وورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قيل له: إن الله يختبرك في ثلاث وصار يعددها إلى أن قال:
وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصبا الذي تجعله لها وتضرب وهي حامل ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن ثم يمسها هوان ولا تجد، مانعا وتطرح ما في بطنها من الضرب وتموت من ذلك الضرب ".
ويقول الإمام الصادق (ع) واصفا بعض ما جرى: وضرب سلمان الفارسي، وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين لإحراقهم بها وضرب فاطمة ورفس بطنها وإسقاط محسنها ".
وقوله (ع) وهو يصف ما جرى لأهل البيت في رواية طويلة أخرى يتحدث فيها عما فعله القوم.. ".. وجمعهم الجزل والحطب على الباب لإحراق بيت أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وإضرامهم النار على الباب وخروج فاطمة إليهم وخطابها لهم من وراء الباب: ويحكم ما هذه الجرأة على الله ورسوله "، قال عمر: ما علي إلا كأحد المسلمين فاختاري إن شئت خروجه لبيعة أبي بكر أو إحراقكم جميعا ". وهجومهم على الدار وركل عمر للباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حامل لستة أشهر وإسقاطه إياه وصياح أمير المؤمنين لفظة: يا فضة مولاتك فاقبلي منها ما يقبله النساء، فقد جاء المخاض من الرفسة ورد الباب فأسقطت محسنا، وقال (ع): فإنه لاحق بجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشكو له " (1).
____________
(1) - بحار الأنوار " موسوعة أحاديث لأهل البيت (ع) ج 53 ص 18 - 19. وأغلب الأحاديث التي أوردناها في هذا المجال من المصادر الحديثية لأهل البيت وكتاب مأساة الزهراء شبهات وردود للسيد جعفر مرتضى العاملي.
استشهاد الزهراء (ع)
ما أقسى لحظات فراق الأحبة، خصوصا إذا كان للعلاقة جذور تضرب في عمق القيم والمثل وتسقى بالوحي.. علاقة لا كسائر العلاقات.. علاقة بين نبي عظيم وابنة صديقة طاهرة من لحمه ودمه، ابنة ذابت في حب أبيها وليس حبا للأبوة فقط إنه حب من نوع آخر لا ندرك كنهه أنا وأنت.. لماذا؟! لأنها متبادلة بين أب اختاره الله باعتباره أعظم وأشرف خلق الله وهو المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنة طهرها الله وعصمها إذا هو حب منشؤه حب الله وطاعة الله.. لقد انفصمت عرى هذه العلاقة بانتقال الأب والمربي إلى الرفيق الأعلى، وترك الرسالة الإلهية من خلفه وقد أناط استمرارها تلك بالطرف الباقي الآخر، الابنة الزكية التي تدخلت الإرادة الإلهية مباشرة حتى في زواجها فكان الزوج عليا بن أبي طالب أفضل من يحفظ الرسالة في شخص فاطمة (ع) وغيرها. لكن القوم ما فهموا معنى الرسالة والرسول، وما وعوا معنى النبوة والوحي بل لم يقدروا الله حق قدره فاعترضوا على حكمه وتجاوزوا قوله.. ومن ثم اعتدوا على مقام النبوة، وأبوا إلا يجرعونا وكل المحبين لله ولرسوله الغصة تلو الأخرى، وتأبى الدمعة إلا أن تتسلل مصحوبة بألم هائل، إنها الزهراء وما أدراك ما الزهراء!! من يوم ما تعرفت على مأساتها وأنا أشعر بمسحة كآبة تمر بوجداني وحزن عميق يلفني عند ذكر اسمها فالقوم لم يراعوا فجيعتها بأبيها فاغتصبوا حقها وقبل ذلك ارتقوا مركبا صعبا هم ليسوا أهلا له ثم أرادوا إتمام ذلك ولو بالقوة فكان ما كان.
