2 ـ الإطار المذهبيّ :
وبعد هذا التحليل الدّقيق لمفهوم الإيمان ومقوّماته ، تنطلق الزهراء ( عليها السلام ) لتشيد
البنيات الفوقيّة لهذا الإيمان الرّصين ، البنيات الفوقية التي تنسجم مع قاعدة
الإيمان وتنهل من معينه لكي تخلق الفرد الصّالح والمجتمع السّعيد والإنسان
العزيز ، وفقاً لمناهج عمليّة تنسجم مع الفطرة وتوائم الميول النفسيّة والروحيّة
والجسديّة. وحين تنطلق الزهراء ( عليها السلام ) لتبيان الهيكل العام للمذهب الإسلامي في
المشاكل الفردية والإجتماعية إنّما تنطلق لاستعراضه بصفته حقيقة متفقاً عليها ولذا
راحت ترسم هذا التّشريع تأصيلاً لهذه المفاهيم وتثبيتاً لأُطرها ، وهذه الحقيقة
تجعلنا نكون أكثر وثوقاً من أنّ الأُمّة الإسلامية في مطلع تاريخها كانت تفهم
الإسلام بصفته رسالة كبرى تقوم على فلسفة للكون والحياة ودستور للإجتماع
والإقتصاد وطريقة في الحكم والسّياسة ومنهج للعمل والتفكير ومبدأ ثابت تبتني
عليه الحياة الإنسانية للفرد والأُسرة والمجتمع والدّولة ، أما الفصام النّكد الذي
وجد اليوم في ذهنيّة أكثر أبناء الأُمّة الإسلامية بين الدّين والحياة فإنّما هو بدعة
غربية ومؤامرة صليبية ستنجلي ظلمتها بعد حين « ويأبى الله إلا أن يُتم نوره ولو
كره الكافرون » (1).
____________
(1) سورة التوبة آية | 22.
( 151 )
لأنّ تباشير الوعي لهذه الحقيقة ـ حقيقة هذا الدّين وهذه الرسالة الخاتمة ـ
لاحت في الأُفق وراح كثير من شباب أُمتنا الإسلامية يعون الإسلام كمذهب
اجتماعي وكيان تشريعي ضخم امتدّ إلى جميع مجالات الحياة ، ولوّنها بصبغة خاصة
بعيدة عن الصّفة الترابية التي اصطبغت بها المذاهب الوضعية الجائرة عن الفطرة ،
ونحن حين نبحث في حياة الزّهراء ـ بل تراثها الإسلامي العظيم ـ إنما نقدّم
بذلك دليلاً عمليّاً لمن يجهل حقيقة الإسلام ليتّضح له بصفته ديناً وتشريعاً عقيدة
ومنهجاً ونظاماً.
وها نحن أُولاء نلقي أضواءً كاشفة على مقطع عظيم من خطبة الزّهراء ( عليها السلام )
وهي تستعرض للأُمة وأجيالها القادمة حقيقة الرّسالة الإسلامية :
والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر:
فالصّلاة في منطق الزّهراء ( عليها السلام ) رفع للإنسان من حضيض التكبُّر إلى مستوى
التّواضع ، وهي ـ حين تعلن هذه الميزة التي اتّسمت بها الصّلاة ـ فإنّما تجسّد لنا
واقع الصّلاة وقيمتها على الصّعيد العبادي والإجتماعي ، فالصّلاة ابتداءً صلة
روحية بين الإنسان وخالقه ، تتّخذ طابعاً خاصّاً من الدُّعاء والتجرُّد ، ولوناً متميزاً
من السُّلوك ، فحين يقف المرء أمام خالقه الكبير يعلن اعترافه بربوبيّته وحاكميّته
المطلقة. وبعد هذا الإعتراف يعلن مطالبه من ربه ، ممثلة بطلب عونه : « إيّاك
نعبد وإيّاك نستعين ».
والإعتراف بالعبودية لله سبحانه وتعالى ـ يرسم للمسلم الواقعي صورةَ حياة
مثاليّة متعددة الجوانب ، مطبوعة بطابع الخضوع المطلق للعزيز الحكيم ، فهي ليست
اعترافاً بالله كخالق للكون والحياة ـ فحسب ـ وإنّما هي عمليّة يعلن الإنسان
فيها أنّ الوجود كلّه لله سبحانه. وأنّ الحاكميّة المطلقة في خلقه له وحده ، فلا
مشرّع لهذا الإنسان غير الله سبحانه ، فهو وحده الذي يعلم ما يصلحه وما يفسده
وما يرفعه وما يضعه.
