: 29/621.
2. المناقب: 2/201.
3. المناقب: 2/115 ; عنه بحار الأنوار: 41/51 ; راجع المصادر التالية (مع تغيير في العبارة): المناقب: 2/204 ; الصراط المستقيم: 3/42 ـ 43، 150 ; العدد القويّة: 189 ـ 190 ; الغارات: 204، 392 ; كامل بهائي: 2/65.
4. شرح نهج البلاغة: 20/308.
قال: وعبد الله بن عمر بن الخطاب داخل إليهم، قد سمع الكلام كله، فدخل وقال: يا أبا الحسن!أتريد أن تضرب بعضهم ببعض؟
فقال (عليه السلام): " اسكت، ويحك! فوالله لولا أبوك وما ركب منّي قديماً وحديثاً، ما نازعني ابن عفان ولا ابن عوف.. " فقام عبد الله فخرج(1).
وقال (عليه السلام) ـ بعد أن جعل عمر الأمر شورى بن الستّة ـ: " أما والله، لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى إلينا قديماً، ولأعلمته سوءَ رأيه فينا وما أتى إلينا حديثاً "(2).
وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى معاوية:
.. ولعمري يا معاوية!... وما أنت وطلحة والزبير بأحقر جرما ولا أصغر ذنبا ولا أهون بدعة وضلالة ممن استنا لك..!(3) ولصاحبك الذي تطلب بدمه، ووطئا لكما ظلمنا أهل البيت وحملاكم على رقابنا(4)..
غَضّ الدهر منّي
وقال (عليه السلام): " كنت في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كجزء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ينظر
____________
1. شرح نهج البلاغة: 9/54 وراجع بحار الأنوار: 31/357.
2. شرح نهج البلاغة: 9/51.
3. خ. ل: بأعظم جرما، ولا أصغر ذنبا، ولا أهون بدعة وضلالة من الذَين أسسا لك.
4. كتاب سليم بن قيس: 194 (الطبعة المحققه: 769)، بحار الأنوار: 33/153.
الجهر بغصب المنافقين للخلافة..
قال (عليه السلام): " أمّا بعد فإنّ الله تعالى لما قبض نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قلنا نحن أهل بيته، وعصبته، وورثته، وأولياؤه، وأحقّ الخلائق به، لا نُنازَع حقّه وسلطانه، فبينا نحن على ذلك إذ نفر المنافقون فانتزعوا سلطان نبيّنا منّا وولّوه غيرنا، فبكت والله لذلك العيون والقلوب منّا جميعاً معاً، وخشنت له الصدور وجزعت النفوس.. "(2).
وفي رواية الكلبي عنه (عليه السلام): " إنّ الله لمّا قبض نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من الناس كافّة، فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خلف(3).
وفي كتابه (عليه السلام) إلى أهل مصر: ".. فلمّا مضى (صلى الله عليه وآله وسلم) تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا
____________
1. المصدر: 20/326. قال ابن منظور: يضرب مثلاً للرجل يدخل نفسه في قوم ليس منهم. عنه لسان العرب: 13/228.
2. الإرشاد: 1/245 وقريب منه في أمالي المفيد: 99 ; ط الحديثة 154 ـ 155، عنه بحار الأنوار: 29/579 (634).
3. شرح نهج البلاغة: 1/308 ; بحار الأنوار: 29/633 و 32/62.
روى جابر الجعفي عن محمّد بن علي (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): " ما رأيت منذ بعث الله محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رخاءاً، لقد أخافتني قريش صغيراً، وأنصبتني كبيراً، حتّى قبض الله رسوله فكانت الطامّة الكبرى، ( وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلَى ما تَصِفُوْنَ )(2).
وقال (عليه السلام) لعبد الرّحمن بن عوف ـ بعد استخلاف عثمان ـ: " ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ( فَصَبْرٌ جَمِيْلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلَى ما تَصِفُوْنَ )(3) ".
وروى عبد الملك بن عمير، عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة، قال: سمعت علياً (عليه السلام) وهو يقول: " ما لقي أحد من الناس ما لقيت.. " ثمّ بكى (عليه السلام)(4).