بقيت الزهراء حزينة منكسرة في بيتها تبكي وتشكو همها إلى الله عز وجل وتنتظر يومها الموعود فقد أخبرها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها أول أهل بيته لحوقا به كما مر... فضلت تبكي وتبكي إلى أن جاء " شيوخ " أهل المدينة يظهرون لعلي انزعاجهم وتأذيهم من بكاء فاطمة ويطالبونه بأمرها بالكف عن ذلك
ويوما فيوما راحت تذبل تلك الزهرة اليانعة. وأخذ المرض منها مأخذا، يقول الإمام الصادق (ع)... (فأسقطت محسنا ومرضت من ذلك مرضا شديدا وكان ذلك هو السبب في وفاتها).. كيف لا يكون كذلك وهي ابنة ثمانية عشر عاما.. لقد اكتملت عليها المصائب بضربها واقتحام دارها فكانت البداية والنهاية... وصارت طريحة الفراش تنتظر أجلها الذي اقترب منها سريعا وبجانبها علي (ع)، يقول الإمام زين العابدين (ع) عن أبيه الحسين (ع) قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصت علي بن أبي طالب (ع) أن يكتم أمرها ويخفي خبرها ولا يؤذن أحدا بمرضها، وكان يمرضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس على استمرار بذلك.
لقد يئست الزهراء من أهل المدينة الذين طلبت نصرتهم فلم ينصروها لقد سئمتهم وزهدت في مروءتهم فبلغ بها الأمر ألا تريد رؤيتهم في مرضها الأخير..
يكفيها علي (ع) ليقف بجانبها وهي على هذه الحالة.
في اليوم الأخير قبيل رحيلها نامت الزهراء (ع) في ساعة من ساعات ذلك اليوم وإذا بها ترى أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام في قصر من الدر الأبيض فلما رآها (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: هلمي إلي بنية فإني إليك مشتاق!!
فقالت: والله إني لأشد شوقا إليك فقال لها: أنت الليلة عندي.
انتبهت من غفوتها وبدأت الاستعداد للحوق بأبيها.. إن هي إلا ساعات تقضيها في هذه الدنيا الفانية ويتحقق قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها قبيل انتقاله... وأكده لها بعد انتقاله إنها النبوة ومن ذلك كان يقين فاطمة بقرب النهاية.. بينما الفرح يغمرها لارتحالها إلى العالم الأبدي حيث الرضوان الأكبر وجنة
كل ذلك يدور في خلد الزهراء وهي تمشي نحو الماء متكئة على الحائط من شدة الضعف لتغسل أطفالها وثيابهم أخر غسلة وهي ترتعش وكأنها تودعهم.. لا أدري عمق شعورها آنذاك، إن من جملة أسمائها (الحانية) لأنها كانت القمة في الحنان والعطف على أبنائها.
دخل الإمام علي (ع) البيت ووجدها على رغم علتها تمارس أعمالها وتخدم في البيت. رق لها قلب الإمام وهي بهذه الحالة فأخبرته بأنه آخر أيامها وأخبرته بما رأته وسمعته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أثناء نومها وعادت إلى فراشها ثم قالت له:
يا ابن عم!! إنه قد نعيت إلي نفسي وإنني لا أدري ما بي إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي... قال لها علي (ع): أوصني بما أحببت يا بنت رسول الله فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، قالت: يا ابن عم! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني.. فقال علي (ع) معاذ الله! أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من الله من أن أوبخك بمخالفتي وقد عز علي مفارقتك وفقدك إلا أنه أمر لا بد منه، والله لقد جددت علي مصيبة رسول الله وقد
أوصني بما شئت، فإنك تجدينني وفيا أمضي لما أمرتني به وأختار أمرك على أمري.
فقالت: جزاك الله عني خير الجزاء.. يا ابن عم، أوصيك أولا: أن تتزوج بابنة أختي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي، فإن الرجال لا بد لهم من النساء ثم قالت، وأوصيك إذا قضيت نحبي فغسلني ولا تكشف عني فإني طاهرة مطهرة وحنطني بفاضل حنوط أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصل علي، وليصل معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي وادفني ليلا لا نهارا إذا هدأت العيون ونامت الأبصار، وسرا لا جهارا وعف موضع قبري ولا تشهد جنازتي أحدا ممن ظلمني.