وبعد هذا الإعتراف بالله سبحانه وصفاته المقدّسة ، يقف المرء أمام ربِّه ، وبهذا
اليقين المطلق ليسأله العونَ والهداية ، وهذه العملية تتكرر خمس مرات في كلّ يوم
لتكون مصدراً لتربية النّفس والوجدان على الخضوع لله سبحانه ، الخضوع
( 152 )
المستمر ، ولتطبع حياة الإنسان كلّها بطابع هذا الخضوع . ومن ثم فإنّ تكرار هذه
العملية يشكّل مناخاً صالحاً لصقل نفسيّة المسلم ومشاعره صقلاً ينسجم وأوامر الله
ونواهيه لينطلق المسلم بعدها ، وهو أكثر قدرة على تطبيق منهج السّماء وحمله
والتبشير به.
وقد رسم القرآن الكريم هذه الحقيقة حين أعلن : « إنّ الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر ».
وهنا تتجلّى الحقيقة التي تجعل من الصّلاة مفتاحاً لخلق لون خاص من السُّلوك
بعيد عن المتاهات والإنحرافات والطّيش والضياع كما تخلق مناعةً طبيعية لمواجهة
جراثيم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وبعد اتّضاح قيمة الصّلاة الكبرى في خلق الشخصيّة الإسلامية ، نقف على
الحقيقة الكبرى التي رسمتها الزهراء ( عليه السلام ) أمام الأجيال الإسلامية المتعاقبة حيث
جعلت الصّلاة الفريضة الأُولى التي تعقب الإيمان بالله سبحانه في برمجتها لمعالم
الرّسالة الإسلامية العظيمة.
وينكش لنا السُّر ـ بعد ذلك ـ الذي جعل الزهراء ( عليها السلام ) تعتبر الصّلاة
عمليّة تهذيب من الكبر والخيلاء ، ولأنّ المرء يشعر في قرارة نفسه أنّه وكلّ موجود
في هذا الكون البديع يقفون على صعيد العبوديّة المطلقة لله ـ وحده ـ .
والإنسان ـ في الوقت الذي يستشعر العبودية لله وحده في نفسه ـ يحسُّ
بالتّحرُّر المطلق من كلّ عبوديّة لغير الله تعالى ، فالإنسان وسائر أبناء جنسه
يعيشون في إطار يحمل منتهى العبوديّة لله الكبير المتعال ، وفي الوقت ذاته يعيشون
على صعيد واحد من الكرامة والسؤدد ، فلا بدّ ـ إذن ـ أن تلغى كلُّ معالم
الخيلاء والتكبُّر من المجتمع الذي يعيش في إطار الرسالة الإسلامية الكريمة ،
وعمليّة الإلغاء لصفة التكبُّر في نفسيات الأفراد بعضهم على البعض الآخر ، لا تتمّ
إلا عن طريق الشعور بالخضوع لله وحده ، وهذا الخضوع يتجسّد سلوكاً ثابتاً في
نطاق الصّلاة التي رسم الإسلام حدودها ، وبيّن معالمها وإطارها ، ولهذا السّر ـ
عينه ـ تنطلق الزّهراء ( عليها السلام ) لتؤكّد للأُمّة بامتدادها التأريخي : أنّ الصّلاة تنزّه
الفرد والمجتمع من أدواء الخيلاء والغرور والاحتيال ، انطلاقاً مما تبثُّه الصّلاة من
إشعاعات روحيّة واجتماعية في نفسيّة الإنسان المسلم ومجتمعه.
( 153 )
والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق:
وحين تستقي الزهراء ( عليها السلام ) معالم التّشريع من منبعه الأصيل ـ كتاب الله
العزيز ـ كذاك تستقي الصُّورة التي سطر بها القرآن الكريم معالم التشريع ، فقد
اعتاد القرآن ـ مثلاً ـ أن يذكر مفهوم الزكاة بعد ذكره لمفهوم الصّلاة ، وهذه
الصّيغة تتعدّد في كثير من آيات التشريع المبارك ، ولهذا السّر عينه راحت الزّهراء
تجلّي فلسفة الزّكاة ، بعد ان ذكرت فلسفة الصّلاة ، وانطلاقاً من التلقين القرآني لمثل
هذه التعليمات الإلهية الجليلة ، وإذا اتضّح لنا هذا فإنّما يتجسّد أمامنا المدى البعيد
الذي أثّره القرآن الكريم بنفسيّة الصّدّيقة الزّهراء ( عليها السلام ) فهي تمثّل شخصيّة إسلاميّة
رسم القرآن الكريم كلّ معالمها حتى في مثل هذه الأمور.