وزاد البلاذري ـ بعد قوله (عليه السلام) " ما لقيت " ـ: " توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أحقّ بهذا الأمر.. "(5).
وفي رواية عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة، عن أبيه: سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول: " ولي أبو بكر وكنت أحقّ الناس بالخلافة "(6).
____________
1. نهج البلاغة: 145، كتاب 62.
2. شرح نهج البلاغة: 4/108 وقريب منه الإرشاد: 1/284، والآية الشريفة في سورة يوسف (12): 18.
3. الطبري: 4/233 ; الكامل لابن الأثير: 3/71 ; شرح نهج البلاغة: 1/194 العقد الفريد: 4/279 (مكتبة النهضة المصرية) والآية في سورة يوسف (12): 18.
4. شرح نهج البلاغة: 4/103.
5. أنساب الأشراف: 2/177 (تحقيق المحمودي) 2/402 (ط دار الفكر).
6. لسان الميزان: 4/485.
عن إبراهيم الثقفي ـ بعد ذكر رواية عن الزهري: ما بايع علي (عليه السلام) إلا بعد ستّة أشهر، وما اجْتُرِئَ عليه إلا بعد موت فاطمة (عليها السلام) ـ وقال (عليه السلام): " انّ هؤلاء خيّروني أن يظلموني حقّي وأُبايعهم... فاخترت أن أظلم حقّي وإن فعلوا ما فعلوا "(2).
وفي رواية أُخرى: ".. فإنّ هؤلاء خيّروني أن يأخذوا ما ليس لهم أو أُقاتلهم وأُفرّق أمر المسلمين.. "(3).
وحكى المأمون العبّاسي ـ في احتجاجه على علماء العامّة ـ: ان أمير المؤمنين (عليه السلام)قال: " قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أولى بمجلسه منّي لقميصي، ولكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً "(4).
وقال (عليه السلام): " إنّ الله عزّ وجلّ لمّا قبض رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قلنا: نحن أهله وأولياؤه لا ينازعُنا سلطانه أحد، فأبى علينا قومنا.. فولَّوْا غيرنا، وأيم الله لولا مخالفة الفرقة، وأن يعود الكفر ويبوء(5) الدين لغيرنا(6).. فصبرنا على بعض الألم.. "(7).
____________
1. الكافي: 8/63.
2. الشافي: 3/243 ـ 244 ; تلخيص الشافي: 3/78 ـ 79.
3. الشافي: 3/243 ـ 244 ; تلخيص الشافي: 3/78 ـ 79.
4. عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/187، عنه بحار الأنوار: 49/192.
5. خ. ل: يبور.
6. كذا.
7. الاستيعاب: 1/490 (ترجمة رفاعة بن رافع).
أرى تراثي نهباً
قال (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: " أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً.. "(1).
الاستنجاد
عن أسحاق بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ في خطبة يعتذر فيها عن القعود عن قتال من تقدّم عليه ـ قال: ".. وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي وبقيت بين خفيرتين قريبي عهد بجاهلية: عقيل وعبّاس "(2).
وعنه (عليه السلام): " ولو كان لي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّي حمزة وأخي جعفر لم أُبايع كرهاً، ولكنني بليت(3) برجلين حديثي عهد بالإسلام: العبّاس وعقيل، فضننت بأهل بيتي الهلاك، فأغضيت عيني على القذى، وتجرّعت ريقي على الشجى.. "(4).
____________
1. شرح نهج البلاغة: 1/151. والخطبة طويلة رواها الخاصّة والعامّة، راجع الغدير: 7/85 ـ 82. وتعليقة نهج البلاغة: 5 (نسخة المعجم، جماعة المدرسين، قم).
2. الاحتجاج: 190، عنه بحار الأنوار: 22/284.
3. خ. ل: منيت.
4. كشف المحجة، عنه بحار الأنوار: 30/15 ; نوادر الأخبار ـ للفيض الكاشاني ـ: 199 ـ 198.
ظُلمتُ عدد المدر والوبر!