لقد أرادت الزهراء (ع) مواصلة الجهاد بعد مماتها فكانت وصيتها الاعلان الأخير لموقفها الصامد والمستمر من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى مرضها وتريده باقيا إلى ما شاء الله.. تدفن بنت المصطفى سرا. ليلا لا يصلي عليها إلا أهل بيتها والمخلصون لهم!!.
في لحظاتها الأخيرة طلبت ثيابا جديدة ثم دعت سلمى امرأة أبي رافع وقالت لها هيئي لي ماء وطلبت منها أن تسكب لها الماء وهي تغتسل ثم لبست ملابسها الجديدة وأمرت أن يقدم سريرها إلى وسط البيت واستلقت عليه مستقبلة القبلة وقالت إني مقبوضة الآن، فلا يكشفني أحد.
تقول أسماء بنت عميس: لما دخلت فاطمة البيت انتظرتها هنيئة ثم ناديتها فلم تجب فناديت: يا بنت محمد المصطفى، يا بنت أكرم من حملته النسا، يا بنت خير من وطأ الحصى، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى، فلم تجب، فدخلت البيت وكشفت الرداء عنها فإذا بها قد قضت نحبها شهيدة صابرة مظلومة محتسبة ما بين
وخرجت أم كلثوم متجللة برداء وهي تصيح: يا أبتاه يا رسول الله الآن حقا فقدناك فقدا لا لقاء بعده، وكثر الصراخ في المدينة على ابنة رسول الله، واجتمع الناس ينتظرون خروج الجنازة، فخرج إليهم أبو ذر وقال: انصرفوا إن ابنة رسول الله أخر إخراجها هذه العشية.
وأخذ أمير المؤمنين في غسلها، وعلل ذلك حفيدها الإمام الصادق (ع) يقول:
إنها صديقة فلا يغسلها إلا صديق كما أن مريم لم يغسلها إلا عيسى (ع)، وقال (ع):
إن عليا أفاض عليها من الماء ثلاثا وخمسا وجعل في الخامسة شيئا من الكافور، وكان يقول: اللهم إنها أمتك وبنت رسولك وخيرتك من خلقك، اللهم لقنها حجتها، وأعظم برهانها وأعل درجتها، وأجمع بينها وبين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وحنطها من فاضل حنوط رسول الله الذي جاء به جبرائيل إذ أخبرهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سابقا: يا علي ويا فاطمة هذا حنوط من الجنة دفعه إلي جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما.. اقسماه واعزلا منه لي ولكما، فقالت فاطمة: ثلثه لك والباقي ينظر فيه علي (ع) فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضمها إليه وقال: إنك موفقة رشيدة مهدية ملهمة، يا علي قل في الباقي، فقال:
نصف منه لها، والنصف لمن ترى يا رسول الله قال هو لك.
حقا إنها لحظات وداع لشمعة انطفأت وطالما احترقت لتنير للآخرين.. ما أعظم الرزية وما أجل المصيبة.
أقبل الحسنان (ع) يقولان: واحسرة لا تنطفئ من فقد جدنا محمد المصطفى وأمنا الزهراء؟ إذا لقيت جدنا فأقرئيه منا السلام وقولي له: إنا بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا.
قال أمير المؤمنين (ع) وإذا بهاتف من السماء ينادي يا أبا الحسن ارفعهما عنها، فلقد أبكيا والله ملائكة السماء فرفعهما عنها وعقد الرداء عليها.
وجاءت أهم اللحظات.. لحظة تنفيذ بند الوصية المهم ذلك البند الذي سيظل شاهدا على موقف الزهراء إلى القيامة. إنها لحظات الدفن التي يجب أن تكون سرا وقبلها الصلاة على الجنازة الذي كان محددا فيها ألا يكون فيه شخص ممن ظلم الزهراء. هكذا كانت الوصية.
