بطلان دعوى عدم توريث الأنبياء عليهم السلام

 استدل أصحابنا على بطلان ذلك بآي من القرآن الكريم منها : قوله تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام : * ( وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ) * قوله تعالى : " وليا " أي : ولدا يكون أولى بميراثي ، وليس المراد بالولي من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره ، لقوله تعالى حكاية عن زكريا : * ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) * .

وقوله : * ( رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ) * ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، واختلف المفسرون في أن المراد بالميراث العلم أو المال فقال ابن عباس والحسن والضحاك : أن المراد به في قوله تعالى : " يرثني " وقوله سبحانه : * ( ويرث من آل يعقوب ) * ميراث المال . وقال أبو صالح : المراد به في الموضعين ميراث النبوة .

وقال السدي ومجاهد والشعبي : المراد به في الأول : ميراث المال ، وفي الثاني : ميراث النبوة ، وحكى هذا القول عن ابن عباس والحسن والضحاك . وحكي عن مجاهد ، أنه قال : المراد من الأول : العلم ، ومن الثاني : النبوة .

وأما وجه دلالة الآية على المراد فهو أن لفظ الميراث في اللغة والشريعة والعرف إذا أطلق ولم يقيد ، لا يفهم منه إلا الأموال وما في معناها ، ولا يستعمل في غيرها إلا مجازا ، وكذا لا يفهم من قول القائل : " لا وارث لفلان " إلا من ينتقل إليه أمواله وما يضاهيها دون العلوم وما يشاكلها ، ولا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ وحقيقته إلا لدليل ، فلو لم يكن في الكلام قرينة توجب حمل اللفظ على أحد المعنيين ، لكفى في مطلوبنا ، كيف والقرائن الدالة على المقصود موجودة في اللفظ .

أما أولا : فلأن زكريا عليه السلام اشترط في وارثه أن يكون رضيا ، وإذا حمل الميراث على العلم والنبوة لم يكن الإشتراط معنى ، بل كان لغوا عبثا ، لأنه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم والنبوة فقد دخل في سؤاله الرضا ، وما هو أعظم منه ، فلا معنى لاشتراطها ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد : اللهم ابعث إلينا نبيا واجعله مكلفا عاقلا . وأما ثانيا : فلأن الخوف من بني العم ومن يحذو حذوهم يناسب المال دون النبوة والعلم ، وكيف يخاف مثل زكريا عليه السلام من أن يبعث الله تعالى إلى خلقه نبيا يقيمه مقام زكريا ولم يكن أهلا للنبوة والعلم سواء كان من موالي زكريا أو من غيرهم ، على أن زكريا عليه السلام كان إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته ، فإن قيل : كيف يجوز على مثل زكريا عليه السلام الخوف من أن يرث الموالي ماله ، وهل هذا إلا الشح والبخل ؟ قلنا : لما علم زكريا عليه السلام من حال الموالي أنهم من أهل الفساد ، خاف أن ينفقوا أمواله في المعاصي ، ويصرفوه في غير الوجوه المحبوبة ، مع أن في وراثتهم ماله كان يقوي فسادهم وفجورهم ، فكان خوفه خوفا من قوة الفساق ، وتمكنهم في سلوك الطرائق المذمومة وانتهاك محارم الله عز وجل ، وليس مثل ذلك من الشح والبخل ، فإن قيل : كما جاز الخوف على المال جاز الخوف على وراثتهم العلم ، لئلا يفسدوا به الناس ويضلوهم ، ولا ريب في أن ظهور آثار العلم كان فيهم من دواعي اتباع الناس وإياهم وانقيادهم لهم ؟ قلنا : لا يخلو هذا العلم الذي ذكرتموه من أن يكون هو كتب علمية وصحف حكمية ، لأنه قد يسمى علما مجازا ، أو يكون هو العلم الذي يملأ القلوب وتعيه الصدور ، فإن كان الأول ، فقد رجع إلى معنى المال ، وصح أن الأنبياء عليه السلام يورثون الأموال وكان حاصل خوف زكريا عليه السلام أنه خاف من أن ينتفعوا ببعض أمواله نوعا خاصا من الانتفاع ، فسأل ربه أن يرزقه الولد حذرا من ذلك ، وإن كان الثاني ، فلا يخل أيضا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره وأدائه إلى الخلق ، أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بشريعة ، ولا يجب اطلاع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات ونحو ذلك . والقسم الأول : لا يجوز أن يخاف النبي من وصوله إلى بني عمه ، وهم من جملة أمته المبعوث إليهم لأن يهديهم ويعلمهم وكان خوفه من ذلك خوفا من غرض البعثة . والقسم الثاني : لا معنى للخوف من أن يرثوه إذ كان أمره بيده ، ويقدر على ن يلقيه إليهم ولو صح الخوف على القسم الأول لجرى ذلك فيه أيضا فتأمل .

