والحقيقة أنّهم بشر مثلنا، وإن كانوا أفضل منّا تقوىً وايماناً وحبّاً للحق.. وقرباً من النور المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لا يقول أحد بأنهم منزهون عن الخطأ وبأن جميع أعمالهم حسناء، مع أنه ثبت لنا أنهم تجادلوا وتشاتموا وتضاربوا، وقتل بعضهم بعضاً، ومرّ عليهم زمن كانت فيه المجازر بينهم على أشد ما يكون بين المتخاصمين من الشعوب المتعادية، ومن الذي ينسى أن وقعة صفين بين علي (عليه السلام)ومعاوية ذبح فيها مائة الف مسلم، وذبح نحو ذلك في واقعة الجمل بين علي (عليه السلام)وطلحة وعائشة، ووقعة النهروان بين علي (عليه السلام) ومن خرجوا عليه من المسلمين؟!
هذه كلها وقائع حمل فيها المسلمون بعضهم على بعض بالسيف جزّاً في الأعناق، وطعناً في الأفئدة، وضرباً في الوجوه، وبقراً للبطون.. فإذا ضربنا صفحاً عن ذكر أسبابها ونتائجها بكمال الحرية، واكتفينا بأن ننظرها على غير حقيقتها.. وسوسةً وخوفاً، كنّا كمن يريد أن يغش نفسه، والله لا يهدي المبطلين(1).
وقال الدكتور طه حسين:.. وما أُريد أن أتزيّد.. ولا أن أتكلّف.. ولا أن أُوذي بعض الضمائر.. ولا أن أَحفظ بعض الصدور، ولكنّي مع ذلك أُلاحظ أنّ جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)... طال عليهم الزمن واستقبلوا الأحداث والخطوب وامتحنوا بالسلطان الضخم العظيم وبالثراء الواسع العريض ففسدت بينهم الأُمور وقاتل بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً وساء ظنّ بعضهم ببعض إلى أبعد ما يمكن أن يسوء ظنّ الناس بالناس فما عسى أن يكون موقفنا من هؤلاء؟
____________
1. دائرة معارف القرن الرابع عشر (العشرين): 3 / 753 ـ 752 ـ خلف ـ.
أقول: إذا تأمّلت ما ذكرناه يتضح لك إلى من أُشير فيما رواه القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَكِيْدُوْنَ كَيْدَاً )(2) : كادوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وكادوا عليّاً (عليه السلام) وكادوا فاطمة (عليها السلام).. إلى أن قال (عليه السلام): فمهّل الكافرين ـ يا محمّد ـ أمهلهم رويداً، لوقت بعث القائم (عليه السلام) فينتقم لي من الجبّارين والطواغيت من قريش وبني أُميّة وسائر الناس(3).
ولا يخفى أنّ للقوم دواعي شتّى لصَرْف الخلافة عن أمير المؤمنين إلى أنفسهم، فإنهم حسدوه كما حسدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبله، لرفعته عنهم حسباً ونسباً وعلماً وشجاعة بل وفي جميع كمالاته ونزلت فيه خاصّة آيات من القرآن، وذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضله أُموراً عظيمة جدّاً، وكان يقدّمه على غيره في جميع الأُمور، فلما اشتعل نار الحسد في قلوبهم أخرجوا الأمر عن معدنه بغياً وظلماً، وبغضاً وعدواةً لأهل البيت (عليهم السلام)، ورجاء أن يتداولوها بينهم، ثم علّلوا أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث السنّ..! وإنه صاحب زهو وتيه ويستصغر الناس لعُجْبه!! ويُؤْثِر بني عبد المطلب على غيرهم.. وتبغضه العرب ولا تطيعه لأنه وتَرَها!! وقريش تنظر إليه كما ينظر الثور إلى جازره!! بل لا تجتمع الخلافة والنبوة في بيت واحد(4)!!
فلما زيّن ذلك في قلوبهم لم يروا بدّاً من إجبار أهل البيت (عليهم السلام) على البيعة لأبي بكر ليتم لهم الأمر أو إهلاكهم إن أبوا عن الإجابة إلى ذلك، وقديماً قالوا:
____________
1. الفتنة الكبرى: 1 / 40.