عن المسيب بن نجبة قال: بينا علي (عليه السلام) يخطب، إذ قام أعرأبي فصاح: وامظلمتاه! فاستدناه علي (عليه السلام)، فلما دنا قال له: " إنما لك مظلمة واحدة، وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر "(2)!
وفي رواية عباد بن يعقوب: إنه دعاه فقال له: " ويحك! وأنا والله مظلوم أيضاً.. هات فلندع على من ظلمنا "(3).
روى أنّ أعرابياً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في المسجد، فقال: مظلوم،
____________
1. كامل بهائي: 2/131 ; وقريب من هذه الروايات الثلاثة ما رواه سليم في كتابه: 128، وعنه بحار الأنوار: 29/468.
وقد روى الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن سدير، قال: كنّا عند أبي جعفر (عليه السلام) ـ فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستذلالهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ فقال رجل من القوم: أصلحك الله! فأين كان عزّ بني هاشم وما كانوا فيه من العدد؟! فقال أبو جعفر (عليه السلام): " ومن كان بقي من بني هاشم؟! إنما كان جعفر وحمزة فمضيا، وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام عباس وعقيل، وكانا من الطلقاء. أما والله لو أنّ حمزة وجعفراً كانا بحضرتهما ما وصلا إليه، ولو كان شاهديهما لأتلفا نفسيهما".
انظر الكافي: 8/189، وعنه في بحار الأنوار: 28/251.
2. خ. ل: الحجر، المطر.
3. شرح نهج البلاغة: 4/106 ; المناقب: 2/115 ; الشافي: 3/223 ; تلخيص الشافي: 3/48 ; بحار الأنوار: 28/373.
وروي ـ متواتراً ـ أنه (عليه السلام) قال: " ما زلت مظلوماً(2) منذ قبض الله نبيّه حتى يوم الناس هذا.. " أو نحوه(3).
أو: " ألا ما زلت مظلوماً.. ألا ما زلت مقهوراً منذ قبض الله نبيّه "(4).
أو: " فوالله ما زلت مدفوعاً عن أمري(5)، مستأثراً عليّ، منذ قبض الله نبيّه حتّى يومنا هذا "(6).
أو: " ولقد كنت أظلم قبل ظهور الإسلام "(7).
أو: " ما زلت مظلوماً منذ ولدتني أُمّي "(8) او: " مذ كنت "(9).
بل قالوا: إنّه (عليه السلام) لم يقم مرّة على المنبر إلا قال في آخر كلامه قبل أن ينزل:
____________
1. الخرائج: 180، عنه بحار الأنوار: 42/187.
2. خ. ل: مغضوباً.
3. كامل بهائي: 1/303 و 2/131 ; ارشاد القلوب: 395 ; الإمامة والسياسة: 1/49 ; تقريب المعارف: 237 (تحقيق تبريزيان) ; الصراط المستقيم: 3/41 ـ 42، 114 ; المناقب: 2/115 ; الشافي: 3/223 ; تلخيص الشافي: 3/48 ; شرح نهج البلاغة: 10/286 و 20/283 ; خصائص الأئمة (عليهم السلام)99 ; بحار الأنوار: 28/372 و 29/417، 578 و 41/5، 51 و42/187.
4. كامل بهائي: 1/328.
5. خ. ل.: حقّي.
6. المصدر: 1/210 ; بحار الأنوار: 32/135 ; شرح نهج البلاغة: 1/223 ; نهج البلاغة: 7، الخطبة 6.
7. شرح نهج البلاغة: 20/283.
8. الفضائل لشاذان القمي: ص 130 ; علل الشرائع: 45 ; بحار الأنوار: 27/62، 208 و 67/228.
9. المناقب: 2/122 ; بحار الأنوار: 27/207 و 41/5.
علي (عليه السلام) ومخاصموه عند الله تعالى
روي من طرق كثيرة أنه (عليه السلام) كان يقول: أنا أوّل مَنْ يحشر(2) للخصومة بين يدي الله يوم القيامة(3).
ما لي ولقريش
قال (عليه السلام): " كل حقد حقدته قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهرته فيّ، وستظهره في ولدي من بعدي، مالي ولقريش..؟! "(4).