هذا خلاصة ما ذكره السيد المرتضى ( رضي الله عنه ) في الشافي عند تقرير هذا الدليل وما أورده عليه من تأخر عنه يندفع بنفس التقرير ، كما لا يخفى على الناقد البصير فلذا لا نسود بإيرادها الطوامير . الآية الثانية : قوله تعالى : * ( وورث سليمان داود ) * وقال : * ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين ) * وجه الدلالة هو أن المتبادر من قوله تعالى ورث : أنه ورث ماله كما سبق في الآية المتقدمة ، فلا يعدل عنه إلا لدليل ، وأجاب قاضي القضاة في المغني : بأن في ما يدل على أن المراد وراثة العلم دون المال ، وهو قوله تعالى : وقال : * ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير ) * ، فإنه يدل على أن الذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل ، وإلا لم يكن لهذا تعلق بالأول ، وقال الرازي في تفسيره : لو قال تعالى ورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله تعالى وقال : * ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير ) * معنى ، وإذا قلنا : ورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك ، لأن علم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه ، وكذلك قوله : * ( وأوتينا من كل شئ ) * لأن وارث العلم يجمع ذلك ، ووارث المال لا يجمعه ، وقوله : * ( إن هذا لهو الفضل المبين ) * يليق أيضا بما ذكر دون المال ، الذي يحصل للكامل والناقص . وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده ، لا يليق إلا بما ذكرنا فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لا يورث إلا المال فأما إذا ورث المال والملك معا ، فهذا لا يبطل بالوجوه الذي ذكرنا بل بظاهر قوله : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " ، ورد السيد المرتضى ( رضي الله عنه ) في الشافي كلام المغني بأنه : لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ، ثم يقول مع ذلك إنا علمنا منطق الطير ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعا ، فله في الأمرين جميعا فضل على من لم يكن كذلك ، وقوله : * ( وأوتينا من كل شئ ) * يحتمل المال كما يحتمل العلم ، فليس بخالص لما ظنه ولو سلم دلالة الكلام لما ذكره ، فلا يمتنع ، أن يريد أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا النوع من الاستدلال ، فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على المجاز أن نقتصر بها عليه ، بل يجب أن نحملها على الحقيقة التي هي الأصل ، إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وقد ظهر بما ذكره السيد ( قدس سره ) ، بطلان قول الرازي أيضا ، وكان القاضي يزعم أن العطف لو لم يكن للتفسير لم يكن للمعطوف تعلق بما عطف عليه ، وانقطع نظام الكلام وما اشتهر من أن التأسيس أولى من التأكيد ، من الأغلاظ المشهورة ، وكان الرازي يذهب إلى أنه لا معنى للعطف ، إلا إذا كان المعطوف داخلا في المعطوف عليه ، فعلى أي شئ يعطف حينئذ قوله تعالى : * ( وأوتينا من كل شئ ) * فتدبروا ، أما قوله : أن المال يحصل للكامل والناقص ، فلو حمل الميراث على المال لم يناسب قوله : * ( إن هذا لهو الفضل المبين ) * فيرد عليه : أنه إنما يستقيم إذا كانت الإشارة إلى أول الكلام فقط ، وهو وراثة المال وبعده ظاهر ، ولو كانت الإشارة إلى مجموعة الكلام كما هو الظاهر أو إلى أقرب الفقرات ، أعني قوله : * ( وأوتينا من كل شئ ) * لم يبق لهذا الكلام مجال ، وكيف لا يليق الإشارة دخول المال في جملة المشار إليه وقد من الله تعالى على عباده ، وفي غير موضع من كلامه المجيد بما أعطاهم في الدنيا من صنوف الأموال وأوجب على عباده الشكر عليه ، فلا دلالة فيه على عدم إرادة وراثة المال سواء كان من كلام سليمان أو من كلام المالك المنان ، وقد ظهر بذلك بطلان قوله أخيرا إن ما ذكره الله من جنود سليمان لا يليق إلا بما ذكرنا ، بل الأظهر أن حشر الجنود من الجن والإنس والطير قرينة على عدم إرادة الملك من قوله : * ( ورث سليمان داود ) * فإن تلك الجنود لم تكن لداود حتى يرثها سليمان ، بل كانت عطية مبتدأة من الله تعالى لسليمان ( عليه السلام ) ، وقد أجرى الله تعالى على لسانه أنه أخبر الاعتراف بأن ما ذكره لا يبطل قول من حمل الآية على وراثة الملك معا فإنه يكفينا في إثبات المدعى ، وسيأتي الكلام في الحديث الذي تمسك به .

الآية الثالثة : ما يدل على وراثة الأولاد والأقارب ، كقوله تعالى : * ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل نصيب أو كثر مفروضا ) * وقوله تعالى : * ( وصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الاثنين ) * وقد اجتمعت الأمة على عمومها إلا من أخرجه الدليل ، فيجب أن يتمسك بعمومها إلا إذا قامت دلالة قاطعة ، وقد قال سبحانه عقيب آيات الميراث : * ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) * ، ولم يقل دليل على خروج النبي من قوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة ، قال صاحب المغني : لم يقتصر أبو بكر على رواية حتى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف ، فشهدوا به فكان لا يحل لأبي ، وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا ، وقد أخبر الرسول بأنها صدقة وليس بميراث ، وأقل ما في الباب أن يكون الخير من أخبار الآحاد ، فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا ، أليس كان يجب أن يصرفه عن الإرث ؟ فعلمه بما قال الرسول مع شهادة غيره أقوى ، ولسنا نجعله مدعيا ، لأنه لم يدع ذلك لنفسه وإنما بين أنه ليس بميراث ، وأنه صدقة ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما .

ويرد عليه : أن الاعتماد في تخصيص الآيات ، إما على سماع أبي بكر ذلك الخبر من رسول الله ويجب على الحاكم أن يحكم بعلمه ، وإما على شهادة من زعموهم شهودا على الرواية ، أو على مجموع الأمرين ، أو على سماعه من حيث الرواية مع انضمام الباقين إليه ، فإن كان الأول فيرد عليه بوجوه من الإيراد عليه : الأول : ما ذكره السيد ( رضي الله عنه ) في " الشافي " من أن أبا بكر في حكم المدعي لنفسه والجار إليها نفعا في حكمه ، لأن أبا بكر وسائر المسلمين سوى أهل البيت تحل لهم الصدقة ، ويجوز أن يصيبوا منها ، وهذه تهمة في الحكم والشهادة ثم قال ( رضي الله عنه ) : وليس له أن يقول يقتضي أن لا تقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة بمثل ما ذكرتم ، وذلك لأن الشاهدين إذا شهدا بالصدقة فحظهما منها كحظ صاحب الميراث ، بل سائر المسلمين ، وليس كذلك حال تركة الرسول لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته ، ويبيحها لسائر المسلمين ، انتهى .

ولعل مراده ( رحمهم الله ) أن لحرمان الورثة في خصوص تلك المادة شواهد على التهمة بأن كان غرضهم إضعاف جانب أهل البيت ، لئلا يتمكنوا من المنازعة في الخلافة ، ولا يميل الناس لنيل الزخارف الدنيوية ، فيكثر أعوانهم وأنصارهم ويظفروا بإخراج الخلافة والإمارة من أيدي المتغلبين ، إذ لا يشك أحد ممن نظر في أخبار العامة والخاصة ، في أن أمير المؤمنين كان في ذلك الوقت طالبا للخلافة ، مدعيا لاستحقاقه لها ، وأنه لم يكن انصراف الأعيان والأشراف عنه ، وميلهم إلى غيره إلا لعلمهم بأنه لا يفضل أحدا منهم على ضعفاء المسلمين ، وأنه يسوى بينهم في العطاء والتقريب ، ولم يكن انصراف سائر الناس عنه إلا لقلة ذات يده ، وكون المال والجاه مع غيره .

والأولى أن يقال في الجواب : أنه لم تكن التهمة لأجل أن له حصة في التركة ، بل لأنه كان يريد أن يكون تحت يده ، ويكون حاكما فيه يعطيه من يشاء ، ويمنعه من يشاء ويؤيده : قول أبي بكر فيما رواه في جامع الأصول من سنن أبي داود ، عن أبي الطفيل ، قال : جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها من أبيها ، فقال لها : سمعت رسول الله : إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهو للذي يقوم من بعده ، ولا ريب في أن ذلك مما يتعلق به الأغراض ، ويعد من جلب المنافع ، ولذا لا تقبل شهادة الوكيل فيما هو وكيل فيه والوصي فيما هو وصي فيه ، وقد ذهب قوم إلى عدم جواز الحكم بالعلم مطلقا لأنه مظنة التهمة ، فكيف إذا قامت القرائن عليه من عداوة ومنازعة ، وإضعاف جانب ونحو ذلك ، والعجب أن بعضهم في باب النحلة منعوا بعد تسليم عصمة فاطمة جواز الحكم بمجرد الدعوى وعلم الحاكم بصدقها ، وجوزوا الحكم بأن التركة صدقة ، للعلم بالخبر مع معارضته للقرآن وقيام الدليل على كذبه .