جن الليل.. نامت العيون وهدأت الأبصار. وجاء في جوف الليل نفر قليل من الهاشميين ومن المحبين الذين وقفوا مع علي وفاطمة موقفا إيجابيا وهم سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار، صلى عليها الإمام علي (ع) ومعه هذه العصبة القليلة المباركة.. ثم دفنها ولما وضعها في اللحد قال: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله محمد بن عبد الله، سلمتك أيتها الصديقة إلى من هو أولى بك مني، ورضيت لك بما رضي الله لك. ثم قرأ (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
ثم إنه (ع) سوى في البقيع سبع قبور، أو أربعين قبرا لكي يضيع بينها قبر
فقال علي (ع) وهو غاضب: أما حقي فتركته مخافة أن يرتد الناس عن دينهم، وأما قبر فاطمة فوالذي نفسي بيده لئن حول منه حجر لأسقين الأرض من دمائكم، فتفرق الناس (1).
وأسدل الستار عن أول محطة سقطت الأمة في امتحانها، وغادرت الزهراء مشتاقة للقاء ربها وأبيها ذهبت وهي تحمل جراحات مثخنة وآلاما عظاما.. انتقلت لتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليحكم لها على من ظلمها وتركت لنا أعلام هداية ومنارات فرقان.. رحلت وخلفت فينا سرها. سرها الذي دفن في قبرها الذي دفنت فيه سرا. إنه سر سهل ممتنع لا تطوله كل العقول ولا يمتنع عن جميع العقول، سر لا يطوله إلا من أشرق في قلبه نور فاطمة وارتشف من ضياه عقله فانفتح على الحق والخير ونفر من الظلم والانحراف.
ورغم أنني تجرعت كأس ألمها إلا أنه بالنسبة لي كان ممزوجا بالحلاوة. شربت منه فأشرقت لي فاطمة بنورها فكانت الدليل إلى الصراط المستقيم. وما أعظم شأنها.
حقا إنها فاطمة بنت محمد زوج علي.
الزهراء صرخة مدوية عبر التاريخ
لقد انتقلت الزهراء (ع) إلى بارئها هناك حيث جنة عرضها السماوات والأرض تنتظر يوم القيامة يوم الحساب.. ولكنها تركت صرخة تجلجل وتدوي لتحرك
____________
(1) - فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى أحمد الهمداني.
صرخة ألم ولوعة أما صرخة الألم فهو نتاج ما لحقها من أذى وضرب وإسقاط جنين وأما اللوعة فهي مما اقترفته الأمة تجاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته التي لم تحفظ.. لقد غادرت الزهراء وتركت سهمين في صدر التاريخ ينزفان دما الأول انتقالها وهي لم تكمل عقدها الثاني أما الآخر فهو دفنها ليلا سرا حتى أن قبرها الذي تهفو إليه قلوب الملايين لا يعرف له موضع.. حسرة وما أعظمها من حسرة إنها إشارة الزهراء لننطلق في تلمس الحقائق، ثمانية عشر ربيعا فقط وكانت أول أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) لحوقا به.. ترى لماذا... صحيح أن الموت حق على كل العباد ولكن ألا يقفز إلى الذهن السؤال عن سبب الموت؟ كلنا عندما نفقد عزيزا في ريعان شبابه ويأتينا الخبر بموته نسأل مباشرة وكيف مات؟! وهذا ما يريده الله عز وجل منا لنصل إلى عمق المأساة، سؤال فطري.. ما الذي جعل الزهراء (ع) تنتقل بهذه السرعة وغيرها يمتد به العمر إلى ما شاء الله.. وعندما نسأل أنفسنا هذه الأسئلة سنكتشف الحقيقة... أولا حزنا على فقد الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم على غصب الحقوق ثم اعتداء وضرب وإسقاط الحقوق حقوقها وحقوق زوجها وأبنائها وحقوق الأمة الإسلامية ويتوج ذلك كله الاعتداء الصارخ بالإحراق والضرب والرفس ومن ثم إسقاط " المحسن " ألا يكفي هذا لأن تهد الجبال هدا.. إن الزهراء (ع) قاست كل ذلك لا لكي تجني فائدة شخصية ولكن لتثبيت دعائم الإسلام.. هكذا يريد الله تعالى أن يكشف لنا عن الحقائق عبر حياة أوليائه.