2. الطارق (86): 15.
3. تفسير القمي: 2 / 416 ; بحار الأنوار: 23 / 368.
4. لتفصيل ما أجملناه راجع الطبري: 4 / 223 ـ 224 ; اليعقوبي: 2 / 158 ـ 159 ; الأغاني: 10 / 288 (ط دار إحياء التراث العربي) ; شرح نهج البلاغة: 1 / 189 و 2 / 57 ـ 58 و 6 / 45 و 12 / 9، 20، 53 ـ 55، 80 ـ 83 و 20 / 155.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه [النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)]ذريعة إلى الرئاسة وسلّماً إلى العزّ والإمرة لما عَبَدَت الله بعد موته يوماً واحداً.. "(1).
ثم لماذا لم يبالوا بايذاء من هي بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها؟
ولا أريد أن أذكر هنا عداوتهم لأهل البيت (عليهم السلام) وما يجري مجرى هذا الكلام ـ وإن كان صحيحاً في نفسه وأمراً ظاهراً لمن تتبّع الآثار والتواريخ ـ بل أزعم أن هذه الحركة القاسية كانت غاية ما وصل إليه تفكير الهيئة الحاكمة والطريق الوحيد تجاه أهل البيت (عليهم السلام).
وترى في روايات العامة والخاصّة أن الهجوم الاخير على البيت الطاهر وقع بعد استنصار السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع بعلها وبنيها (عليهم السلام)ليلاً واستنهاضها المهاجرين والأنصار ليردّوا الحقّ إلى أهله، فالهيئة الحاكمة باركانها أصحاب العقبه، ومجريها الثاني، ومديرها السياسي الاول عرفوا انها لا تقعد عن نصرة إمامها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعزمت على بذل غاية جهدها في إقامة الحق وإبطال الباطل، إذ هي التي لم تنس قول أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "... اللّهمّ انصر من نصره واخذل من خذله.. " قبل أيّام قليلة في حجّة الوداع على عكس الذين آثروا الدنيا على الآخرة. فقوّى في نفس القوم احتمال رجوع الحق إلى أهله وانتباه الناس عن غفلتهم، فلم يروا بدّاً من قتل فاطمة (عليها السلام)، فعزموا على تلك الجناية التي لا يتصوّر فوقها جناية، ولا تنسى أبداً.
تلك المصيبة التي لا يجري القلم بكتابتها.. ولا اللسان بذكرها.. والسمع
____________
1. شرح نهج البلاغة: 20 / 298.
نعم أوجب الحقد والحسد والعداوة وحبّ الرئاسة والملك وايثار الدنيا على الآخرة أن يجتمع هؤلاء الذين يعدّون أنفسهم من الأصحاب حول بيت فاطمة الزهراء (عليها السلام) ويهدّدوا تلك البضعة الوحيدة، وذكرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بإحراق بيتها على أهله ورفعوا أصواتهم بالصيحة المنكرة حول البيت، وغلظوا في التكلّم معها، وراموا فتح الباب.. ولما امتنعت من ذلك ولم تأذن لهم أن يدخلوا، جمعوا الحطب على الباب وأحرقوه، ثم دفعوا الباب المحروق على بطنها وهي حاملة بالمحسن (عليه السلام)وعصروها بين الباب والحائط فأسقطت جنينها ونادت: " يا أبتاه! يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة.. يا أبتاه! يا رسول الله! أهكذا يصنع بحبيتك وابنتك ".
" آه يا فضّة خذيني "... وسقطت على الأرض.
ثم دخلوا الدار وأخرجوا أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يكن من يمنعهم سوى فاطمة (عليها السلام).. فإنّها وإن كانت مريضة ولكنها لم تسمح لنفسها خذلان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما أرادت أن تمنعهم من إخراجه أخذوا في ضربها بالسياط.. وغلاف السيف..!!
ولعمري ما أدري ماذا أكتب هنا، أتذكّر قول شريك القاضي: ما لهم ولفاطمة..! والله ما جهّزت جيشاً ولا جمعت جمعاً.. والله لقد آذيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في قبره(1).