الثاني : أن الخبر معارض للقرآن لدلالة الآية في شأن زكريا وداود على الوراثة وليست الآية عامة حتى تخصص بالخبر فيجب طرح الخبر ، لا يقال : إذا كانت الآية خاصة فينبغي تخصيص الخبر بها ، وحمله على غير زكريا وداود لأنا نقول : الحكم بخروجهما عن حكم الأنبياء مخالف لإجماع الأمة ، لانحصارها بالإيراث مطلقا ، وعدمه مطلقا ، فلا محيص عن الحكم بكذب الخبر ، وطرحه .

الثالث : أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يرى الخبر موضوعا باطلا ، وكان لا يرى إلا الحق والصدق ، فلا بد من القول بأن من زعم أنه سمع الخبر كاذب .

أما الأولى : فلما رواه مسلم ، في " صحيحة " وأورده في " جامع الأصول " أيضا عن مالك بن أوس - في رواية طويلة - قال : عمر لعلي والعباس ، قال أبو بكر : قال رسول الله : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذبا غادرا آثما خائنا ، ولله يعلم أني لصادق بار تابع للحق فوليتها .

وعن البخاري : في منازعة علي والعباس فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير ، أنه قال عمر بن الخطاب : قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله ، فقبضها فعمل فيها بما عمل رسول الله - وأنتما حينئذ - وأقبل على علي والعباس تزعمان أن أبا بكر فيها كذا .

والله يعلم أنه فيها صادق بار راشد تابع للحق وكذلك زاد في حق ، نفسه ، قال : والله يعلم أني فيها صادق بار راشد تابع للحق ، إلى آخر الخبر . وقد روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : من كتاب " السقيفة " عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري " مثله " بأسانيد . وأما المقدمة الثانية : فلما مر وسيأتي من الأخبار المتواترة ، في أن عليا لا يفارق الحق والحق لا يفارقه ، بل يدور معه حيث ما دار ، ويؤيده روايات السفينة والثقلين وأضرابهما .

الرابع : أن فاطمة أنكرت رواية أبي بكر ، وحكمت بكذبه فيها ، ولا يجوز الكذب عليها ، فوجب الرواية وراويها . أما المقدمة الأولى : فلما مر في خطبتها وغيرها ، وسيأتي من شكايتها في مرضها وغيرها ، وقد رووا في صحاحهم : أنها انصرفت من عند أبي بكر ساخطة ، وماتت عليه واجدة ، وقد اعترف بذلك ابن أبي الحديد ، وأما الثانية : فلما مر من عصمتها وجلالتها .

الخامس : أنه لو كانت تركة رسول الله صدقة ، ولم يكن لها صلوات الله عليها حظ فيها ، لبين النبي الحكم لها إذ التكليف في تحريم أخذها ، يتعلق بها ولو بينه لها لما طلبتها لعصمتها ، ولا يرتاب عاقل في أنه لو كان بين رسول الله لأهل بيته أن تركتي صدقة لا تحل لما خرجت ابنته وبضعته من بيتها مستعدية ساخطة صارخة في معشر المهاجرين والأنصار ، تعاتب إمام زمانها بزعمكم ، وتنسبه إلى الجور والظلم في غصب تراثها ، وتستنصر المهاجر ، والأنصار ، في الوثوب عليه ، وإثارة الفتنة بين المسلمين ، وتهيج الشر ، ولم تستقر بعد أمر الإمارة والخلافة ، وقد أيقنت بذلك طائفة من المؤمنين ، أن الخليفة غاصب للخلافة ناصب لأهل الإمامة ، فصبوا عليه اللعن والطعن إلى نفخ الصور وقيام النشور ، وكان ذلك من أكد الدواعي إلى شق عصا المسلمين ، وافتراق كلمتهم ، وتشتت ألفتهم ، وقد كانت تلك النيران يخمدها بيان الحكم لها ولأمير المؤمنين ، ولعله لا يجسر من أوتي حظا من الإسلام على القول بأن فاطمة مع علمها بأن ليس لها في التركة بأمر الله نصيب ، كانت تقدم على مثل ذلك الصنيع ، أو كان أمير المؤمنين مع علمه بحكم الله ، لم يزجرها عن التظلم والاستعداء ، ولم بالقعود في بيتها ، راضية بأمر الله فيها ، وكان ينازع العباس ، بعد موتها ويتحاكم إلى عمر ابن الخطاب ، فليت شعري هل كان ذلك الترك والإهمال لعدم الاعتناء بشأن بضعته التي كانت تؤذيه ما آذاها ، ويريبه ما رابها ، أو بأمر زوجها وابن عمه وأخيه المساوي لنفسه ومواسيه بنفسه ، أو لقلة المبالاة بتبليغ أحكام الله وأمر أمته ، وقد أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا للعالمين . السادس : أنا مع قطع النظر عن جميع ما تقدم ، نحكم قطعا بأن مدلول هذا الخبر كاذب باطل ومن أسند إليه هذا الخبر ، لا يجوز عليه الكذب ، فلا بد من القول بكذب من رواه ، والقطع بأنه وضعه وافتراه ، وأما المقدمة الثانية فغنية عن البيان .