والسهم الآخر دفنها سرا.. إن الزهراء (ع) بنت النبوة ربيبة الوحي تخدم الرسالة حية وميتة.. لقد أمرت ألا يصلي عليها رمز الشرعية في السقيفة وأن تدفن ليلا سرا حتى لا يعلم قبرها فيبقى التساؤل عن سر ذلك قائما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.. كل الشخصيات الهامة، وكل الصالحين نعرف قبورهم ويقصدها من يقصدها إلا الصديقة الطاهرة أم أبيها ترى لماذا؟!! إنها أيضا رسالة الرسالة لمن يؤمن بالرسالة وذكرى لقوم يعقلون.
الفصل الخامس
الإمامة والخلافة
تمهيد:
لم أكن أتصور بأنني سأجد هذا الزخم الهائل من الأحاديث والآيات التي تؤيد وتدعم دعوى الشيعة. فبعد حواري مع ابن عمي، والذي أخذ منحى آخر معي متوخيا الحذر بعد أن علمت بظلامة الزهراء (ع)... أعطاني ثلاثة كتب قرأتها، كان الأول لدكتور أعلن ولاءه لأئمة أهل البيت (ع) بعد أن كان من علماء أهل السنة والجماعة، والكتاب الثاني " المراجعات " وهو مناظرة قيمة جرت بين عالم شيعي وهو السيد عبد الحسين شرف الدين وآخر سني كان زعيما للأزهر الشريف هو الشيخ سليم البشري، وكتاب آخر عن تأريخ الشيعة وظلم الحكام لهم على امتداد التاريخ، وحقا كان لكتاب " ثم اهتديت " للدكتور التيجاني السماوي الدور الأكبر في تحفيزي للبحث كما أنه كان دافعا لقراءة كتاب المراجعات بدقة وعناية ولا أظنني سأجد كتابا على أديم الأرض أكثر قوة وحجة ومنطقا من كتاب المراجعات الذي أماط اللثام وأبطل كل حجج الشيخ البشري بأدب ووقار.
وأذكر ذات يوم أن أحد الأشخاص استعار كتاب المراجعات من أحد الأصدقاء وبعد فترة وجيزة جاء بالكتاب وهو يقول - محاولا الاستهزاء به كردة فعل طبيعية إنه مختلق وإن هذه المناظرة أساسا لم تقم، فأجابه الأخ: - يا شيخنا فلنفرض جدلا أن هذه المناظرة لم تكن، وأن هذه الشخصيات لا وجود لها في الحقيقة ما رأيك فيما ورد في الكتاب من الأدلة، نحن كلامنا ليس حول الشخصيات وما يهمنا محتوى الكتاب إذا كنت تملك ردا عليه فتفضل (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وإلا فالزم الصمت... فصمت صاحبنا. والحال إننا نثق بأن هذه المناظرة والحوار بين السيد عبد الحسين والشيخ سليم حدثت حقيقة، والشخصيتان علمان بارزان في سماء الأوساط الدينية عند الشيعة والسنة.
وسوف أقدم مجموعة من الأدلة تأخذ بأعناقنا شئنا أم أبينا إلى اتباع أهل البيت (ع) والاقتداء بهم دون غيرهم من الخلق لأنهم خلفاء رسول الله (صلى الله عليه
وموضوع بحثنا كما هو واضح الإمامة والخلافة التي قيل فيها: لم يسل سيف في الإسلام كما سل في الإمامة، وهي جذر الخلاف القائم بين الشيعة والسنة ومن عندها تفرع حتى وصل إلى أصغر الجزئيات فهل الإمامة نص وتعيين أم هي شورى واختيار من قبل المحكومين؟.