كما أنّ هذه الحقيقة تعكس لنا صورةً حيّة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ومدى تطبيقهم
لمعارف التّشريع الإلهي على سلوكهم في اصوله ودقائقه ومعالمه وتفصيلاته ،
والزهراء (عليها السلام ) بعد ذلك تعلن فلسفة الزّكاة ، فتقول عنها : إنّها تزكية للنّفس
الإنسانية ، ولكنّها لم تحدّد بعد ذلك مفهوم التزكية هذا ومداه ومنطلقه وحدوده ،
فما الغاية التي استهدفتها الزّهراء ( عليها السلام ) من ذكر مفهوم التزكية هنا ؟
خلق الله الإنسان وخلق معه غرائز وطاقاتٍ لا يمكن التغاظي عن إشباعها
بأيّ حال من الأحوال وتأتي في طليعة هذه الطّاقات غريزة حبّ التملُّك ،
فالإنسان مجبول على تملُّك ما تناله قواه من ثروات ـ أنّى كان نوعها ـ وقد
تستبدُّ هذه الغريزة بالإنسان فتجعل من حياته حياةً جافّةً سلبيةً لا تحمل في
رحابها أيّ نوع من أنواع الرّحمة والعطف ، فتزدحم الحياة بالصّراع العنيف بين
الدُّموع والإبتسامات ، ويحدث التّناقض المرير بين أصحاب الثّراء الفاحش وسواهم
من الفقراء والمعدمين.
وهذا ما يجري فعلاً في المجتمعات الرّأسمالية الجائرة ـ اليوم ـ حيث تستبدُّ
غريزة التملُّك لدى الأفراد فتتحوّل الحياة إلى شبح من الأنانيّة والإستئثار ،
ضحيته الأخلاق والرّحمة والعطف ومحصله الصّراع والإضطراب النفسي
والإجتماعي ، واستبداد هذه الغريزة يزداد شدّة وخطراً إذا وجد مقياسٌ ، يجعل
( 154 )
من الحياة مجرّد لذّة مادية ومنفعة بهيمية خالصة محدودة بإطار الحياة الموقوتة ،
وهذا ما ينطبق ـ فعلاً ـ على الحياة الّتي جسّدتها الحضارة الغربية الهوجاء .
ويتطرّف لون جديد من الحضارة تحت مطارق العسف والإستئثار ، فيعلن :
أنّ علّة هذا الفساد الإجتماعي ، إنّما هو غريزة حب التملُّك ، ولذا وجب أن تمحى
هذه الغريزة من برامج الحياة الإنسانية ـ مهما غلا الثمن وعظمت
التضحيات ـ ولذا وضعت برامج الكبت والقتل الجماعي ، ومصادرة الحريات ،
تحرّياً عن هذه الغريزة الفطرية.
ولكنّ هذا المذهب الإجتماعي المتمثل بالنّظام الاشتراكي قد تعرّض للتحوير
والتّبديل ـ غير مرّة ـ بحجة التدرُّج في التغيير الإجتماعي ، ولكنّ الحقيقة : أنّ
الفطرة هي التي حتّمت هذا التبديل المتكرّر ، بل إنّ غريزة التملُّك هي التي
وقفت سدّاً منيعاً في مواجهة المشاريع التي أُريد منها أن تلغي هذه الغريزة من
قاموس الحياة الإنسانية.
ووقوع النّظام الإشتراكي في هذا الخطأ كان نتيجةً للتّصور الخاطىء الذي
تُصوّر إزاء قضية التملُّك ، فاعتقد ـ خاطئاً ـ أنّ أساس المحنة إنّما كان بسبب
وجود غريزة التملُّك التي جسّدتها الحضارة الرأسمالية التي امتدت سيطرتها على
الإنسانية ـ زمناً غير قصير ـ.
