ضغائن في صدور أقوام
أخرج أبو يعلى والبزار - بسند صححه: الحاكم، والذهبي، وابن حبان، وغيرهم - عن علي (عليه السلام) قال: (بينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة، إذ أتينا على حديقة، فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة! فقال: إن لك في الجنة أحسن منها، ثم مررنا بأخرى فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة! قال: لك في الجنة أحسن منها، حتى مررنا بسبع حدائق، كل ذلك أقول ما أحسنها ويقول: لك في الجنة أحسن منها، فلما خلا لي الطريق اعتنقني ثم أجهش باكيا، قلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي، قال: قلت يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك). هذا اللفظ في: مجمع الزوائد عن: أبي يعلى والبزار(17)، ونفس السند موجود في المستدرك وقد صححه الحاكم والذهبي(18)، فيكون سنده صحيحا يقينا، لكن اللفظ في المستدرك مختصر وذيله غير مذكور، والله أعلم ممن هذا التصرف، هل من الحاكم أو من الناسخين أو من الناشرين؟ فراجعوا، السند نفس السند عند أبي يعلى وعند البزار وعند الحاكم، والحاكم يصححه والذهبي يوافقه، إلا أن الحديث في المستدرك أبتر مقطوع الذيل، لأنه إلى حد (إن لك في الجنة أحسن منها) لا أكثر. وهناك أحاديث أيضا صريحة في أن (الأقوام) المراد منهم في هذا الحديث (هم قريش)، وفي المطلب السادس أيضا بعض الأحاديث تدل على ذلك، فلاحظوا.
في أن قريشا هم سبب هلاك الناس بعد النبي (صلى الله عليه وآله)
عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (يهلك أمتي هذا الحي من قريش)، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (لو أن الناس اعتزلوهم). وعن أبي هريرة أيضا قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: (هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش)، فقالوا: مروان غلمة؟ قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميه، بني فلان، بني فلان والحديثان في الصحيحين(19).
لم يرو من الضغائن والغدر إلا القليل
وهذا المطلب مهم جدا، فالغدر الذي كان، والضغائن التي بدت - التي سبق وأن أخبر عنها رسول الله - لم يرو منها في الكتب إلا القليل، والسبب واضح، لأنهم منعوا من تدوين الحديث، وعندما دون، فقد دون على يد بني أمية وفي عهدهم، وهذا حال السنة، أي السنة عند أهل السنة. ثم إن من كان عنده شئ من تلك الأمور التي أشار إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يروه، وإذا رواه لم ينقلوه ولم يكتبوه ومنعوا من نشره، ومن نقله إلى الآخرين، حتى أن من كان عنده كتاب فيه شئ من تلك القضايا، أخذوه منه، أو أخفاه ولم يظهره لأحد، أذكر لكم موارد من هذا القبيل: قال ابن عدي في آخر ترجمة عبد الرزاق بن همام الصنعاني في كتاب الكامل: ولعبد الرزاق بن همام [هذا شيخ البخاري] أصناف حديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأسا، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وقد روى أحاديث في الفضائل مما لا يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما رموه به من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم مما لم أذكره في كتابي هذا، وأما في باب الصدق فأرجو أنه لا بأس به، إلا أنه قد سبق عنه أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب آخرين مناكير(20). وبترجمة عبد الرحمن بن يوسف بن خراش - الحافظ الكبير - يقول ابن عدي: سمعت عبدان يقول: وحمل ابن خراش إلى بندار جزئين صنفهما في مثالب الشيخين فأجازه بألفي درهم. فأين هذا الكتاب الذي هو في جزئين ؟ قال ابن عدي: فأما الحديث فأرجو أنه لا يتعمد الكذب(21). فالرجل ليس بكاذب، ولو راجعتم سير أعلام النبلاء للذهبي أو راجعتم تذكرة الحفاظ للذهبي، لرأيتم الذهبي ينقل هذا المطلب، ويتهجم على ابن خراش ويشتمه ويسبه سب الذين كفروا(22). ولا يتوهمن أحد أن هذا الرجل - ابن خراش - من الشيعة، وذلك، لأن هذا الرجل من كبار علماء القوم ومن أعلامهم في الجرح والتعديل، ويعتمدون على آرائه في رد الراوي أو قبوله، أذكر لكم موردا واحدا، يقول ابن خراش بترجمة عبد الله بن شقيق، وعند ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب يقول: قال ابن خراش: كان - عبد الله بن شقيق - ثقة وكان عثمانيا يبغض عليا(23). فابن خراش ليس بشيعي، لأنه يوثق هذا الرجل مع تصريحه بأنه كان عثمانيا يبغض عليا. فلا يتوهم أن هذا الرجل - ابن خراش - من الشيعة، بل هو من أعلام أهل السنة ومن كبار حفاظهم، إلا أنه ألف جزئين في مثالب الشيخين. مورد آخر في كتاب العلل لأحمد بن حنبل، قال أحمد: كان أبو عوانة [الذي هو من كبار محدثيهم وحفاظهم، وله كتاب في الصحيح اسمه: صحيح أبي عوانة] وضع كتابا فيه معايب أصحاب رسول الله، وفيه بلايا، فجاء سلام بن أبي مطيع(24) فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذاك الكتاب فأعطاه، فأخذه سلام فأحرقه(25). ويروي أحمد بن حنبل في نفس الكتاب عن عبد الرحمن بن مهدي(26) قال: فنظرت في كتاب أبي عوانة وأنا أستغفر الله(27). فهذا يستغفر الله من أنه نظر في هذا الكتاب، والشخص الآخر جاء إليه وأخذ الكتاب منه وأحرقه بلا إذن منه ولا رضا. مورد آخر: ذكروا بترجمة الحسين بن الحسن الأشقر: أن أحمد بن حنبل حدث عنه وقال: لم يكن عندي ممن يكذب [ فهو حدث عنه وقال: لم يكن عندي ممن يكذب] فقيل له: إنه يحدث في أبي بكر وعمر، وإنه صنف بابا في معايبهما، فقال: ليس هذا بأهل أن يحدث عنه(28)! أولا: أين ذاك الباب الذي أشتمل على هذه القضايا؟ ولماذا لم يصل إلينا؟ وثانيا: إنه بمجرد أن علم أحمد بن حنبل بأن الرجل يحدث في الشيخين، وبأنه صنف مثل هذه الأحاديث في كتاب، سقط من عين أحمد وأصبح كذابا لا يعتمد عليه ولا يروى عنه! مورد آخر: في ميزان الاعتدال بترجمة إبراهيم بن الحكم بن زهير الكوفي: قال أبو حاتم: روى في مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه(29). روى في مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه، فراحت تلك الروايات. وهذا بعض ما ذكروا في هذا الباب. ثم إنهم ذكروا في تراجم رجال كثيرين من أعلام الحديث والرواة الذين هم من رجال الصحاح، ذكروا أنه كان يشتم أبا بكر وعمر، لاحظوا هذه العبارة بترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن السدي(30)، وبترجمة تليد بن سليمان(31)، وبترجمة جعفر بن سليمان الضبعي(32)، وغير هؤلاء. ولماذا كان هؤلاء يشتمون؟ هل بلغهم شئ أو أشياء، مما أدى وسبب في أن يجوزوا لأنفسهم أن يشتموا ويسبوا ؟ وأين تلك القضايا وما هي ؟ وأما ما ذكروه بترجمة الرجال وكبار علمائهم وحفاظهم من شتم عثمان وشتم معاوية، فكثير جدا، وأعتقد أنه لا يحصى لكثرته. ولقد فشى وكثر اللعن أو الطعن في الشيخين في النصف الثاني من القرن الثالث، يقول زائدة بن قدامة - ووفاته في النصف الثاني من القرن الثالث -: متى كان الناس يشتمون أبا بكر وعمر)؟!(33). وكثر وكثر حتى القرن السادس من الهجرة، جاء أحدهم - وهو الحافظ المحدث عبد المغيث بن زهير بن حرب الحنبلي البغدادي - فألف كتابا في فضل يزيد بن معاوية وفي الدفاع عنه والمنع عن لعنه، فلما سئل عن ذلك، قال بلفظ العبارة: إنما قصدت كف الألسنة عن لعن الخلفاء(34). حتى جاء التفتازاني في أواخر القرن الثامن من الهجرة وقال في شرح المقاصد ما نصه: فإن قيل: فمن علماء المذهب من لم يجوز اللعن على يزيد مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد؟ قلنا: تحاميا عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى(35). حتى جاء كتاب عصرنا، فألفوا في مناقب يزيد، وألفوا في مناقب الحجاج، وألفوا في مناقب هند!! وإني أعتقد أنهم يعلمون بأن هذه المناقب والفضائل، والذي يذكرونه في الدفاع عن هؤلاء وأمثالهم، كله كذب، وإن هؤلاء يستحقون اللعن، إلا أن الغرض هو إشغال الكتاب والباحثين والمفكرين وسائر الناس بمثل هذه الأمور، ولكي لا يبقى هناك مجال لأن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى. ومن هنا نفهم: إن محاربتهم لقضايا الحسين (عليه السلام) ومحاربتهم لمآتم الحسين (عليه السلام) ولقضايا عاشوراء، كل ذلك، لئلا يلعن يزيد، ولئلا ينتهي إلى الأعلى فالأعلى.