وقال (عليه السلام): " ما لنا ولقريش..! وما تنكر منا قريش..؟! غير أنا أهل بيت
____________
1. المناقب: 2/115 ; الاحتجاج: 190 ; الصراط المستقيم: 3/150 ; الشافي: 3/223 ; تلخيص الشافي: 3/49 ; كتاب سليم: 127، 181 ; بحار الأنوار: 28/373 و 29/419، 467 و 33/143 ـ 142 و 41/51.
2. خ. ل: يجثو.
3. البخاري: 5/6، 242 ; جواهر المطالب: 1/49 ; الرياض النضرة: 581 ; كنز العمال: 2/472 ; كامل بهائي: 2/87 ; المناقب: 3/204 ; شرح نهج البلاغة: 6/170. المناقب للكلابي ص 432 ; المناقب لابن المغازلي: 265 تعليقة رقم 1. الصراط المستقيم: 1/289 و 3/42 ; تأويل الآيات: 330 ; العمدة ـ لابن البطريق ـ 311. (عن البخاري والثعلبي) ; شواهد التنزيل: 1/503 ; بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): 263 ; سعد السعود: 102 ; بحار الأنوار: 19/312 ـ 313 و 28/374 و 29/578 و 36/22، 128 و 39/234.
وقال الحاكم في المستدرك: 2/386 ـ بعد ذكر هذه الرواية وما شابهها ـ: لقد صحّ الحديث بهذه الروايات عن عليّ (عليه السلام).
أقول: ويتّضح غرضه (عليه السلام) من هذا الكلام ممّا رواه ابن أبي الحديد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عند ذكر ما يبتلى به أميرالمؤمنين (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ: " فأعدّ للخصومة فإنّك مخاصم ". انظر شرح نهج البلاغة: 9/206.
4. شرح نهج البلاغة: 20/328.
" اللهم فإني أستعديك على قريش.. فخذ لي بحقي منها، ولا تدع مظلمتي لديها، وطالبهم ـ يا رب ـ بحقي، فإنك الحكم العدل.. فإن قريشا صغرت عظيم أمري، واستحلت المحارم مني، واستخفت بعرضي وعشيرتي، وقهرتني على ميراثي من ابن عمي، وأعزوا(2) بي أعدائي، ووتروا بيني وبين العرب والعجم، وسلبوني ما مهدت لنفسي من لدن صباي بجهدي وكدي، ومنعوني ما خلفه أخي وجسمي وشقيقي، وقالوا: إنك لحريص متهم..!، أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر، ومن عمى الضلالة وعلى الظلماء..؟! أليس أنقذتهم من الفتنة الصماء، والمحنة العمياء؟! ويلهم! ألم أخلصهم من نيران الطغاة، وكرة العتاة، وسيوف البغاة؟!.. بي كان يفري جماجم البهم، وهام الأبطال اذا فزعت تيم إلى الفرار وعدي إلى الانتكاص.
أما وإني لو أسلمت قريشا للمنايا والحتوف وتركتها فحصدتها سيوف الغوانم، ووطئتهم الأعاجم، وكرات الأعادي، وحملات الأعالي، وطحنتهم سنابك الصافنات، وحوافر الصاهلات في مواقف الأزل والهزل في ظلال الأعنة وبريق الأسنة، ما بقوا لهضمي، ولا عاشوا لظلمي، ولما قالوا: إنك لحريص متهم..!
اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق
____________
1. خ. ل: رضي الله.
2. خ. ل: أغرّوا.
فقال صلوات الله عليه: " يا أخا اليمن! لا بحق أخذا، ولا على إصابة أقاما، ولا على دين مضيا، ولا على فتنة خشيا ـ يرحمك الله ـ اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل.. " الى أن قال صلوات الله عليه: " وكذلك فعلا بي ما فعلا حسدا... سبقني إليه التيمي والعدوي كسباق الفرس احتيالا واغتيالا، وخدعة وغلبة... ولمّا أنزل الله جل وعز: ( وَآتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ )(1) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فنحلها فدك، وأقامني للناس علما وإماما، وعقد لي وعهد إليّ، فأنزل الله عز وجل: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكم )(2).