وهذا التّصُّور خاطىء لا طائل تحته ، لأنّ المشكلة إنّما نشأت بسبب المفهوم
المادّي للحياة الذي تبنّته الرأسمالية ، فجعلت من الفرد كائناً همُّه أن يجمع المال ،
ويكرّس طاقته لتكديس الثّروات بصفتها منشأ للسّعادة واللذة والمنفعة ـ
بزعمها ـ(1).
وحين تخطىء الإشتراكية هذه الحقيقة ، تبحث عن سببٍ آخر ، فتعتقد أنّ
المشكلة منشؤها غريزة التملُّك ـ لا غير ـ ولذا وجب محوها ـ أنّى كان الثمن ـ.
ويأتي دور الإسلام بصفته مذهباً اجتماعياً يتناول نشاطات الأفراد وميولهم
بصورة شاملة ، فلا بدّ له من رأي مذهبيًّ صميم إزاء هذه المشكلة ، ولا بدّ له ـ
بعد ذلك ـ أن يعطي الدّواء النّاجع والحلّ الحاسم للواقعة التي يواجهها ، سيّما
____________
(1) المدرسة الإسلامية ج1 محمد باقر الصدر.
( 155 )
وهو منهج الله ، خالق هذا الإنسان ومدبّر أُموره والمطّلع على ما تنطوي عليه
خلجات نفسه.
ليعلن : أنّ منشأ هذه المشكلة إنّما هو المقياس المادّي الذي دانت به الحضارة
الغربية وليست المشكلة كامنة في غريزة التملك عينها لأنّ غريزة التملُّك أصيلة في
كيان الإنسان ، لا يمكن محوها إلاّ إذا بُدّل هذا الإنسان إلى غير هذا الإنسان.
ولما كانت المشكلة تحمل هذا اللون من الثُّبوت والإستقرار ، فلا بدّ أن يبحث
الإنسان عن تطوير جديد للمفاهيم عن الحياة ، ليخفّف من وطأة هذه الغريزة ،
فينشأ للإنسان مفهومٌ جديدٌ للسّعادة واللذة والمنفعة.
وفعلاً ، حقّق الإسلام هذه المعجزة بإعلانه مفهوماً جديداً للسّعادة ، ومفهوماً
جديداً عن الحياة ، ومفهوماً جديداً عن اللذة والنفعة.
وحين يعلن الإسلام هذه المفاهيم ، فإنّما يعلن : أنّ المشكلة لا تحلُّ إلاّ عن طريق
واحد : هو طريق الإعتراف بغريزة التملُّك ـ كحقيقة فطرية ـ والعمل على
توجيه هذه الغريزة عن طريق تربية روحيّة ونفسيّة على أُسس منهجيّة رصينة ،
يُصمّمُها خالق الفطرة لأنّه أعلم بصلاحها من سواه.
وكانت إحدى المقوّمات التي رسمها الإسلام الحنيف لتوجيه غريزة التملُّك
توجيهاً تربوياً ينتفع منه الفرد والمجتمع بعيداً عن عنفوان الأنانيّة والإستئثار ،
كانت إحدى هذه المقوّمات المتينة : فرض ضريبة الزّكاة على الاغنياء الذين
يتمتّعون بحق المواطنة الاسلامية في نطاق الدّولة الإسلامية ، وهذه الزكاة تمثل
ضريبة سنوية لا يمكن الهروب عن دفعها إطلاقاً ما داموا يعيشون في مستوىً لائق
من العيش.
ومن الحكمة البالغة : أنّ الإسلام حين يفرض هذه الضريبة لم يجعلها مجرد
ضريبة يلزم الاغنياء الإتيان بها ـ فحسب ـ . وإنّما أضفى عليها طابعاً روحيّاً
حين أعلن كونها عبادةً من العبادات الأُخرى كالصّلاة والصّيام ، والإنسان مسؤول
عن دفعها أمام ربّه الذي « يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور ». ومن ثم ينطلق
الإسلام ليعطي هذه الفريضة صفة قانونية صارمة يعاقب عليها القانون الإسلامي
في الدُّنيا عقاباً صارماً ، وحين يلزم الإسلام أتباعه بأداء فريضة الزّكاة إنّما
يستهدف توجيه غريزة التملُّك توجيهاً يجني الفرد والمجتمع ثماره بحيث تكون
( 156 )
الثورات ملكاً لجميع أبناء الأُمّة لا يستبدُّ بها فردٌ من النّاس ـ أو فئة ـ على
حساب الآخرين.