أحقاد قريش وبني أمية على النبي ( صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ( عليهم السلام )
وهنا ننقل بعض الشواهد على أحقاد قريش وبني أمية بالخصوص، وضغائنهم على النبي وأهل البيت، حتى أنهم كانت تصدر منهم أشياء في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولما لم يتمكنوا من الانتقام من النبي (صلى الله عليه وآله) بالذات، انتقموا من أهل بيته لينتقموا منه. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم أضمروا لرسولك (صلى الله عليه وآله) ضروبا من الشر والغدر، فعجزوا عنها، وحلت بينهم وبينها، فكانت الوجبة بي والدائرة علي، اللهم احفظ حسنا وحسينا، ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حيا، فإذا توفيتني فأنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (36) فيقول أمير المؤمنين: إن قريشا أضمروا لرسول الله ضروبا من الشر والغدر وعجزوا عنها، والله سبحانه وتعالى حال بينه وبين تلك الشرور أن تصيبه، إلى أن توفي (صلى الله عليه وآله)، فكانت الوجبة بأمير المؤمنين والدائرة عليه، كما أنه في هذا الكلام يشير بأن قريشا ستقتل الحسن والحسين أيضا انتقاما من النبي. وقال (عليه السلام) في خطبة له: وقال قائل: إنك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص، فقلت: بل أنتم - والله - أحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به. اللهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي، ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه(37). وفي كتاب له (عليه السلام) إلى عقيل: فدع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنهم قد أجمعوا على حربي إجماعهم على حرب رسول الله قبلي، فجزت قريشا عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أمي(38). وروى ابن عدي في الكامل في حديث: فقال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم مثل ريحانة وسط نتن، فانطلق بعض الناس إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروا النبي، فجاء (صلى الله عليه وسلم) - يعرف في وجهه الغضب - حتى قام فقال: ما بال أقوال تبلغني عن أقوام إلى آخر الحديث هذا في الكامل لابن عدي(39) بهذا النص، والقائل أبو سفيان. وهو بنفس السند واللفظ موجود أيضا في بعض المصادر الأخرى، إلا أنهم رفعوا كلمة: فقال أبو سفيان، ووضعوا كلمة: (فقال رجل). لاحظوا مجمع الزوائد(40). وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: أتى ناس من الأنصار إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: إنا نسمع من قومك، حتى يقول القائل منهم إنما مثل محمد مثل نخلة نبتت في الكبا(41). والكبا الأرض غير النظيفة. لكن هذا الحديث أيضا في بعض المصادر محرف. ثم إن السبب في هذه الضغائن ماذا؟ ليس السبب إلا أقربية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فينتقمون منه انتقاما من النبي، مضافا إلى مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحروب وقتله أبطال قريش، وهذا ما صرح به عثمان لأمير المؤمنين في كلام له معه عليه الصلاة والسلام، أذكر لكم النص الكامل. ذكر الآبي في كتاب نثر الدرر - وهو كتاب مطبوع موجود - وعنه أيضا ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن ابن عباس قال: وقع بين عثمان وعلي كلام، فقال عثمان: ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب(42). هذه هي الأحقاد والضغائن، ولم يتمكنوا من الانتقام من رسول الله، فانتقموا من أهل بيته كما أخبر هو (صلى الله عليه وآله). وهكذا توالت القضايا، انتقموا من الزهراء وأمير المؤمنين، وانتقموا، وانتقموا، إلى يوم الحسين (عليه السلام) وبعد يوم الحسين (عليه السلام).. وإلى اليوم....
|
17- مجمع الزوائد 9 / 118. 18- المستدرك على الصحيحين 3 / 139. 19- وأخرجه أحمد 2 / 324، 288، 299، 520. 20- الكامل في الضعفاء 6 / 545. 21- الكامل في الضعفاء 5 / 519. 22- سير أعلام النبلاء 13 / 509، تذكرة الحفاظ 2 / 684، ميزان الاعتدال 2 / 600. 23- تهذيب التهذيب 5 / 223. 24- الإمام الثقة القدوة، من رجال الصحيحين. سير أعلام النبلاء 7 / 428. 25- كتاب العلل والرجال 1 / 60. 26- الإمام الناقد المجود سيد الحفاظ. سير أعلام النبلاء 9 / 192. 27- كتاب العلل والرجال 3 / 92 الطبعة الحديثة. 28- تهذيب التهذيب 2 / 291. 29- ميزان الاعتدال في نقد الرجال 1 / 27. 30- تهذيب التهذيب 1 / 274. 31- تهذيب الكمال 4 / 322. 32- تهذيب التهذيب 2 / 82 - 83. 34- تهذيب التهذيب 3 / 264. ( 2 ) سير أعلام النبلاء 21 / 161. 35- شرح المقاصد 5 / 311. 36- شرح نهج البلاغة 20 / 298. 37- نهج البلاغة، الخطبة: 172. 38- نهج البلاغة. 39- شرح نهج البلاغة 16 / 151. 40- الكامل في الضعفاء 3 / 28. 41- مجمع الزوائد 8 / 215. 42- شرح نهج البلاغة 9 / 22. |