وهذا الكلام يدل على انهم قد بلغوا الغاية في ظلمها، بل لو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أوصى أُمّته بايذاء عترته (عليهم السلام) لم يقدروا على أشدّ وأزيد مما صنعوا.
____________
1. تقريب المعارف: 256 (تحقيق تبريزيان).
الثانية: ألم يوجد من يدافع عن أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام)؟!
أن ثبوت خذلان الناس لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ولأمير المؤمنين (عليه السلام)خاصّة ـ مما ملئت به الكتب واشتهر بين الخاصة والعامة، ولا ينكره إلا المكابر.
ومما رواه جمع كثير من العامّة قول عائشة: فلمّا توفّيت فاطمة استنكر عليّ وجوه الناس أو: انصرفت وجوه الناس عنه(1).
وترى في النصوص أن عدد أعوانه لايتجاوز عدد الأصابع.
وذكرنا ما يدل على ذلك بوضوح من إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، وشكوى أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) واستنصارهما وعدم إجابة الناس لهما.
نعم بعض الأنصار ذكروا فيما بينهم أنّ الخلافة حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) دون غيره، وبلغ ذلك إلى الخليفة وأعوانه، فترى أبا بكر بعد مواجهة الصدّيقة الكبرى (عليها السلام) في المسجد ـ عند ذكر الخطبة الفدكية ـ التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحقّ من لزم عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنتم ـ فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ـ ألا اني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحقّ ذلك منّا(2).
وعن عمر بن الخطّاب أنه قال: فقد جاءني قوم من الأنصار فقالوا: إنّ علياً ينتظر الإمامة ويزعم أنه أولى بها من أبي بكر، فأنكرتُ عليهم ورددت قولهم في
____________
1. كفاية الطالب: 370 (ط نجف) ; صحيح مسلم: 5 / 154 ; البخاري: 5 / 83 ; السنن الكبرى: 6/300 ; البداية والنهاية: 5 / 307 ; السيرة النبوية وأخبار الخلفاء للبستي: 434 ; تاريخ الطبري: 3/208 ; شرح مسلم للنووي: 12 / 77 ـ 76 ; النهاية لابن أثير: 5 / 159 ; شرح ابن أبي الحديد: 6/46 ; أعلام النساء كحالة: 4 / 132 ; إحقاق الحق: 10 / 485 ـ 484.
2. شرح نهج البلاغة 16 / 215.
واكبر شاهد على خذلان الناس لأهل البيت (عليهم السلام) وقعودهم عن نصرتهم ـ إلا عدد يسير جدّاً ـ ما اتّفق على ذكره المؤالف والمخالف وهو:
استنصار السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إيّاهم ليلاً ـ وفي بعض المصادر: ونهاراً ـ مع أمير المؤمنين والحسنين (عليهم السلام) وهم يعتذرون بسبق بيعتهم لأبي بكر، أو يعدون النصر ليلاً ويقعدون عنه نهاراً(2).
قال سلمان ـ بعد ذكر إرسالهم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يدعونه إلى البيعة فلم يقبل ـ كما مرّ تفصيلاً ـ: فلما كان الليل حمل عليّ فاطمة (عليهما السلام) على حمار وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين (عليهما السلام)، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أتاه في منزله فناشدهم الله حقّه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب منهم رجل غيرنا أربعة، فإنّا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا، وكان الزبير أشدّنا بصيرة في نصرته..! فلمّا رأى علي (عليه السلام) خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه لزم بيته..(3).
قال ابن قتيبة الدينوري (المتوفى 276): وخرج عليّ كرّم الله وجهه يحمل
____________
1. راجع: 416.