فقاتلت: حق القتال، وصبرت حق الصبر، على أنه أعربتما وعربا على دين أتت به تيم وعدي.. أم على دين أتى به ابن عمي وصنوي وجسمي، على أن أنصر تيما وعديا.. أم أنصر ابن عمي وحقي وديني وإمامتي.. وإنما قمت تلك المقامات، واحتملت تلك الشدائد، وتعرضت للحتوف على أن نصيبي من الآخرة موفرا، وإني صاحب محمّد، وخليفته، وإمام أمته بعده، وصاحب رايته في الدنيا والآخرة ".
____________
1. الإسراء (17): 26.
2. النساء (4): 59.
ثم قال بعد ذلك: ".. قد توافقنا على حدود الحق والباطل، وأخرجتكم من الشبهة إلى الحق، ومن الشك إلى اليقين،
فتبرّءوا ـ رحمكم الله ـ ممن نكثوا البيعتين، وغلب الهوى به فضلّ،
وابعدوا ـ رحمكم الله ـ ممن أخفى العذر وطلب الحق من غير أهله فتاه،
والعنوا ـ رحمكم الله ـ من انهزم الهزيمتين إذ يقول الله: ( إذا لَقِيتُمُ الذَّينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلوهُمُ الأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقتالِ أَوْ مُتَحَيِّزا إلى فِئَة فَقَدْ باءَ بِغَضَب مِنَ الله )(3) وقال: ( وَيَوْم حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كثْرَتُكمْ فَلمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَليْكُمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِين)(4).
____________
1. خ. ل: الأبواء.
2. خ. ل: تكاثفت.
3. الأنفال (8): 15.
4. التوبة (9): 25.
وتبرءوا ـ رحمكم الله ـ ممن يقول فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ترتفع يوم القيامة ريح سوداء تخطف من دوني قوما من أصحابي من عظماء المهاجرين فأقول: أصحابي.. فيقال: يا محمّد! إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
وتبرّوا ـ رحمكم الله ـ من النفس الضال من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، فيقولوا: ( رَبَّنا أَرِنا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُوْنا مِنَ الأَسْفَلِيْنَ )(1) ومن قبل أن يقولوا: ( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْب اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرين )(2) أو يقولوا: ( وَما أَضَلَّنا إلاَّ المُجْرِمُونَ )(3) أو يقولوا: ( رَبَّنا [إنّا] أَطعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبيلا )(4).
إن قريشا طلبت السعادة فشقيت، وطلبت النجاة فهلكت، وطلبت الهداية فظلت إن قريشا قد أضلت أهل دهرها ومن يأتي من بعدها من القرون إن الله تبارك اسمه وضع إمامتي في قرآنِه فقال: ( وَالَّذينَ يَبيتُونَ لِرَبَّهِمْ سُجَّداً وَقياماً وَالَّذَينَ يَقُولُونَ ربَنَّا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّة أعْيُن واجْعَلنا لِلمُتَّقِينَ إِماماً )(5) وقال: ( الَّذين إِنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاة وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكرِ وَللهِِ عاقِبَة الأُمور )(6)(7).
____________
1. فصلت (41): 29.
2. الزمر (39): 56.
3. الشعراء (26): 99.
4. الاحزاب (33): 67.
5. الفرقان (25): 73 ـ 74.
6. الحج (22): 41.
7. كتاب الإرشاد لكيفية الطلب في أئمة العباد تصنيف محمد بن الحسين الصفار (المتوفى 291)، عنه العدد القوية: 190 ـ 199، عنه بحار الأنوار: 29/558 ـ 568 ; ورواه مختصراً في مثالب النواصب: 144 ـ 148.
قال الصفار: وقد كفانا أمير المؤمنين (عليه السلام) المئونة في خطبة خطبها، أودعها من البيان والبرهان ما يجلي الغشاوة عن أبصار متأمليه، والعمى عن عيون متدبريه، وحلينا هذا الكتاب بها ليزداد المسترشدون في هذا الأمر بصيرة، وهي منة الله جلّ ثناؤه علينا وعليهم يجب شكرها.