وأما الأولى : فبيانها أنه قد جرت عادة الناس قديما وحديثا بالإخبار عن كل ما جرى ، بخلاف المعهود بين كافة الناس ، وخرج عن سنن عاداتهم ، سيما إذا وقع في كل عصر وزمان ، وتوفرت الدواعي ، إلى نقله وروايته ، ومن المعلوم لكل أحد ، أن جميع الأمم على اختلافهم في مذاهبهم يهتمون بضبط أحوال الأنبياء وسيرتهم ، وأحوال أولادهم ، وما يجري عليهم بعد آبائهم ، وضبط خصائصهم ، وما يتفردون به عن غيرهم ، ومن المعلوم أيضا أن العادة قد جرت من يوم خلق الله الدنيا وأهلها ، إلى زمان انقضاء مدتها وفنائها ، بأن يرث الأقربون من الأولاد ، وغيرهم أقاربهم وذوي أرحامهم ، وينتفعون بأموالهم وما خلفوه بعد موتهم ، ولا شك لأحد في أن عامة الناس ، عالمهم وجاهلهم ، وغنيهم وفقيرهم وملوكهم ، ورعاياهم يرغبون إلى كل ما نسب إلى ذي شرف وفضيلة ، ويتبركون به ويحرزه الملوك في خزائنهم ، ويوصون به لأحب أهلهم ، فكيف بسلاح الأنبياء في ثيابهم وأمتعتهم ، ألا ترى إلى الأعمى إذ أبصر في مشهد من المشاهد المشرفة ، أو توهمت العامة أنه أبصر اقتطعوا ثيابه وتبركوا بها وجعلوها حرزا من كل بلاء ، إذا تمهدت المقدمات فنقول : لو كان ما تركه الأنبياء من لدن آدم إلى الخاتم صدقة ، لقسمت بين الناس ، بخلاف المعهود من توارث الآباء والأولاد وسائر الأقارب ، ولا يخلو الحال : إما أن يكون كل نبي يبين هذا الحكم لورثته بخلاف نبينا ، أو يتركون البيان كما تركه فجرى على سنة الذين خلوا من قبله ، من أنبياء الله عليهم السلام ، فإن كان الأول ، فمع أنه خلاف الظاهر ، كيف خفي هذا الحكم على جميع أهل الملل والأديان ، ولم يسمعه أحد إلا أبو بكر ، ومن يحذو حذوه ، ولم ينقل أحد أن عصا موسى فجرى على وجه الصدقة إلى فلان ، وسيف سليمان صار إلى فلان ، وكذا ثياب سائر الأنبياء وأسلحتهم وأدواتهم فرقت بين الناس ، ولم يكن في ورثة أكثر من مائة ألف نبي ، قوم ينازعون في ذلك ، وإن كان بخلاف حكم الله عز وجل ، وقد كان أولاد يعقوب مع علو قدرهم يحسدون على أخيهم ، ويلقونه في الجب لما رأوه أحبهم إليه ، أو وقعت تلك المنازعة كثيرا ، ولم ينقلها أحد في الملل السابقة وأرباب السير ، مع شدة اعتنائهم بضبط أحوال الأنبياء وخصائصهم ، وما جرى بعدهم كما تقدم ، وإن كان الثاني ، فكيف كانت حال ورثة الأنبياء أكانوا يرضون بذلك ولا ينكرون ؟ فكيف صارت ورثة الأنبياء جميعا يرضون بقول القائمين بالأمر مقام الأنبياء ، ولم ترض به سيدة النساء ؟ أو كانت سنة المنازعة جارية في جميع الأمم ، ولم ينقلها أحد ممن تقدم ، ولا ذكر من انتقلت تركات الأنبياء إليهم ، إن هذا لشئ عجاب ، وأعجب من ذلك ، أنهم ينازعون في وجود النص على أمير المؤمنين ، مع كثرة الناقلين له من يوم السقيفة إلى الآن ، ووجوه الأخبار في صحاحهم ، وادعائهم الشيعة تواتر ذلك ، من أول الأمر إلى الآن ويستندون في ذلك إلى أنه لو كان حقا ، لما خفي ذلك لتوفر الدواعي إلى نقله وروايته ، فانظر بعين الإنصاف أن الدواعي لشهرة أمر خاص ، ليس الشاهد له إلا قوم مخصوص من أهل قرن معين أكثر ، أم لشهرة أمر قل زمان من الأزمنة من لدن آدم إلى الخاتم عن وقوعه فيه ؟ مع أنه ليس يدعو إلى كتمانه وإخفائه في الأمم السالفة داع ، ولم يذكره رجل في كتاب ، ولم يسمعه أحد من أهل ملة ، ولعمري لا أشك في أن من لزم الإنصاف وجانب المكابرة ، والاعتساف ، وتأمل في مدلول الخبر وأمعن النظر ، يجزم قطعا بكذبه وبطلانه ، وإن كان القسم الثاني ، وهو أن يكون اعتماد أبي بكر في تخصيص الآيات بالخبر من حيث رواية الرواة له دون علمه بأنه من كلام الرسول ، لسماعه بأذنه فيرد عليه أيضا وجوه من النظر : الأول : أن ما ذكره قاضي القضاة ، من أنه شهد بصدق الرواية في أيام أبي بكر : عثمان وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمان ، باطل غير مذكور في سيرة ورواية من طرقهم وطرق أصحابنا ، وإنما المذكور في رواية مالك بن أوس التي رووها في صحاحهم : أن عمر بن الخطاب لما تنازع عنده أمير المؤمنين والعباس استشهد نفرا فشهدوا بصدق الرواية ، ولنذكر ألفاظ صحاحهم في رواية مالك بن أوس على اختلافها ، حتى يتضح حقيقة الحال :

روى البخاري ومسلم وأخرجه الحميدي ، وحكاه في جامع " الأصول " في الفرع الرابع من كتاب الجهاد من حرف الجيم ، عن مالك أنه قال : أرسل إلي عمر فجئته حين تعالى النهار ، قال : فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا  ، إلى رماله ، متكئا على وسادة من أدم ، فقال لي : يا مالك ، أنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فأقسم بينهم قال : قلت : لو أمرت بهذا غيري ، قال : خذه يا مالك ، قال : فجاء يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ، فقال عمر : نعم فأذن لهم فدخلوا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي قال : نعم فأذن لهما ، فقال العباس : إقض بيني وبين هذا ، فقال القوم أجل ! فاقض بينهم وأرحهم ، قال مالك بن أوس : فخيل إلى أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر اتئدوا : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم ، ثم أقبل على العباس وعلي فقال : أنشدكما بالله الذي بأذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أن رسول الله قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالا : نعم ، إلى آخر الخبر ، ثم حكى في جامع الأصول ، عن البخاري ومسلم ، أنه قال عمر لعلي : قال أبو بكر : قال رسول الله : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، وتزعمان أنه فيها كذا كما نقلنا سابقا ، وحكى في جامع الأصول ، عن أبي داود ، أنه قال أبو البختري : سمعت حديثا من رجل فأعجبني ، فقلت : اكتبه لي ، فأتى به مكتوبا مدبرا ، دخل العباس وعلي على عمر ، وعنده طلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد : ألم تعلموا أن رسول الله قال : كل مال النبي صدقة ، إلا ما أطعمه أهله ، أو كساهم ، إنا لا نورث ؟ قالوا : بلى .

توضيح : ولا يذهب على ذي فطنة أن شهادة الأربعة التي تضمنتها الرواية الأولى والثانية على اختلافهما ، لم يكن من حيث الرواية والسماع عن الرسول ، بل لثبوت الرواية عندهم بقول أبي بكر ، بقرينة أن عمر ناشد عليا والعباس : أتعلمان أن رسول الله قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة ؟ فقالا : نعم ، وذلك لأنه لا يقدر أحد في ذلك الزمان على تكذيب تلك الرواية ، وقد قال عمر في آخر الرواية : رأيتماه ، يعني أبا بكر كاذبا آثما غادرا خائنا ، وكذا في حق نفسه ، والعجب أن القاضي لم يجعل عليا والعباس شاهدين على الرواية مع تصديقهما كما صدق الباقون ، بل جميع الصحابة لأنهم يشهدون بصدقهما .