وتعطينا هذه الصُّورة الوضّاءة من منهج الله سبحانه تلقيناً تجعلنا نؤكّد أنّ
الفرد والمجتمع في المنهج الإسلامي لا حدود بينهما ، وإنّما تتشابك مصالحهما ،
فيعمل الفرد من أجل المجموع ، ويعمل المجموع من أجل الفرد ، وفقاً لنظام رصين
بعيد عن الإصطدام والإعتساف ، ولا تتحقّق هذه الفضيلة ـ بل هذه المعجزة
إلا بتزكية النفوس من عنفوان الأنانيّة والأثرة التي فرضت الزّكاة لتحقيقها في
كيان الإنسانية.
وهذا السّرُّ ذاته هو الذي دعا الزهراء بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) لتعلن كون الزكاة
تزكيةً للنّفس ، فإنّها ـ لعمر الحق ـ تزكية للنُّفوس البشرية من أنانيّتها
واستئثارها ودوافعها الفرديّة الجافّة ، وتحويلها إلى طاقات إنسانيّة هادفة تخدم
المجموعة الإنسانية.
وثمت حقيقة أُخرى نلمسها من كشف الزّهراء ( عليها السلام ) لفلسفة الزّكاة ، تلك الحقيقة ،
تتمثّل في أنّ النُّفوس البشريّة سيختفي ما تنطوي عليه من بغضاء وأحقاد ، سيّما
نفوس المحرومين ، فهم حين يرون اصحاب الثروة يدفعون لهم نصيبهم منها متمثّلاً
بضريبة الزّكاة ، فستكون نظرتهم لهؤلاء نظرة حبًّ واكبار ، يتحوّل التناقض
والعداء بعدها إلى إخاءٍ وإخلاص ومحبّة.
وحين تكشف الزهراء ( عليها السلام ) الوجه الأول من فلسفة الزّهراء تكشف ـ بعد
ذلك ـ الوجه الثاني لها ، فتقول : « ونماءً في الرّزق » فليست الغاية من الزكاة
تزكيةً للنفوس من الأنانيّة والبغضاء ـ فحسب ـ وإنّما لها غاية تتعلّق بمحيط
الإنسان ـ نفسه ـ فينمو رزقه وتزداد ثروته وتكثر خيراته.
وحين تعلن الزهراء ( عليها السلام ) هذه الحقيقة لم تقلها عفواً أو شططاً ، وإنّما تلتمس
هذه الحقيقة من كتاب الله سبحانه حين يعلنها بقوله : « ولو أنّ أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرض »(1).
____________
(1) سورة الأعراف ، آية | 96.
( 157 )
والزكاة عبادة يعد منكرها في عداد الكافرين ، ومن يمنع قيراطاً منها ، فليمت
إن شاء يهودياً أم نصرانياً ـ كما ورد في السُّنة الشّريفة ـ.
وحين تملك الزكاة هذا المقام الرفيع بين معالم التّشريع الإسلامي ، فلا بد إذاً
أن تكون في طليعة شروط الإيمان والتّقوى ، ولما كانت البركات منوطة بالإيمان ،
فقد انكشف لنا السرُّ الذي أعلنته الزّهراء ( عليها السلام ) من أنّ الزكاة نماءٌ في الرّزق ، ذلك
لأنّها عنوان الإيمان والخضوع الحقيقي لله سبحانه ، فلا بدّ أن يكافىء الله عباده
بالتفضُّل عليهم من رزقه بعد استجابتهم لندائه المقدّس.
والصّيام تثبيتاً للإخلاص:
وبعد هذا البيان الذي تصوّر الزهراء ( عليها السلام ) فيه فلسفة الزّكاة ، تكشف لنا فلسفة
الصّيام الذي يعتبر لبنةً في البناء التشريعيّ الإسلامي الضّخم فتقول : « والصّيامَ
تثبيتاً للإخلاص ».
فترسم أمامَ الأجيال الإسلامية الرّائدة هذه الحقيقة الناصعة التي أراد لها الله
سبحانه أن تتحقّق بفضل فريضة الصّيام ـ صيام شهر رمضان المبارك.