2. الاحتجاج: 75، 81 ـ 82، 1 / 190 عنه بحار الأنوار: 29 / 419 ; الهداية الكبرى: 178، 408 ; كامل بهائي: 2 / 4 ; الاختصاص: 184 ; كتاب سليم: 128، عنه بحار الأنوار: 29 / 468 ; الصراط المستقيم: 2 / 80 ـ 79 ; مثالب النواصب: 233 ; دلائل الإمامة: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30 / 292 ـ 293 ; العوالم: 11 / 425 ; دائرة المعارف، فريد وجدي 3 / 759 ; موسوعة آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الدكتورة عائشة بنت الشاطي: 614 ; تراجم سيّدات بيت النبوّة، لها أيضاً: 613 ـ 614 ; فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، عمر أبو النصر: 117 ـ 118 ; السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)للدكتور بيّومي مهران: 137 ; الصديق أبو بكر، محمّد حسين هيكل: 65 ; وفي حاشية شفاء صدور الناس: 484 عن الكامل المنير.
3. كتاب سليم: 81 ـ 82 عنه بحار الأنوار: 28 / 267 ـ 268.
ومن كتاب معاوية المشهور إلى عليّ (عليه السلام): واَعْهَدُك أمس، تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين، يوم بويع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول الله، فلم يُجبك منهم إلا أربعة أو خمسة.
ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان، لما حرّكك وهيّجك: " لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم.. " فما يوم المسلمين منك بواحد، ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع(2)..!!
قال ابن أبي الحديد: ويقال: انه (عليه السلام) لمّا استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه، وكان يحمل فاطمة (عليها السلام) ليلاً على حمار وابناها بين يدي الحمار وهو (عليه السلام) يسوقه، فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة: الزبير والمقداد وأبوذر وسلمان ثم أتاهم من اللّيل فناشدهم، فقالوا: نصبحك غدوة، فما جاءه
____________
1. الإمامة والسياسة: 1 / 19 ; شرح نهج البلاغة: 6 / 13 عن الجوهري ; عنه بحار الأنوار: 28 / 352 ; أعلام النساء كحالة: 4 / 114 ; وراجع أهل البيت (عليهم السلام)، توفيق أبو علم: 167.
2. شرح نهج البلاغة: 2 / 47. قريب منه كتاب سليم: 191.
وخلاصة القول: إنّ الناس بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إمّا كانوا ممّن يحسدون أمير المؤمنين (عليه السلام) أو يبغضونه لأنه قتل آباءهم وإخوانهم وأقرباءهم وأصدقاءهم أو يخافون شدّته وعدله، فهذه الطوائف، إمّا رجّحوا نصرة الهيئة الحاكمة فكانوا من أعوانهم، وإمّا تركوا نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فهم وإن لم يروا أبا بكر أهلاً للخلافة ولكن قالوا إنّه ألين من علي (عليه السلام)، ومنهم فرقة أُخرى وهم الأكثرون أعراب وجفاة وطغام، أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، فهؤلاء مقلّدون لا يسألون ولا ينكرون ولا يبحثون، وهم مع أُمرائهم وولاتهم ; وجمع من الصحابة كانوا قائلين بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكنهم لمّا رأوا ذلّة الحقّ وأهله وكونهم متفرّقين وغلبة الباطل عليهم سكتوا.
ويظهر من الآثار أنّ الفتنة كانت شديدة جدّاً ـ كما قال بعضهم في جواب سليم ـ: أصابتنا فتنة أخذت بقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا(2).
وقال حذيفة في جواب بعضهم: يا أخا الأنصار! إنّ الأمر كان أعظم ممّا تظنّ، إنّه عزب والله البصر، وذهب اليقين، وكثر المخالف، وقلّ الناصر لأهل الحقّ... أُخذ والله بأسماعنا وأبصارنا.. وكرهنا الموت وزيّنت عندنا الدنيا...(3).
الثالثة: هل وصلت يد الأجبني إلى وجه الصدّيقة الكبرى (عليها السلام)؟!
إذا راجعنا أحوال الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وهكذا المعصومين
____________
1. شرح نهج البلاغة: 11 / 14. وأشار إليه في: 18 / 39.
2. بحار الأنوار: 28 / 125.
3. بحار الأنوار: 28 / 94.
فإنّ الله عزّ وجلّ لا يريد صدور الاعجاز منهم في جميع حالاتهم وشؤونهم، بل أراد ابتلاءهم وابتلاء الناس بهم كما يستفاد من النصوص، وأمرهم بالصبر والاستقامة والرضا بما يقضي لهم وعليهم..