بالشورى أم بالتعين؟!
- مفهوم الشورى عند أهل السنة والجماعة غير واضح:
الحق إن الكلام حول خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير واضح عند الإخوة أهل السنة فتارة يقولون بالشورى وأخرى يعطون الشرعية للنص، ومع ذلك لا نجد مستندا شرعيا ولا دليلا يؤيد دعواهم، وقد تمسكوا بآيتين وردتا في القرآن الكريم اشتبه على القوم سبيل فهمهما كما سنبين.
ولم نجد عندهم مفهوما واضحا للشورى ولا حدودا ولا تفاصيل سواء من القرآن أو السنة، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) انتقل إلى الرفيق الأعلى ولم يوضح شيئا - كما يظنون - عن أخطر فتنة يمكن أن تتعرض لها الأمة وهي الخلافة بحسب منهجهم، وهو الذي يحمل على عاتقه تبليغ خاتمة الرسالات ولم يترك فيها كبيرة ولا صغيرة يحتاجها الناس إلا وبينها لهم حتى أحكام التخلي فكيف بقيادة الأمة ونظام الحكم في الإسلام؟ بل إن القول في الشورى عندهم عبارة عن اجتهادات لعلماء رسموا مفهومها الديني بناء على ما جرت عليه الأحداث، فقالوا يجوز لولي الأمر أن يعين خليفته كما فعل أبو بكر، ويمكن أن تنعقد البيعة لأحدهم بمبايعة فرد واحد
الآية الأولى:
قوله سبحانه وتعالى: (وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله) (سورة آل عمران: آية / 159).
استدلوا بهذه الآية على أصل الشورى وقالوا إن الخلافة والإمامة بالشورى في حين أن الآية واضحة في خلاف مرادهم إذ أنها تخاطب الحاكم الذي استقرت حكومته وتوجهه لمشاورة الرعية لأنه هو الذي يشاور، ونفس الآية تشير إلى أن هنالك ثمة رئيس (حاكم) بعد أن يمحص الآراء والأفكار يأخذ بالنافع منها ثم يعزم هو على ما ارتآه بعد المشاورة متوكلا على الله.. كذلك تبين الآية أن الأمر هنا غير الحكومة، فبدون الحاكم لا وجود للشورى لأنها تحتاج إلى حاكم يكون قيما عليها ليعزم ويتوكل على الله، وبناء على هذه الآية لا تتم الشورى إلا بولي الأمر الذي يفصل في موضوعها، وعلى ذلك لا دلالة للآية على الشورى التي بها يتم اختيار ولي الأمر لأن وجوده مكمل لنفس الشورى، ويتوقف اختياره على وجوده ضمن الجماعة المكونة للشورى، وهذا يلزم الدور وهو باطل، والدور يعني تثبيت وجود شئ بوجود شئ آخر يتوقف وجوده على وجود الشئ الأول مثل قضية الدجاجة والبيضة أيهما أول فالبيضة يتوقف وجودها على الدجاجة وكذلك الدجاجة وما أشبه!!
الآية الثانية:
قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) (سورة الشورى: آية / 38) إن الآية الكريمة حثت على الشورى فيما يمت إلى شؤون
إذا علمت ذلك نقول أنه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إما كان هناك ولي أمر فلا داعي للشورى لتنصيبه، وإما لم يكن فيحتاج إلى شورى شرعية حتى يتم تنصيبه. والشورى الشرعية تحتاج إلى ولي أمر قيم عليها يأخذ بالنافع بعد المشاورة ويعزم عليه وبدونه تكون الشورى غير شرعية فلا يلزم بها أحد من المسلمين.
وبناء على ذلك لا بد من النص على الإمام (ولي الأمر) وهذا ما يثبته التاريخ والعقل ومرويات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن وفيها ما يشبعك.