والصّوم الذي فرض الإسلام طبيعته وحدّد إطاره : هو إقلاع عن المتطلّبات
الجسمية : من أكل وشرب وجماع ، وفيه تتحقّق عمليّة قهر أعنف الغرائز في كيان
الإنسان ، فتقهر غريزة المعدة التي تتطلّب الإشباع الدّائم ، والغريزة الجنسيّة التي
تتطلّب سدّ حاجتها بإلحاح متواصل . ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، وإنّما يتعدّاه
إلى صوم الجوارح ، فللعين صومٌ عن رؤية المحرمّات ، وللأُذن صومٌ عن سماع
المحظورات ، وللّسان صوم عن قول المنكرات ، ولليد والرّجل كذلك صومٌ عن
الإعتداء أو السّرقة أو السّير في درب لا يقرُّه حكم الله تعالى.
وهذه الأُمور الأخيرة وإن لم تكن مباحةً في غير شهر رمضان ، إلا أنّ شهر
الصّوم قد أُعطي تمييزاً عن غيره من سائر الأيام ، فربّما قد تحدث هذه الأمور لدى
البعض من النّاس ، ولكنّها لا تضرُّ بصلاة أو زكاة أو نحوها ، إلا الصّيام فإنّ وجود
مثل هذه المنكرات يخرج الإنسان عن كونه صائماً.
وثّمة نقطة أُخرى تلوح لنا كشعاع ينبثق من فريضة الصّيام ، هي : أنّ المسلم
الذي استطاع أن يكبت أشدّ غرائزه إلحاحاً وأعظمها خطراً فانتصر عليها هازئاً
( 158 )
بالمادّة وأوضارها ، إنّ إنساناً هذا شأنه سيملك من الطّاقات ما يجعله أقدر على
مواجهة طواغيت الارض وقلع معالمهم في حياته وواقعه ، بل إنّ إنساناً قهر نفسه
ومتطلّبات جسده ، هو أقدر على أن ينتصر لمبدئه الذي استجاب هو لندائه فمنع
نفسه عن لذاذاتها ومشتهياتها ليدكّ صروح أعدائه ، وإن ادلهم الخطب وازدحم
الدّرب بالمخاطر.
يمتنع المرء عن الطّعام والشّراب ، وهو قادر على تناولها بعيداً عن أعين الناس في
خلواته في وحدته ، ولكنّه يقهر نفسه ولذاذاته لأنّه يستشعر بتقوى الله فاطر
الأرض والسّماء ، وحينئذ يبرهن على فاعليّة إيمانه وعلى مدى إخلاصه لله سبحانه.
أجل إنّ في الصوم تتحقق أبعاد الإخلاص لله سبحانه فتتجسّد واقعاً ملموساً
لأنّ الصوم لا يتطرّق إليه الرّياء(1) لأنّه ترك لأعز شيء في الحياة هو الطعام هو
اللذة المطلقة هو متطلّبات الجسم.
والصوم ـ بعد ذلك ـ دورة تربوية يتلقّى الإنسان فيها مختلف الدُّروس
الجديدة ، فتخلق لديه عاداتٍ جديدة حتّى المعدة نفسها تعتاد على التّقسيم الجديد
في وجبات الطّعام ، فكيف بالسلوك ؟
إنّ إنساناً اعتاد ترك الكذب والغيبة والنّميمة ، والنّظر المحرّم والسخرية لمدة
شهر واحد ، أصبح يملك من القدرة على الإستمرارية في هذا السلوك الإسلامي
زمناً . وهو شهرٌ في كلّ سنة ليس بالأمر الهيّن ، إنّه يؤلّف نسبة مئوية جدُّ كبيرة من
العمر يعيشها الإنسان في كنف الإستقامة وفي رحاب مدرسة إسلامية تصهر
السُّلوك المعوج وتبيد جراثيمه. والصوم حين يمتلك هذه المزايا التي تنعكس إلى
شدّ العبد بربه شداً وثيقاً ، هو الذي أملى على الزّهراء ( عليها السلام ) ـ وهي خرّيجة
مدرسة الوحي ـ أن تعلن عن كون الصّيام تثبيتاً للإخلاص ، فهو تثبيت
لإخلاص الإنسان لربّه بعد استجابته لندائه ، وتركه لكلّ لذاذاته تقرُّباً له
وانقياداً لتلقيناته المباركة ، وعلى هذا التقدير يصبح الصوم اختباراً لدى استجابة
المرء لأوامر ربه الكبير المتعال ، وحين يستجيب المرء لذلك فقد حاز التثبيت
لإخلاصه ، وربح بعد ذلك مرضاته تعالى.
____________
(1) المجالس السنية ج 5 ـ محسن العاملي.