وهكذا السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تخرج عن هذا السنة الإلهية ولا نريد أن نقول: وصلت يد الأجنبي إلى وجه الصدّيقة الكبرى (عليها السلام) من دون ستر وحاجب.. بل الذي دلتنا عليه الآثار خلافه، وإليك نصّ بعضها:
روي عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال: " وصفقةُ خدِّها حتى بدا قرطاها تحت خمارها.. "(1).
وفي رواية أُبيّ بن كعب: ثم لطمها... من وراء الخمار(2).
وفي كتاب عمر إلى معاوية: فصفقتُ صفقةً على خدّيها من ظاهر الخمار(3)..
نعم ورد في رواية أنها حين الهجوم على بيتها لم يكن عليها خمار. ولكنّه لا دلالة فيها على وصول يد الأجنبي إلى بشرة وجهها.
والذي نحن بصدده في هذا المجال، أنه لا وجه لإنكار ابتلائها (عليها السلام) بهذه المصائب العظيمة لمجرّد الاستبعاد.. بعد ثبوتها بالدليل القطعي.
ولا أظنّك أن تقنع نفسك بأن تقول: جلالة قدر فاطمة (عليها السلام) ومكانتها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)تمنعان الناس من هتك حرمتها..!
____________
1. الهداية الكبرى: 407 ; بحار الأنوار: 53 / 19.
2. الكوكب الدرّي: 1 / 194 ـ 195.
3. بحار الأنوار: 30 / 290.
ثم هل تتوقّع أن يصدر عنهم أسوأ وأعظم مما صنعوا مع جنازته (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ قالوا لأهل البيت (عليهم السلام): دونكم صاحبكم..(1)!! ثم ذهبوا وتنازعوا في أمر الخلافة فلم يحضروا تغسيله ولا تجهيزه والصلاة عليه، بل ولا دفنه. أليس هذا كله هتكاً لحرمته؟ واستخفافاً بأمره..؟! و..
ألا ترى أنها مع ما سألتهم النصرة مراراً في أمر الخلافة، وكذا في أمر فدك.. ـ وخطبتها في المسجد مشهورة ـ.. قعدوا عن نصرتها بأجمعهم، كأنهم لم يسمعوا شيئاً!!
بل واجهها أبو بكر بعد الخطبة بكلام لا أستطيع أن أكتبهُ.. فراجع ما رواه ابن أبي الحديد عن الجوهري(2)، نعم، " الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرّت معايشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون "(3). كما قاله مولانا سيّد الشهداء (عليه السلام).
____________
1. راجع ص69.
2. شرح نهج البلاغة: 16 / 214 ـ 215، عنه بحار الأنوار: 29 / 326.
3. العوالم: 17 / 234.
الرابعة: لماذا سكت أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يدافع عن نفسه وزوجته؟!
قد يُتساءل: لماذا سمح الله تعالى للأعداء أن يفعلوا ما يريدون بحيث يتغلّبون على أولياء الله تعالى؟! ولماذا لم يقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) في حياته ليتمّ الأمر له بعده؟ وأخيراً: لماذا لم يحاربهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقعد عن طلب حقّه، بل لم يدافع عن نفسه وزوجته؟! مع أنه كان شجاعاً قويّاً، بل يمكنه إهلاكهم بالإعجاز؟
أقول: قد أُجيب عن هذه الأسئلة في غير واحد من الآيات والروايات تصريحاً أو تلويحاً.. وبعد التأمّل التام نجد أنّ الله تبارك وتعالى أرسل الأنبياء (عليهم السلام)إلى الناس ليدعوهم إلى الصراط المستقيم، وليبيّنوا لهم أوامره ونواهيه، وكانت سنّته أن لا يجبر الناس على طاعته قهراً بل أراد أن يكون لهم الخيرة في ذلك، وجعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، فلم يكن الغلبة لأوليائه دائماً، بل كثيراً ما تقتضي المصلحة أن لا يمنع من غلبة الكفّار والمشركين والفسّاق على الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وأتباعهم.. فيُغيرون عليهم ويقتلونهم ويأسرونهم ويؤذونهم و.. وقد يطوّل مدة ملك الطواغيت إلى ما شاء الله. وبذلك يبتلي عباده كي يميز الخبيث من الطيب، والمنافق من المؤمن، والمدعي الكاذب من الصادق الصابر.. قال الله تبارك وتعالى: ( وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءً وَاللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِيْنَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَيَمْحَقَ الْكافِرِيْنَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوْا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِيْنَ جاهَدُوْا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِيْنَ )(1).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضمن رواية: " ولو شاء [الله] لجمعهم على الهدى حتّى لا يختلف اثنان من هذه الأُمّة، ولا ينازع في شيء من أمره، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله، ولو شاء لعجّل النقمة والتغيير حتّى يكذّب الظالم ويعلم
____________
1. آل عمران (3): 140 ـ 142 وراجع أيضاً الآيات الأولى من سورة الكهف (18).