وقال ابن أبي الحديد بعد حكاية كلام السيد ( رضي الله عنه ) في أن الاستشهاد كان في خلافة عمر دون أبي بكر ، وأن معول المخالفين على إمساك الأمة عن النكير على أبي بكر دون الاستشهاد ما هذا لفظه : قلت : صدق المرتضى فيما قال ، أما عقيب وفاة النبي ومطالبة فاطمة بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبا بكر وحده ، وقيل : إنه رواه معه مالك بن أوس ابن الحدثان ، وأما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فقد شهدوا بالخبر في خلافة عمر ، وقد تقدم ذكر ذلك ، وقال في الموضع المتقدم الذي أشار إليه ، وهو الفصل الذي ذكر فيه روايات أبي البختري على ما رواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري بإسناده عنه : قال جاء علي والعباس إلى عمر ، وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد : أنشدكم الله ، أسمعتم رسول الله يقول : كل مال نبي فهو صدقة إلا ما أطعمه أهله ، إنا لا نورث ! فقالوا : نعم ، قال : وكان رسول الله يتصدق به ، ويقسم فضله ، ثم توفي ، فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله ، وأنتما تقولان : إنه كان بذلك خاطئا ، وكان بذلك ظالما وما كان بذلك إلا راشدا ، ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما : إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله وعهده الذي عهد فيه ، فقلتما : نعم ، وجئتماني الآن تختصمان ، يقول هذا : أريد نصيبي من ابن أخي ، ويقول هذا : أريد نصيبي من امرأتي ! والله لا أقضي بينكما إلا بذلك .

قال ابن أبي الحديد : قلت : وهذا أيضا مشكل ، لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبا بكر وحده ، ذكر ذلك معظم المحدثين ، حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد . وقال شيخنا أبو علي : لا يقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة ، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم ، واحتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده ، قال : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " ، حتى أن أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا ، فقال : قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة قال : أنشد الله امرء سمع من رسول الله في هذا شيئا ! فروى مالك بن أوس بن الحدثان : أنه سمع من رسول الله ، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعدا ، فقالوا : سمعناه من رسول الله ، فأين كانت هذه الرواية أيام أبي بكر ! ما نقل أن أحدا من هؤلاء يوم خصومة فاطمة وأبي بكر روى من هذا شيئا . انتهى .

فظهر أن قول القاضي ليس إلا شهادة زور ، ولو كان لما ذكره من استشهاد أبي بكر مستند لأشار إليه كما هو الدأب في مقام الاحتجاج ، وأما هذه الرواية التي رواها ابن أبي الحديد فمع أنها لا تدل على الاستشهاد في خلافة أبي بكر ، فلا تخلو من تحريف ، لما عرفت من أن لفظ رواية أبي البختري على ما رواه أبو داود ، وحكاه في جامع الأصول : ألم تعلموا أن رسول الله قال : كل مال النبي صدقة لا أسمعتم رسول الله ، كما رواه الجوهري ، على أنه لا يقوم فيما تفردوا به من الأخبار حجة علينا ، وأنما الاحتجاج بالمتفق عليه ، أو ما اعترف به الخصم والاستشهاد على الرواية لم يثبت عندنا لا في أيام أبي بكر ولا في زمن عمر ثم أورد السيد ( رحمه الله ) على كلام صاحب المغني بأنا لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة ، لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى ، لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم ، قال : على أنه لو سلم لهم أن الخبر الواحد يعمل به في الشرع لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به ، وتحقيق هاتين المسئلتين من وظيفة أصول الفقه .

والثاني : أن رواة الخبر كانوا متهمين في الرواية بجلب النفع من حيث حل الصدقة وما أجاب به شارح كشف الحق من الفرق بين الرواية والشهادة ، وأن التهمة إنما تضر في الشهادة دون الرواية ، فسخيف جدا ولم يقل أحد بهذا الفرق غيره .

الثالث والرابع : ما تقدم في الإيراد الثالث والرابع من القسم الأول .

الخامس : ما تقدم من وجوب البيان للورثة . أما القسم الثالث : وهو أن يكون مناط الحكم على علم أبي بكر مع شهادة النفر ، وكذلك الرابع : وهو أن يكون الاعتماد على روايته معهم ، فقد ظهر بطلانهما مما سبق ، فإن المجموعة وإن كان أقوى من كل واحد من الجزئين ، إلا أنه لا يدفع التهمة ولا مناقضة الآيات الخاصة ولا باقي الوجوه السابقة ، وقد ظهر بما تقدم أن الجواب عن قول أبي علي : " أتعلمون كذب أبي بكر أم تجوزون صدقه ، وقد علم أنه لا شئ يعلم به كذبه قطعا فلا بد من تجويز كونه صادقا كما حكاه في المغني " هو أنا نعلم كذبه قطعا والدليل عليه : ما تقدم من الوجوه الستة المفصلة ، وأن تخصيص الآيات من هذا الخبر ليس من قبيل تخصيصها في القاتل والعبد كما ذكره قاضي القضاة . إذ مناط الثاني روايات معلومة الصدق ، والأول خبر معلوم الكذب .

وقد سبق في خطبة فاطمة استدلالها بقوله تعالى : * ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) * وبثلاث من الآيات السابقة ، وهو يدل مجملا ، على بطلان ما فصلوه من الأجوبة ، ثم إن بعض الأصحاب حمل الرواية على وجه لا يدل على ما فهم منها الجمهور وهو أن يكون ما تركناه صدقة مفعولا ثانيا للفعل أعني " نورث " سواء كان بفتح الراء على صيغة المجهول من قولهم : ورثت أبي شيئا ، أو بكسرها من قولهم : أورثه الشئ أبوه .

وأما بتشديد الراء فالظاهر أنه لحن ، فإن التوريث إدخال أحد في المال على الورثة كما ذكره الجوهري وهو لا يناسب شيئا من المحامل ويكون صدقة منصوبا على أن يكون مفعولا لتركنا ، والإعراب لا تضبط في أكثر الروايات ، ويجوز أن يكون النبي وقف على الصدقة فتوهم أبو بكر أنه بالرفع وحينئذ يدل على أن ما جعلوه صدقة في حال حياتهم لا ينتقل بموتهم إلى الورثة أي ما نووا فيه الصدقة من غير أن يخرجوه من أيديهم لا يناله الورثة حتى يكون للحكم اختصاص بالأنبياء ولا يدل على حرمان الورثة مما تركوه مطلقا ، والحق أنه لا يخلو عن بعد ، ولا حاجة لنا إليه لما سبق ، وأما الناصرون لأبي بكر فلم يرضوا به وحكموا ببطلانه ، وإن كان لهم فيه التخلص عن القول بكذب أبي بكر ، فهو إصلاح لم يرض به أحد المتخاصمين ، ولا يجري في بعض رواياتهم . واعلم أن بعض المخالفين استدلوا - على صحة الرواية وما حكم به أبو بكر - بترك الأمة النكير عليه ، وقد ذكر السيد الأجل ( رضي الله عنه ) في الشافي كلامهم ذلك على وجه السؤال ، وأجاب عنه بقوله فإن قيل : إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة من الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه ، فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه ، قلنا قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا ، إلا في الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا وبينا في الكلام على إمامة أبي بكر هذا الموضع بيانا شافيا .

وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جوابا جيد المعنى واللفظ ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها . قال : وقد زعم ناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر وعمر في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله النكير عليهما ، ثم قال : فيقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما بدليل دليلا على صدق دعواهم واستحسان مقالتهم لا سيما وقد طالت المشاحنات ، وكثرت المراجعة والملاحات ، وظهرت الشكيمة ، واشتدت الموجدة ، وقد بلغ ذلك من فاطمة حتى أنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر وقد كانت ، قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة برهطها : من يرثك يا أبا بكر ، إذا مت ؟ قال : أهلي وولدي ، قالت : فما بالنا لا نرث النبي ، فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتل عليها ، ولج في أمرها ، وعاينت التهضم ، وآيست من النزوع ، ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ، قالت : والله لأدعون الله عليك ، قال : والله لأدعون الله لك .

قالت : - والله - لا أكلمك أبدا ، قال : والله أهجرك أبدا ، فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعه إن في ترك النكير على فاطمة دليلا على صواب طلبها ، وأت ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا ، أو تقطع واصلا ، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم ، وأوجب علينا وعليكم ، وإن قالوا كيف يظن ظلمها والتعدي عليها ؟ وكلما ، ازدادت فاطمة غلظة ازداد عليها لينا ورقة حيث تقول : - والله - لا أكلمك أبدا فيقول : والله لا أهجرك أبدا ، ثم تقول : والله لأدعون الله عليك فيقول : والله لأدعون الله لك ، ثم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة وما يجب لها من التنويه والهيبة ، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا أو متقربا كلام المعظم لحقها ، المكبر لقيامها والصائن لوجهها ، والمتحنن عليها : ما أحد أعز علي منك فقرا ولا أحب إلي منك غنى ولكن سمعت رسول الله يقول : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ، قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلة المنتصف ، وجدة الوامق ، ومقة المحق ، وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة ؟ وقد زعمتم أن عمر قال على منبره : متعتان كان على عهد رسول الله متعة النساء ومتعة الحج ، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، فما وجدتم أحدا أنكر قوله ، ولا استشنع مخرج نهيه ، ولا خطأه في معناه ، ولا تعجب منه ولا استفهمه ، وكيف تقضون بترك النكير ، وقد شهد عمر يوم السقيفة ، وبعد ذلك أن النبي قال : الأئمة من قريش ثم قال في مكانه : لو كان سالم حيا ما يخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وحازت ميراثه ، ثم لم ينكر ذلك من قريش قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوليه ولا تعجب منه ، وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وثواب عمله ، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والاستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجة تشفي ولا دليل يغني ، صدق قوله وثواب عمله ، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والاستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجة تشفي ولا دليل يغني ، قال : وقال آخرون : بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل ورد النصوص ، ولو كانوا يقولون ويصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه وعثمان كان أعز نفرا وأشرف رهطا وأكثر عددا وثروة وأقوى عدة .

قلنا : إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا المنصوص ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالا كونه ولا يمتنع في حجج العقول مجيئه وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه ، ولعل بعضهم كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره ، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ، ولا جرب عليه غدرة ، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد ، ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذي يقطع بشهادته على الغيب ، وكان ذلك شبهة على أكثرهم ، فلذلك قل النكير وتواكل الناس واشتبه الأمر ، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم والمؤيد المرشد ، ولأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام ، وفي قلوب السفلة والطغات ما كان لهما من الهيبة والمحبة ، ولأنهما كانا أقل استيثارا بالفئ وأقل تفكها بمال الله منه ، ومن شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم ولا يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم ، ولأن الذي صنع أبو بكر من منع العترة حظها والعمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش ولكبراء العرب ، ولأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما ولا يقمع عدوا ، ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لأمور لو أتى عمر أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترؤا على اغتيابه فضلا عن مباداته والإغراء به ومواجهته كما أغلظ عيينة بن حصين له : فقال : أما إنه لو كان عمر لقمعك ومنعك ، فقال عيينة : إن عمر كان خيرا إلي منك أرهبني فأبقاني ، ثم قال : والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ، ما هو أقرب استنادا وأوضح رجالا وأحسن اتصالا حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه وأكذبوا ناقليه وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق وضاه ، هذا آخر كلام الجاحظ ، ثم قال السيد ( رضي الله عنه ) : فإن قيل : ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير ، وقوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة ولا غيرها من المطالبين بالميراث كالأزواج وغيرهن معارضته صحيحة ، وذلك أن نكير أبي بكر لذلك ودفعه والاحتجاج عليه يكفيهم ويغنيهم عن تكلف نكير ولم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره ، قلنا : أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد إحتجاجها بالخبر من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت وقولها على ما روي : والله لأدعون الله عليك ، ولا كلمتك أبدا ، وما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره فمن المنكر الغضب على المنصف وبعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا أو مغنيا عن إنكار غيره من المسلمين ، فإنكار فاطمة حكمه ومقامها على التظلم منه يغني عن نكير غيرها ، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه ، انتهى كلامه " رفع الله مقامه " الخامس : قال ابن أبي الحديد : اعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين في الميراث والنحلة ، وقد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث ومنعها أبو بكر إياها أيضا وهو سهم ذي القربى ، روى أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أنس ، أن فاطمة أتت أبا بكر فقالت : قد علمت الذي حرم علينا أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ، ثم قرأت عليه قوله تعالى : * ( واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) * الآية ، فقال لها أبو بكر : بأبي أنت وأمي وولدي وولدك ، السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسوله وحق قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرأين ، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس مسلم إليكم كاملا ، قالت : أملك هو لك ولأقربائك ؟ قال : لا ، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين . قالت : ليس هذا بحكم الله تعالى ، فقال : هذا حكم الله فإن كان رسول الله عهد إليك في هذا عهدا صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك . قالت : إن رسول الله لم يعهد إلي في ذلك بشئ إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية : أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى ، قال أبو بكر : لم يبلغ من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم ويفضل عنكم ، هذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما فاسأليهم عن ذلك وانظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم ؟ فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر ، فقال لها مثل ما قال لها أبو بكر فتعجبت فاطمة من ذلك وتظنت قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه .

ثم قال : قال أحمد بن عبد العزيز : حدثنا أبو زيد بإسناده إلى عروة قال : أرادت فاطمة أبا بكر على فدك وسهم ذي القربى تأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى .

ثم روي عن الحسن بن علي : أن أبا بكر منع فاطمة وبني هاشم سهم ذي القربى وجعلها في سبيل الله في السلاح والكراع .

ثم روي بإسناده عن محمد بن إسحاق قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي قلت : أرأيت عليا حين ولى العراق وما ولى من أمر الناس ، كيف صنع في سهم ذي القربى ؟ قال : سلك بهم طريق أبي بكر وعمر ، قلت : كيف ولم وأنتم تقولون ، ما تقولون : أما والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه ، فقلت : فما منعه ، قال : يكره أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر وعمر . انتهى ما أخرجه ابن أبي الحديد من كتاب أحمد بن عبد العزيز .

وروي في جامع الأصول : من سنن أبي داود ، عن جبير بن مطعم : أن رسول الله لم يكن يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم قال : وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله غير أنه لم يكن يعطي منه قربى رسول الله كما يعطيهم رسول الله وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه .

وروى مثله بسند آخر ، عن حبير بن مطعم ، ثم قال : وفي أخرى له والنسائي : لما كان يوم خيبر وضع رسول الله سهم ذي القربى في بني هاشم وبني عبد المطلب .

ثم قال : وأخرج النسائي أيضا بنحو من هذه الروايات من طرق متعددة بتغيير بعض ألفاظها واتفاق المعنى . وروي أيضا ، عن أبي داود بإسناده ، عن يزيد بن هرمز : أن ابن الزبير أرسل إلى ابن العباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن يراه ؟ فقال له : لقربى رسول الله ، قسمه رسول الله لهم ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا ورددناه عليه وأبينا أن نقبله .

وروي مثله عن النسائي أيضا وقال : وفي أخرى له مثل أبي داود ، وفيه : وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم ويقضي عن غارمهم ويعطي فقيرهم وأبى أن يزيدهم على ذلك .

وروى العياشي في تفسيره : رواية ابن عباس ورويناه في موضع آخر . وروى أيضا : عن أبي جميلة ، عن بعض أصحابه ، عن أحدهما ، قال : قد فرض الله الخمس نصيبا لآل محمد عليهم السلام فأبى أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم ، حسدا وعداوة ، وقد قال الله : * ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) * ، والأخبار من طريق أهل البيت عليهم السلام في ذلك أكثر من أن تحصى ، وسيأتي بعضها في أبواب الخمس والأنفال إن شاء الله تعالى ، فإذا اطلعت على ما نقلناه من الأخبار من صحاحهم ، نقول : لا ريب في دلالة الآية ، على اختصاص ذي القربى بسهم خاص ، سواء كان هو سدس الخمس كما ذهب إليه أبو العالية ، وأصحابنا ، ورووه عن أئمتنا عليهم السلام وهو الظاهر من الآية كما اعترف به البيضاوي وغيره ، أو خمس الخمس لاتحاد سهم الله وسهم رسوله وذكر الله للتعظيم كما زعم ابن عباس ، وقتادة وعطا ، أو ربع الخمس ، والأرباع الثلاثة الباقية للثلاثة الأخيرة ، كما زعمه الشافعي ، وسواء كان المراد بذي القربى أهل بيت النبي في حياته ، وبعده الإمام من أهل البيت كما ذهب إليه أكثر أصحابنا ، أو جميع بني هاشم كما ذهب إليه بعضهم وعلى ما ذهب إليه الأكثر يكون دعوى فاطمة نيابة عن أمير المؤمنين تقية أو كان المراد بني هاشم وبني المطلب كما زعمه الشافعي ، أو آل علي ، وعقيل وآل عباس ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، كما قال أبو حنيفة .

وعلى أي حال فلا ريب أيضا في أن الظاهر من الآية تساوي الستة في السهم ، ولم يختلف الفقهاء في أن إطلاق الوصية والإقرار لجماعة معدودين يقتضي التسوية لتساوي السنة ، ولم يشترط الله عز وجل في ذي القربى فقرا أو مسكنة بل قرنه بنفسه وبرسوله للدلالة على عدم الإشتراط ، وأما التقييد اجتهادا فمع بطلان الاجتهاد الغير المستند إلى حجة فعل النبي يدفع التقييد لدلالة خبر جبير وغيره على أنه لم يعطيها ما كان رسول الله يعطيهم ، وقد قال أبو بكر في رواية أنس : لكم الغنى الذي يغنيكم ويفضل عنكم ، فما زعمه أبو بكر من عدم دلالة الآية على أن السهم مسلم لذي القربى ووجوب صرف الفاضل من السهم عن حاجتهم في مصالح المسلمين مخالف للآية والأخبار المتفق على صحتها ، وقد قال سبحانه في آخر الآية : * ( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا ) * ، واعترف الفخر الرازي في تفسيره بأن من لم يحكم بهذه القسمة فقد خرج عن الإيمان ، وقال تعالى : * ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) * ، وقال : هم الفاسقون ، وقال : هم الظالمون ، فاستحق بما صنع ما يستحقه الراد على الله وعلى رسوله .

السادسة : ما دلت عليه الروايات السالفة وما سيأتي في باب شهادة فاطمة ، من أنها أوصت أن تدفن سرا ، وأن لا يصلي عليها أبو بكر وعمر لغضبها عليهما في منع فدك وغيره من أعظم الطعون عليهما ، وأجاب عنه قاضي القضاة في " المغني " : بأنه قد روي أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة وكبر أربعا ، وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على الميت ولا يصح أنها دفنت ليلا ، وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله ليلا وعمر دفن ليلا ، وقد كان أصحاب رسول الله يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل ، فما في هذا ما يطعن به بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر وأولى بالسنة .

ورد عليه السيد الأجل في الثاني : بأن ما ادعيت من أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة وكبر أربعا ، وإن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت فهو شئ ما سمع إلا منك وإن كنت تلقيته عن غيرك فممن يجري مجراك في العصبية وإلا فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من ذلك ، ولم يختلف أهل النقل في أن أمير المؤمنين صلى على فاطمة إلا رواية شاذة نادرة وردت بأن العباس صلى عليها .

روى الواقدي : بإسناده ، عن عكرمة ، قال : سألت ابن عباس متى دفنتم فاطمة ؟ قال : دفناها بليل بعد هدأة . قال : قلت : فمن صلى عليها ؟ قال : علي .

وروى الطبرسي ، عن الحرث بن أبي أسامة ، عن المدايني ، عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت وقالت : سترتموني ستركم الله . قال أبو جعفر محمد بن جرير : والثبت في ذلك أنها زينب ، لأن فاطمة دفنت ليلا ولم يحضرها إلا العباس وعلي ، والمقداد والزبير .

وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه : عن الزهري ، قال : حدثني عروة بن الزبير : أن عائشة أخبرته : أن فاطمة بنت رسول الله عاشت بعد رسول الله ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي ليلا وصلى عليها علي بن أبي طالب ، وذكر في كتابه هذا أن أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهما السلام دفنوها ليلا وغيبوا قبرها .

وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو عن الحسن بن محمد : أن فاطمة دفنت ليلا وروى عبد الله بن أبي شيبة ، عن يحيى بن سعيد العطار ، عن معمر ، عن الزهري : مثل ذلك ، وقال البلاذري في تاريخه : إن فاطمة لم تر مبتسمة بعد وفاة رسول الله ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها ، والأمر في هذا أوضح وأظهر من أن يطنب في الاستشهاد عليه ، وبذكر الروايات فيه ، فأما قوله ولا يصح ، أنها دفنت ليلا ، وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلا فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة كالشمس الطالعة ، وأن منكر ذلك كدافع المشاهدات ولم نجعل دفنها ليلا بمجرد ، وهو الحجة .

فيقال : فقد دفن فلان وفلان ليلا بل مع الاحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالمتواتر أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلي عليها الرجلان ، وصرحت بذلك وعهدت فيه عهدا بعد أن كانا أستاذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طال عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين ، في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه فكلما أمير المؤمنين في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما ، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين : قد صنعت ما أردت ، قال : نعم ، قالت : فهل أنت صانع ما آمرك ؟ قال : نعم ، قالت : فإني أنشدك الله لا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري . وروي أنه عمى على قبرها ، ورش أربعين قبرا في البقيع ولم يرش على قبرها حتى لا يهتديا إليه ، وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما للصلاة عليها ، فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا ، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وتأخر عنه ، لم يكن فيه حجة ، انتهى كلامه رفع الله مقامه . ومما يدل من صحاح أخبارهم على دفنها ليلا ، وأن أبا بكر لم يصل عليها ، وعلى غضبها عليه وهجرتها إياه : ما رواه مسلم في " صحيحة " وأورده في " جامع الأصول " في الباب الثاني من كتاب الخلافة والإمارة من حرف الخاء عن عائشة - في حديث طويل - بعد ذكر مطالبة فاطمة أبا بكر في ميراث رسول الله وفدك وسهمه من خيبر ، قالت : فهجرته فاطمة ، فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي ولم يؤذن بها أبا بكر ، قالت : فكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي ، ومكثت فاطمة بعد رسول الله ستة أشهر ثم توفيت .

وروى ابن أبي الحديد : عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، عن هشام بن محمد ، عن أبيه ، قال : قالت فاطمة لأبي بكر : إن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله أعطاني فدك ، فقال : يا بنت رسول الله ، والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله أبيك ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك ، والله لئن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري ، أتراني أعطي الأسود والأحمر حقه وأظلمك حقك وأنت بنت رسول الله إن هذا المال لم يكن للنبي وليته كما كان يليه ، قالت : والله لا كلمتك أبدا قال : والله لا هجرتك أبدا قالت : والله لأدعون الله عليك قال : والله لأدعون الله لك ، فلما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها ، فدفنت ليلا وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ، وكان بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة .

ومما يؤيد إخفاء دفنها ، جهالة قبرها والاختلاف فيه بين الناس إلى يومنا هذا ، ولو كان بمحضر من الناس لما اشتبه على الخلق ولا اختلف فيه . السابعة : مما يرد على الطعون على أبي بكر في تلك الواقعة . أنه مكن أزواج النبي التصرف في حجراتهن بغير خلاف ولم يحكم فيها بأنها صدقة ، وذلك يناقض ما منعه في أمر فدك وميراث الرسول فإن انتقالها إليهن إما على جهة الإرث أو النحلة والأول مناقض لروايته في الميراث ، والثاني يحتاج إلى الثبوت ببينة ونحوها ولم يطالبهن بشئ منها كما طلب فاطمة في دعواها وهذا من أعظم الشواهد لمن له أدنى بصيرة على أنه لم يفعل ما فعل إلا عداوة لأهل بيت الرسالة ولم يقل ما قال إلا افتراء على الله وعلى رسوله ! ! ولنكتف بما ذكرناه ، فإن بسط الكلام في تلك المباحث مما يوجب كثرة حجم الكتاب وتعسر تحصيله على الطلاب ، فانظر أيها العاقل المنصف بعين البصيرة فيما اشتمل عليه الأخبار الكثيرة التي أوردوها في كتبهم المعتبرة عندهم ، من حكم سيدة النساء صلوات الله عليها مع عصمتها وطهارتها باغتصابهم للخلافة ، وأنهم أتباع الشيطان وأنه ظهر فيه حسيكة النفاق ، وأنهم أرادوا إطفاء نور الدين وإهمال سنن سيد المرسلين صلوات الله عليه وآله وأنهم آذوا أهل بيته وأضمروا لهم العداوة وغير ذلك مما اشتملت عليه الخطبة الجليلة فهل يبقى بعد ذلك شك في بطلان خلافة أبي بكر ونفاقه ونفاق أهل بيته ؟ ! ثم إنها حكمت بظلم أبي بكر في منعها الميراث صريحا بقولها : لقد جئت شيئا فريا ، ودعت الأنصار إلى قتاله فثبت جواز قتله ، ولو كان إماما لم يجز قتله .

ثم انظر إلى هذا المنافق كيف شبه أمير المؤمنين وسيد الوصيين وأخا سيد المرسلين وزوجته الطاهرة بثعالة شهيده ذنبه وجعله مريا لكل فتنة ! ثم إلى موت فاطمة صلوات الله عليها ساخطة على أبي بكر ، مغضبة عليه منكرة لإمامته وإلى إنكار أبي بكر كون فدك خالصة لرسول الله مع كونه مخالفا للآية والإجماع وأخبارهم وإلى أنه انتزع فدك من يد وكلاء فاطمة وطلب منها الشهود مع أنها لم تكن مدعية ، فحكم بغير حكم الله وحكم الرسول وصار بذلك من الكافرين بنص القرآن وإلى طلب الشاهد من المعصومة ورد شهادة المعصومين الذين أنزل الله تعالى فيهم ما أنزل وقال فيهم النبي ما قال ، ومنعها الميراث خلافا لحكم الكتاب وافترائه على الرسول بما شهد الكتاب والسنة بكذبه فتبوء مقعده من النار وظلمه عليها صلوات الله عليها في منع سهم ذي القربى خلافا لله تعالى ومناقضة لما رواه حيث مكن الأزواج من التصرف في الحجر وغيرهما مما يستنبط من فحاوي ما ذكر من الأخبار ولا يخفى طريق استنباطها على أولي الأبصار .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>