لكنّي ملجم إلى أن ألقى الله
قال أبو عبيدة: لما استقامت الخلافة لأبي بكر، بلغ أبا بكر عن علي (عليه السلام)تلكؤ وشماس وتهمهم ونفاس، فكره أن يتمادى الحال وتبدو له العورة، وتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دريئة لجاهل مغرور، أو عاقل ذي دهاء، أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان، دعاني في خلوة فحضرته وعنده عمر وحده ـ وكان عمر قبساً له وظهيراً معه يستضيء بناره ويستملي من لسانه ـ فقال لي: يا أبا عبيدة!... امض إلى عليّ... وقل له:... ما هذا الذي تسول لك نفسك، ويدوي به قلبك، ويلتوى عليه رأيك، ويتخاوص دونه طرفك، ويستشري به ضغنك، ويترادّ معه نفسك، وتكثر لأجله صعداؤك، ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد افصاح، ألبساً بعد أيضاح؟... ما هذه القعقة بالشنآن، والوعوعة باللسان؟..
قال أبو عبيدة: فلما تهيأت للنهوض قال لي عمر: كن على الباب هنيئة فلي معك ذرو من الكلام.. فوقفت وما أدري ما كان بعدي إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللاً وقال لي: قل لعليّ:... ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك؟! وما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك؟ وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك، والقذاة التي أعشت ناظرك؟! وما هذا الدحس والدس، اللذان يدلان على ضيق الباع وخور الطباع؟! وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر واشتملت عليه
لشدّ ما استسعيت لها وسريت سرى ابن أنقد إليها..
لسنا في كسروية كسرى ولا قيصرية قيصر..
أتظن ظناً أنّ أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاناً على الأُمة خادعاً لها ومتسلّطاً عليها؟ أتراه امتلخ أحلامها، وأزاغ أبصارها، وحلّ عقودها، وأحال عقولها، واستل من صدورها حميتها وانتكث رشاءها، وانتضب ماءها؟...
وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يجحد حقك فيما آتاك ربّك من العلم ومنحك من الفقه في الدين.. هذا إلى مزايا خصصت بها، وفضائل اشتملت عليها، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقربى أمسّ من قرباك، وسن أعلى من سنك، وشيبة أروع من شيبتك.. فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع غداً، والفظ من فيك ما هو متعلّق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك..
وبعد إبلاغ الرسالة قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوابهما لأبي عبيدة: ".. أني أعلم أن التظاهر عليَّ واقع، ولي عن الحق الذي سيق إليَّ دافع، وإذ قد أفعم الوادي لي وحشد النادي عليّ فلا مرحباً بما ساء أحداً من المسلمين، وفي النفس كلام ـ لولا سابق قول، وسالف عهد ـ لشفيت غيظي بخنصري بنصري وخضت لجّته بأخمصي ومفرقي، ولكني ملجم إلى أن ألقى الله... " ثم بعدما التقى الفريقان ; قال له عمر: يا أبا الحسن!... وزعمت أن التظاهر عليك واقع.. أيّ تظاهر وقع عليك؟! وأيّ حقّ استؤثر به دونك؟! لقد علمت ما قالت الأنصار أمس سراً وجهراً، وما تقلبت عليه ظهراً وبطناً، فهل ذكرتْك أو أشارتْ بك؟! أو طلبت رضاها من عندك؟! وهؤلاء المهاجرون من الذي قال منهم أنك صاحب هذا الأمر؟! أو أوما إليك أو همهم بك في نفسه؟!
أتظنّ أن الناس ضنوا من أجلك؟! أو عادوا كفاراً زهداً فيك؟! أو باعوا الله
ولقد جاءني قوم من الأنصار فقالوا: إنّ علياً ينتظر الإمامة ويزعم أنه أولى بها من أبي بكر، فأنكرت عليهم ورددت القول في نحورهم(1)..
ثم قال ابن أبي الحديد ـ بعد كلام له ـ: إنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب وإن كان عندنا موضوعاً منحولاً، فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم فهم وإن لم ينطقوا به بلسان المقال فقد نطقوا به بلسان الحال(2)..