وأمّا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ; فإنّه كان عالما بما يجري على أهل بيته (عليهم السلام)وأُمتّه وكان قادراً على إهلاك أعداء أهل بيته (عليهم السلام) في حياته ـ كما يصنعه الملوك والخلفاء بمخالفيهم ـ إلاّ أنّ ذلك كان مضرّاً على الدين ويوجب أن يبسط من أراد هدم أساس الإسلام لسانه فيقول: انه لما ظفر بالفتح أخذ يقتل أعوانه وأنصاره ـ كما أشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض كلامه ـ(3).
ثم كيف يعاقبهم على أمر لم يصدر منهم بعد؟ ولا أقل من أنه لم يؤمر من قبل الله تعالى بقتلهم(4)..
وأمّا سكوت مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ; فليُعلم أوّلاً: إنّ لكلّ واحد من الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) دستور خاصّ من قبل الله تعالى، نزل به أمين الوحي على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليبلغه إليهم(5). وعند التأمّل في الظروف التي تخصّهم تجد التوافق والتطبيق بين هذه التكاليف الخاصّة وبين المصالح الظاهرة عندنا.
ويستفاد من الآثار أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قعد عن محاربة أعدائه لجهات
____________
1. كمال الدين: 264 ; ارشاد القلوب: 420 ; بحار الأنوار: 28 / 54، والآية في سورة النجم (53): 31.
2. بحار الأنوار: 28 / 106.
3. انظر بحار الأنوار: 21/196.
4. راجع بحار الأنوار: 28/106.
5. راجع الكافي: 1 / 279 باب أنهم (عليهم السلام) لا يفعلون شيئاً إلا بعهد من الله ; إلامامة والتبصرة من الحيرة: 38 ـ 39 ; الغيبة للنعماني: 34 ـ 38 باب ما جاء في الإمامة والوصية وانهما من الله عزّ وجلّ ; تقريب المعارف: 422 ـ 421، تحقيق تبريزيان ; بحار الأنوار: 36 / 209 و 48 / 27.
الاُولى: المخالفون لأبي بكر في أمر الخلافة ـ وإن لم يكونوا قليلين ـ إلاّ أنّهم قعدوا عن نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يوجد مَنْ أعانه إلاّ ثلاثة أو أربعة، ولذا قال في خطبة له: " أما والله لو كان لي عدّة أصحاب طالوت أو عدّة أهل بدر... لضربتكم بالسيف حتّى تَؤولوا إلى الحقّ.. "(1).
وفي خطبة الشقشقية: " وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء.. "(2).
ثم إنه (عليه السلام) ـ بعد الفراغ من دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجمع القرآن ـ خطب الناس ودعاهم إلى نصرته، بل ذهب مع فاطمة والحسنين (عليهم السلام) إلى دور المهاجرين والأنصار واستنصرهم لإزالة أبي بكر عن الخلافة المغتصبة، وذكّرهم ما أوصاهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّه، فلم يدع لأحد عذراً في ترك نصرته. كما أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام)حينما خطبت الناس في المسجد دعتهم إلى محاربة الهيئة الحاكمة بأبلغ الوجوه وقالت صريحاً: " قاتلوا أئمة الكفر "، إلاّ أن ذلك كلّه لم يؤثر في قلوب خَلَت عن ذكر الله، وضعفت في إيمانها، ثم بعد إتمام الحجّة عليهم كان اللازم عليهم أن يجتمعوا لنصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) لا أن يأتي هو عندهم ويدعوهم، فإنّ مثل الإمام مثل الكعبة يؤتى ولا يأتي.