- التعيين ضرورة:
جاء في سيرة ابن هشام.
لما دعا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عامر للإسلام وقد جاؤوا في موسم الحج إلى مكة قال رئيسهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
لقد بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأمر لله تعالى وهذا القرآن الذي نتلوه ليل نهار يؤكد ذلك أيضا بقوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (2).
والاصطفاء الإلهي لحمل عب ء تبليغ الرسالة والحفاظ عليها سنة إلهية لن تتغير ولن تتبدل، قال الله سبحانه وتعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) (3) ويقول جل وعلا (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (4)، ويؤكد سبحانه وتعالى أن الأمر ليس بيد أحد مهما بلغ من الوعي فأضاف إلى نفسه تعالى الاختيار والجعل يقول تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (5) (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (6).
وهذا الجعل ليس بأمر الأمة بل بأمر الله (بأمرنا) ولا يعقل أن يكون الضمير في " أمرنا " شامل للأمة إذ ليست هي التي توحي إلى الأئمة فعل الخيرات وإقام الصلاة... كما أن الأمة ليست هي المعبودة (وكانوا لنا عابدين) ولا هي صاحبة الآيات (بآياتنا يوقنون).
وضرورة التعيين أمر يعلمه كل إنسان بوجدانه وعقله، لضرورة وجود خليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم مقامه في كل واجباته، ويكاد يكون ذلك من
____________
(1) - السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 424.
(2) - سورة الأنعام: آية / 124.
(3) - سورة آل عمران: آية / 33 - 34.
(4) - سورة فاطر: آية / 32.
(5) - سورة الأنبياء: آية / 73.
(6) - سورة السجدة: آية / 24.
إن الخالق الذي من أجل كمال كل مخلوق وفر له الوسائل الضرورية وغيرها كي يعبر من حدود النقص والضعف إلى منازل الكمال، كيف يمكن أن يستثني من ذلك القيادة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي تعتبر عاملا مهما لرقي الإنسان معنويا وروحيا.
والتعيين أمر تنبه له أبو بكر عندما كتب وصيته التي نصب فيها عمر خليفة من بعده وأمر الناس بالسمع والطاعة له... ومع أنه كان على فراش الموت عند كتابته لذلك إلا أن عمر كان حريصا على تنفيذ الوصية في حين أنه كان المعترض الأول على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أراد كتابة وصيته وهو مريض وقال " إنه يهجر " ويقول أمير المؤمنين علي (ع) في شأن تعيين أبي بكر لعمر " فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها ".
كما أن عائشة أقرت بضرورة التعيين عندما ضرب عمر وبقي على الفراش ينتظر الأجل المحتوم إذ أرسلت إليه أن أوص من يخلفك ولا تترك أمة محمد بعدك هملا.
____________
(1) - الفكر الإسلامي مواجهة حضارية - العلامة السيد محمد تقي المدرسي ص 250.
والواقع العملي يثبت أن الخلفاء جاؤوا بالتنصيب وبلا شورى حتى شورى الستة كانت بالتعيين كما سترى.
- علي بن أبي طالب أول خليفة للنبي (ص)
طفحت كتب أهل السنة والجماعة بالأحاديث التي تبين أن أهل البيت (ع) هم خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحملة دين الله بعده، وغير المتمسك بهم ضال وذلك بإخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اختيار الله تعالى لهم، وسنرى من خلال ما نستدل به أن الأمر لا ينحصر في حبهم فقط والتبرك بهم إنما موالاتهم واتباعهم والتسليم لهم.
وكثيرا ما يقول لي البعض نحن نحب أهل البيت (ع)... أقول إن حب أهل البيت (ع) مجردا عن ترتيب أثر على ذلك لا يجدي، فحبهم يستتبع أن نسلك مسلكهم ونتبع منهجهم ونوالي أولياءهم هذا هو الحب يقول تعالى (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (سورة آل عمران: آية / 31) وأهل البيت (ع) هم حملة رسالة السماء وبهم يعرف الحق من الباطل والمتمسك بهم هو الملتزم بمنهجهم السائر على دربهم.