أقول: إنّ التفتازاني حكم بصحّة هذه الرواية، فقال: وفي إرسال أبي بكر وعمر أبا عبيدة الجراح إلى علي (عليه السلام) رسالة لطيفة رواها الثقات بإسناد صحيح
____________
1. شرح نهج البلاغة: 10/271 ـ 285 ; عن أبي حيان التوحيدي في رواية طويلة جدّاً. أقول: نحن راجعنا كتاب البصائر والذخائر مراراً ولم نجد الرواية فيه مع أن الظاهر من ابن أبي الحديد ص 286 أنه نقلها عنه ولعلّها حذفت كسائر ما حذفته الأيدي الأثيمة من التراث العلمي.
ورواه محيي الدين العربي في محاضرة الأبرار: 2/175 ـ 197 (مع تحريف يسير)، والنويري فى نهاية الإرب: 7/213، والقلقشندي المتوفى (821) في صبح الأعشى 1/237 ـ 247، والعصامي المكّي في سمط النجوم العوالي: 2/256 ـ 271 (مع تحريف يسير)، وأحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب: 1/89 ـ 109 مع شرح اللغات المشكلة، والشيخ ابراهيم العبيدي المالكي في: عمدة التحقيق: 236 ـ 255 (المطبوع في هامش روض الرياحين ـ ط قبرص) مع تحريف في بعض المواضع. فإنّه غيّر ما نقله عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " فإني أعلم أن التظاهر عليّ واقع، ولي عن الحق الذي سيق إليّ دافع، وإذ قد أفعم الوادي لي وحشد النادي عليّ ". وأورده هكذا: فإنّي لم أعلم أن التظاهر عليّ واقع ولا عن الحق الذي... قد أنعم بي الوادي أو حشر من أجلى النادي.
ويحتمل أن يكون التحريف وقع من قبل غيره فنقله محرّفاً. وكيف كان فسياق الكلام وجواب عمر بعد ذلك يدلاّن على ما نقله ابن أبي الحديد دون ما ذكره العبيدي.
ثم، الغرض من ذكر هذه الرسالة اعترافهم بمظلومية أمير المؤمنين (عليه السلام) لا الالتزام بصحة جميع ما فيها، ولشيخنا العلامة الأميني تعليقة عليها، راجع الغدير: 5/273.
2. شرح نهج البلاغة: 10/286.
وقال (عليه السلام): يا أبا عبيدة! طال عليك العهد فنسيت ام نافست فأُنْسيتَ؟
لقد سمعتها ووعيتها فهلا رعيتها(2)؟
أشعاره (عليه السلام) في التظلّم
ذكر الإمام علي بن أحمد الواحدي، عن أبي هريرة قال: اجتمع عدّة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ منهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير والفضل بن عبّاس وعمّار وعبد الرحمن بن عوف وأبو ذر والمقداد وسلمان وعبد الله بن مسعود ـ فجلسوا وأخذوا في مناقبهم، فدخل عليهم علي (عليه السلام) فسألهم: " فيم أنتم؟ " قالوا: نتذاكر مناقبنا ممّا سمعنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال علي (عليه السلام): " اسمعوا منّي "، ثمّ أنشأ يقول هذه الأبيات:
" لقد علم الأُناس بأنّ سهمي | من الإسلام يفضل كلّ سهم |
وأحمد النبي أخي وصهري | عليه الله صلّى وابن عمّي |
وإنّي قائد للناس طرّاً | إلى الإسلام من عرب وعجم |
وقاتل كلّ صنديد رئيس | وجبّار من الكفّار ضخم |
وفي القرآن ألزمهم ولائي | وأوجب طاعتي فرضاً بعزم |
كما هارون من موسى أخوه | كذاك أنا أخوه وذاك اسمي |
لذاك أقامني لهم إماماً | وأخبرهم به بغدير خمّ |
فمن منكم يعادلنى بسهمي | وإسلامي وسابقتي ورحمي |
فويل ثمّ ويل ثمّ ويل | لمن يلقى الإله غداً بظلمي |
وويل ثمّ ويل ثمّ ويل | لجاحد طاعتي ومريد هضمي |
____________
1. شرح المقاصد: 2/286 (ط افندي).
2. شرح نهج البلاغة: 20/307.