الثانية: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بالسكوت ونهاه عن القيام إذا لم يجد أعواناً، لئلا ينهدم الدين برأسه ويخرب البنيان من راسه.. ولا يبقى منه شيء.
فالإمام (عليه السلام) ـ وإن كان هو الشجاع البطل الذي لا يجترء أحد أن يدنو منه في الحرب، وكان في أقصى درجات الحمية والغيرة و... إلا أنه تحمّل كل هذه المشاقّ لكونه مأموراً بذلك من قبل الله تعالى ومن قبل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
____________
1. بحار الأنوار: 28 / 341.
2. نهج البلاغة: 5.
في رواية مولانا الإمام الكاظم (عليه السلام): " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): ".. اعلم يا أخي! إنّ القوم سيشغلهم عنّي ما يشغلهم... والذي بعثني بالحق، لقد قدمت إليهم بالوعيد، بعد أن أخبرتهم رجلاً رجلاً ما افترض الله عليهم من حقّك، وألزمهم من طاعتك، وكلّ أجاب وسلّم إليك الأمر، وإني لأعلم خلاف قولهم، فإذا قبضتُ وفرغتَ من جميع ما اُوصيك به وغيّبتني في قبري، فالزم بيتك واجمع القرآن على تأليفه، والفرائض والأحكام على تنزيله، ثم امض على غير لائمة على ما أمرتك به، وعليك بالصبر على ما ينزل بك وبها [يعني بفاطمة (عليها السلام)] حتى تقدموا عليّ "(1).
وفى رواية أُخرى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن وجدت أعواناً فبادر اليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً كفّ يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً "(2).
وفي رواية: قال له: " يا عليّ! إنك ستبتلي بعدي فلا تقاتلنّ "(3).
وقال (عليه السلام): " قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك
____________
1. خصائص الأئمة (عليهم السلام): 73، عنه الطرف ص 26 ـ 27، عنه بحار الأنوار: 22 / 483. وراجع الصراط المستقيم: 2 / 92.
2. الاحتجاج: 75، 190، عنه بحار الأنوار: 28 / 191 ; قريب منه: الصراط المستقيم: 2 / 79 ; ارشاد القلوب: 395 ; الغيبة للطوسي: 193، 335 ; كتاب سليم: 87، 127، 192.
3. الغدير: 7 / 173 عن كنوز الدقائق للمناوي ص 188.
وقال (عليه السلام): " لولا عهد عهده إليّ النبيّ الأُميّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأوردت المخالفين خليج المنيّة، ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت.. وعن قليل سيعلمون "(2).
الثالثة: لو فرضنا محاربة القوم حينذاك لم يكن يترتّب عليه الأثر المطلوب، بل تورث نتائج سيّئه نشير إلى بعضها:
1 ـ ارتداد كثير من الناس، لا سيّما من كان منهم جديد العهد بالإسلام لضعف إيمانهم.. مع ما كانوا عليه من الإسلام الظاهري والاعتقاد الناقص..
قال ابن أبي الحديد: ولامته فاطمة (عليها السلام) على قعوده وأطالت تعنيفه وهو ساكت. وفي رواية: حرضته على النهوض والوثوب، حتى أذّن المؤذّن فلما بلغ إلى قوله: أشهد أنّ محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها: " أتحبّين أن تزول هذه الدعوة من الدنيا؟! " قالت: " لا "، قال: " فهو ما أقول لك "(3).
وليعلم المتأمّل العارف بشؤون أهل العصمة (عليهم السلام) أنّ ما صدر عن السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم يكن بقصد الملامة ـ والعياذ بالله ـ قطعا، بل لكي يُعلم علّة سكوت مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)...
وفي رواية: قال علي (عليه السلام) لأبي سفيان ـ لمّا استنهضة على القتال ـ ".. قد عهد إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً، فأنا عليه "(4).