والإمام علي (ع) هو الإمام الأول والخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... ذلك ما توصلت إليه من خلال ما تواتر من الأحاديث حول تنصيبه إماما للأمة وعن أفضليته على جميع الصحابة، رغم أن أعداءه أخفوا مناقبه حسدا وأخفاها شيعته خوفا إلا أنه ظهر من بين ذلك ما ملأ الخافقين يقول أحمد بن حنبل " ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب " (1) ومع ذلك سأختار بعض الأحاديث التي تثبت له الولاية والخلافة:
____________
(1) - مستدرك الحاكم ج 3 ص 107.
1 - حديث الغدير.
في حديث طويل " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جمع الناس يوم غدير خم (موضع بين مكة والمدينة - الجحفة) وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع وكان يوما صائفا حتى أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر، وجمع الرحال وصعد عليها وقال مخاطبا معاشر المسلمين: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا:
" بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله ".
إن حديث الغدير من أوضح أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا وأعمقها دلالة وأقواها بلاغة ولقد أورده السيوطي في الدر المنثور في ذيل الآية (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) لبيان أن ولاية علي (ع) التي قرنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بولايته هي امتداد لها وكما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالمؤمنين من أنفسهم كذلك علي بن أبي طالب، مما يدل على أن النبي ما أراد الولاية بمعنى الحب إنما أرادها بمعنى الإمامة لوجود القرينة المقالية فقد بدأ الحديث بولاية نفسه على المؤمنين ثم قرنها بولاية علي فالولاية بمعنى الأولى من المؤمنين بأنفسهم.
هذا الحديث لا شبهة في صحته وهو من الأحاديث المتواترة التي لم يستطع علماء أهل السنة والجماعة رده فبحثوا له عن تخريج ومعنى يتناسب مع ما تهواه أنفسهم فاضطروا إلى تفسير الموالاة بمعنى الحب وهذا المعنى لا ينسجم ومفهوم الحديث القاضي بولايته وإمامته على الناس بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلافته له بصورة واضحة وجلية، ولا يمكن لشخص يملك عقلا سليما ووجدانا صحيحا أن يقنع بقول علماء أهل السنة والجماعة، فهم كأنما يقولون أن الرسول (صلى الله وآله وسلم) ومعه هذه الأعداد الهائلة من الحجاج والذين يبلغ عددهم ما يقارب المائة وعشرين ألف... أوقف من معه وأرسل في طلب من سبقه ليأتي راجعا وانتظر من كان بعده يوقفهم في تلك الصحراء والشمس تلفح الوجوه ليقول لهم
وقد تتبع صاحب موسوعة " الغدير " العلامة الأميني رواة هذا الحديث من الصحابة فبلغ عددهم " 110 صحابي " فيهم أبو هريرة وأسامة بن زيد وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله والزبير بن العوام وزيد بن الأرقم وغيرهم " (1) ومن التابعين بلغ عدد الرواة (84) ولم يترك حتى العلماء في القرون الأولى وكذلك الشعراء (2).
ولقد أورد الحديث أحمد بن حنبل في مسنده وأضاف " فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة " (3).
كما أورده الحاكم في مستدركه ج 3 ص 110 وقال عنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ولأهمية أمر الإمامة والولاية في الرسالة وباعتبارها جزءا أساسيا لا تكتمل الرسالة بدونه جاء الأمر من الله تعالى بتبليغ ذلك للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان حديث الغدير كما جاء في تفسير الفخر الرازي في ذيل الآية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (سورة المائدة: آية / 67) قال: والعاشر - أي من الوجوه التي قالها المفسرون في نزول الآية: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب (ع) ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي " (4).
____________
(1) - الغدير ج 1 ص 14.
(2) - المصدر ج 1 ص 62.
(3) - مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 281.
(4) - التفسير الكبير للرازي ج 12 ص 49.