.. والروايات في ذلك كثيرة، بل متواترة(5).
____________
1. شرح نهج البلاغة: 20 / 326.
2. الكافي: 8 / 33.
3. شرح نهج البلاغة: 20 / 326. وقريب منه: 11 / 113.
4. الموفقيات للزبير بن بكار، عنه شرح نهج البلاغة: 6 / 17.
5. راجع كلام الشيخ الطوسي والعلامة المجلسي بحار الأنوار: 28 / 246، 395. ولزيادة التوضيح حول سكوته (عليه السلام) وعدم قتاله القوم راجع بحار الأنوار المجلد الثامن (ط القديم): 145 ـ 159 وهو بالطبع الجديد: 29 / 417 ـ 479 بل وما بعدها من الأبواب.
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في رواية: " لم يمنع أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن يدعو إلى نفسه إلاّ نظراً للناس وتخوّفاً عليهم أن يرتدّوا عن الاسلام فيعبدوا الأوثان، ولا يشهدوا أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "(2).
2 ـ إيجاد التفرقة بين المسلمين مما يوجب اختلال اُمورهم بحيث يطمع الكفّار والمشركين فيهم، كما كتب (عليه السلام) في جواب معاوية: " وقد كان أبوك أبو سفيان جاءني في الوقت الذي بايع الناس فيه أبا بكر فقال لي: أنت أحقّ بهذا الأمر من غيرك، وأنا يدك على من خالفك، وإن شئت لأملأنّ المدينة خيلاً ورجلاً على ابن أبي قحافة..! فلم أقبل ذلك، والله يعلم أنّ أباك قد فعل ذلك فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين أهل الإسلام "(3).
3 ـ ان المتأمّل لا يخفى عليه أنه (عليه السلام) لو أراد أن يواجه القوم ويحاربهم ـ مع ما هو عليه من قلّة الأنصار والأعوان ـ لقتلوه وقتلوا معه أنصاره وأهل بيته (عليهم السلام).. وهذا غاية آمال الخليفة وأعوانه، فيضيّع بذلك جميع ما احتمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
____________
1. مسند فاطمة الزهراء (عليها السلام): 21 ـ 22 (ط حيدر آباد) ; وراجع الصراط المستقيم: 3 / 119 عن الخوارزمي.
2. بحار الأنوار: 28 / 254 ـ 255.
3. بحار الأنوار: 29 / 632.
قال الأستاذ عبد الفتّاح عبد المقصود: ثم تطالعنا صحائف ما أورده المؤرخون بالكثير من أشباه هذه الأخبار المضطربة التي لانعدم أن نجد من بينها من عنف عمر ما يصل به إلى: الشروع في قتل علي، أو إحراق بيته على من فيه..(1).
وذكر ابن أبي الحديد: قال له قائل: يا أمير المؤمنين! أرأيت لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم وآنس منه الرشد أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟! قال: " لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلتُ. إن العرب كرهت أمر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه حتى قُذفت زوجته، ونفرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها، وأجمعت ـ مذ كان حيّاً ـ على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته، ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة، وسلّما إلى العزّ والإمرة لما عَبَدَت الله بعد موته يوماً واحداً.. " إلى أن قال (عليه السلام):
"اللّهمّ إنّك تعلم انّي لم أُرد الإمرة، ولا علوّ الملك والرئاسة، وانما أردت القيام بحدودك، والأداء لشرعك، ووضع الاُمور في مواضعها، وتوفير الحقوق على أهلها، والمضي على منهاج نبيّك، وإرشاد الضالّ إلى أنوار هدايتك "(2).
هذا بعض ما يقال في علة سكوته (عليه السلام) ; وأمّا الوجه في بيعته لأبي بكر، فقد اوردنا نصوصاً كثيرةً جاء في بعضها:.. أنّهم أخرجوه كرهاً، وهدّدوه بالقتل.. فبايعهم وهو يشير إلى القبر ويقول: " إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ".
____________
1. السقيفة والخلافة: 14.
2. شرح نهج البلاغة: 20 / 298. راجع أيضاً نهج البلاغة: 12، 106 ; بحار الأنوار: 29 / 553.